في معنى ثورة الكرامة .pdf
Nom original: في معنى ثورة الكرامة.pdfAuteur: mouldi
Ce document au format PDF 1.5 a été généré par Conv2pdf.com, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 23/02/2014 à 12:40, depuis l'adresse IP 41.225.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 902 fois.
Taille du document: 574 Ko (15 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
في معنى ''ثورة الكرامة''
1
الموضوع الذي طُلب مني أن أتكلم فيه يتعلق بأسباب
الثورات العربية و بأهدافها و بدورها في التأسيس للديمقراطية.
وكأكاديمي أقول إن هذا يفوق طاقتي و يمكن أن يكون موضوع
كتاب ضخم يدلي فيه كل مختص في العلوم اإلنسانية بقوله .لكنني
قبلت الدعوة على كل الحال ،و ما سأقوم به هنا هو محاولة اختزال
قاسية جدا لما أعتقد أنه يدخل في باب اإلجابة على هذا السؤال.
سأتحدث في األسباب التي جعلت الثوار يعتبرون أن ثورتهم قامت
من أجل الكرامة
في البداية أحب أن أالحظ أنه من الناحية األكاديمية سيكون
من قبيل التهور و الجهل االدعاء بأنه باإلمكان اإلحاطة بجميع
األسباب التي أدت إلى ما حدث في البلدان العربية من ثورات
سياسية خالل األشهر الماضية .و مقولة األسباب هذه مقولة وضعية،
تفترض أنه يمكن في شروط مخبرية معينة حصر جميع العناصر
التي تدخل في تركيبة شيء ما ،والتعريف بالكيفية التي تؤثر بها
هذه العناصر بعضها في البعض اآلخر ضمن شروط محددة ،ثم
تحديد مسار التسلسل السببي المعقد الذي تخضع له هذه العملية بما
يمكن في النهاية من إعادة تركيب الكل ،و إثبات أننا متى حيدنا
عنصرا من تلك العناصر أو غيرنا من تركيبته بطلت العملية
برمتها ،أو على األقل أعطى تفاعل تلك العناصر نتائج مختلفة.
1
قدمت هذه الورقة خالل الندوة الفكرية التي نظمها االتحاد العام التونسي للشغل حول "
دور النقابات في مرحلة التحوّل الديمقراطي واالجتماعي" الحمامات 00-02سبتمبر 0222
من سوء الحظ ،و ربما من حسنه ،ال يمكن فعل هذا مع
الثورات ،فهي ليست كائنات بيولوجية يمكن تشريحها ،و ليست مواد
كيمياوية يمكن ردها إلى مكوناتها األولية البسيطة .و مما يجعل هذه
العملية غير ممكنة –حتى لو أحصينا كل شيء عددا -هو أن األسباب
المادية التي يمكن تحديد البعض منها ثم إعطاؤها –كما نفعل عادة-
قيمة أكبر من باقي األسباب ،لنقول مثال أنها محددة أو أساسية ..إلخ،
ال تكتسب أية قيمة إال إذا تكلم عنها الفاعلون المعنيون بالثورة
بوصفها حقائق معيارية ،أي إال إذا تبلورت في أذهانهم ،و هم
يخوضون نشاطهم اليومي ،في شكل معاني و قيم ذات شحنات
تصارعية يعبرون عنها عند اللزوم بشكل احتجاجي .فمثال يمكن
للبطالة أن تكون عنصرا هاما نفسر به الثورات ،لكن البطالة و الفقر
و التهميش وجدت في كثير من الحاالت في نفس المكان و الزمان و
بمعدالت مرتفعة دون أن يؤدي ذلك إلى ثورات .و االستبداد استمر
أحيانا أحقابا طويلة يجثم على نفوس بعض الشعوب التي لم تخض
ثورات من أجل التخلص من ذلك االستبداد.
و لكن قبل أن أتقدم في التحليل علي أن أشرح المسألة التالية:
ليس هناك مفهوم واحد للثورة بل عدة مفاهيم ،و هي تختلف بحسب
طبيعة الظاهرة و سياقها و أهدافها و إطارها الزمني و محيطها
الثقافي و بحسب المعنى الذي يعطيه لها أصحابها أو حتى من يتكلم
عنها .فالثورة بمعناها االجتماعي تتجاوز بكثير األحداث المؤطرة
في زمان و مكان محددين ( مثال سقوط نظام بن علي أو حسني
مبارك في تونس و مصر سنة ،)0222و من ثم فهي تشمل كل
المسار االجتماعي البطيء والمتذبذب الذي يفكك على سبيل المثال
األراضي القبلية و القروية الجماعية و الروابط الحرفية التقليدية ،و
يعطي فرصة لألفراد و العائالت كي يمتلكوا بشكل خاص أدوات
عملهم و يفسح المجال للدولة ،التي تستحدث بهذه المناسبة إدارة
عقارية تعطيها اسم دفتر خانة ،و تسن قوانين و تبني محاكم مستقلة
عن الجماعة المحلية تفصل عن طريقها في النزاعات المتعلقة بملكية
هذه األراضي و استغاللها ،ما يسمح لها بتعويض القبيلة أو القرية
في حماية هذه العائالت و هؤالء األفراد .و من هذا المنظور يمكننا
أن نقول إننا في الحقيقة نعيش في تونس مسارا ثوريا اجتماعيا
انطلق منذ أكثر من قرن ،و ربما يصدق علينا من هذه الناحية ما قاله
أالكسيس دو توكفيل ساخرا من مؤرخي الثورة الفرنسية
الكالسيكيين :الثورة الفرنسية التي تقولون أنها حدثت سنة 2871
أنجزت قبل ذلك بوقت طويل.
أما من الناحية السياسية فإننا نستطيع أن نعتبر ثورة تلك
األعمال االحتجاجية السلمية أو العنيفة التؤدي إلى إسقاط نظام
سياسي معين واستحداث آليات حكم جديدة مكانه تحقق أهداف الثوار
مهما كانت ثقافتهم( و لذلك توجد عبارة الثورة المضادة) ،وهذا حتى
لو كان قسم من النساء المشاركات في هذه العملية يؤمن ،في السياق
الثقافي العالمي الذي نعيش فيه اليوم ،بحق الرجل في أربع زوجات
مثلما يحدث اآلن في اليمن .و لهذا السبب فإن الكثير من الباحثين و
المالحظين السياسيين يتفادون خالل النقاشات األكاديمية استعمال
كلمة ثورة ويعوضونها بمسار ثوري قد يحقق في آخر المطاف نقلة
فارقة في الشأن السياسي لبلد ما أو ال يحققه.
لنعد اآلن إلى موضوع تفسير الثورات .في تاريخ الفكر
السياسي و السوسيولوجي جرى تقديم عدة فرضيات كبرى لتفسير
الثورات االجتماعية العظيمة التي عرفها العصر الحديث .فنحن
نعرف مثال أن الماركسيين يعتقدون أن الثورات الكبرى ،سواء
كانت عنيفة أو سلمية ،تحدث عندما تعجز العالقات االجتماعية
السائدة (سواء كانت عبودية أم إقطاعية أم رأسمالية..إلخ) عن
استيعاب التطورات الجارية على مستوى قوى اإلنتاج (أي قوى
العمل ووسائله و منظومة التوزيع واالستهالك..إلخ) ،و هذا تفسير
عام و هيكلي يترك مسألة الفعل السياسي و احتماالت تأثيراته
الالمتناهية في غير متناول الفهم ،أو هو على األقل يضطرنا إلى
محاولة البحث في الروابط الفكرية و السيكولوجية التي
ينبغي أن توجد ،عبر عمل الفاعلين االجتماعيين ،بين الحدث و
البنية ،و هذه عملية غالبا ما تؤدي إلى االبتعاد عن الفرضية األم
فتضعف من قيمتها و جدواها رغم أهميتها.
لكن هناك فرضيات كبرى أخرى تحاول أن تفسر الثورات
الحديثة من خالل البحث في خصائص موضوع هذه الثورات في حد
ذاته .و هذا هو مثال حال بارنغتون مور الذي مازال كتابه "الجذور
االجتماعية للدكتاتورية و الديمقراطية" يطبع باستمرار رغم أن
صاحبه قد كتبه منذ أزيد من أربعين سنة .و فرضية هذا الباحث
األنجليزي هي التالية :العصر الحديث هو عصر الصناعة و العلوم
عالقات اإلنتاج الرأسمالية بقيمها و نخبها السياسية و الثقافية
المميزة .و لذلك فإن موضوع الثورات الرئيسي كان إعادة ترتيب
العالقات بين هذه النخب الحديثة و البنى الفالحية التقليدية بقيمها
المتداعية و نخبها الريفية المحافظة ،و من ثم صهرها في المجتمع
الرأسمالي الصناعي الصاعد الذي تطلب تطوره ونجاحه إعادة
صياغة الدولية فكريا و مؤسساتيا.
و هناك أيضا فرضيات أخرى ال تقل تعقيدا عما استعرضته
حتى اآلن .منها أن محرك الثورات الحديثة ليست سوى الثورات
الثقافية والتقنية العظمى التي أنتجتها النخب الحضرية في إطار
المجتمع الصناعي الناشئ ،سواء كانت هذه النخب تحمل فكرا دينيا
(مثل األفكار البروتستانتينية في فجر الثورات الحديثة) أم وضعيا
(مثل أفكار هوبس و في ما بعد منتاسكيو و روسو وسان سيمون قبل
و بعد الثورة الفرنسية) ،و أن الثورات هي قبل كل شيء ثورات
فكرية ،يتبناها الفاعلون السياسيون و يستخدمونها في تفكيك البنى
التقليدية ،كما ظهر ذلك سياسيا في الثورات الليبيرالية التي جرت،
على سبيل المثال ،في أوربا الشرقية قبل دخولها في فلك المعسكر
الشرقي ،أو في تونس من خالل مشروع النخب التحررية -التحديثية
خالل مقاومة االستعمار.
هل يمكن أن نفسر ما يجري حاليا في البلدان العربية ،حيث
أسقطت الحركات الشعبية االحتجاجية النظم السياسية القائمة ،على
أساس إحدى هذه الفرضيات الكبرى؟ بتعبير أدق هل ما يجري حاليا
يعبر عن حالة تصادم طبقي يبحث عن تجاوز ذاته؟ هل هو مثال
صراع بين العمال و الفالحين و الطبقات التي تستغلهم بقطع النظر
عما إذا كان هؤالء األخيرين رأسماليين وطنيين أو كمبرادور بال
طعم و ال رائحة كما يُنعتون عادة؟ هل نحن بصدد ثورات عميقة
يقوم بها المجتمع الصناعي الحضري الصاعد و قواه الحية ضد
المجتمع الفالحي بعالقاته و أفكاره و نخبه المحافظة؟ هل نحن أمام
ثورة ثقافية واضحة المعالم ،سواء كانت دينية نقدية أو وضعية
تحديثية ،لها نخبها و طروحاتها و قيمها و أهدافها ؟ بعبارة واحدة ما
هو عنوان الثورات العربية التي نحن شاهدون عليها و فاعلون فيها
؟
سياق تاريخي جديد
لنبدأ بهذه النكتة األنثروبولوجية ذات المغزى العميق .في
كتابه "حروب الفالحين في القرن العشرين" يذكر إيريك وولف أنه
خالل الثورة البلشفية سنة 2128اعتقد العديد من فالحي أعماق
روسيا اآلسيوية لفترة أن لينين ،قائد الثورة البروليتارية البلشفية،
هو المسيح العائد لتخليص اإلنسان من كل خطاياه و من وزر الحياة
الدنيا الفانية .بعد قرن من ذلك الحدث أصبحت الثورات تُصنع على
الفايسبوك و تشاهد مباشرة على شاشات التلفزيون من قبل فالحي
الدنيا .و أحب أن أستغل هنا هذه الفرصة ألعطيكم مثاال تطبيقيا من
تونس عما تعنيه ظاهرة انتشار وسائل االتصال الحديثة في
األرياف ،و ما يمكن أن تغيره من وقائع مادية و ذهنية على األرض
يمكن أن تدخل في بنية الثورات الجارية حاليا ،و ذلك حتى قبل
انتشار الهاتف الجوال والفايسبوك :في سنة 2171كنت أقوم ببحث
ميداني في والية الكاف ،و كان علي أن أقابل حوالي ستين عمدة في
مختلف مناطق الجهة .فاستغللت الفرصة و سألت هؤالء العمد واحدا
واحدا عن أهم شيء تغير في عالقتهم بمنظوريهم ،فأجابني
بشكل يكاد يكون متطابقا :العمدة لم يعد مصدر المعلومات،
الشبان المتعلمون هم الذين يأتون إليه باألخبار الجديدة
المشاريع التي تعتزم الحكومة إنجازها في منطقته ،و هم
يرشدونه عن الجمعيات التي تنشط في الجهة.
جلهم
اليوم
حول
الذين
و لكن ليس هذا هو العنصر الوحيد الذي أعطى للسياق
التاريخي الذي نعيشه حاليا أهم مالمحه ،فمعظم الذين خرجوا في
احتجاجات مصر و تونس و قاتلوا كتائب القذافي في ليبيا ليسوا
فالحين فقراء ،وليسوا عماال فالحيين أو صناعيين يقولون إنهم
يرزحون تحت االستغالل .و لذلك فإننا لم نر طوال أيام الثورات
العربية أي تنديد بالمستغلين الرأسماليين "مصاصي الدماء" كما
يقول زعماء الثورات العمالية عادة .لقد كان الثوار شبانا متعلمين
عاطلين عن العمل أو ضعاف الدخل ،يسكنون مناطق أو مدنا أو
أحياء مهمشة ،و األهم من الكل أنهم كانوا يشعرون بأنهم
محرومون سياسيا و فكريا من وسائل التأثير على القرارات التي
تُتخذ بشأن تنظيم حياتهم المدنية .و هؤالء الثوار –و هذا يصدق
خاصة على تونس– لم ينشطوا في أطر سياسية منظمة ،بل كانوا
يتحركون ضمن زمر تتجمع و تتفكك حسب تطور األحداث ،يحكمها
االنتماء إلى الحي أو الزمالة المهنية أو الصداقة ،ويقربها من بعضها
اتحادها ضد عدو واحد هو النظام االستبدادي القائم .صحيح أن
هياكل االتحاد العام التونسي للشغل في تونس ،على سبيل المثال،
كانت بمثابة المظلة التي احتمى بها جزء من المتظاهرين ،و صحيح
أيضا أن بعض األحزاب كان لها وجود ما في المناطق التي اندلعت
منها الثورة و شجعت الشباب على التظاهر ،و صحيح كذلك أن
المتظاهرين ما كانوا ربما يتشجعون و يواصلون احتجاجاتهم،
خاصة في تونس ومصر ،لو ال الدعم السياسي و األخالقي الرمزي
الذي مدتهم به جمعيات حقوق اإلنسان و المنظمات الوطنية لسلك
المحاماة و القضاة و النقابات ،و لكن الخاصية العامة للذين واجهوا
الرصاص بصدورهم العارية في تونس هي أنهم كانوا شبانا
متعلمين ،منفتحين على كل ما يجري في العالم ،و يقفون أفرادا
خارج كل أطر التنظيم السياسي التي تحمي عادة الناشطين
السياسيين .و من المهم هنا أن نالحظ أنه في حين لم تلعب األطر
القروية و اإلثنية و القرابية و الدينية الطرقية في تونس و مصر
دورا مؤثرا في حماية المتظاهرين و تأطير تحركاتهم ،كانت هذه
هي األطر التي اشتغلت في ليبيا و اليمن بمجرد أن ظهر اإلفالس
السياسي للمجموعة السياسية الحاكمة و كذلك المعارضة.
و هناك أيضا خاصية أخرى جديدة تميز بها السياق
االجتماعي الذي ظهرت فيه الثورات العربية ،و هي ذات طابع
أنثروبولوجي سياسي إن صح التعبير .و تتمثل هذه الخاصية في
ظاهرة فراغ الساحة السياسية العربية ،خالل العقود األخيرة ،من أي
صنف من الزعماء ،غير أولئك الذين نصبوا أنفسهم في هذا الموقع
من خالل استغالل أجهزة الدولة و ليس من خالل اكتساب حظوة
قيادية لدى الجماهير .و قد وصفت هذه الظاهرة في كتابي "الجذور
االجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا" من خالل عبارة سيادة مبدإ
"احتكار انتاج الزعامة " .و ما أعنيه بهذه العبارة هو أن االستبداد
السياسي الذي جثم على صدور الشعوب العربية خالل عشرات
السنين الطويلة التي مضت قد قام أساسا على تدمير كل ما من شأنه
أن يساعد على ظهور فاعلين سياسيين مستقلين ،قادرين على تعبئة
الجماهير حول قضايا محددة ،و على ترجمة مطالبها إلى مشاريع
سياسية منافسة للتوجهات التي يسير عليها الحكام ،سواء كان ذلك
على المستوى المحلي أو الوطني .و ما نتج عن ذلك هو أن ثقافة
الرموز السياسية التي شيدتها حركات التحرير و اإلصالح قد
دمرت.
نستنتج مما تقدم أن من خصائص السياق االجتماعي العام
الجديد ،الذي اندلعت في إطاره الثورات العربية ،أن التحوالت
االجتماعية العميقة التي عرفتها هذه البلدان قد أضعفت ،بشكل
متفاوت ،الروابط األولية التي اعتاد الناس على توظيفها في حماية
أنفسهم و في االندماج االجتماعي بصفة عامة ،مثلما يظهر ذلك من
خالل مقارنة الحاالت الشاخصة أمامنا هنا و هناك .لكن هذه
التحوالت أدت جميعها إلى بروز فئة شبابية تخطت هذه الروابط،
على اختالف قوتها ،من خالل نسج عالقات جديدة افتراضية (عبر
الهاتف و الفايس بوك وغير ذلك) ،استخدمتها في حشد الطاقات و
توجيه الفعل السياسي ،و ذلك رغم أنها لم تجد خالل ثورتها -كما هو
حاصل في اليمن و ليبيا -ما تحتمي به أثناء الثورة سوى البنى
التقليدية .و هذا يُعد من مفارقات دولة االستقالل التي فككت أو
همشت أغلب المؤسسات األهلية التي بنتها شعوبها خالل حركات
التحرير ،تحديدا من أجل تشييد الدولة الديمقراطية الحديثة.
هذا من المنظور المحلي الداخلي .أما على المستوى العالمي
فإن ما يميز العصر الذي نعيش فيه هو ما أصبح يعرف بالعولمة .و
ما أعنيه بالعولمة هنا هو تلك اإلمكانية القانونية و الثقافية غير
المسبوقة في التاريخ ،التي أعطتها المؤسسات الدولية الحديثة للدول
القوية في العالم ،كي تتدخل بصفة شرعية في ما يجري في البلدان
الضعيفة حينما تحدث داخلها مستجدات ترى أنها تهدد مصالحها
اإلستراتيجية .ال يعني هذا أن الشأن الداخلي للبلدان الضعيفة كان في
الماضي في منأى عن التدخل الخارجي ،إنما أعني أن هذا التدخل
أصبح يحضى بالشرعية الدولية ،سواء كانت عادلة أو ظالمة.
و الذي يهم في هذه المسألة هو ما ترتب عنها على مستوى
إدارة مجريات الثورات و تحديد توجهاتها في الدول العربية .و من
هذه الناحية بين المثال الليبي كيف أن الثورات التي تعرفها شعوبنا
اآلن ،أي في سياق العولمة ،لم تعد شأنا داخليا ،و هذا ربما حتى
على مستوى تفاصيلها الدقيقة .فالكل يعرف على سبيل المثال أن من
جملة المواقف التي حسمت في اللحظات األخيرة مصير زين
العابدين بن علي و حسني مبارك و معمر القذافي و في األيام المقبلة
بشار األسد هو سحب القوى الدولية العظمى ،و بالتحديد أمريكا،
الثقة من هؤالء .و يمكننا أن نالحظ في سياق نفس الفكرة أن ما
يطيل بقاء علي عبد هللا صالح في السلطة هو أن هذا البساط الدولي
لم يسحب بعد من تحت قدميه ،و ربما أن سبب ذلك يعود إلى موقف
السعودية التي ترى أنه ال سبيل إلى التقدم على طريق حل المشكلة
اليمنية إال إذا تحققت من ضمان مصالحها اإلستراتيجية السياسية في
المستقبل.
على ماذا ثارت الشعوب العربية؟
لقد ذكرت في مقدمة هذه الورقة أن اإلحصائيات حول
البطالة و التهميش و االستغالل تساعدنا على مشاهدة تفاصيل
التحوالت الكمية التي تطرأ على هذه الظواهر ،و على بناء
فرضيات بشأن العالقة بينها وبين الظاهرة الثورية ،و لكنها ال
تمكننا من النفاذ إلى المعاني التي تأخذها تفاصيل هذه التحوالت عند
الفاعلين االجتماعين ،و إلى األبعاد المعيارية التي يمنحونها إياها
فيحولون من خالل فعلهم المفعم بالشعور األرقام األكاديمية إلى
معان و مطالب سياسية.
لفهم هذه المسألة نحتاج إلى االقتراب أكثر من المجريات
العملية للظاهرة الثورية كما انطلقت في البلدان العربية .وسواء كنا
في تونس أو في مصر أو في ليبيا أو في اليمن أو في سوريا تبدو
الكلمة السحرية التي شحنها المتظاهرون أكثر من غيرها بما يعتمل
في أبدانهم و أذهانهم وذاكراتهم من شعور بالحرمان و القهر و الذل
هي كلمة "الكرامة" .وقد رفض معظم التونسيين عبارة "ثورة
الياسمين" التي استخدمت في وصف ثورتهم ،بالضبط ألنها ال
تتضمن أنطولوجيا العالقة التي يقيمونها بين تجربتهم االجتماعية
المريرة التي ولدت الثورة وبين كلمة الكرامة التي تحتوي على
مشروع االنعتاق من محددات تلك التجربة.
و فكرة الثورة من أجل الكرامة -و هي الفكرة نفسها التي
عبر عنها الجزائريون منذ تسعينيات القرن الماضي و لكن بطريقة
سلبية عبر مقولة الثورة ضد "الحقرة" -تحيل إلى معادلة لها جذور
أنثروبولوجية عميقة جدا و منغرسة بقوة في التراث األدبي و
األخالقي العربي .فكلمة "الكرامة" تحيل إلى مفردات أخرى مثل
الكرم و الكريم .والكرم من الناحية األنثروبولوجية-السوسيولوجية
هو وصف لحالة من الفعل اإلنساني مرتبطة بظاهرة اقتصادية-
ثقافية معقدة ،هي ظاهرة التبادل التي تجري بين البشر ،أفراد و
جماعات .و هذا التبادل ال يجري فقط من أجل توفير الحاجات و
إعادة توزيع الثروات ،إنما أيضا من أجل إقامة عالقات إنسانية غير
مادية تدخل ضمن حاجة هذا اإلنسان إلى التواصل ،بوصفه مخلوقا
اجتماعيا له ثقافة و رموز .و بما أن جزء مهما من هذا التبادل و
التواصل كان في فجر اإلنسانية يقع في إطار الهدية ،إذ ال وجود
للسوق و للعملة كما نعرفهما اليوم ،فإن الكرم بالمعنى الذي ذكرناه
كان إحدى أهم اآلليات التي يقوم عليها التبادل ،فبدون كرم ليس
هناك هدايا أي ليس هناك ضيوف و ال مبادالت سلمية و ال النموذج
اإلنساني لحاتم الطائي و ال شعره الرائع في الكرم.
و التبادل عن طريق آلية الكرم يعني أن هناك دورة كاملة من
التبادل البد و أن تحدث :يتكرم الكريم بشيء من عنده لغيره ("يبداها
كريم وال زعيم") ،فيقبله اآلخر و يعتبره دينا في عنقه و عقدا البد
من التقيد به –إن أنت أكرمت الكريم ملكته -إلى أن يحين موعد رد
الهدية –أي موعد تنفيذ شروط العقد -فيرده بمثله أو بأحسن منه .2و
من ثم فإنه بقدر ما يكون الشخص مستعدا للرد على الكرم بالكرم
فإنه يبقى دائما شخصا موضوع ثقة ،و هو ما يحفظ له شرفه و
كرامته و يجعل منه شخصا حرا جديرا بأن تعقد معه العقود .أما في
2
للتعمق في العالقة بين الكرم و التبادل أنظر :مارسيل موس ،دراسة في الهبة ،ترجمة المولدي األحمر،
بيروت ،المنظمة العربية للترجمة1122 ،
الحالة التي ال يرد فيها من أخذ الهدية بمثلها أو بأحسن منها فإن ذلك
يعني أن دورة التبادل السلمية تواجه خطر التوقف ،و أن متلقي
الهدية يتصرف تصرف اللئيم الذي خان األمانة-إن أنت أكرمت
اللئيم تمرد.
في الشأن السياسي الحديث تجري األمور في الوضعيات
الديمقراطية كما لو أنه يقع صهر جميع عقود التبادل السارية بين
مختلف األفراد و المجموعات –عمال و رأسماليون ،مزارعون و
مالكون عقاريون ،موظفون و مؤسسات عامة ،بنوك و عمالء
مدينون ،نساء و رجال ،طلبة وأساتذة ،أولياء و أبناء...إلخ -في عقد
واحد هو عقد التبادل الذي يقيمه المواطنون مع من يكلفونهم بالحكم
(بعد أن يطلبه هؤالء عن طريق الترشح لالنتخابات) ،و هو عقد ثقة
مشروط يمنحون بموجبه الحكام شرعية أخالقية و مؤسساتية
تعطيهم الحق في إدارة شؤونهم العامة –بما يترتب عن ذلك من
حصول هؤالء على مزايا مادية و معنوية يصفها ابن خلدون بأنها
لذيذة -مقابل الخضوع للقانون والطاعة النقدية .و بما أنه يمكن في
مثل هذه الوضعيات أن نغير الحكام دون أن تتعرض مجمل عقود
الثقة التي تقوم عليها عالقات التبادل األخرى إلى اإلهتزاز بشكل
كبير ،فإن عقد التبادل السياسي بين الطرفين يحافظ غالبا على
وظيفته وشرعيته مولدا الثقة في العمل السياسي و الشعور بالكرامة
لدى المواطنين.
خالل ثورات الربيع العربي كانت الشعوب تطالب باسترداد
كرامتها .و يمكننا أن نالحظ هنا أن ما عناه هذا الشعار في سياق هذه
الثورات ليس هو ما عناه أيام الحركة الوطنية و االحتالل ،حيث
فرض المستعمر بالقوة على هذه الشعوب بشكل جماعي عالقة تبادل
غير متكافئة ،يقدم بموجبها المستعمر خيراته قسرا إلى المحتل دون
أن يحصل من هذا األخير على غير الفتات .و لذلك يُنعت
المستعمرون عادة باللصوص وقطاع الطرق ،و يصفهم الشعراء
بالظالمين طغاة الزمن ،ويتحدث السياسيون عن الكرامة الوطنية .أما
خالل الثورات الحالية فإن الشعور بالكرامة المهدورة أخذ بعدا
اجتماعيا داخليا عميقا ،حمله األفراد قبل المجموعات خالل
ممارستهم لحياتهم اليومية ،و عانى منه كل واحد منهم بشكل مستقل
عن اآلخر.
ما هو المحتوى االجتماعي لهذه الكرامة ،و كيف أصابتها
عالقة التبادل السياسية السائدة بالهدر و التلف؟
لنالحظ أوال أن جميع الثورات العربية قد رفعت شعارات
تلتقي عند فكرة واحدة أطلقها المصريون منذ عدة سنوات ،و عبروا
عنها بشعار "كفاية" .و "كفاية" هذه تعني أن العقد السياسي الساري
بين الحاكمين و المحكومين قد تجاوز أمده بدون وجه حق ،و أن بقاء
الحاكم في مكانه كشريك في هذا العقد لم يعد خاضعا لمبدأ االختيار،
و أن مؤسسة الدولة التي من المفترض أن تكون هي اآللية المنظمة
لعملية التبادل الضخمة التي تجري بين مختلف أطراف المجتمع،
أصبحت أداة خاصة يستعملها الحكام من أجل اإلخالل بشروط هذه
العملية ،فيترشحون بدون حساب إلى االنتخابات ،و يزورون
الحقائق و يستعملون العنف و القهر من أجل المحافظة على موقع
من يأخذ و ال يعطي (اللئيم).
كيف وجد مثل هذا الخلل الفادح في سير العملية التبادلية
السياسية تعبيره المواتي في تجربة الحياة اليومية للعاطلين عن العمل
والمهمشين و المحرومين من كل وسائل الحماية االجتماعية؟ لقد بدأ
الشعور بفقدان الكرامة يظهر عند هؤالء عندما أصبحوا يذهبون إلى
المستشفى فيالقون التهاون في التعامل مع صحتهم بينما أصحاب
الطرف اآلخر في العقد ينعمون بكل وسائل الرعاية ،و عندما
صاروا يفتشون عن العمل فال يجدونه أو يضطرون إلى التنافس
على دفع الرشوة للوسيط ،حليف الطرف اآلخر أو زبونه ،كي
يفوزوا به على حساب غيرهم ،و عندما أصبحوا يعجزون عن فتح
أبواب و نوافذ بيوتهم في الصيف بسبب الروائح الكريهة لمجاري
مياه الصرف الصحي و الناموس في الوقت الذي تُستغل أموال
بلدياتهم في ترصيف شوارع مدن الحكام ،و عندما صاروا يذهبون
لحضور اجتماع سياسي فال يجدون إال الكذب والزيف و التالعب
برغبتهم في إعادة التوازن لعالقتهم المختلة بمن احتل بالقوة موقع
الطرف اآلخر في عقد التبادل السياسي الذي تقوم عليه الدولة ،و
أخيرا عندما صاروا يخرجون في الصباح ،متوكلين على هللا ،لبيع
الخضر و الفواكه في األزقة و األنهج ،فيسبهم موظفو قسم الضرائب
الخاضعين لسلطة من يمسك بدواليب اإلدارة العامة أي الدولة ،و
يجبرونهم على دفع الرشوة ما يفقدهم أحيانا الشعور بحب الحياة و
الرغبة في االنتحار.
و في مثل هذا السياق من الالتوازن في عملية التبادل
السياسي ،لم يكن الفقراء و المسحوقون و العاطلون عن العمل و
المستغلون بكل أنواعهم وحدهم من يبلغ عندهم الشعور بالمهانة و
فقدان الكرامة أعلى الدرجات .ذلك أنه من شروط بناء عقد التبادل
السياسي السليم ،أن تضطلع بمهمة مراقبة تنفيذ بنود ذلك العقد على
مستوى مجريات الحياة اليومية ،أصناف من الفئات االجتماعية
منتظمة في مؤسسات مدنية مخصوصة ،ترتبط بفكرة العدل و
القضاء و الدفاع عن حقوق اإلنسان العامة و الخاصة .و في الوضع
العربي الذي نتحدث عنه ،حيث فقد العقد السياسي أهم أركانه الذي
هو التبادل الشرعي و المتكافئ ،أصبحت هذه األصناف االجتماعية-
المهنية تشعر بأنها تحولت إلى شاهد زور على هذا العقد المغشوش،
و بما أن جزء كبيرا من هذه األخيرة مرتبط بعالقات شتى بضحايا
هذا الغش الذي ال سند له إال االستبداد و البطش ،فإن أعضاءها من
المحامين و القضاة و مختلف المدافعين عن حقوق األفراد و
الجماعات صاروا هم أيضا يشعرون بفقدان الكرامة .وليس هؤالء
فحسب ،إذ أن االستبداد و التنكر لبنود عقد التبادل السياسي السليم
يعني أن المشتغلين بالفن و األدب ،و حتى أولئك األفراد و الفئات
األقل معاناة اقتصاديا و اجتماعيا من االستبداد ،أصبحوا هم أيضا
يشعرون باإلقصاء و بفقدانهم لحقهم في المشاركة في بناء عقد
السلطة السياسية ،أي فقدانهم لكرامتهم التي تعني حريتهم وشرفهم.
دور الثورات العربية التأسيسي في مجال إرساء
الديمقراطية
ذلك في رأيي ما تعنيه ثورات الكرامة في البالد العربية .إنها
حركات من أجل استرداد صفة المواطنة التي تعني الحق في إرساء
عالقات تبادل سياسية تضمن بنودها لكل طرف الحق في الحصول
على المنافع التي تنتج عن كل عملية تبادل متكافئة و متساوقة.
فالثورة ضد البطالة والتهميش ومنع حرية الفكر و االتصال و
التواصل ،و ضد احتكار إنتاج الزعامة السياسية و المنافذ المؤدية
إلى الموارد و غير ذلك ،هي ثورة على التلف القانوني و المعياري
الذي أصاب العقد السياسي الذي تقوم عليه الدولة ،و هو تلف سرت
آثاره في كل مناحي الحياة ،و ترجمته مقتضيات التبادل اليومي
الجاري بين الناس عبر لغة الرشوة و المحسوبية و "الحقرة" و هتك
الحرمات الجسدية و العائلية ،و سد منافذ المستقبل أمام الشباب ،و
آفاق الحراك السياسي أمام الغالبية العظمى للناشطين السياسيين.
و من ثم فهي ثورة مؤسسة للديمقراطية :ألم يكن أول مطلب
نادى به المتظاهرون في تونس و مصر و ليبيا (و المغرب ولكن
عبر أسلوب آخر) مباشرة بعد سقوط أنظمة االستبداد و الدجل
السياسي هو وضع دساتير جديدة تعيد بناء قواعد العقد السياسي بين
المواطنين بما يضمن لهم كرامتهم؟
بيد أن التأسيس للديمقراطية ليس مسألة هينة ،إذ أنه ال يكفي
لتحقيق ذلك أن نحرر قانونيا الحياة السياسية من كل القيود ،و أن
نبني مؤسسات دستورية تضمن عدم تداخل السلط ،و أن نفتح الباب
لألحزاب كي تتداول سلميا و ديمقراطيا على السلطة .ذلك أن من
شروط التحقيق الفعلي (و ليس المطلق) للديمقراطية أن تجري
عملية مراجعة ثقافية معيارية للمعاني و الوظائف التي نعطيها
الرتباطاتنا الخاصة .فالوفاء السياسي لمتغيرات القرابة و العرق و
االنتماء الديني و للمعايير التي تضع النساء و الشبان في المرتبة
الثانية بعد الكهول ال يساعد على بناء مجتمع ديمقراطي حديث .و
مثال ليبيا و اليمن الشاخص أمامنا هذه األيام ال يوحي بأن هذين
البلد ين سيدخالن الحياة الديمقراطية بسالسة مثلما قد يكون عليه
الحال في تونس و مصر .و لذلك فإن من أوكد ما ينبغي أن
تنصرف إليه المجتمعات العربية التي أطاحت بنظمها االستبدادية هو
تدريب المواطنين على السلوك الديمقراطي و تثقيفهم في هذا المجال
و تدريس الفكر الديمقراطي للنشإ و الشباب على حد سواء.