hira 46 .pdf


À propos / Télécharger Aperçu
Nom original: hira-46.pdf

Ce document au format PDF 1.4 a été généré par Adobe InDesign CC 2014 (Macintosh) / Adobe PDF Library 11.0, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 22/02/2015 à 20:40, depuis l'adresse IP 41.200.x.x. La présente page de téléchargement du fichier a été vue 671 fois.
Taille du document: 7 Mo (68 pages).
Confidentialité: fichier public


Aperçu du document


‫‪46‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة العارشة ‪( /‬يناير ‪ -‬فرباير) ‪2015‬‬

‫وتبصر‬
‫انظ ْر َّ‬

‫في األشياء قدراته ظاهرات‪ ،‬وآياته باهرات‪،‬‬
‫للمتبصرين غير خافيات‪..‬‬
‫ُمتحن ونُف َتن‪..‬‬
‫واألسباب أستار‪ ،‬بها ن َ‬
‫عسير الفهم كيف َيفهم؟!‬
‫مي القلب كيف َيعلم؟!‬
‫و َع ّ‬
‫***‬

‫‪2‬‬

‫الطرق‬
‫ُ‬
‫فتح اهلل كولن‬

‫‪52‬‬

‫النفاسة المحمدية‬
‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا‬

‫‪59‬‬

‫تعظيم الشعائر في اإلسالم‬
‫عبد العزيز بن عمر‬

‫االفتتاحية‬
‫حراء‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الواصلون والمنقطعون‬
‫يكتب "فتح اهلل كولن" في هذا العدد من "حراء" عن‬
‫الطــرق التــي تزدحم بهــا الدنيا‪ ،‬وعن فجاجها وشــعابها‪،‬‬
‫ُ‬
‫وعــن اســتقاماتها واعوجاجاتهــا‪ ،‬وعن نورهــا وظلمائها‪،‬‬
‫وينبــه المشــائين والســالكين المدلجين فــي الظُّ َلم من أن‬
‫تنزلــق أقدامهــم علــى حيــن غفلــة فتأخذهــم إلــى الطرق‬
‫الظالميــة المرعبــة ليتوهــوا بيــن شــعابها فتكــون نهايتهــم‬
‫مهلكــة‪ ،‬فتهلــك أرواحهم وتقودهم إلى حمأة االنحطاط‬
‫والرذيلــة والتــردي فــي وديــان األهــوال‪ ،‬فتنقطــع بهــم‬
‫الســبل وتصدهــم عــن هــدف الوصــول إلــى الدرجــات‬
‫العــا التــي تســمو بهم إلى عالــم األبديــة والخلود‪ ،‬وفي‬
‫الوقــت نفســه يهلــل ألولئــك الــرواد مــن ســالكي طريــق‬
‫ال ألصحاب‬
‫النــور‪ ،‬ويــرى فــي مســلكهم‬
‫أنموذجــا ومثــا ً‬
‫ً‬
‫الرســاالت اإلصالحيــة التــي تــرى فــي خدمــة اإلنســان‬
‫وتقويــم اعوجاجــه وهدايتــه إلــى الطريــق المســتقيم مــن‬
‫أوجــب واجباتها الدينية واألخالقية‪ ،‬وقد يغدو اإلنســان‬
‫المســتقيم نفســه هــو إحــدى الطــرق التــي يبحــث عنهــا‬
‫الضالــون‪ ،‬فيتخذونه طري ًقا يســيرون على هداه‪ ،‬ويقتفون‬
‫أثره ويمشون في ركابه‪.‬‬
‫وفي مقال "الوحي والحرية" يكتب "محمد بن إبراهيم‬
‫مبينا أن‬
‫ال‬
‫السعيدي" مقا ً‬
‫فكريا ثقي ً‬
‫ال في معانيه ومغازيه‪ً ،‬‬
‫ًّ‬
‫الحريــة مهمــا قلنــا فيهــا‪ ،‬فهي فــي خاتمة المطــاف قضية‬
‫أخالقيــة مرتبطــة بالديــن وبالوحــي قبــل أن تكــون قضية‬
‫اجتماعيــة أو سياســية‪ ..‬و"يحيــى وزيــري" يلفــت انتباهنا‬
‫إلــى الرابــط المعنــوي بيــن المســجد والكــون‪ ،‬وأكثــر ما‬
‫يتجلى ذلك في المساجد العثمانية التراثية التي صممت‬
‫بناياتها للتعبير عن هذا الرابط بين الكون بمشاهده الرائعة‬
‫والمســجد المقــام للصــاة‪ ،‬فيرى المســلم في المشــاهد‬
‫الكونيــة آيــات بينــات على الخالــق العظيم الذي يســجد‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لــه ويقــوم بعبادته‪ .‬وعــن "العنف" مــرض العصر الخطير‬
‫المتفشــي فــي أرجــاء كثيــرة مــن الكــرة األرضيــة‪ ،‬تكتب‬

‫"مريم آيت أحمد" عن مســبباته ودوافعه وجذوره البيئية‬
‫والنفســية واالجتماعية‪ .‬أما "محمد باباعمي" فيكتب في‬
‫مقالــه "فــي حــب كالم اللـــه" عــن فعل الحــب إذا المس‬
‫شــغاف القلــب واســتولى علــى أرجــاء النفــس والعقــل‪،‬‬

‫فعندئذ يصبح كل ما يأتي من المحبوب‬
‫محبوبا كذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫وســاما‪،‬‬
‫بردا‬
‫وال ســيما كالمــه الــذي ينــزل علــى القلب ً‬
‫ً‬

‫وهكذا ‪-‬وال مشاحة في المثال‪ -‬كالم اللـه نحبه ونعشقه‬
‫ونهيــم بــه ألننــا نحب اللـــه‪ ،‬وكلما طفحــت لذتنا بكالمه‬

‫ا علــى عظــم حبنــا لــه ســبحانه‪.‬‬
‫تعالــى كان ذلــك دليــ ً‬

‫و"مجدي ســعيد" يكتب اإللفــة بين النباتات والنمل‪،‬‬

‫مستشــهدا بكالم عظيم للمفســر العالمة الشيخ طنطاوي‬
‫ً‬
‫مبينا الرعاية اإللهية لهذا المخلوق الصغير وعن‬
‫جوهري‪ً ،‬‬

‫إحــدى عجائب تكوينــات ارتزاقه‪ .‬و"فؤاد البنا" يذكر في‬
‫مقاله "النفاسة المحمدية" وقدراتها على اختراق النفوس‬

‫وتغييرها واالســتعالء بها إلى مقام النفاســة‪ ،‬والســمو بها‬

‫إلى مقامات عالية‪ ،‬واالرتفاع بها من القيعان إلى القمم‪،‬‬

‫حيث رفع أصحابه فترفعوا عن السفاسف واألسافل‪.‬‬

‫أما "أديب الدباغ" فيكتب‬
‫متوجعا في مقاله "الخروج‬
‫ً‬

‫مــن زمن التيه"‪ ،‬واص ًفــا إياه بأنه بدع من األزمان بافتقاده‬
‫لقيــم الحــق والعدل والجمال‪ ،‬وأنه زمــان التيه والضالل‬
‫عن حقائق الحياة والوجود ومعرفة اللـــه تعالى واللجوء‬

‫إليه والســجود بين يديه‪ .‬هذا ما اســتطاعت هذه الســطور‬

‫مــن إشــارات إلى مقاالت البعــض من كتاب المجلة‪ ،‬أما‬

‫تفهمهم وتقديرهم‪ ،‬واهلل‬
‫اآلخــرون فنحن طامعون بكــرم ّ‬
‫تعالى من وراء القصد‪.‬‬

‫المحتويات‬

‫الطرق  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬
‫ُ‬

‫ الفضة النانوية في مكافحة البكتريا  ‪ /‬حممد هاشم البشري (علوم) ‬
‫الوحي والحرية  ‪ /‬د‪ .‬حممد بن إبراهيم السعيدي (قضايا فكرية) ‬

‫ القرد يحكي قصته  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬
‫تفسير التاريخ عند النورسي  ‪ /‬حممد بكور (قضايا فكرية) ‬

‫ ْاحذ ْر العنكبوتيات!  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬
‫مكتبات جمعت تراث األمة  ‪ /‬امليلود كعواس (تاريخ وحضارة) ‬

‫َّ‬
‫المتوقعة  ‪ /‬د‪ .‬حذيفة أمحد اخلراط (علوم) ‬
‫ الهاتف الجوال وأخطاره‬
‫مشاهد كونية في مساجد عثمانية  ‪ /‬د‪ .‬حيىي وزيري (تاريخ وحضارة) ‬

‫ حقيقة حريم السلطان  ‪ /‬مراد دومان (تاريخ وحضارة) ‬
‫إذا دام الربيع  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ سرطان الثدي خطر قد تمنعه الرضاعة  ‪ /‬مرازي زهرة (علوم) ‬
‫الحب عطاء  ‪ /‬مرام البار (أدب) ‬

‫ العنف‪ ..‬مسبباته ودوافعه  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (تربية) ‬
‫مهندسون في عالم الحيوان  ‪ /‬د‪ .‬ناصر أمحد سنه (علوم) ‬

‫ في حب كالم اهلل  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (أدب) ‬
‫إيالف النباتات للنمل  ‪ /‬د‪ .‬جمدي سعيد (علوم) ‬

‫ شوق العاشقين  ‪ /‬د‪ .‬ليلى حممد السبيعي (أدب) ‬
‫في انتظار قدومك  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ النفاسة المحمدية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬
‫الخروج من زمن التيه  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬
‫تعظيم الشعائر واحترام المقدسات في اإلسالم  ‪ /‬عبد العزيز بن عمر (أنشطة ثقافية) ‬

‫‪2‬‬
‫‪4‬‬
‫‪6‬‬
‫‪11‬‬
‫‪14‬‬
‫‪17‬‬
‫‪18‬‬
‫‪22‬‬
‫‪26‬‬
‫‪30‬‬
‫‪33‬‬
‫‪34‬‬
‫‪36‬‬
‫‪38‬‬
‫‪42‬‬
‫‪45‬‬
‫‪47‬‬
‫‪50‬‬
‫‪51‬‬
‫‪52‬‬
‫‪58‬‬
‫‪59‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المقال الرئيس‬
‫فتح الله كولن‬

‫الطـ ُرق‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تعــرج والتــواء تمتــد الطــرق نحــو‬
‫فــي ّ‬
‫األبــد‪ ..‬وعلــى هــذه الطــرق ســائرون‬
‫كمياه هدارة أو كســحب بكاءة مدرارة‪..‬‬
‫مســرعا نحو المحيط‪،‬‬
‫مندفعون كماء ينســاب‬
‫ناطحا كل‬
‫ً‬
‫ً‬
‫صخر يعترض مسيره‪.‬‬
‫هــرع‬
‫إن الطــرق بعــدد أنفــاس الخالئــق‪ ،‬وكل كائــن ُي َ‬
‫مســرعا بــدأب فــي طريقــه نحــو هدفــه المنشــود؛ فالدود‬
‫ً‬
‫يقطــع طريقــه زح ًفــا‪ ،‬والســاحف فــي تــؤدة‪ ،‬والخيــول‬
‫طيا‪ ،‬والطيور تقطعها ســابحة في الفضاء‪،‬‬
‫تطــوي الطــرق ًّ‬
‫وللصواعــق ســياحة مختلفة‪ ،‬وللشــموس حيــن تدور في‬
‫أفالكها جريان من لون آخر‪.‬‬
‫لكــن الطريــق الحقيقي ظهر مع اإلنســان‪ ،‬وبشــعوره‬
‫نوره‪ ،‬واكتسب بأفكاره وأحاسيسه صف َة "األبدية"‪.‬‬
‫استمد َ‬
‫أيضا نشــأ بل لم ُيفلته ولو‬
‫والعجيب أن "الالطريق" معه ً‬
‫لحظة‪ ،‬مع ما عليه من معرف ٍة للطريق‪.‬‬
‫رحــال متجول في‬
‫لــم‬
‫ُ‬
‫يخــل عصــر من العصــور دون ّ‬
‫متنكب بح ًثا عن‬
‫اآلفاق بين النجوم والمجرات‪ ،‬أو دون ِّ‬
‫الطرق في المستنقعات‪.‬‬
‫والحقيقــة أن الطريــق‪ ،‬لمــن يشــق الطريــق ويعــرف‬
‫فالطريــق وعدمه لمن تمر به األيام‬
‫آدابــه وســلوكه‪ ..‬وإال‬
‫ُ‬
‫ان‪ .‬وأول الشــروط‬
‫وهــو فــي هذيــان يتجــدد كل يــوم ِس ّــي ٌ‬
‫إلحــراز األمــان وبلــوغ الغايــة المنشــودة أن تبــادر إلــى‬

‫‪2‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السلوك‪ .‬فالسلوك بهذا االعتبار لذيذ وباعث لألمل‪ ،‬بيد‬
‫أن الطريــق نفســه قد تعتوره ألوان مــن الصعود والنزول‪،‬‬
‫والح َفــر‪ ،‬وأشــكال مــن المصاعــب‬
‫وأنــواع مــن الروابــي ُ‬
‫وخصوصا طريقنا الذي نسعى فيه‪.‬‬
‫والمصائب‪،‬‬
‫ً‬
‫هذا الطريق طويل بعيد‪،‬‬
‫كثير عديد‪،‬‬
‫قليل‬
‫ّ‬
‫ال َ‬
‫المحاط بل ٌ‬
‫عديم المنافذ عديم المعابر‪،‬‬
‫وماؤه للسالكين عميق وغائر‪( ...‬يونس َأ ْم َره)‬
‫الــدرب بعشــق واشــتياق خلــف دليلهم‪،‬‬
‫فالســالكون‬
‫َ‬
‫الحزن أمامهم‬
‫تذوب الجبال لهم قيعا ًنا مســتوية‪ ،‬ويصير َ‬
‫ال‪ ،‬ويجتــازون لجج الدماء والصديد بســرعة البرق‪،‬‬
‫ســه ً‬
‫مروا بها‪ ..‬ال مجال للحديث عن‬
‫وينطفئ َفيح جهنم إذا ُّ‬
‫ِ‬
‫ونكوصهم عنه‬
‫تع ُّثرهم في الطرق‪ ،‬أو ك ِّفهم عن المســير‬
‫أو رجوعهم القهقرى‪ ،‬بل يســيرون من الخلق إلى الحق‬
‫ال يحيــدون‪ ،‬ال تطــأ أقدامهــم األشــواكَ حيــن يســلكون‬

‫الحزن‬
‫تــذوب الجبال لهم قيعانًا مســتوية‪ ،‬ويصري َ‬
‫أمامهم ســهالً‪ ،‬ويجتــازون لجج الدمــاء والصديد‬

‫برسعة الربق‪ ،‬وينطفئ فَ يح جهنم إذا م ُّروا بها‪.‬‬

‫آ ٍه لــو أمعنتــم النظــر فــي هــذه الســحابة المركومــة‪،‬‬
‫وفــي أ َّنــات األم تعاني آالم المخــاض‪ ،‬وانتبهتم إلى هذه‬
‫العصفــورة تبني عشــها في جهــد حثيث وتلك العنكبوت‬
‫تنسج بيتها بألف صعوبة وصعوبة!‬
‫وهكــذا روح اإلنســان‪ ..‬فمنــذ اليــوم الــذي هبــط‬
‫وانتكــس إلــى قلــب المادة لــم يزل يتقلب مــن قالب إلى‬
‫ســمع‬
‫وي‬
‫آخــر أمــ ً‬
‫ا أن يعــود إلــى أصله؛ َفيــرى المعانا َة‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫ويعاشــر المعاناة‪ ،‬ويتوحد مع المادة في ســبيل‬
‫المعاناة‪،‬‬
‫ُ‬
‫نسج سعادته األبدية‪.‬‬
‫مكابد‪ ،‬ينتظره‬
‫إن اإلنسان ُخلق للمحن‪ ،‬وهو ابن سبيل‬
‫ٌ‬
‫وبطولته الحقيقية‬
‫في طريقه‬
‫ٌ‬
‫ســيل من المحــن والمعاناة‪ُ .‬‬
‫منوطــة بتخطيــه لهــذه المصاعــب التــي تعتــرض طريقــه‪.‬‬
‫فآ ٍه ثم آه! ليتنا اســتطعنا أن ُن ِ‬
‫ســمع كل هذه الحقائق‬
‫حد ْثنــا لــه عن الطرق الشــائكة التي‬
‫لــروح إنســاننا‪ ،‬ليتنــا َت َّ‬
‫والجور والوحوش‬
‫ســتقابله‪ ،‬وك ّلمناه عن أنواع المظالم َ‬
‫الكاسرة التي ستقطع طريقه‪ ،‬وعن صنوف الوحشة التي‬
‫سيالقيها‪ ،‬حتى ُن ْطلعه على الوجه الحقيقي لواقع األمر‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬لــن يكــون مــن قبيــل المجــاز قولنــا‪ :‬ال منــاص‬
‫للعشــاق المتيميــن ســالكي الطريــق من الباليــا والمحن‪،‬‬
‫فذلــك للمهموميــن المغموميــن أســاس فــي طري ِقهــم‪.‬‬
‫وضروري أن نج ّلي تلك الحقيقة لمن يســعون جاهدين‬
‫فــي ســبيل خدمــة أمتهم‪ .‬ومــا لم يدركوا كنهها فال ســائر‬
‫هناك وال طريق‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أجير أشيوك‪ .‬نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي‬
‫التركية في العدد‪ ،31:‬سنة ‪.1981‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫طرقهــا بــل يطيــرون‪ ،‬نظر ُتهم إلــى الموت نظــرة الحبيب‬
‫ســاعتها وال يحزنون‪،‬‬
‫إلــى الحبيــب‪ ،‬فــا خــوف عليهــم‬
‫َ‬
‫يدخلــون قبورهــم وهم فرحــون مستبشــرون‪ ..‬ال يهابون‬
‫قطعا‪ ،‬وال ينظرون إليه كأنه دار وحشة أو معبر إلى‬
‫القبر ً‬
‫وبرزخا‬
‫بابا للرحمــة‬
‫ً‬
‫العــدم أو ّتنيــن فاغــر فــاه‪ ،‬بل يرونــه ً‬
‫للنــور وقنطــرة للحــق يفضــي إلــى "لقــاء األحبــة"‪ ..‬فــا‬
‫يترددون‪ ،‬وال يستسلمون للشكوك وال يرتبكون‪.‬‬
‫وفي المقابل هناك بؤساء تخ ّلوا عن الهدف وتراجعوا‪،‬‬
‫أو ض ّلــوا الطريــق فــي نــور الضحــى‪ ،‬أو تعثــروا بشــوكة‬
‫واحدة عرضت لهم‪ ،‬أو عجزوا عن تخطي ربوة صغيرة‪.‬‬
‫إن هؤالء التعساء الذين ُحرموا إدراكَ لذة المسير في‬
‫الطريق‪ ،‬وظنوا أن "دار المحن" هذه أبدي ٌة‪ ،‬فأزمعوا على‬
‫اإلقامــة فيهــا‪ ..‬هــؤالء لو ُفرشــت‬
‫النجوم تحــت أقدامهم‬
‫ُ‬
‫شيئا‪.‬‬
‫ليسلكوا الطريق فلن َيعني ذلك لهم ً‬
‫أيضــا وعثــاءه ومحنتــه‪،‬‬
‫إن لــكل طريــق لذتــه‪ ،‬ولــه ً‬
‫خصوصا مثل ذلك الطريق الذي يعانق الخلود ويتداخل‬
‫ً‬
‫مع األبدية‪.‬‬
‫ليست السعادة الدائمة منحة توهب بال ثمن‪ ،‬وليست‬
‫النعــم الممتــدة ل َقط ًة على قارعة الطريق ملقاة‪ .‬فالســعادة‬
‫ال ينالهــا إال مــن عبــر الفيافــي واجتــاز شــواهق الجبــال‪.‬‬
‫والنعم ال يحظى بها إال من صمد حتى المحطة األخيرة‬
‫ُ‬
‫في الطريق الطويل الذي له مئات المحطات‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬إنمــا تنمــو النعمــة في طــرق تغدو فيهــا‬
‫المحن‬
‫ُ‬
‫وتروح‪ ،‬وتتأتى الســعادة بعد ســيل من صنوف الحرمان‪.‬‬
‫فــإذا كان ُملــك مصــر يتطلــب اإللقــاء فــي غيابــة الجــب‬
‫والزج‬
‫والتجــوال فــي أســواق العبيد كاألرقــاء‪،‬‬
‫كالــدالء‪،‬‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬
‫فــي الســجون كالمجرمين األشــقياء‪ ،‬فلن يكــون بمقدور‬
‫أحد أن يبدل ذلك‪ ،‬وليس له أن يحقق الغاية دون تذوق‬
‫هذه الغصص وتجرعها‪.‬‬
‫فمن ذا الذي َي ْق ِدر على تغيير الطريق الذي شقته "يد‬
‫الحكمــة"؟! إن محاولــة ذلــك َتعنــي إعــان الحرب ضد‬
‫الفطرة وضد طبيع ِة األشياء‪.‬‬

‫الدرب بعشق واشــتياق خلف دليلهم‪،‬‬
‫الســالكون‬
‫َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪3‬‬

‫علوم‬

‫محمد هاشم البشير*‬

‫الفضة النانوية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫يف مكافحة البكرتيا‬

‫‪4‬‬

‫ذكــر اهلل تعالــى الفضــة في محكــم تنزيله‬
‫فــي ســتة مواضــع مختلفــة بالتعريــف‬
‫(الفضة)‪ ،‬وبــدون التعريف (فضة) كقوله‬
‫الش َــهو ِ‬
‫ين‬
‫ــن ِل َّلن ِ‬
‫تعالــى‪ُ :‬‬
‫‪‬ز ِّي َ‬
‫ات ِم َن ال ِّن َســا ِء َوا ْل َب ِن َ‬
‫اس ُح ُّب َّ َ‬
‫َوا ْل َق َن ِ‬
‫الذ َه ِب َوا ْل ِف َّض ِة َوا ْل َخ ْي ِل ا ْل ُم َس َّو َم ِة‬
‫اط ِير ا ْل ُم َق ْن َط َر ِة ِم َن َّ‬
‫َوا َ‬
‫هلل ِع ْن َد ُه ُح ْس ُن‬
‫الد ْن َيا َوا ُ‬
‫اع ا ْل َح َيا ِة ُّ‬
‫أل ْن َع ِ‬
‫ام َوا ْل َح ْر ِث َذ ِل َك َم َت ُ‬
‫اف َع َل ْيهِ ْم بِآ ِن َي ٍة‬
‫ا ْل َم ِ‬
‫‪‬و ُي َط ُ‬
‫آب‪(‬آل عمران‪ ،)14:‬وقوله تعالى‪َ :‬‬
‫خص‬
‫ــن ِف َّضــ ٍة َو َأ ْك َو ٍ‬
‫اب َكا َن ْ‬
‫ِم ْ‬
‫ــت َق َوارِ َير‪(‬اإلنســان‪)15:‬؛ لقد ّ‬
‫اهلل ‪ ‬فــي هــذا الموضع أهل الجنــة بأكواب الفضة‪ .‬ثم‬
‫‪‬عا ِل َي ُه ْم‬
‫في موضع آخر من نفس السورة يقول تعالى‪َ :‬‬
‫ــن ِف َّض ٍة‬
‫ــاب ُس ْــن ُد ٍ‬
‫س ُخ ْض ٌــر َوإ ِْس َــت ْب َر ٌق َو ُحلُّوا َأ َســاوِ َر ِم ْ‬
‫ِث َي ُ‬
‫ورا‪(‬اإلنســان‪)21:‬؛ وهنــا إشــارة‬
‫َو َســ َق ُ‬
‫ــم َش َــر ًابا َط ُه ً‬
‫اه ْم َر ُّب ُه ْ‬
‫لطيفة تربط بين أكواب الفضة والشراب الطهور‪ ،‬وتؤكد‬
‫هــذه اإلشــارة وتصدقهــا البحــوث العلميــة الحديثــة التي‬
‫وكشــفت هذه الدراســات أن‬
‫ُأجريت على معدن الفضة‪َ .‬‬
‫الفضة من أنجع الوسائل لمكافحة البكتريا والجراثيم‪.‬‬
‫الفضة عنصر يرمز له باألحرف "‪"Ag‬‬
‫اختصارا للكلمة‬
‫ً‬
‫الالتينية (‪ ،)Argentum‬ونســبت إليه دولة األرجنتين (أرض‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الفضــة)؛ حيــث ُوجدت فيها الفضة بكميات كبيرة‪ ،‬وهي‬
‫معدن أبيض ويمكن صقله وتلميعه‪ .‬ويأتي معدن الفضة‬
‫فــي المجموعــة االنتقاليــة رقم ‪ II‬من الجــدول الدوري‪،‬‬
‫الــذري ‪ ،47‬ووزنهــا‬
‫ورقمهــا‬
‫الــذري ‪ ،107.868‬ويبلغ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وزنهــا النوعــي ‪ .10.5‬تنصهــر الفضــة عند درجــة حرارة‬
‫‪ 962‬درجــة مئويــة‪ ،‬وتصل إلى مرحلة الغليان عند درجة‬
‫حرارة ‪ 2212‬درجة مئوية‪.‬‬
‫اســتخدمت الفضــة منــذ القــدم فــي مكافحــة البكتريا‬
‫نظرا لقدرتها على قتل الكائنات الدقيقة والطحالب‪ .‬وقد‬
‫ً‬
‫استخدمها المسلمون في تنقية الماء؛ حيث قاموا بوضع‬
‫المــاء فــي ال ِقــرب المصنوعــة من جلد الشــاة‪ ،‬حتى امتأل‬
‫ما يقرب من ثالثة أرباعها وظل الباقي هواء‪ ،‬ثم وضعوا‬
‫قطعــا معدنيــة من عمــات الفضة لتهتــز ال ِقربة‬
‫فــي المــاء ً‬
‫أثنــاء الرحــات الطويلة فتحتك القطــع ببعضها البعض‪،‬‬
‫مما يؤدي إلى ذوبان جزء بسيط من الفضة في الماء في‬
‫جدا يكون وسيلة في قتل البكتريا‬
‫صورة مسحوق ناعم ًّ‬
‫وتطهير الماء‪.‬‬
‫فــي العصــر الحديث بعــد ظهور علــم النانو‪ ،‬حظيت‬

‫المــواد ذات البنيــة النانومتريــة علــى تركيــز مكثــف مــن‬

‫والتركيــز علــى الفضــة‪ ،‬كونهــا تعمــل ضــد طيف واســع‬

‫خصائصهــا الفيزيائيــة والكيميائية الفريــدة على حجمها‪.‬‬

‫منخفضة إلى خاليا الثدييات‪.‬‬

‫الباحثيــن ‪-‬خاصــة فــي العقــود األخيــرة‪ -‬بســبب اعتمــاد‬

‫وبمــا أنــه أصبح من الســهل بناء جســيمات نانوية (من ‪1‬‬
‫نانومتر إلى ‪ 100‬نانومتر)‪ ،‬فقد تسابق العلماء والباحثون‬
‫في ابتكار طرق مختلفة للسيطرة على حجم وبنية المواد‬
‫فــي مســتوى النانــو‪ .‬وبالتالــي اســتغالل خصائــص هــذه‬

‫المــواد المختلفة‪ ،‬وأهمية دراســة أثر المواد النانوية على‬
‫البكتريــا‪ ،‬تأتــي في إطــار األبحاث حــول توفير مضادات‬
‫فعالة‪ .‬وقد أثبتت أيونات الفضة ‪-‬وخاصة بحجم‬
‫حيوية ّ‬

‫وفعالة في مكافحة الجراثيم‪.‬‬
‫النانو‪ -‬أنها تكون مفيدة ّ‬

‫ــمية‬
‫من البكتيريا بشــكل اســتثنائي‪ ،‬في حين أنها تظهر ُس ّ‬
‫وتعتبــر تقنيــة النانــو فضة‪ ،‬بمثابة فتــح طبي جديد؛ إذ‬

‫تستطيع الفضة المصنعة عند هذا الحجم الصغير للغاية‪،‬‬

‫نوعــا من البكتريا بتحطيم‬
‫أن تقضــي علــى أكثر من ‪ً 630‬‬
‫جــدران الخليــة البكتيريــة‪ ،‬وعلــى العديــد مــن الفطريات‬

‫والفيروسات‪ ،‬كما ُتستخدم هذه المادة في تعقيم أدوات‬

‫أيضــا‪ .‬وهنــاك دراســة علمية نشــرت فــي مجلة‬
‫الجراحــة ً‬
‫تقنيــة النانــو األمريكيــة عــام ‪ ،2005‬أجراهــا باحثــون‬

‫مــن جامعتــي تكســاس ومكســيكو األمريكيتيــن‪ ،‬تؤكــد‬

‫لذلــك تســابق الباحثــون فــي مختلــف دول العالــم‪،‬‬

‫علــى أن النانــو فضــة عنــد مقيــاس ‪ 10-1‬نانومتــر‪ ،‬قادرة‬

‫يطبقوها في مجاالت عديدة‬
‫وأشكال متعددة استطاعوا أن ّ‬
‫علميــ ٍة وتكنولوجيــ ٍة وصحيــ ٍة‪ .‬وكانــت حبيبــات الفضــة‬

‫اإلنسان‪ ،‬أال وهو فيروس األيدز (‪ .)HIV-1‬وطب ًقا لما جاء‬

‫فــي البحث المشــار إليه‪ ،‬فإن الفضــة النانوية قضت على‬

‫فــي مجــاالت عــدة‪ ،‬وعــادة مــا تكون فضــة عاليــة النقاء‪.‬‬

‫مــن بــدء التجربــة عند درجة حــرارة ‪ 37‬درجة مئوية‪ ،‬أي‬

‫وتفننــوا فــي تحضيــر مــواد نانويــة ذات تراكيــب مختلفــة‬

‫ُعرفت الفضة‬
‫واســتخدمت على‬
‫كمطهر لعدة قرون‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِّ‬

‫نطــاق واســع فــي عــاج األمــراض الســريرية وجــروح‬

‫الحروق الموضعية‪ .‬ومما يشجع الباحثين على االهتمام‬

‫‪ %100‬مــن فيروســات األيدز خالل ثالث ســاعات فقط‬
‫درجة حرارة جسم اإلنسان‪.‬‬

‫(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل ‪ /‬السودان‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫نظــرا لتطبيقاتهــا المحتملة‬
‫النانويــة مــن أهــم هذه المــواد ً‬

‫علــى القضــاء علــى أحــد أخطــر الفيروســات على صحة‬

‫‪5‬‬

‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد بن إبراهيم السعيدي*‬

‫الوحي والحرية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫إن مــن الطــرق الصحيحــة إلحــداث النســبة‬
‫بين التصــورات‪" ،‬العقل"؛ باعتبــاره المجهود‬
‫ثانيــا بعده‬
‫الذهنــي البشــري الصــرف‪ ،‬ويأتــي ً‬
‫"الوحــي" المنــزل على محمــد ‪ ‬بنوعيه‪ .‬فهمــا كما يحتويان‬
‫أيضا علــى مجموعة كبيرة‬
‫علــى أوامــر ونوا ٍه إلهية‪ ،‬يشــتمالن ً‬
‫تقدم‬
‫ًّ‬
‫جــدا مــن التصديقات حســب اصطالح المناطقــة‪ ،‬وهي ّ‬
‫لإلنســان مــا ينبغــي أن يعتنقــه مــن رؤى يقينية للكــون بعا َلميه‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬وذلك بإعطاء أجوبة ربانية لجميع األسئلة‬
‫التــي ال تــزال عنــد َمــن ال يملكــون إيما ًنــا‬
‫حقيقيــا بالوحــي‪،‬‬
‫ًّ‬
‫تعبــر عــن مشــكالت بــل معضــات فلســفية يســميها بعضهم‬
‫ّ‬
‫ماديــا‪ ،‬ومنها‬
‫ا‬
‫مــدرك‬
‫ليــس‬
‫مــا‬
‫كل‬
‫عــن‬
‫تتحــدث‬
‫الميتافيزيقــا‪،‬‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫األســئلة الخمســة الشــهيرة‪َ :‬مــن‪ ،‬وكيــف‪ ،‬ومتــى‪ ،‬ومــن أيــن‪،‬‬

‫‪6‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫منهجا متكام ً‬
‫ال للحياة‪ ،‬يؤسسه عىل‬
‫الوحي يقدم‬
‫ً‬

‫ولمــاذا‪ ،‬وهــي إشــكاالت عــن الخلــق وســر الوجــود في‬

‫حقيقة أن اإلنسان عبد لله اضطرا ًرا‪ ،‬ويجب أن يكون‬

‫شكلت عصب‬
‫هذه الحياة‪ ،‬موروثة عن فالسفة اليونان‪ّ ،‬‬

‫ً‬
‫عبدا لله اختيا ًرا‪ .‬واالســتعباد ليس‬
‫تحكم إله ًّيا يف‬
‫ً‬

‫الفلسفة القديمة والوسطى والحديثة‪.‬‬

‫األفعال فقط‪ ،‬بل يف األقــوال واألفعال الظاهرة‬

‫وإن كانــت طبيعــة النقــاش الفلســفي المعتمــد علــى‬

‫والباطنة التي منها الفكر‪.‬‬

‫طرح األســئلة المســتنبطة من أســئلة ســابقة‪ ،‬دون ارتباط‬
‫الســائل بحصوله على جواب مقنع عن الســؤال األول‪،‬‬

‫كثيــرا أن يكون التقارب هو بتأثير من‬
‫أضــع فــي االعتبار‬
‫ً‬

‫أقــول‪ :‬إن طبيعــة النقــاش هــذه‪ ،‬قــد أســهمت ‪-‬وليســت‬

‫دواعي الفطرة التي أظن أن ديكارت وكينت كانا أول من‬

‫وحدهــا‪ -‬في أن تكون الفلســفة منطل ًقــا لكثير من العلوم‬

‫أدخالها (أي الفطرة) في الفكر األوربي‪.‬‬

‫النظرية والتجريبية؛ كالرياضيات‪ ،‬والطب‪ ،‬وعلم النفس‪،‬‬

‫أتكلــم هكــذا ألنني أجــزم بأن من التهالــك الفكري‪،‬‬

‫والجغرافيــا‪ ،‬والفيزيــاء‪ ،‬واألحيــاء‪ ،‬والميكانيــكا‪ ..‬إال أننا‬

‫الرجــوع بالعقــل إلــى الــوراء فــي محاولــة مناقشــة قضايا‬

‫ال يمكــن أن نعــزو الفضــل في والدة هــذه العلوم النافعة‬

‫قرآنيا بشكل قطعي‪ ،‬وذلك في دعوات نسمعها‬
‫محسومة‬
‫ًّ‬
‫تتصاعــد هنا وهناك مطا ِلبة بدراســة الفلســفة وتدريســها‪.‬‬

‫إلــى الحيــرة في أصــل الكون والحياة كمــا يحب البعض‬

‫يصــور لنــا‪ ،‬بــل الحقيقــة أن تلــك العلــوم نشــأت عــن‬
‫أن‬
‫ِّ‬

‫بــل إن هنــاك مشــاريع قائمــة اآلن إلحيــاء الفلســفة فــي‬

‫مهيــأة للتفكيــر‪ ،‬ولــو أن تلــك البيئــة توقفــت‬
‫بيئــة علميــة ّ‬

‫بالدنــا‪ ،‬هــذه الفلســفة التــي قامت بدورها المشــكور قبل‬

‫عنــد اإلجابــات الفطريــة إلشــكاالت الكــون والحيــاة‪،‬‬

‫تلــك العلــوم التــي ظلــت أكثر مــن ألف ســنة متوقف ًة عند‬
‫شكلها النظري الذي تركها عليه كل من أبقراط وأرسطو‬

‫وأرشميدس‪ ،‬حتى انتقلت عند المسلمين نقل ًة نوعية من‬
‫العلــم النظــري إلــى العلم التجريبي‪ ،‬ومــن ثم ح ّققت في‬

‫تقدم نتيجة اشتراك‬
‫ظل الحضارة الغربية ما نراه اليوم من ّ‬
‫المحــرك‬
‫شــكلت‬
‫العديــد مــن العوامــل المؤثــرة‪ ،‬والتــي ّ‬
‫ّ‬

‫الرئيس لتسارعها‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التقدم بشــكل أســرع بكثير في سبيل إنضاج‬
‫الســتطاعت ّ‬

‫ألفي عام‪ ،‬ولم تعد اآلن قادرة على أن تقدم لإلنسانية أي‬
‫شيء مفيد بعد أن استقلت عنها جميع العلوم التجريبية‪،‬‬

‫إضافــة إلى علم النفس واالجتماع والجغرافيا والتاريخ‪،‬‬
‫ولــم يبــق فــي فنائهــا ســوى القضايــا المتعلقــة بالالهوت‬
‫وعالــم الغيــب‪ ،‬وهي قضايا يجب علينا التســليم بأنها قد‬

‫قدم القرآن‬
‫انفصلــت عنهــا منذ ألــف وأربعمائة عام حين ّ‬

‫أجوبة قاطعة لجميع مشكالتها‪.‬‬

‫ال للحياة؛ يؤسســه‬
‫أيضــا يقــدم‬
‫منهجــا متكام ً‬
‫الوحــي ً‬
‫ً‬

‫وفــي تقديــري‪ ،‬إن تباطــؤ حركــة اإلبــداع العلمــي‬

‫اضطــرارا‪ ،‬ويجــب أن‬
‫علــى حقيقــة أن اإلنســان عبــد هلل‬
‫ً‬

‫مــن تأثيــر تعلق فالســفتهم بالحيــرة اليونانية‪ ،‬وانشــغالهم‬

‫إلهيــا فــي األفعال فقط‪ ،‬بل في األقوال واألفعال الظاهرة‬
‫ًّ‬

‫عنــد المســلمين رغــم ابتكارهــم للمنهــج التجريبي‪ ،‬كان‬

‫بمعالجة قضاياها في غفلة غير مبررة عن الهدي القرآني‬
‫فــي حــل تلك اإلشــكاالت‪ .‬بينمــا كان لتأثر آبــاء النهضة‬
‫الحديثــة ‪-‬ديــكارت وكينت‪ -‬باإلجابات اإلســامية عما‬

‫وراء الطبيعــة‪ ،‬دور كبيــر فــي تســارع التقــدم األوربــي‪،‬‬

‫تحكمــا‬
‫اختيــارا‪ .‬واالســتعباد هنــا ليــس‬
‫عبــدا هلل‬
‫يكــون ً‬
‫ً‬
‫ً‬

‫محدودا‬
‫والباطنة التي منها الفكر‪ .‬فالفكر ينبغي أن يكون‬
‫ً‬
‫أيضــا ينبغــي أال‬
‫بمســاحة مــا ســكت الشــرع عنــه‪ ،‬وهــذا ً‬

‫ا حين نتحدث عن‬
‫يتجــاوز الفكــر فيه قيود الشــرع؛ فمثــ ً‬
‫قيد ينبغــي أن ال نتجاوزه‬
‫إلــى القبيلــة مباح‬
‫شــرعا‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫ً‬

‫باإلضافــة إلــى عوامــل كثيرة أخرى لعلها قد درســت من‬
‫ِقبــل مختصيــن فــي تاريــخ النهضــة‪ .‬وهنــا أحــب أن أنبــه‬

‫للمطالبــة بالقضــاء علــى هــذا االنتماء‪ ،‬كما نســتحضر أن‬

‫بالفكر اإلسالمي‪ ،‬سوى ما أجده بينهما وبينه من تقارب‬

‫محــرم وهو‬
‫محــرم‪ ،‬ونســتحضر أن الطعــن في األنســاب‬
‫ّ‬

‫إلــى أننــي ال أملك معطيات علمية لتأثر ديكارت وكينت‬
‫فــي بعــض مســائل األلوهية ومصــادر المعرفــة‪ ،‬مع أنني‬

‫القبلــي علــى أســاس مــن التفاضــل فــي النســب‬
‫االنتمــاء َ‬
‫قيد آخر‪ ،‬فال يصح اســتهداف أي قبيلة من القبائل بذكر‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫القبلــي‪ ،‬يجــب علينــا أن نســتحضر أن االنتمــاء‬
‫االنتمــاء َ‬

‫‪7‬‬

‫نحن نشــعر بكفاية اإلســام وبالراحة يف تعاطينا‬

‫ِ‬
‫يم‪(‬آل عمران‪ ،)31:‬ويقول ‪:‬‬
‫وب ُك ْم َوا ُ‬
‫َل ُك ْم ُذ ُن َ‬
‫هلل َغ ُف ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ــج َر َب ْي َن ُه ْم‬
‫ــك َ‬
‫ا َو َر ِّب َ‬
‫‪َ ‬فــ َ‬
‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬
‫يما َش َ‬
‫ون َح َّتى ُي َح ّك ُموكَ ف َ‬
‫ــدوا ِفــي َأ ْن ُف ِســهِ ْم َح َر ًجا ِم َّمــا َق َض ْي َت َو ُي َســ ِّل ُموا‬
‫ــم َ‬
‫ال َي ِج ُ‬
‫ُث َّ‬
‫ِ‬
‫ــن ِد ًينا ِم َّم ْن َأ ْســ َل َم َو ْج َه ُه‬
‫‪‬و َم ْن َأ ْح َس ُ‬
‫يما‪(‬النســاء‪َ ،)65:‬‬
‫َت ْسل ً‬
‫ِ‬
‫ــن َو َّاتب َ ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬
‫هلل‬
‫يــم َح ِني ًفــا َو َّات َخ َ‬
‫ــذ ا ُ‬
‫ــع م َّلــ َة إ ِْب َراه َ‬
‫ل َو ُه َــو ُم ْحس ٌ َ‬
‫ِ‬
‫ان‬
‫يــم َخ ِلي ً‬
‫‪‬و َمــا َك َ‬
‫ال‪(‬النســاء‪ ،)125:‬وقولــه ســبحانه‪َ :‬‬
‫إ ِْب َراه َ‬
‫ون‬
‫ــن َو َ‬
‫ِل ُم ْؤ ِم ٍ‬
‫ال ُم ْؤ ِم َنــ ٍة ِإ َذا َق َضــى ا ُ‬
‫هلل َو َر ُســو ُل ُه َأ ْم ًــرا َأ ْن َي ُك َ‬
‫هلل َو َر ُســو َل ُه َف َق ْد َض َّل‬
‫َل ُه ُم ا ْل ِخ َي َر ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن َي ْع ِ‬
‫صا َ‬
‫‪‬و َر ُّب َك َي ْخ ُل ُق‬
‫ا ً‬
‫َضــ َ‬
‫ال ُمب ًِينا‪(‬األحــزاب‪ ،)36:‬ويقول تعالى‪َ :‬‬
‫ان ا ِ‬
‫هلل َو َت َعا َلى‬
‫ــم ا ْل ِخ َي َر ُة ُس ْــب َح َ‬
‫ــار َما َك َ‬
‫َمــا َي َش ُ‬
‫ــاء َو َي ْخ َت ُ‬
‫ان َل ُه ُ‬
‫ون‪(‬القصص‪.)68:‬‬
‫َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫كما أن حياة اإلنسان اليومية مضبوط ٌة بخطاب الشرع‬

‫ألمور الحياة وفق تعاليمه‪ ،‬لكن ذلك ليس للحرية‪،‬‬
‫بل ملا يف رشف االســتعباد لله تعــاىل من الفرج‬

‫‪8‬‬

‫مثالبهــا‪ ،‬كمــا نســتحضر أن كل تكتــل على أســاس يؤدي‬
‫محرم‪ ،‬فال‬
‫إلى الضرر على النسيج اإلسالمي للمجتمع ّ‬
‫نطالب بأي تكتالت على أســس َقبلية محضة ما لم يكن‬
‫ذلك لدعم م ُثل إســامية‪ .‬حين نســتحضر هذه الضوابط‬
‫ال يبقى أمامنا إال المحافظة على القبيلة باعتبارها وسيلة‬
‫للتواصــل االجتماعــي بيــن أبناء األمة‪ ،‬والقيــام مع الفرد‬
‫مــن أبنائهــا في المعونة على نوائب الحق وحســب‪ ،‬وهو‬
‫جــدا يجــرد القبيلــة مــن كل ما من شــأنه أن‬
‫نطــاق ضيــق ًّ‬
‫تفجر نفسها وتتحطم عليها كل‬
‫يجعل منها قنبلة موقوتة ّ‬
‫المكاسب‪ ،‬وعليه فال يقبل أي فكر َقبلي ال يسير في هذا‬
‫القبلية‪.‬‬
‫النطاق المحدود لدعم َ‬
‫جــدا‬
‫وقــد اختــرت هــذا المثــال العتقــادي أن قليــ ً‬
‫ا ًّ‬
‫مــن القــراء ســيختلف معــي فيــه‪ ،‬وإال فاألمثلــة كثيــرة‬
‫فــي مجــاالت التعليــم واإلعــام والتنميــة واالقتصــاد‬
‫والخدمــات والعمــل والسياســة والســياحة والعالقــات‬
‫الدوليــة واالجتمــاع والدعوة والفنون‪ ،‬وكل ما يتفرع عن‬
‫أيضا‪ ،‬كلها نطاقات‬
‫هــذه العناوين‪ ،‬بل والبيئــة والتصنيع ً‬
‫ال ككل ما‬
‫شــملها الوحــي بالضبــط وبالتحديد؛ إمــا إجما ً‬
‫ال ككل ما يتعلق بالفرد وعالقته‬
‫يتعلق باألنظمة‪ ،‬أو تفصي ً‬
‫بالخالق والمخلوقين‪.‬‬
‫وهــذا مــا أعنيــه بالشــمول فــي خطــاب الوحــي‪ ،‬وهو‬
‫شــمول عرفنــاه باســتقراء نصــوص الوحــي مــن الكتــاب‬
‫والســنة‪ ،‬يجعلنا اإليمان به نتحرى أال نجتهد في صياغة‬
‫أي فكــرة قبــل أن نبحــث عــن الضوابط الشــرعية لها‪ ،‬أو‬
‫للنوع الذي تندرج فيه‪.‬‬
‫وحين نصل إلى هذه الضوابط فال مناص من التسليم‬
‫‪‬ب َلى َم ْن‬
‫التــام لمــا ثبــت بالشــرع‪ ،‬ألن اهلل تعالــى يقــول‪َ :‬‬
‫َأس َلم َو ْج َه ُه ِ ِ‬
‫ال َخ ْو ٌف‬
‫ل َو ُه َو ُم ْح ِس ٌن َف َل ُه َأ ْج ُر ُه ِع ْن َد َر ِّب ِه َو َ‬
‫ْ َ‬
‫ون‪(‬البقــرة‪ ،)112:‬ويقــول ســبحانه‪:‬‬
‫ــم َو َ‬
‫ــم َي ْح َز ُن َ‬
‫ال ُه ْ‬
‫َع َل ْيهِ ْ‬
‫ِ‬
‫هلل َو َي ْغ ِف ْــر‬
‫‪ُ ‬ق ْ‬
‫ــم ا ُ‬
‫ــون ا َ‬
‫ــم ُت ِح ُّب َ‬
‫هلل َف َّاتب ُِعونــي ُي ْحب ِْب ُك ُ‬
‫ــل إ ِْن ُك ْن ُت ْ‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫طيلة يومه وليلته؛ حيث ال يخرج عمل من أعماله عن أن‬
‫يكــون له حكم في الشــريعة اإلســامية‪ ،‬وهــذا ما يجعلنا‬

‫نعيــد النظــر فيمــا يقال "إن اإلســام دين حريــة"‪ .‬وأعتقد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫واليرس‪ ،‬وصالح أمر الدنيا بصالح الدين‪.‬‬

‫أن هذه العبارة ليســت أصيلة في تراثنا اإلســامي‪ ،‬وإنما‬
‫الرد على الحملة العلمانية الماسونية‬
‫جاءت في ِ‬
‫معرض ّ‬

‫التي جعلت شعارها العدل والحرية والمساواة‪.‬‬

‫فجــاء جوابنــا‪ :‬إن اإلســام يك ُفــل للمســلم حريــة‬
‫منضبطة بضوابط الشرع‪ .‬لكننا حين نتأمل ضوابط الشرع‬

‫جدا‪ ،‬بحيث ال يمكن‬
‫نجدها ‪-‬والحمد هلل‪ -‬كثيرة وكثيرة ًّ‬
‫أحرارا‪.‬‬
‫إقناع أحد أننا معها يمكن أن نكون‬
‫ً‬

‫كنــت أتمنــى لــو كان جوابنــا علــى دعــاوى الحريــة‪:‬‬

‫إن الحريــة فــي النهايــة هــي عبــادة النفس وتأليــه الهوى‪،‬‬
‫ــن َّات َخ َذ ِإ َل َه ُه َه َو ُاه َأ َف َأ ْن َت‬
‫كمــا فــي قوله تعالى‪َ  :‬أ َر َأ ْي َت َم ِ‬
‫ال‪(‬الفرقان‪ .)43:‬واإلســام أمرنا بالخروج‬
‫ــون َع َل ْي ِه َو ِكي ً‬
‫َت ُك ُ‬
‫من ذلك إلى الدخول في عبوديته سبحانه‪ ،‬تلك العبودية‬
‫حــرا مطل ًقا‪ ،‬وال‬
‫التــي ال يمكــن لإلنســان معهــا أن يكون ًّ‬

‫حــرا بضوابــط ولــو كانت ضوابــط الشــريعة؛ ألن الحرية‬
‫ًّ‬
‫مصطلح له أبعاده الفلســفية‪ ،‬وهو بهذه األبعاد ال يمكن‬

‫أن يتوافــق مــع ضوابط الشــريعة إال مــن حيث داللته في‬
‫لغتنــا العربيــة‪ ،‬وال يخفــى أن المصطلحــات غيــر مرتهنــة‬

‫بداللتهــا األصليــة فــي لغاتهــا‪ .‬وحين نقول‪ :‬إن اإلســام‬

‫أعطانا الحرية المنضبطة بضوابط الشرع‪ ،‬فإننا نتنازل عن‬
‫تأثيرا في النفوس‬
‫المصطلح األشرف واألسمى واألكثر ً‬

‫إن كل األمــة ‪-‬مجتمعة‪ -‬مخاطبــة بالوحي‪ ،‬فإن كل‬

‫‪-‬وهــو االســتعباد الخالــص هلل‪ -‬إلــى مصطلــح ملفق من‬

‫فرد من أفراد الناس مخاطب عىل حدة بهذا الوحي‪،‬‬

‫مصطلحا‬
‫نتاج الماســونية ومشــاعرنا الدينية‪ ،‬ونحن نريد‬
‫ً‬

‫والكل مطالب بتدبره وتأمل أوامره ونواهيه‪ ،‬ليس‬

‫صريحا إسالمي األصل والمنشأ والوالدة‪.‬‬
‫ً‬

‫ذلك ألحد دون أحد‪ ،‬العلامء والعامة عىل حد سواء‪.‬‬

‫وحيــن نرســخ مفهوم االســتعباد التــام هلل تعالى‪ ،‬فإننا‬

‫أيضا واجب التسليم هلل ‪ ‬وألمره ونهيه‪ ،‬والرضا‬
‫نرسخ ً‬

‫وقدر‪.‬‬
‫بما أمر كتسليمنا بما قسم ّ‬

‫فالتســليم هلل تعالــى هــو وحــده الكفيــل بالقضاء على‬

‫كل مطالبــة تخالف النص وتســتند إلــى ما يعرف بحقوق‬

‫ا فــي مقاصــد‬
‫اإلنســان‪ ،‬ويجــد المتحمســون لهــا أصــ ً‬
‫الشــريعة العامة‪ ،‬ألن عدم التســليم الحق هو الذي يؤدي‬

‫ــي أعنــاق النصــوص أو تعطيلهــا من أجل‬
‫إلــى محاولــة ل‬
‫َ ِّ‬
‫موافقة الهوى دون أن يكون هناك داع للتأويل أو التعطيل‪.‬‬
‫ومــن تتمــة الحديــث عــن عظيــم االبتــاء بمصطلــح‬

‫الحريــة‪ ،‬تطــرف البعــض فــي اســتخدامه؛ ومــن ذلــك أن‬

‫مقصدا من مقاصد الشــريعة ينضاف إلى‬
‫منهم من جعله‬
‫ً‬
‫ال نجد هذا المصطلح في نصوص الشريعة وال في اللغة‬
‫العربيــة بأســرها يطلــق إال على ما يقابل الرق‪ ،‬والشــريعة‬

‫تحيط اإلنسان بأحكامها الخمسة من الوجوب والتحريم‬

‫والكراهة والندب‪ ،‬وليس ثم خيار مطلق إال في اإلباحة‪،‬‬
‫وحتــى هــذه نجد أن الخيــار فيها غير مطلــق؛ فإن المباح‬

‫مباحا إال باعتبارات ربما تكون متعددة؛‬
‫الواحد ال يكون ً‬

‫فالنســاء مباحــات للرجل ما عــدا المحارم منهن‪ ،‬وال تتم‬
‫اإلباحــة إال بعقــد ومهر‪ ،‬وحين يضم الرجل أربعة نســوة‬
‫تحــرم عليــه جميــع نســاء العالميــن‪ ،‬وتحــرم مــع المرأة‬
‫الواحدة أمها وأخواتها وخاالتها وعماتها‪.‬‬

‫مخدرا‪ ،‬أو‬
‫مسكرا‪ ،‬أو‬
‫واألكل كله مباح‪ ،‬إال إذا كان‬
‫ً‬
‫ً‬

‫مفترا‪ ،‬أو غير مذبوح‪ ،‬وغير مذكور اسم اهلل عليه‪ ،‬وليس‬
‫ً‬
‫خنزيرا‪ ،‬أو دخل في تركيبه‬
‫سب ًعا‪ ،‬أو ذا ناب‪ ،‬أو خبي ًثا‪ ،‬أو‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫شيء من ذلك‪.‬‬

‫حيلة على بيع المال بالمال‪ ،‬أو بيع مجهول‪ ،‬أو غائب‪،‬‬

‫أو غيــر مقــدور علــى تســليمه‪ ،‬أو غير موصــوف بوصف‬
‫جلبا متل ًّقى‬
‫منضبــط‪ ،‬وال بيــع منابــذة‪ ،‬وال مالمســة‪ ،‬وال ً‬

‫من الركب‪ ،‬إلى آخر ما يذكر هناك‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والبيــع كلــه حــال‪ ،‬إال إذا كان بيــع مــال بمــال‪ ،‬أو‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حفــظ الديــن والنفس والمال والعقــل والعِ رض‪ ،‬مع أننا‬

‫نعــم‪ ،‬نحــن نشــعر بكفايــة اإلســام‪ ،‬وبالراحــة فــي‬
‫تعاطينــا ألمــور الحيــاة وفــق تعاليمــه‪ ،‬لكــن ذلــك ليــس‬
‫للحريــة‪ ،‬بــل لمــا في شــرف العبودية هلل تعالــى من الفرج‬
‫واليسر‪ ،‬وصالح أمر الدنيا بصالح الدين‪.‬‬
‫وقــل مثــل ذلك فــي الفكر‪ ،‬فإن المــرء مطالب بالنظر‬
‫إلــى الكــون والوجــود بجملتــه وتفاصيلــه وفــق الرؤيــة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وبالمنظار الشرعي ال غير‪.‬‬
‫وممــن تطــرف فــي الحرية‪ ،‬من جاء بهــذا االصطالح‬
‫الغربي نفسه فطالب بالليبرالية اإلسالمية‪ ،‬والغالب على‬
‫هــؤالء أنهــم غيــر متحمســين للتســليم لإلســام‪ ،‬وإنمــا‬
‫يحاولــون ترويــج معاناتهــم الهوائيــة ‪-‬نســبة للهــوى ال‬
‫للهواء‪ -‬بإضافة اإلســام كتذكرة عبور إلى مجتمعاتنا ال‬
‫أكثر من ذلك‪.‬‬
‫الوحــي بنوعيــه ‪-‬الكتــاب والســنة‪ -‬نزل على رســول‬
‫اهلل ‪‬‬
‫مخاطبــا كل النــاس وكل المؤمنيــن به‪ ،‬وكما أنهم‬
‫ً‬
‫ا‪ ،‬فــإن خطابــه تعالــى لهــم‬
‫يؤمنــون بــه إجمــا ً‬
‫ال وتفصيــ ً‬
‫ال‪ ،‬وكما أن كل األمة ‪-‬مجتمعة‪ -‬مخاطبة‬
‫إجما ً‬
‫ال وتفصي ً‬
‫بالوحــي‪ ،‬فــإن كل فــرد مــن أفــراد النــاس مخاطــب على‬
‫حــدة بهــذا الوحي‪ ،‬والــكل مطالب بتدبــره وتأمل أوامره‬
‫ونواهيــه‪ ،‬ليــس ذلــك ألحــد دون أحــد‪ ،‬العلمــاء والعامة‬
‫على حد سواء‪ ،‬يقول تعالى‪ِ :‬‬
‫اركٌ‬
‫‪‬ك َت ٌ‬
‫اب َأ ْن َز ْل َن ُاه ِإ َل ْي َك ُم َب َ‬
‫ِلي َّد َّبــروا َآيا ِتــ ِه َو ِلي َت َذ َّكــر ُأو ُلــو ا َ‬
‫ا‬
‫أل ْل َب ِ‬
‫ــاب‪(‬ص‪َ  ،)29:‬أ َفــ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ــدوا ِفيهِ‬
‫ِ‬
‫آن َو َل ْــو َك َ‬
‫ون ا ْل ُق ْــر َ‬
‫َي َت َد َّب ُــر َ‬
‫ــن ع ْنــد َغ ْي ِر اهلل َل َو َج ُ‬
‫ان م ْ‬
‫ال ًفا َك ِث ًيرا‪(‬النساء‪.)82:‬‬
‫اخ ِت َ‬
‫ْ‬
‫وتدبر القرآن ال يكون‬
‫ورد‬
‫صحيحا إال بقراءته كام ً‬
‫ال ّ‬
‫ً‬
‫بعضــه إلــى بعض وتفســير بعضــه ببعض‪ ،‬وكذلك الســنة‬
‫برد بعضها إلى بعض وإلى القرآن‪.‬‬
‫ال يكون تدبرها إال ّ‬
‫وعكس ذلك‪ ،‬اجتزاء بعض آيات القرآن وعزلها عن‬
‫بقيتــه‪ ،‬أو أخــذ بعــض األحاديث وترك تفســيرها بالقرآن‬
‫أو تفســيرها ببعضهــا‪ ،‬فــإن ذلــك مــن اتباع الهــوى واتباع‬

‫‪9‬‬

‫ال ُن ِ‬
‫وحــي ِإ َل ْيهِ ْم‬
‫ال رِ َجا ً‬
‫ــك ِإ َّ‬
‫ــن َق ْب ِل َ‬
‫‪‬و َمــا َأ ْر َســ ْل َنا ِم ْ‬
‫بقولــه‪َ :‬‬
‫ون ‪ ‬بِا ْلب ِي َن ِ‬
‫ات َوال ُّز ُب ِر‬
‫الذ ْك ِر إ ِْن ُك ْن ُت ْم َ‬
‫اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ‬
‫ال َت ْع َل ُم َ‬
‫َف ْ‬
‫َّ‬
‫ــم َو َل َع َّل ُه ْم‬
‫ــك ِّ‬
‫َو َأ ْن َز ْل َنــا ِإ َل ْي َ‬
‫ــن ِل َّلن ِ‬
‫الذ ْك َــر ِل ُت َب ِّي َ‬
‫اس َمــا ُن ِّز َل ِإ َل ْيهِ ْ‬

‫‪‬هــو ا َّل ِ‬
‫ــذي َأ ْن َــز َل‬
‫المتشــابه الــذي ّ‬
‫حــذر اهلل تعالــى منــه‪َ ُ :‬‬
‫اب َو ُأ َخ ُر‬
‫ات ُه َّن ُأ ُّم ا ْل ِك َت ِ‬
‫َع َل ْي َ‬
‫ات ُم ْح َك َم ٌ‬
‫ــاب ِم ْن ُه َآي ٌ‬
‫ــك ا ْل ِك َت َ‬
‫ــاب َه‬
‫ين ِفي ُق ُلوبِهِ ْم َز ْي ٌغ َف َي َّتب ُِع َ‬
‫ُم َت َشــاب َِه ٌ‬
‫ات َف َأ َّما ا َّل ِذ َ‬
‫ون َما َت َش َ‬
‫هلل‬
‫ــاء َت ْأوِ ي ِل ِه َو َمــا َي ْع َل ُم َت ْأوِ ي َل ُــه ِإ َّ‬
‫ال ا ُ‬
‫ــاء ا ْل ِف ْت َنــ ِة َو ْاب ِت َغ َ‬
‫ِم ْن ُــه ْاب ِت َغ َ‬
‫َوالر ِ‬
‫ــن ِع ْن ِد َر ِّب َنا‬
‫ون ِفــي ا ْل ِع ْل ِ‬
‫ــم َي ُقو ُل َ‬
‫ــخ َ‬
‫اس ُ‬
‫آم َّنا ِب ِه ُك ٌّل ِم ْ‬
‫ــون َ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫اب‪(‬آل عمران‪.)7:‬‬
‫ال أُو ُلو األ ْل َب ِ‬
‫َو َما َي َّذ َّك ُر ِإ َّ‬

‫ون‪(‬النحل‪.)44-43:‬‬
‫َي َت َف َّك ُر َ‬

‫حملة هذه اآلالت‬
‫الم َّرة أننا في عصر َّ‬
‫والحقيقة ُ‬
‫قل فيه َ‬
‫مجتمعــة‪ ،‬ممــا أضعف مــن قدراتنا علــى مواجهة الواقع‬

‫وهذه اآلية كما أنها دليل هذه المسألة‪ ،‬فإنها أوضح‬

‫بما يناســبه من أحكام على أســاس اســتنباط األحكام من‬

‫األمثلــة عليهــا‪ ،‬فهنــاك من يســتدل بها علــى تفويض علم‬
‫ال‬
‫القــرآن هلل ‪ ،‬لقولــه تعالى‪َ  :‬ت ْأوِ ي ِل ِه َو َما َي ْع َل ُم َت ْأوِ ي َل ُه ِإ َّ‬
‫هلل‪ ..‬على اعتبار أن الوقف هنا‪ ،‬ولو قرأوا القرآن قراءة‬
‫ا ُ‬

‫اســتفراغ للوســع فــي دراســتها كما هو المفتــرض فيهم‪،‬‬

‫وقــوع مــا أخبــر بــه اهلل تعالــى‪ ،‬وهــو أحــد معانــي التأويل‬

‫ضغــط الواقــع‪ ،‬أو الخــوف مــن الواقــع‪ ،‬وهمــا مؤثــران‬

‫الكتاب والســنة‪ ،‬فحتــى الكثير من المتخصصين في هذه‬

‫العلوم ‪-‬كما نشاهد‪ -‬ال يصدرون في إبداء األحكام عن‬

‫كاملة وردوا بعضه إلى بعض‪ ،‬لعلموا أن المراد بالتأويل‬

‫إليــه واالنصياع التــام له‪ ،‬مع أن الفريقين مؤمن بحاكمية‬
‫النــص ومرجعيته‪ ،‬لكنهم ‪-‬أي أفراد الفريقين‪ -‬يضطرون‬

‫إما إلى الحكم مباشرة من منطلق ما يحملونه من مشاعر‬
‫اتجاه واقعهم دون البحث عن النصوص‪ ،‬أو إلى اختزال‬

‫فيمــا يســتجد فيــه مــن مســائل‪ .‬وهــذا األمــر ‪-‬أي الفهم‪-‬‬

‫والمتاشبه‪ ،‬والمجمل والمبين‪ ،‬والعام والخاص‪ ،‬والمطلق‬

‫بعيدون عنه‪ ،‬وهذا ُيرجعنا إلى ما ذكرناه آن ًفا من اشتراط‬

‫والمقيد‪ ،‬والناســخ والمنســوخ‪ ،‬وفائدة كل قسم من هذه‬
‫األقســام مــن حيــث داللته على أحكام الشــرع‪ ..‬كما أنها‬

‫مســؤولة عــن دالالت األلفاظ ومعانــي الحروف‪ ،‬ومدى‬
‫تعلق األحكام بأسباب النزول‪ ،‬وأسباب ورود الحديث‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫وآراء‪ ،‬حيث يحوالن دون النظر إلى النص بروح التجرد‬

‫القرآن بينهم على أساس قدراتهم على استنباط األحكام‬
‫ــت آ َن َاء ال َّلي ِل َس ِ‬
‫ــاج ًدا‬
‫ــن ُه َو َقا ِن ٌ‬
‫منــه‪ ،‬فقــال تعالــى‪َ  :‬أ ْم َم ْ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ــذر ِ‬
‫اآلخ َــر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َم َة َر ِّب ِه ُق ْل َه ْل َي ْس َــتوِ ي‬
‫َو َقائ ًمــا َي ْح َ ُ‬
‫ــون ِإ َّن َمــا َي َت َذ َّك ُــر ُأو ُلــو‬
‫يــن َ‬
‫ال َي ْع َل ُم َ‬
‫يــن َي ْع َل ُم َ‬
‫ــون َوا َّل ِذ َ‬
‫ا َّل ِذ َ‬
‫ا َ‬
‫اب‪(‬الزمــر‪ .)9:‬والعلــم الــذي يتفــاوت النــاس فيه في‬
‫أل ْل َب ِ‬
‫استنباط األحكام هو العلم بطرائق هذا االستنباط‪ ،‬وهي‬
‫مجموعــة مــن العلوم مســؤولة عــن التمييز بيــن المحكم‬

‫‪10‬‬

‫جــدا علــى مكانــة مــا يصــدر عنهــم مــن فتــاوى‬
‫خطيــران ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ــل‬
‫الــواردة فــي الشــرع‪ ،‬وذلــك‬
‫ً‬
‫‪‬ه ْ‬
‫أخــذا مــن قولــه ‪َ :‬‬
‫ــوه‬
‫ال َت ْأوِ ي َل ُــه َي ْــو َم َي ْأ ِتــي َت ْأوِ ي ُل ُــه َي ُق ُ‬
‫ون ِإ َّ‬
‫َي ْن ُظ ُــر َ‬
‫ــول ا َّل ِذ َ‬
‫يــن َن ُس ُ‬
‫ــل َر ِّب َنا بِا ْل َح ِّق َف َه ْل َل َنا ِم ْن ُشــ َف َع َاء‬
‫ــل َق ْد َج َاء ْت ُر ُس ُ‬
‫ــن َق ْب ُ‬
‫ِم ْ‬
‫َف َي ْش َف ُعوا َل َنا َأ ْو ُن َر ُّد َف َن ْع َم َل َغ ْي َر ا َّل ِذي ُك َّنا َن ْع َم ُل َق ْد َخ ِس ُروا‬
‫ون‪(‬األعراف‪.)53:‬‬
‫َأ ْن ُف َس ُه ْم َو َض َّل َع ْن ُه ْم َما َكا ُنوا َي ْف َت ُر َ‬
‫وكمــا أن كل المؤمنيــن مطالبــون بالتدبــر‪ ،‬فقــد فــرق‬

‫بــل يقعــون فــي أحكامهــم تحــت تأثير أحــد أمرييــن؛ إما‬

‫فمــن األمــور التــي يتفاضــل فيهــا الناس في اســتنباط‬

‫األحــكام مــن مصــادره‪ ،‬مــدى إحاطتهــم بهــذه العلــوم‪.‬‬

‫فكلما كانت آلة اإلنســان من هذه العلوم أكبر‪ ،‬كان أقدر‬
‫على استنباط األحكام‪ ،‬ومن لم يحمل هذه اآللة فهو من‬
‫الذين ال يعلمون‪ ،‬وهم ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬من َع َناهم ســبحانه‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫داللة النص إلى مساحة ال ظالل عليها من ضغط الواقع‬

‫أو الخوف منه‪.‬‬

‫والحــق فــي هــذا الســياق أن يكــون التأنــي فــي فهــم‬

‫تقديرا‬
‫الواقــع وتقدير حاجاته‬
‫بعيدا عن ضغطه‬
‫صحيحا ً‬
‫ً‬
‫ً‬
‫أو الخــوف منــه‪ ،‬هــو المرحلــة األولى في إعطــاء الحكم‬
‫يدعيه‪ ،‬لكن الشــواهد تشــير إلى أن الكثير‬
‫وإن كان الكل ّ‬

‫صحــة التصــورات‪ ،‬ومــن ثم صحــة التصديقــات‪ ،‬ويليها‬

‫صحة الجمع بين هذه التصديقات للوصول إلى المعرفة‬
‫الصحيحــة‪ .‬ومــا نالحظــه فــي هذه المســألة أن ما أشــرنا‬
‫إليــه مــن وســائل المعرفــة الصحيحــة‪ ،‬ال يســتخدم‬
‫كثيــرا‬
‫ً‬

‫لدى أكثر القراء والكتاب‪ ،‬مما يؤكد أنهم لم ُيعوا حقيقة‬

‫الواقع وإن زعموا أنهم في كل ما يقولونه صادرون عن‬
‫استيعابه‪.‬‬

‫(*) أستاذ في أصول الفقه‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬

‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫القرد يحيك قصته‬
‫عزيــزي اإلنســان‪ ،‬اعلــم أن جميــع‬

‫وإن تصــدى لهــم أحــد وقــال‪:‬‬
‫فــي الماضــي الســحيق"‪ْ ..‬‬

‫خلقها لشــروط فيزيائية وكيميائية كســائر‬

‫بالكــذب والرجعيــة‪ ..‬ليــس هذا فحســب‪ ،‬بــل ذهب بهم‬

‫الحيوانــات والنباتــات‪ ،‬تخضــع فــي‬
‫معجــزات اهلل التــي تختفــي وراء ســتائر األســباب‪ .‬ولكن‬
‫بعــض النــاس قامــوا بحصــر اهتمامهم في هذه األســباب‬

‫والشــروط الظاهــرة؛ تجاهلــوا عمــق العلم الكامــن فيها‪،‬‬
‫والقدرة التي تتجلى في حقيقتها‪ ،‬ثم انحدروا إلى مهالك‬

‫اإلنكار واإللحاد باسم "العلم" و"العلمية"‪.‬‬

‫مســتحاثات ألنــواع منقرضة من القــرود"‪ ،‬وصموه‬
‫"هــذه‬
‫ٌ‬

‫الحــد إلــى أن زرعــوا فــي أخاديد األســنان فــي فكي قرد‬
‫يتمكنوا من إثبات‬
‫من األورانغوتان‪،‬‬
‫أسنان اإلنسان لكي ّ‬
‫َ‬

‫وســموا هذه المســتحاثة البائسة المسكينة‬
‫ادعاءاتهم‪ ،‬بل‬
‫ّ‬
‫رجــل "البيلــداون" (‪ .)Piltdown‬ولكــن مــاذا كانت النتيجة؟‬

‫لقــد ظهــر الزيف وســقط االســتدالل‪ .‬يعثــر أحدهم على‬

‫ومــن ثــم يدهشــني حماس البعض منكــم على إيجاد‬

‫ســن مفــرد وحيــد‪ ،‬ويقدمــه علــى أنــه مــن بقايا‬
‫مســتحاثة ّ‬

‫جملة من األكاذيب والتحليالت المستحيلة التي تتجاوز‬

‫الســن صــورة لذلك األصل ويرســمه‪ ،‬ثم يغرب في‬
‫هــذا‬
‫ّ‬

‫َقرابــة بيني وبينهــم‪ ،‬ويحيرني ‪-‬كذلك‪ -‬لجوء هؤالء إلى‬
‫العقــل‪ .‬كانــت بعــض أنواعنــا تعيــش فــي عصور مــا قبل‬
‫التاريــخ ثــم انقرضــت‪ ،‬وكان فيهــا أنواع كبيــرة وعمالقة‬

‫بحجــم الغوريــا والشــامبانزي واألورانغوتــان‪ ،‬كما كان‬
‫اهلل ‪ ،‬واســتمر بعضهــا اآلخــر بإذنــه وإرادتــه ســبحانه‪.‬‬

‫وعندما يعثر البعض منكم على ُم ْســتحاثات هذه األنواع‬

‫أجدادنــا الذيــن‬
‫المنقرضــة‪ ،‬يصيــح بــكل قوتــه‪" :‬هــا هــم‬
‫ُ‬

‫انحدرنــا منهــم‪ ..‬وهــا هــو الشــكل التــي يجمعنــا بالقرود‬

‫الخيـ�ال أكثـ�ر ويرسـ�م صورة زوجة لـ�ه يسـ�ميه ا‬

‫"�‪Hespero‬‬

‫‪ ،"pithecus Haroldcooki‬ولكــن تظهر البحوث الالحقة على‬

‫أن ذلك الســن ســن خنزير فقط‪ ..‬وكم من المســتحاثات‬

‫الكثيــرة غيــر المكتملــة‪ ،‬وهيــاكل األنــواع المنقرضة التي‬

‫تقارب الهياكل البشرية‪ ،‬يسعى وراءها في َه َوس عجيب‬
‫َمن يبحث عن قرابة تربط بين القرد وبني اإلنسان!‬

‫فمــاذا يقصــد هــؤالء مــن وراء هــذه البحــوث‪ ،‬وهــذا‬

‫اإلصــرار العجيــب علــى عقــد المقارنــة بينــي وبينكــم؟!‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فيهــا أنــواع صغيــرة كالليمــور‪ ..‬انقرضــت بعضهــا بتقدير‬

‫يكــون مــن‬
‫جــد اإلنســان القديــم‪ ،‬وال يكتفــي بذلــك بــل ّ‬

‫‪11‬‬

‫ولنفتــرض أنهــم أثبتوا ذلك‪ ،‬فما الذي ســيجنونه من هذا‬

‫الكيميائيــة التصادفيــة‪ ،‬انتقلــت إلــى إثبــات أن جميــع‬

‫إلى مقام أشــرف المخلوقــات‪ ،‬فلماذا هذا اإلصرار على‬

‫قــاس ال يرحم‪ ،‬انقرضت‬
‫أي باصطفــاء طبيعــي عشــوائي ٍ‬

‫الكائنــات الحية تطورت عن بعضها بالتكيف التصادفي؛‬

‫اإلثبــات؟! لقــد جعلكــم اهلل خلفــاء فــي أرضــه‪ ،‬ورفعكم‬

‫االنحدار؟! نعم البد من ســبب دافع إلى ذلك‪ ..‬وأعتقد‬

‫أنوع من المخلوقات كانت تعيش على األرض‪ ،‬ونشأت‬

‫أن الســبب هو الهروب من مســؤولية التكليف بالعبودية‬

‫بالطفــرة الوراثيــة المســتقلة ‪-‬التــي ال تحتــاج لتقديــر أو‬

‫أجيال أشــد مالئمــة للحياة! إذن‪ ،‬ال مكان‬
‫تحكــم إلهي‪-‬‬
‫ٌ‬

‫هلل ‪ .‬إذ يظنــون بأنهــم إن أثبتــوا انحدارهــم مــن ســالة‬

‫القــرود‪ ،‬فإنهم ســينجون من مســؤولية العبوديــة والعبادة‬

‫فــي هــذه النظريــة لخالــق مبــدع حكيــم‪ ،‬بــل هنــاك طبيعة‬

‫هم األخالق‪ ،‬وال يشعرون‬
‫سيصبحون مثلنا؛ ال يحملون َّ‬

‫التكيــف واالصطفــاء والطفــرات التصادفيــة‪ ،‬وردود‬

‫قاســية عمياء ال ترحم‪ ،‬مســتقلة بنفســها‪ ،‬وتعمل بأدوات‬

‫هلل ســبحانه‪ .‬يظنون بأنهم إن أســكتوا أصوات ضمائرهم‬

‫ممو ًها بالعلمية‬
‫األفعــال! نعم‪ ،‬يتخذ هؤالء‬
‫ً‬
‫خفيا ّ‬
‫أســلوبا ًّ‬

‫جزاء‪ ،‬ويعيشون حياتهم وفق‬
‫بأعباء الحياء‪ ،‬وال يخشون‬
‫ً‬

‫ال مــن اإلنكار‬
‫والمنهــج العلمــي فــي ســبيل اإللحــاد‪ ،‬بد ً‬

‫أهوائهــم فــي حريــة مطلقة ال قيد لها‪ ..‬ثــم إنهم يعتقدون‬
‫أن الطريق إلى تلك الحرية والتخلص من قيود األخالق‬

‫الصريح لوجود اهلل سبحانه‪.‬‬

‫والعبادة والدين‪ ،‬يبدأ من هنا؛ أي من إنكار الخالق وتبني‬

‫لكــن اهلل ‪ ‬غنــي عــن االختبــار والتجريــب الــذي‬

‫يحتاجه اإلنسان العاجز‪ ،‬بل هو سبحانه الغني المطلق‪..‬‬

‫اإللحــاد‪ ،‬ولذلــك يضعــون نظرياتهــم بخــاف األبحــاث‬
‫البيولوجية وقوانينها‪ ،‬ويتشدقون بالعلم من ِّقبين عن أقصر‬
‫رجــال متقدمون‪ ،‬ويلقون علــى اآلخرين عباءة الالعلمية‬
‫والتخلف والرجعية!‬

‫وعلــى الرغــم مــن كل األبحــاث العلميــة التــي تبيــن‬

‫ا عن كائن‬
‫اســتحالة وجــود جزيئــة بروتين واحدة ‪-‬فضــ ً‬
‫حــي متكامــل‪ -‬عن طريق الصدفة‪ ،‬فإن كل طرق اإللحاد‬

‫واالدعــاءات الباطلــة حــول التقــدم العلمــي‪ ،‬تنطلــق مــن‬

‫أزليــة الطبيعــة وأنهــا خلقــت نفســها بنفســها عــن طريــق‬

‫الصدفة! نعم‪ ،‬إنهم يعتمدون الحقائق التي تبينها اآلليات‬
‫البيولوجيــة‪ ،‬كالتكيــف واالصطفــاء والطفرات في مجال‬

‫بعيدا‬
‫األبحاث البيئية والجينية الوراثية‪،‬‬
‫ويؤولونها تأوي ً‬
‫ال ً‬
‫ّ‬

‫يتجــاوز طاقتهــا وأهدافهــا البحثية‪ .‬وإن ســأل ســائل‪ :‬أال‬

‫ال من‬
‫يمكــن أن يكــون اهلل ســبحانه قد أخرج اإلنســان فع ً‬
‫القــرد بمــا يتوافق مــع نظرية التطور؟ هذا الســؤال يمكن‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أن يوقع صاحبه في أفكار خاطئة دون شــعور منه يؤدي‬

‫‪12‬‬

‫بــه إلــى اإللحــاد وإنــكار الخالــق ســبحانه؛ ألن اآلليــات‬
‫البيولوجية التي تشكل أساس "نظرية التطور"‪ ،‬تقوم على‬

‫قاعدة الصدفة وعلى الطبيعة البعيدة عن الشعور والعقل‬

‫واإلدراك‪ .‬وإذا ما نجحت هذه النظرية في إثبات إمكانية‬
‫وجــود خليــة بروتينيــة واحــدة عــن طريــق ردود األفعــال‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ويســوقون أنفســهم وكأنهم‬
‫طريــق مفــض إلــى اإللحاد‪..‬‬
‫ّ‬

‫وهــو ســبحانه بعلمــه المديد وقدرتــه الواســعة‪ ،‬منزه عن‬
‫أن يخلــق خل ًقــا ال يعرفــه‪ ،‬أو أن يخلــق خل ًقــا ال يعجبــه‬
‫فيســعى إلــى التطويــر في خلقه بالتجريــب واالختبار‪ ،‬بل‬

‫إنه ‪ ‬الخالق كل شيء بقدر‪ .‬إننا إذا قمنا بدراسة حول‬

‫قصورا‬
‫ا أو‬
‫مالييــن الكائنــات‪ ،‬فهــل يمكــن أن نرى خلــ ً‬
‫ً‬
‫أي واحــدة منهــا؟ إذا نظرنــا بتمعــن‪ ،‬فهــل يمكــن أن‬
‫فــي ّ‬

‫ندعي ظهور عضو بالصدفة؟ إن الذين ال يدركون حكمة‬
‫الطفــرات الضــارة التــي تبــدو وكأنهــا بــرزت صدفــة فــي‬
‫يدعــون أن هــذه الطفرات تراكمــت مع مرور‬
‫الجينــات‪ّ ،‬‬

‫الزمــن أو ظهــرت فجــأة‪ ،‬وأوجــدت بالصدفــة األعضــاء‬

‫نوعا من األحياء إلى نوع آخر!‬
‫الكاملة‬
‫لتحول ً‬
‫ّ‬

‫فــا يغرنكــم األســلوب "العلمــي" الــذي يلجــأ إليــه‬

‫أصحاب نظرية التطور الفاســدة في تعليل الوجود‪ ،‬ألنها‬
‫نظرية غير قابلة للتجربة والتكرار في المختبرات‪ ،‬لذلك‬

‫دائما خارج مجال البحث العلمي‪.‬‬
‫ستظل ً‬

‫ولــو توقفــت عند مشــيتي ومشــيتكم فقط؛ الســتغرق‬

‫بيان الفروق التشريحية بيننا في الظهر والفخذين ساعات‬

‫طويلــة‪ ،‬فكيــف األمر لو بحثنا في توزع الشــعر وأشــكال‬
‫اليديــن والقدميــن والفم واألنــف والجبهة واألذنين؟! إنه‬
‫كثيــرا َمــن يدعــي بأن بعــض أنواعنــا كان لها‬
‫ليضحكنــي‬
‫ً‬

‫ذيــل‪ ،‬ثــم ضمــرت منهــا الذيــول‪ ،‬وتضخم دماغهــا حتى‬

‫تمكنــت مــن التفكيــر ومــن اســتخدام اآلالت وأصبحت‬
‫لــكل حيــوان مــا يلزمه مــن هذا‬
‫إنســا ًنا! لقــد وهــب ربــي ِّ‬

‫الدماغ المعقد‪ ..‬خلق مليارات الخاليا العصبية وجمعها‬

‫فــي ترتيــب خــاص علــى شــكل مراكــز‪ ،‬وهــذه المراكــز‬

‫تقوم بما تحتاجه من ســمع وبصر وشــم وإحســاس‪ .‬ثم‬
‫إنــه ســبحانه ميزكــم بمشــاعر ذات أبعــاد روحيــة معنوية‪،‬‬

‫وزودكــم بدمــاغ وف ًقــا لهــذه األبعــاد‪ ،‬وجعــل فيــه مراكــز‬
‫للذاكرة‪ ،‬والتعلم والنطق والكالم‪ .‬إنه ‪-‬باختصار‪ -‬جعل‬
‫متميزا عن دماغنا بما ال يقبل المقارنة والتشــابه‬
‫دماغكم‬
‫ً‬

‫تطور دماغي‬
‫يصر بعضكم علــى ّ‬
‫والقيــاس‪ .‬ورغــم ذلــك ّ‬
‫وتحوله إلى دماغ إنسان‪ ..‬يا له من جهل أعمى‪.‬‬
‫ّ‬

‫ويتوقف بعضكم عند نهاية "عجب الذنب" واألمعاء‬

‫ويدعــون بأنهمــا من البقايا غيــر الضرورية التي‬
‫العــوراء‪ّ ،‬‬

‫انتقلت مني إليكم! وأرى أن هذه االدعاءات التي طرحت‬
‫قبل خمسين سنة‪ ،‬أكل الدهر عليها وشرب‪ .‬وإذا أصغيتم‬

‫الذنــب والوظيفة التي يؤديهــا في عملية التبرز‪ ،‬وأهميتها‬
‫الحياتيــة ‪-‬كذلــك‪ -‬فــي الــوالدة لــدى نســائكم‪ .‬كمــا أن‬
‫اللمفاويات‬
‫األمعــاء العــوراء بمثابــة معمــل مهــم إلنتــاج‬
‫ّ‬

‫الضروريــة فــي جهــاز المناعة في نظام الهضــم‪ ،‬وله دور‬
‫ال‪.‬‬
‫مهــم فــي التهابــات األمعــاء ال يلقــي الكثيــرون لهــا با ً‬
‫ال مــن أن تبحثــوا عــن‬
‫نعــم‪ ،‬إنــه يترتــب عليكــم بــد ً‬

‫األعضــاء التــي ال عمل لها في أجســامكم‪ ،‬أن تبحثوا في‬

‫أسرار التناغم واالنسجام والتكامل العظيم بين األعضاء‬
‫وزينكم بها‪ ،‬وأن تبحثوا عن حكمة‬
‫التــي خلقهــا اهلل لكم ّ‬

‫إن فعلتم ذلك تحققت ‪-‬عندئذ‪ -‬على أيديكم‬
‫وجودها‪ْ ..‬‬
‫اكتشــافات كثيــرة مفيــدة لإلنســانية‪ ،‬ترفعكــم بيــن النــاس‬

‫وتقربكم إلى اهلل العلي القدير صاحب األكوان‪.‬‬
‫ّ‬

‫بشرا‬
‫حتى نكون ً‬

‫كنــت أنــوي أن أحدثكــم عــن ِ‬
‫الحكــم التــي تتجلــى فــي‬

‫وأوغلــت فــي الحديــث‬
‫أســر ْتني‪،‬‬
‫ُ‬
‫فيــه‪ ،‬غيــر أن عاطفتــي َ‬
‫عــن شــبهات التشــابه بينــي وبينكم‪ ،‬واســتطردت في بيان‬

‫أعــد أتحمــل‬
‫حقيقتهــا علــى غيــر إرادة منــي‪ ..‬فأنــا لــم ْ‬

‫إصرار بعضكم على مثل هذه النظرية الباطلة‪ ،‬وتشويش‬

‫أبدا‪.‬‬
‫وال تتخلوا عن إنسانيتكم ً‬

‫(*) أستاذ بجامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫خلقــي‪ ،‬وأتك ّلــم عــن تجليــات أســمائه الحســنى البديعــة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫للباحثيــن فــي علــم التشــريح‪ ،‬فســتدركون أهميــة عجب‬

‫أذهــان النــاس بالخرافــات‪ ،‬وتجاهلهــم عــن خصائصكم‬
‫اإلنســانية التي ترفعكم على ســائر المخلوقات‪ ..‬يا أســ ًفا‬
‫علــى ما تفعلــون‪ ..‬أرجوكم ن ِّقبوا عــن الحقائق‪ ،‬واعلموا‬
‫قــدر نبيكــم ‪ ‬الذي ُأرســل إليكــم‪ ،‬وتبحروا فــي القرآن‬
‫فهرست الوجود والكائنات وتفكروا في آياته‪ ..‬فإن كان‬
‫َث َّمة طريق للهداية‪ ،‬فإنها في تلك اآليات الجليلة‪.‬‬
‫إياكم ثم إياكم أن تعقدوا قرابة بيني وبينكم‪ ،‬فتكونوا‬
‫من الخاسرين‪ ..‬والندامة بعد فوات األوان ال تنفع‪ .‬فأنا‬
‫أشــبع بطنــي بكمية مــن الموز‪ ،‬وأتســلى بالتدلــي والقفز‬
‫مــن شــجرة إلى أخرى‪ ،‬وأجد متعتــي بقضاء وقتي ضمن‬
‫أســرتي وعائلتــي والحمــد هلل‪ ..‬لكنكــم لــن تســتطيعوا‬
‫إســكات ضمائركــم الملحــة علــى إظهــار الحقيقــة‪ ،‬وال‬
‫إخماد أرواحكم المتعطشــة إلى العبودية‪ ،‬وال االطمئنان‬
‫فــي قلوبكــم‪ ،‬وال الراحــة في تفكركــم‪ ..‬إال باإليمان باهلل‬
‫ربكم‪ ،‬وبغير هذا اإليمان لن تعيشوا إال التعاسة والشقاء‪.‬‬
‫ألن ندامة الماضي وهموم الحاضر ومخاوف المســتقبل‬
‫ســتالزمكم فــي كل حيــن ولحظة‪ ،‬ولن تمنحكــم الراحة‬
‫التشــبه بالحيوانــات والخــروج عــن‬
‫أبــدا‪ ..‬لــن ينفعكــم‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫إنســانيتكم‪ ..‬ففــي ذلك جحــود هلل وإنكار لنعمــه وآالئه‪.‬‬
‫حذار ثم حذار من هذا الجهل المظلم‪ ..‬كونوا كما أنتم‪،‬‬

‫‪13‬‬

‫قضايا فكرية‬
‫محمد بكور*‬

‫تفسري التاريخ‬
‫عند النوريس‬
‫إن فكرة غاية التاريخ أو معنى التاريخ‪،‬‬

‫تســتمد جذورهــا مــن جوهــر اإلســام‪.‬‬
‫فعالقــة الدنيــا باآلخــرة تنتــج "معنــى‬

‫الوجــود"‪ ،‬ومــن هــذا المفهــوم المركــزي صاغ النورســي‬

‫رؤيته للتاريخ‪.‬‬

‫إن اهلل تعالــى لــم يخلــق هــذا الكــون عب ًثــا‪ ،‬ولما كان‬

‫اإلنســان هــو مركــز هــذا الكــون و"ثمرتــه"‪ ،‬فــإن وجــوده‬
‫وحركيتــه لهمــا معنى ومغزى‪ .‬فحياة اإلنســان هي اختبار‬

‫خيرا أو غير ذلك‪.‬‬
‫وامتحان‪ ،‬وبعد موته يتلقى جزاءه إما ً‬
‫إن إيماننا بحياة أخرى نفضي إليها بعد موتنا ‪-‬وهي حياة‬

‫أبديــة خالــدة ال نهايــة لهــا‪ -‬يضفي على التاريــخ معنى‪..‬‬

‫فال تعود أحداث التاريخ أشتا ًتا ال ناظم لها‪ ،‬كما ال يعود‬
‫الزمــن التاريخــي بــا هــدف‪ ،‬بــل إن زمن بدايتــه معروفة‬
‫ونهايتــه معلومــة‪ .‬يبــدأ هــذا التاريــخ منــذ أراد اهلل خلــق‬
‫اإلنســان وحقــق إرادته بخلــق آدم‪ ،‬وينتهي بيــوم القيامة‪.‬‬
‫وهــو تاريــخ ال يســير في طريق مســتقيم نحــو التقدم كما‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫يعتقــد الوضعانيــون‪ ،‬بــل هــو صــراع مســتمر بيــن الحــق‬

‫‪14‬‬

‫والباطل‪ ،‬بين اإليمان والكفر‪ ،‬بين العدل والظلم‪.‬‬

‫كثيرا كلمة التقدم‪ ،‬لكنه ال يقصد‬
‫يســتعمل النورســي ً‬

‫المفهــوم المــادي الــذي ينظــر إلــى التقــدم كقيمــة مطلقة‬
‫تتحقــق بالضــرورة مــع مــرور الزمــن؛ إن التقــدم يعنــي‬

‫تحقيق اإلنســان لحقيقة االســتخالف في األرض وإقامة‬
‫الشريعة‪ ،‬ومن ثم فإن مسيرة اإلنسان تتأرجح بين التقدم‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إن النوريس بلور "فلســفة تاريخية" متتح من روح‬

‫وضــده‪ .‬ومــا تزعم المدنية الغربية لنفســها مــن تقدم فهو‬

‫القرآن الكريم‪ ،‬وتســتلهم دروسه الكثرية‪ .‬وقامت‬

‫على وجهين‪ :‬جزء هو شر ووبال على اإلنسانية كصناعة‬

‫هــذه الفلســفة عىل النظــر إىل التاريــخ كمجال‬

‫األســلحة المدمــرة والســفاهة األخالقيــة والصراعــات‬

‫لحركة اإلنســان وإبداعه يف ظــل الرعاية الربانية‬

‫القومية‪ ،‬وجزء إيجابي يخدم اإلنسانية هو في األصل من‬

‫املتمثلــة يف التوجيــه والهداية عرب السلســلة‬

‫تأثيرات الشــرائع الســماوية‪ ،‬كالنظام والقانون والشورى‬

‫النورانية لألنبياء والرسل‪.‬‬

‫والعدل‪ .‬إن التقدم هنا ال يكفي نفســه بنفســه‪ ،‬بل يحتاج‬
‫لشــيء متعــال يقــرر حقيقته‪ ،‬وليس هناك ســوى الشــريعة‬

‫تحكــم واســتبداد‪ ،‬ومداخلــة االلتــزام والتعصب‪،‬‬
‫عامــة‪ّ -‬‬

‫معيارا لمحاكمة حقيقته‪.‬‬
‫ً‬

‫واالنحيــاز المانع عن كشــف الحقيقــة"‪ .‬يصبح الماضي‬

‫يعتبــر النورســي أن غايــة التاريــخ إيجابيــة تتمثــل في‬

‫رمــزا للمعصيــة واالبتعــاد عــن الشــريعة‪ .‬فمتى ســاد‬
‫هنــا ً‬

‫تحقيــق الحريــة والعدالــة لإلنســان؛ الحريــة ممــا ســوى‬

‫الباطل وتقهقر الحق فثمة الماضي‪.‬‬

‫العبوديــة هلل ســبحانه‪ .‬وانطال ًقــا مــن ذلــك فإن المشــروع‬

‫‪-2‬أمــة الخيريــة واألفضليــة‪ :‬تمثــل القــرون الثالثــة‬

‫الحضاري لكل الشــرائع الســماوية يســعى لبلوغ الحرية‬

‫األولــى بعــد النبوة‪ ،‬فتر َة الخيرية بداللــة النص الحديثي‪.‬‬

‫والعدالــة‪ ،‬حيث هما شــرطان لتحقق التكليف الشــرعي‪.‬‬

‫إنها المرحلة التاريخية الوحيدة في تاريخ اإلنسانية التي‬

‫ورغم قوة الباطل وجبروته‪ ،‬فإن التاريخ يســير في اتجاه‬

‫جمعــت هذا العــدد الهائل من أهل الصالح والخير‪ .‬لقد‬

‫"التقــدم" أي تحقيــق الشــريعة‪ ،‬ولــذا فــإن المســتقبل هــو‬

‫مراحل التاريخ‬

‫جــاء فــي كتــاب "صيقــل اإلســام"‪" :‬وأقصــد مــن أبنــاء‬

‫الماضــي أوالً؛ القــرون األولى والوســطى لما قبل القرن‬
‫العاشر لغير المسلمين‪ ،‬أما األمة اإلسالمية فهي خير أمة‬

‫فــي القرون الثالث األولــى‪ ،‬وأمة فاضلة عامة إلى القرن‬
‫أعبــر عنه‬
‫الخامــس‪ ،‬ومــا بعــده حتــى القــرن الثاني عشــر ّ‬

‫بالماضي‪ ،‬أما المستقبل فأعده ما بعد القرن الثاني عشر"‪.‬‬
‫تلخــص هذه الجملة التحقيــب الجديد الذي يقترحه‬

‫النورســي للتاريــخ‪ .‬والمالحــظ أنــه تحقيــب ال يراعــي‬

‫اســتمرارية الزمن وتواصله‪ ،‬بل ينبني على معايير إيمانية‬

‫وأخالقيــة وحضارية‪ .‬وهو تحقيب يشــمل ثالث مراحل‬
‫تارخية‪ :‬الماضي‪ ،‬أمة الخيرية واألفضلية‪ ،‬المستقبل‪.‬‬

‫‪-1‬الماضــي‪ :‬يدخــل ضمــن الماضــي تاريــخ غيــر‬

‫المســلمين‪ ،‬وتاريخ المســلمين في عصور االنحطاط (ما‬
‫يجمع بين هذه األزمنة والمجتمعات المختلفة؟‬

‫هو الحق والبرهان والعقل والشورى‪ ،‬ولم يكن للشكوك‬
‫والشــبهات موضــع"‪ .‬أمــا بعــد هــذه القــرون الثالثــة فقد‬

‫تراجــع الحــق والعدل‪ ،‬إال أن األمــة حافظت على مرتبة‬
‫األفضلية بما بقي فيها من صالح وطاعات‪.‬‬

‫‪-3‬المســتقبل‪ُ :‬يدخــل النورســي المســتقبل ضمــن‬
‫بعــد‪ ،‬إال أن‬
‫التاريــخ باعتبــاره مرحلــة رغــم أنهــا لم تأت ُ‬
‫حقيقتهــا أصبحــت معلومــة لديه؛ "المســتقبل لإلســام"‪،‬‬

‫هذه حقيقة كان يراها النورسي رأي العين‪ ،‬وقد تحقق له‬
‫ذلك بالبراهين العقلية والكشــوفات الرحمانية‪ ،‬وال يمل‬

‫مــن تكــرار هــذه الحقيقة وتقديم الحجــج المقنعة خالل‬
‫كل كتاباتــه‪ ،‬ثــم إن هذا المســتقبل الموعود هــو االمتداد‬
‫الطبيعي ألمة الخيرية‪.‬‬

‫التاريخ والقدر‬

‫خصــص النورســي رســالة خاصــة فــي القــدر (الكلمــة‬

‫ال حل أســرار مســألة "القدر‬
‫السادســة والعشــرون) محاو ً‬
‫اإللهي والجزء االختياري"‪.‬‬

‫فــي الماضــي "كان الســائد فــي األغلــب هــو القــوة‬

‫يرى النورسي أن "المؤمن يعطي هلل كل شيء‪ ،‬ويحيل‬

‫ســيئاته أنه كان هناك في كل أمر من أموره ‪-‬ولو بصورة‬

‫ال له‪ :‬أنت‬
‫والمســؤولية يبــرز أمامــه الجزء االختيــاري قائ ً‬

‫والهوى والطبائع والميول واألحاسيس‪ ،‬لذا فإن إحدى‬

‫إليــه كل أمــر‪ ،‬ولكــي ال ينجــو فــي النهايــة مــن التكليــف‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫بيــن القرنيــن الخامــس والثاني عشــر الهجــري)‪ .‬ما الذي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لإلسالم ال لغيره‪.‬‬

‫"كان المهيمن في خير القرون وعصور السلف الصالح‪،‬‬

‫‪15‬‬

‫الحدث التاريخــي من فعل اإلنســان‪ ،‬لكن يد القدر‬

‫ال خدمة القضية‪ ،‬فجاء الخذالن من فساد النية‪ .‬ثم ينتقل‬

‫ومهام كان اإلنسان فاع ً‬
‫ال ذا اختيار‪ ،‬إال أن املشيئة‬

‫ســبحانه كان يهيئهم لتسنم ســلطنة األولياء المعنوية بدل‬

‫اإللهــي موجودة بوضــوح يف كل حادثة تاريخية‪،‬‬

‫مبي ًنــا أن اهلل‬
‫الكتشــاف الحكمــة مــن زاوية القــدر اإللهي ّ‬

‫اإللهية هي األصل‪ ،‬والقدر اإللهي حاكم مهيمن‪،‬‬

‫السلطنة الدنيوية الفانية‪ ،‬فأراد أن يطهرهم من هذه الدنيا‬

‫واملشيئة اإللهية ترد املشيئة اإلنسانية‪.‬‬

‫ومــا علــق في قلوبهم منها‪ .‬فكان هــذا الحدث الذي نراه‬
‫فتحا وترقية في عالم الوالية‪.‬‬
‫بأبصارنا الحاســرة مصيبة‪ً ،‬‬
‫ال عن األسباب المادية الفاعلة‬
‫لم يكن النورسي غاف ً‬

‫مســؤول‪ ،‬أنت مك َّلف"‪ .‬إن القدر اإللهي يصرف في كل‬

‫في حركة التاريخ‪ ،‬إال أنه كان ينظر إليها كنواميس كونية‬

‫شــيء‪ ،‬غير أنه منزه عن القبح أو الظلم‪ ،‬فاهلل ســبحانه ال‬

‫متممــة لخطــة القــدر‪ .‬وتبرز التفســيرات الماديــة في كثير‬

‫يفعل إال ما فيه خير اإلنسان‪ ،‬إال أن هذا اإلنسان ال يفهم‬

‫من األحداث التاريخية التي أوردها النورسي‪ ،‬ويكفي أن‬

‫كثيرا مخفيــة عن إدراكه‪.‬‬
‫ســر الحكمــة اإللهية التــي تظل ً‬

‫نذكر هنا تفسيره لمعضلة العصر؛ رقي أوربا إلى األعلى‬

‫مســير في أفعاله‪ ،‬كما ال يعني‬
‫وهذا ال يعني أن اإلنســان‬
‫َّ‬

‫ال يبرز قوة‬
‫وتدني المسلمين إلى أسفل‪ .‬حيث يقدم تحلي ً‬

‫موجه في حركيته التاريخية بشكل‬
‫أن المجتمع البشري َّ‬

‫الفكر التاريخي عند النورسي وقدرته على ربط األسباب‬

‫خارج عن اختياره‪ ،‬بل إنه يملك المساحة الكافية للفعل‬

‫والعلل وفق منظور علمي دقيق‪.‬‬

‫التاريخي الحر القائم على االختيار بين مسارات متعددة‪.‬‬

‫إن التفــاوت بيــن أوربــا والعالــم اإلســامي‪ ،‬راجــع‬

‫تقــف الرؤية النورســية للحدث التاريخي بين رؤيتين‬

‫التاريخ وتجعل األمر جبرية صارمة ال يملك اإلنسان إال‬
‫تغيب القدر اإللهي‬
‫أن يخضع لها‪ ،‬والنظرة المادية التي ّ‬

‫وتلصــق باإلنســان صفــة الهيمنــة واالنفــراد بالتصــرف‪.‬‬
‫الحــدث التاريخــي من فعل اإلنســان‪ ،‬لكــن يد القدر‬

‫اإللهــي موجــودة بوضــوح فــي كل حادثــة تاريخيــة؛ "إنه‬

‫ا ذا اختيــار‪ ،‬إال أن المشــيئة‬
‫مهمــا كان اإلنســان فاعــ ً‬
‫اإللهيــة هــي األصــل‪ ،‬والقــدر اإللهــي حاكــم مهيمــن‪،‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫حياتهــا؛ فهــي ضيقــة جميلــة تملــك الحديــد متعرجــة‬

‫السواحل تلتف فيها األنهار والبحار‪ ،‬مناخها بارد‪ .‬وهذا‬
‫جعلها تستقطب ربع البشرية رغم مساحتها الصغيرة‪.‬‬

‫ولكــون إنتــاج األرض ال يســتوعب تلــك الحاجــات‬

‫التــي تتزايــد باســتمرار‪ ،‬تصبــح الحاجــة إلــى االختــراع‬
‫والصناعــة ضروريــة‪ ،‬كما يغدو حب االســتطالع والميل‬

‫بابا للعلم والتقدم‪.‬‬
‫إلى المعرفة ً‬

‫ثــم إن كثــرة البحــار واألنهــار تتيــح التعــارف وتطور‬

‫والمشــيئة اإللهية ترد المشــيئة اإلنســانية‪ ،‬بمضمون قوله‬
‫هلل َك َ ِ‬
‫يما‬
‫ون ِإ َّ‬
‫ــاء َ‬
‫هلل إ َِّن ا َ‬
‫ــاء ا ُ‬
‫ال َأ ْن َي َش َ‬
‫‪‬و َمــا َت َش ُ‬
‫تعالــى‪َ :‬‬
‫ان َعل ً‬
‫ِ‬
‫يما‪(‬اإلنسان‪.)30:‬‬
‫َحك ً‬
‫يترتــب عــن ذلــك أن كل حــدث تاريخــي هــو حدث‬

‫التنافــس صناعــة األســلحة التــي أثقلت كفــة أوربا‪ .‬ومن‬

‫حــدث يحمــل حكمــة ورحمــة ربانيتين تســعيان إلســعاد‬

‫استناد قوية تعزز قوة أبنائها المعنوية وتبعث فيهم الحياة‪.‬‬

‫إيجابــي مهمــا تبيــن لنــا فيه مــن ألم أو مصائــب‪ ،‬ألن كل‬

‫‪16‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تغيب الفعل البشري في حركة‬
‫م َف ّرطتين‪ :‬النظرة الغيبية التي ّ‬

‫ألســباب ملحوظة أهمها الوضــع الفطري ألوربا ومنبع‬

‫هذا اإلنسان وتطهيره من النقائص‪.‬‬

‫في جواب عن سؤال حول فاجعة اإلمام الحسين ‪‬‬

‫يقدم النورسي قراءة عميقة لهذا الحدث التاريخي‪ ،‬الذي‬
‫ِ‬
‫مؤس ًســا النقســام األمة اإلســامية‪ .‬تبدأ‬
‫يمكن ّ‬
‫عده حد ًثا ّ‬
‫القــراءة بإبــراز دور الفعــل البشــري‪ ،‬حيــث إن المحيطين‬
‫باإلمام ‪-‬باستثناء المقربين‪ -‬كان يوجههم التعصب القومي‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التجارة‪ ،‬والتعاون واالشــتراك في األعمال‪ ،‬مثلما يحقق‬
‫تالحــق األفــكار والمنافســة والتســابق‪ .‬ونتــج عــن هــذا‬
‫أيضــا قوة الكنيســة التي تشــكل نقطة‬
‫األســباب األخــرى ً‬
‫أمــا مــن جهــة المســلمين‪ ،‬فــإن ابتعادهــم عــن نقطــة‬

‫ارتكازهــم (وهــي اإلســام والقــرآن الكريــم)‪ ،‬وإشــاحة‬
‫وجههــم عــن قــراءة كتــاب اهلل المنظــور (نواميــس الكون‬
‫وقوانينه) هي أسباب هزيمتهم‪.‬‬

‫غير أن كل هذه العلل والقوانين ‪-‬في نظر النورسي‪-‬‬

‫ال تخــرج عــن فاعليــة القــدر اإللهــي وحكمــه‪ .‬إن القــدر‬

‫يهــيء المســتقبل لإلســام‪ ،‬فالتقدم الغربي ومســتلزمات‬
‫ا يعيــق مســيرته‪ ،‬فــي حين أن‬
‫عبئــا ثقيــ ً‬
‫مدنيتــه أصبحــت ً‬
‫العالم اإلسالمي ال زال في طور شباب المدنية‪ .‬لذا فإننا‬
‫"سنلحق بهم‪ ،‬بل نسبقهم إن حالفنا التوفيق اإللهي‪ ،‬ألن‬
‫حملهم ثقيل وحملنا خفيف"‪.‬‬

‫خــاتم ــة‬

‫واحــدا مــن مجددي المائة الرابعة عشــرة‪.‬‬
‫كان النورســي‬
‫ً‬
‫عظيما في‬
‫هيــأه اهلل تعالــى إلنقــاذ إيمــان أمــة كان دورهــا‬
‫ً‬
‫نصرة اإلسالم والدفاع عن حرماته‪ ،‬لكن مكر االستعمار‬
‫الشيطاني استطاع أن يغرر بالكثير من أبنائها ليقذفهم في‬
‫حمأة اإللحاد وإنكار جواهر هذا الدين‪.‬‬
‫وقد استطاع النورسي‪ ،‬من خالل تجذر إيمانه بحقيقة‬
‫اإلسالم‪ ،‬ووعيه بمتغيرات العصر وتحوالته العميقة‪ ،‬أن‬
‫يبلور‬
‫مشروعا ن ّفذه بكل حزم وصبر رغم جسامة المحن‬
‫ً‬
‫وعظم البالء‪.‬‬
‫طبعا‪ -‬حدة‬
‫نعتقــد أنــه لــوال ‪-‬بعد توفيــق اهلل وتأييــده ً‬
‫وعيــه التاريخــي ونفــاذ بصيرته لفهم التحوالت الســريعة‬
‫التي كان يمر بها العالم عامة وبالد المسلمين خاصة‪ ،‬لما‬
‫استطاع أن يقوم بهذا الدور العظيم في بعث أمة من موتها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وفي‬
‫سياق موازٍ ‪ ،‬فإن النورسي بلور "فلسفة تاريخية"‬
‫تمتح من روح القرآن الكريم‪ ،‬وتستلهم دروسه الكثيرة‪.‬‬
‫وقامــت هــذه الفلســفة علــى النظــر إلــى التاريــخ كمجال‬
‫لحركة اإلنســان وإبداعه في ظل الرعاية الربانية المتمثلة‬
‫فــي التوجيــه والهدايــة عبــر السلســلة النورانيــة لألنبيــاء‬
‫والرســل‪ .‬ومن ثم فإن هذا اإلنســان يص ُلح تاريخه كلما‬
‫ويظلم مساره كلما غرق‬
‫اقترب من هذه الرحمة اإللهية‪ُ ،‬‬
‫في الكفر وابتعد عن مصدر النور‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث مغربي‪.‬‬

‫المراجع‬
‫(‪ )1‬صيقــل اإلســام‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان‬
‫قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2010‬‬

‫(‪ )2‬الكلمــات‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان قاســم‬
‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2008‬‬

‫(‪ )3‬المكتوبات‪ ،‬لبديع الزمان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان قاســم‬
‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2008‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪17‬‬

‫ْاحذ ْر العنكبوتيات!‬

‫الشِّ ُ‬
‫باك عىل الطريق منصوبة‪...‬‬
‫إنْ‬
‫َ‬
‫اعترصتك‪،‬‬
‫سقطت فيها‬
‫َ‬
‫أكلت‪...‬‬
‫وروح َك َم َّص ْت‪ ،‬وقل َب َك ْ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫من ريقها نسجت‬
‫العنكبوت نسيجها‪،‬‬
‫وأوترت ِشباكها‪...‬‬
‫ْ‬
‫والعنكبوتات البرشية‪،‬‬
‫بكالمها املعسول تنسج ألف ِشاك‪،‬‬
‫وتنصب ألف فخ‪...‬‬
‫فحاذ ْر من السقوط‪،‬‬
‫أوهن البيوت لبيت العنكبوت!"‬
‫"وإن َ‬
‫***‬

‫تاريخ وحضارة‬

‫الميلود كعواس*‬

‫مكتبات جمعت تراث األمة‬

‫شــهد المغــرب األقصــى واألندلس خالل عصــري المرابطين‬
‫ونبوغــا‬
‫علميــا‬
‫ازدهــارا‬
‫والموحديــن ‪-‬وقبــل ذلــك وبعــده‪-‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫فكريــا‪ ،‬كان مــن تجلياته العناية الكبيــرة بصناعة الكتاب تألي ًفا‬
‫ًّ‬
‫وتسفيرا‪ ،‬وكذا االهتمام البالغ بتشييد الخزائن التي تحضنه‪ ،‬وعمارتها‬
‫ونسخا‬
‫ً‬
‫ً‬
‫مظهرا من مظاهــر الحركية العلمية والفعل الثقافي بتلك‬
‫وتنظيمهــا‪ ،‬باعتبارهــا‬
‫ً‬
‫الربوع من العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫خالل الحقبة المرابطية والموحدية إلى ما يلي‪:‬‬

‫والعجيــب أن هــذه العنايــة بالكتــب والمكتبــات‬

‫بالعدوتيــن لم تكن قاصــرة على أهل العلم وطلبته فقط‪،‬‬

‫الملكية‬
‫المكتبات َ‬

‫وإنمــا تحولــت إلــى ثقافــة شــعبية تحــرص جميــع فئات‬

‫يعتبــر هــذا النــوع مــن المكتبات‪ ،‬مــن الظواهر التــي َتمِ ُيز‬
‫الحضــارة اإلســامية علــى امتداد تاريخهــا‪ .‬وقد حفظت‬

‫التعييــن والرياســة‪ ،‬يقول "المقري" يصــف قرطبة‪" :‬وهي‬

‫المغاربــة‪ ،‬الذيــن عنــوا باقتنــاء الكتب وتشــييد المكتبات‬

‫الكتــب‪ ،‬صــار ذلــك عندهم مــن آالت التعين والرياســة‪،‬‬

‫أميــر "بطليــوس" المظفر بن األفطــس (ت‪460‬هـ)‪ ،‬الذي‬

‫المجتمــع علــى اإلســهام فيهــا‪ .‬إذ صار التعلــق بالكتاب‬

‫ووجها من أوجه‬
‫مظهرا للرفعة والحظوة‪،‬‬
‫وإنشاء خزائنه‬
‫ً‬
‫ً‬

‫لنا كتب التاريخ والتراجم بعض أسامي الملوك واألمراء‬

‫وأشــد النــاس اعتنــاء بخزائــن‬
‫كتبــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫أكثــر بــاد األندلــس ً‬

‫خــال المرحلــة التاريخيــة التــي نحــن بصددهــا‪ ،‬منهــم‬

‫حتى إن الرئيس منهم الذي ال تكون عنده معرفة‪ ،‬يحتفل‬

‫جماعــة للكتــب‪ ،‬ذا خزانــة عظيمة‪ ،‬لم‬
‫وصــف بأنــه "كان ّ‬

‫إال ألن يقــال‪ :‬فــان عنده خزانــة كتب‪ ،‬والكتاب الفالني‬

‫ومنهــم األميــر المرابطي المنصور بن محمد بن أبي داود‬

‫حصله وظفر به"‪.‬‬
‫قد ّ‬

‫راغبــا فــي العلم‪،‬‬
‫األدوات‪ ،‬ســامي الهمــة‪ ،‬نزيــه النفــس‪ً ،‬‬

‫فــي أن تكــون فــي بيتــه خزانــة كتــب‪ ،‬وينتخــب فيها ليس‬

‫يكن في ملوك األندلس من يفوقه في األدب والمعرفة"‪،‬‬

‫ليــس هــو عنــد أحد غيره‪ ،‬والكتاب الــذي هو بخط فالن‬

‫اللمتوني (ت‪550‬هـ)‪ ،‬الذي قيل في ترجمته "كان ملوكي‬

‫ومــن األخبــار الطريفــة المؤكــدة لهــذا األمــر مــا نقل‬

‫منافســا فــي الدواويــن العتيقــة واألصول النفيســة‪ ،‬جمع‬
‫ً‬

‫والزمــت ســوق كتبها مــدة أترقب فيها وقــوع كتاب كان‬

‫ياسين المرابطي (ت‪530‬هـ)‪ ،‬الذي وصفه مترجموه بأنه‬

‫عــن اإلمــام الحضرمــي أنــه قــال‪" :‬أقمــت مــرة بقرطبــة‪،‬‬

‫مليــح‪ ،‬ففرحــت بــه أشــد الفــرح‪ ،‬فجعلت أزيد فــي ثمنه‬
‫حده‪،‬‬
‫علي إلى أن بلغ فوق ّ‬
‫إلي المنادي بالزيادة ّ‬
‫فيرجع ّ‬

‫فقلــت لــه‪ :‬يــا هــذا‪ ،‬أرني مــن يزيد في هــذا الكتاب حتى‬

‫شــخصا عليه لباس‬
‫بلّغه إلى ما ال يســاوي‪ ..‬قال‪ :‬فأراني‬
‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لــي بطلبــه اعتنــاء‪ ،‬إلــى أن وقــع وهو بخط جيد وتســفير‬

‫مــن ذلــك ما أعجز أهل زمانــه"‪ .‬ومنهم األمير ميمون بن‬

‫معتنيــا باآلثــار"‪" ،‬ذا همــة رفيعــة في‬
‫صالحــا‬
‫ا‬
‫"كان رجــ ً‬
‫ً‬
‫ً‬
‫اقتنــاء الكتــب"‪ ،‬ومن ذلك أنه اشــترى حين حجه نســخة‬

‫مــن صحيــح مســلم مشــرقية الخــط في تســعة وعشــرين‬
‫جــزءا‪ ،‬وكان ال يبالــي بمــا ينفق في ذلك‪ ،‬فقد أثر عنه أنه‬
‫ً‬
‫أيضا أصل أبي ذر الهروي من صحيح البخاري‬
‫اشــترى ً‬

‫ســيدنا الفقيه‪ ،‬إن‬
‫رياســة‪ ،‬فدنــوت منــه وقلت لــه‪ :‬أعز اهلل ّ‬

‫بمال جسيم‪.‬‬

‫بــه الزيــادة بيننــا فــوق حده‪ ..‬قــال‪ :‬فقال لي‪ :‬لســت بفقيه‬

‫عمرهــا بالكتــب التي جلبها‬
‫تاشــفين لخزائــن بـ"لمتونــة"‪َّ ،‬‬

‫كان لــك غــرض فــي هذا الكتــاب تركته لــك‪ ،‬فقد بلغت‬

‫وال أدري مــا فيــه‪ ،‬ولك ّني أقمت خزانــة كتب‪ ،‬واحتفلت‬

‫فيهــا ألتجمــل بهــا بيــن أعيــان البلــد‪ ،‬وبقي فيهــا موضع‬
‫جيد التجليد‬
‫يســع هذا الكتاب‪ّ ،‬‬
‫فلما رأيته حســن الخط ّ‬

‫استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه‪ ،‬والحمد هلل على ما أنعم‬
‫به من الرزق‪ ،‬فهو كثير"‪.‬‬

‫كما تذكر المصادر إشــارات عن تأســيس يوســف بن‬

‫مــن خــال رحالتــه إلــى األندلــس‪ ،‬وعلى دربه ســار ابنه‬
‫علي فجمع مكتبة عديمة النظير‪.‬‬
‫ٌّ‬

‫ومــن أشــهر مــن عــرف بعدهمــا مــن الموحديــن‪ ،‬أبو‬

‫يعقوب يوســف بن عبد المؤمــن الموحدي‪ ،‬الذي عرف‬
‫بشــغفه الشــديد بالعلــم وجمــع مظانــه‪ ،‬حتــى بــذل فــي‬

‫التــي اســتجمعت فــي رحمهــا مئــات اآلالف مــن الكتب‬

‫غصبــا؛ وبذلــك جمــع مــن الكتــب ما لــم يجمعــه غيره‪،‬‬
‫ً‬

‫بــروز عــدد مــن الخزائــن العامــرة والمكتبــات الحافلــة‬
‫والمخطوطــات فــي مختلــف فروع العلــم والتخصصات‬

‫المعرفية‪.‬‬

‫عموما‪ ،‬يمكن تصنيف المكتبات التي كانت موجودة‬
‫ً‬

‫إلــى اســتعمال القــوة فــي جمعهــا وانتزاعهــا مــن أهلهــا‬
‫قــال المراكشــي‪" :‬ولــم يــزل يجمــع الكتــب مــن أقطــار‬

‫األندلــس والمغــرب ويبحــث عــن العلمــاء وخاصة أهل‬
‫علــم النظــر‪ ،‬إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لقــد نتج عــن هذا الوله بالكتاب والشــغف بامتالكه‪،‬‬

‫ذلــك التعويضــات الســنية‪ ،‬بــل قد بلــغ به الولــه بالكتب‬

‫‪19‬‬

‫مصحــف يرفعــه رجــان لثقلــه‪ ،‬فيــه أربــع أوراق مــن‬
‫مصحــف عثمــان بــن عفــان ‪ ‬الذي خطــه بيمينــه‪ ،‬وفيه‬
‫نقطــة مــن دمــه‪ ،‬وقد نقــل من الجامــع أيام عبــد المؤمن‬
‫الموحــدي إلــى مراكــش"‪ .‬فهذا النص من الروض يشــير‬
‫إلــى وجــود مخــزن بالجامــع‪ ،‬وأن مــن محتويــات هــذا‬
‫يتيما‬
‫المخــزن مصحــف‪ .‬فهــل يــا تــرى أكان المصحــف ً‬
‫بهــذا المخــزن مــع مــا عــرف بــه الجامــع مــن عطــاء في‬
‫مجال التعليم والتدريس؟‬

‫قبلــه ممــن ملــك المغــرب"‪ .‬ومعلــوم أن مكتبــة الحكــم‪،‬‬
‫تنيــف محتوياتهــا عــن أربعمائــة ألــف مجلــد‪ .‬بنــاء علــى‬

‫هــذه الشــهادة يمكــن القــول‪" :‬إن يوســف الموحــدي هو‬
‫المؤسس ألول مكتبة ملكية عظيمة بالمغرب"‪.‬‬

‫َــف أبــي يعقــوب علــى عمــارة هــذه‬
‫وقــد حــرص خل ُ‬

‫المكتبــة بجديــد المقتنيات ونفيس المنتســخات‪ ،‬إال أنها‬
‫ســتتعرض لنكبــة مؤســفة عند خلع الخليفــة عبد الواحد‬

‫األول الموحدي‪ ،‬فنهبت أكثر كتبها واختل نظام سيرها‪،‬‬
‫حتى استقر األمر لعبد اهلل العادل ‪-‬الذي خلف السلطان‬

‫مكتبات المدارس‬

‫المخلــوع‪ -‬فعمــل علــى تنظيــم ما بقــي من كتبهــا وتمييز‬

‫الكامل منها‪ ،‬ثم سار على االهتمام بها خ َل ُفه أبو حفص‬
‫عمر المرتضى‪ ،‬إلى أن آل أمرها إلى بني مرين‪.‬‬

‫مكتبات المساجد والجوامع‬

‫هي المكتبات التي كانت تؤثث بها المساجد والجوامع‪،‬‬
‫وهــي أقــدم أنــواع المكتبات اإلســامية‪ ،‬وقــد برزت إلى‬

‫خلــو المســاجد الصغيــرة من المشــرق أو المغــرب على‬
‫األقــل مــن بعــض الكتــب ‪-‬التــي تصلــح أن تكــون نــواة‬
‫مكتبــة‪ -‬كالمصاحــف وبعــض كتــب التفســير والحديــث‬

‫وغيرها‪ ،‬بله المســاجد الجامعة؛ كجامع قرطبة وطليطلة‬

‫وألمرية وإشــبيلية والقرويين والكتبية وغيرها وإن كانت‬
‫المصــادر التاريخية ال تســعفنا فــي تأكيد هذا المعطى إال‬

‫في القرن الثامن الهجري وما بعده‪ .‬ويزداد هذا الرأي قوة‬

‫إذا علمنا أن هذه المساجد ‪-‬خاصة الجامعة منها‪ -‬كانت‬
‫معاهد للتعليم منذ تأسيسها‪ ،‬وأكيد أن هذا الدور يقتضي‬
‫عددا من الكتب والمصاحف التي‬
‫أن تحــوي بيــن ثناياها ً‬

‫يحتاجهــا الطلبة الــواردون عليها على األقل‪ .‬وهذا الذي‬

‫ذكر ُتــه‪ ،‬تذهــب إليه بعض المصادر األجنبيــة وغيرها‪ ،‬إذ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تؤكد احتواء بعض المساجد للمكتبات؛ كجامع طليطلة‬

‫‪20‬‬

‫الذي ُوصف بأنه كان يتضمن مكتبة غنية وحافلة بالكتب‪،‬‬

‫قد استولت عليها القوات النصرانية حين دخول طليطلة‬

‫سنة (‪478‬هـ‪1085-‬م)‪.‬‬

‫أيضــا في بعــض المصادر العربية إشــارات‬
‫وقــد ورد ً‬

‫يمكنها تأكيد هذا الطرح‪ ،‬منها ما ورد عند الحميري في‬

‫وصــف مخزن جامــع قرطبة‪ ،‬يقول‪" :‬وفــي هذا المخزن‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الوجــود مــع ظهور المســاجد‪ .‬ففي نظري إنــه ال ُيتصور‬

‫وهي الخزائن التي كانت تلحق بمعاهد العلم والتدريس‪،‬‬
‫والظاهــر أنهــا وجــدت بوجــود المــدارس نفســها‪ ،‬ولعل‬
‫أشــهرها فــي هــذه المرحلة التاريخية‪ ،‬مكتبة أبي الحســن‬
‫الشــاري (‪649-579‬هـــ) التــي وصفــت بأنهــا أول خزانة‬
‫وقفــت بالمغــرب علــى أهل العلم‪ ،‬وقد شــيدها الشــاري‬
‫وجعلها ملحقة بمدرســته الشــهيرة بـ"سبتة"‪ ،‬إال أن الفقيه‬
‫محمــد المنونــي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬علــق علــى هــذه اإلشــارة‬
‫التاريخيــة فقــال‪" :‬نســتبعد أن يتأخــر تأســيس المكاتــب‬
‫العامة بالمغرب إلى العهد األخير من الدولة الموحدية‪،‬‬
‫مــن غيــر أن يكــون علــى األقــل فــي أولهــا‪ ،‬ومــن غير أن‬
‫يكــون لعبــد المؤمن وأبنائه أثر في هذا الميدان‪ ،‬لما علم‬
‫من اهتمامهم بهذا الشأن‪ ،‬واشتهر من ابتنائهم بيت الطلبة‬
‫وتأســيس الكثير من المــدارس بالمغرب وغير المغرب‪،‬‬
‫وكل هذه المؤسسات ال تستغني عن الكتب والمكتبات‬
‫تكــون بجانبهــا مباحة للعموم"‪ .‬وهذا الــرأي الذي ذهب‬
‫إليــه المنونــي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬وجيــه‪ ،‬وقــد أكدتــه بعــض‬
‫المصادر كـ"مسالك األبصار" لـ"العمري"‪ ،‬فقد أورد أثناء‬
‫حديثه عن القصر الذي بناه يعقوب المنصور إشــارة قال‬
‫فيهــا‪" :‬وفــي رحبــة القصــر دارِ الكرامــة واألضيــاف (‪)...‬‬
‫وفــي هذه الرحب ِة المدرســ ُة‪ ،‬وهــي مكان جليل به خزائن‬
‫الكتــب"‪ .‬بنــاء على هذا أقول إن فرضية وجود هذا النوع‬
‫من المكتبات بوجود المدارس نفسها‪ ،‬تكاد تفرض ذاتها‬
‫وإن كانت تعوزنا األدلة التاريخية في إثبات ذلك‪.‬‬

‫المكتبات الخاصة‬

‫هي الخزائن التي أسسها األفراد من المجتمع ألنفسهم‪،‬‬
‫علميــا‪ ،‬أو بقصــد التباهــي‬
‫إمــا بقصــد االســتفادة منهــا‬
‫ًّ‬

‫والزينــة‪ .‬وقــد كان االهتمام بالمكتبات الشــخصية خالل‬

‫عليــه‪ ،‬كتــب مــن دواويــن العلــم ودفاتــره مــا ال يحصــى‬

‫مــدن العدوتيــن‪ .‬وقــد حفظــت لنا كتــب التراجم أســامي‬

‫بخطــه الرائــق‪ ،‬فاجتمع له بذلك مكتبــة طافحة بالذخائر‬

‫أمــرا ملحوظً ــا فــي ســائر‬
‫الحقبــة المرابطيــة والموحديــة‪ً ،‬‬

‫كثرة‪ ،‬وكان يقتني من الكتب جملة وافرة سوى ما ينسخ‬

‫بعضهــا‪ ،‬منهــا مكتبــة محمــد بن يحيــى الغافقــي القرطبي‬

‫والنفائــس‪ ،‬نكــب فيهــا مــرات بضــروب مــن الجوائــح‬

‫المعــروف بابــن الموصل (ت‪433‬هـــ)‪ ،‬وكان هذا الرجل‬

‫كالغرق والنهب‪.‬‬

‫ْيؤثــر جمــع الكتب على كل لذة‪ ،‬وقد اجتمع عنده منها‬

‫فهذه بعض من أنواع المكتبات التي برزت بالمغرب‬

‫مــا لــم يجتمــع مثلــه ألحد بعــد الحكم المســتنصر‪ ،‬وقد‬

‫األقصى واألندلس خالل عصري المرابطين والموحدين‬

‫بيعــت هــذه الكتب فــي تركته‪ ،‬وأغلي فيهــا حتى تقدمت‬

‫مــع جملة من نماذجهــا‪ ،‬قصدت بها التمثيل ال الحصر‪،‬‬

‫الورقة في بعضها بربع مثقال‪.‬‬

‫ذلــك أن تتبــع أخبــار المكتبــات أمــر يطــول‪ ،‬ولعــل هذه‬

‫ومنهــا مكتبــة عمــر بــن عبيد اهلل بن يوســف بن حامد‬

‫أمثلــة دالــة علــى القصــد‪ ،‬ويكفــي مــن القــادة مــا أحاط‬

‫معتنيا‬
‫الذهلــي (ت‪454‬هـــ)‪ ،‬فقد جاء في ترجمته‪" :‬وكان‬
‫ً‬

‫بالعنق‪.‬‬

‫بنقــل الحديــث وروايتــه وســماعه من الشــيوخ فــي وقته‪،‬‬

‫مكثــرا في الروايــة (‪ )...‬وعن أبي مروان‬
‫جامعــا للكتــب‪،‬‬
‫ً‬
‫ً‬

‫(*)‬

‫أي عمر بــن عبيد اهلل‬
‫الطبنــي قــال‪ :‬أخبرنــي أبــو‬
‫ٍ‬
‫حفــص‪ْ ،‬‬

‫المراجع‬

‫قال‪ :‬شددت في داري بالربض الغربي ثمانية أحمال من‬

‫انتهبها البربر"‪.‬‬

‫ومنهــا مكتبــة علــي بــن أبي بكــر بن عبــد الرحمن بن‬

‫أشــياخا جلة‬
‫علــي بــن ســمجون (ت‪599‬هـــ)‪ ،‬فقــد "لقي‬
‫ً‬

‫(‪)1‬‬

‫نفح الطيب‪ ،‬للمقري‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحســان عباس‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1988‬م‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كتــب إلخراجهــا إلى مكان غيره‪ ،‬ولم يتم لي العزم حتى‬

‫كاتب وباحث مغربي‪.‬‬

‫(‪ )2‬المعجم في أصحاب القاضي اإلمام أبي علي الصدفي‪ ،‬البن األبار‪،‬‬
‫دار الكتاب العربي للطباعة والنشر‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )3‬المســتملح مــن كتاب التكملــة‪ ،‬لإلمام الذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬بشــار عواد‬
‫معروف‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫ا ذا مــروءة كاملة‬
‫فقيهــا عار ًفــا جليــ ً‬
‫وأخــذ عنهــم‪ ،‬وكان ً‬

‫(‪ )4‬صلــة الصلــة‪ ،‬ألبــي جعفــر بــن الزبير‪ ،‬تحقيــق‪ :‬عبد الســام الهراس‬

‫ومنهــا مكتبــة عبــد الرحيم بــن الملجــوم (ت‪604‬هـ)‬

‫(‪ )5‬المعجــب فــي تلخيــص أخبــار المغــرب‪ ،‬لعبــد الواحــد المراكشــي‪،‬‬

‫حسن‪ ،‬وكانت له خزانة كتب حافلة"‪.‬‬
‫وخلُق َ‬

‫جماعة‬
‫التــي كونهــا مــن مكتبــة والــده عيســى الــذي كان ّ‬

‫للدواوين العتيقة والدفاتر النفيسة‪ ،‬ومن مكتبة أستاذه أبي‬
‫عبــد اهلل محمــد بــن أحمد الخزرجي‪ ،‬وممــا أضاف لهذه‬

‫وتلك حيث صارت مكتبة حافلة بالنفائس والذخائر‪.‬‬

‫ومنهــا مكتبــة قرابتــه عبــد الرحمــن بــن يوســف بــن‬

‫الملجــوم (ت‪605‬هـــ)‪ ،‬التــي "جمــع لهــا مــن الكتــب‬
‫مــا لــم يجمعــه أحــد مــن أهــل بالمغــرب‪ ،‬وخزانــة كتبــه‬

‫كانــت مشــهورة فــي المغــرب"‪" ،‬وقد ذكر غيــر واحد من‬
‫متفرقة‪ ،‬بستة آالف دينار"‪.‬‬
‫ّ‬

‫ومنهــا مكتبــة ابن أبي الصقر بمراكــش‪ ،‬وهو الحافظ‬

‫المكثــر أبــو العبــاس أحمد بــن عبد الرحمــن األنصاري‪،‬‬
‫حريصــا‬
‫نزيــل مراكــش (ت‪569‬هـــ)‪ ..‬كان كل ًفــا بالعلــم‬
‫ً‬

‫تحقيــق‪ :‬صــاح الديــن الهــواري‪ ،‬المكتبــة العصرية‪ ،‬صيــدا‪ ،‬الطبعة‬

‫األولى‪2006 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )6‬لمحــة عــن تاريــخ الخزائــن الملكيــة بالمغــرب األقصــى‪ ،‬لمحمــد‬
‫المنوني‪ ،‬منشور بمجلة دعوة الحق‪ ،‬ع‪.288:‬‬

‫(‪ )7‬الكتــب والمكتبــات فــي األندلــس‪ ،‬حامد الشــافعي ديــاب‪ ،‬دار قباء‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )8‬تاريــخ المكتبــات اإلســامية ومــن ألــف فــي الكتــب‪ ،‬لعبــد الحــي‬
‫الكتانــي‪ ،‬ضبــط وتعليــق‪ :‬أحمــد شــوقي بنبيــن‪ ،‬وعبد القادر ســعود‪،‬‬
‫المطبعة والوراقة الوطنية‪ ،‬مراكش‪ ،‬الطبعة الثانية‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )9‬مســالك األبصــار‪ ،‬البــن فضــل اهلل العمــري‪ ،‬تحقيــق‪ :‬حمــزة أحمــد‬
‫عباس‪ ،‬وآخرون‪ ،‬المجمع الثقافي‪ ،‬أبو ظبي‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )10‬وصــف إفريقيــا‪ ،‬ليــون اإلفريقــي‪ ،‬ترجمــة‪ :‬محمــد حجــي‪ ،‬ومحمد‬
‫األخظر‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪1983 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )11‬الصلة‪ ،‬البن بشكوال‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم األبياري‪ ،‬دار الكتاب المصري‪،‬‬

‫القاهــرة‪ ،‬دار الكتــاب اللبنانــي‪ ،‬بيــروت‪ ،‬الطبعــة األولــى‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫المؤرخيــن أنــه بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلّدة بل‬

‫وآخرون‪ ،‬منشورات وزارة األوقاف المغربية‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫علوم‬

‫د‪ .‬حذيفة أحمد الخراط*‬

‫الهاتف الجوال‬

‫َّ‬
‫املتوقعة‬
‫وأخطاره‬
‫غــدت االتصــاالت الحديثــة بأشــكالها‬

‫صغيــرا ســهل الحمــل‪ ،‬يصلنــا بالعالــم كلـــه خــال ثــوان‬
‫ً‬

‫يتجزأ من حياتنا اليومية‪ ،‬وأصبح ما كان‬

‫المســتمر لهــذا الجهــاز الجــوال‪ .‬ولفــت األمــر األنظــار‬

‫االتصاالت بخطوات متســارعة أخذت تكتشــف الجديد‬

‫التقديــرات إلــى زيادة عدد مســتخدمي هــذا الهاتف فوق‬

‫جــزءا ال‬
‫المختلفــة وصورهــا المتباينــة‪،‬‬
‫ً‬

‫واقعا‬
‫ملموسا‪ .‬إذ تقدم العلم في مجال‬
‫حلما في األمس ً‬
‫ً‬
‫ً‬

‫والمفيــد‪ ،‬وتتــرك بصماتها الواضحات التي أســقطت بها‬
‫الحواجز بين الشعوب‪ ،‬وأسهمت في تالقي الحضارات‬

‫المختلفــة وتالقــح أفكارهــا‪ ،‬دون أن تعرقلـــها فروقــات‬
‫التوقيــت أو اختــاف الفصــول‪ ،‬أو تعيقـــها جغرافيــة البر‬

‫والبحر‪.‬‬

‫غنيــة عــن التعريــف‬
‫وفــي وقتنــا الراهــن تظهــر طفــرة ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫ويســـرت أوعية‬
‫قربت البعيد‪ّ ،‬‬
‫فــي عالــم االتصاالت التي ّ‬

‫‪22‬‬

‫المعرفة‪ ،‬واختزلت الوقت‪،‬‬
‫وحولت المقولة المشــهورة‪:‬‬
‫ّ‬
‫"العالــم قريــة صغيــرة" إلــى حقيقة مشــاهدة َيـــسهل معها‬

‫تداول األخبار والمستجدات عبر وسائل متنوعة وعديدة‬

‫بدأت على استحياء‪ ،‬وسرعان ما تطورت لتـشهد‬
‫حضورا‬
‫ً‬
‫يوما بعد يوم‪.‬‬
‫قويا‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫وجريئا ما يزال ينمو ً‬

‫وطفــرة االتصــاالت تلــك‪ ،‬جعلــت بين أيدينــا‬
‫جهازا‬
‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معدودات‪ ،‬وال تكاد دولة حول العالم تنجو من الزحف‬
‫إلــى دخــول أجهــزة الجوال إلــى كل منزل‪ ،‬كما أشــارت‬

‫فشــيئا‬
‫شــيئا‬
‫ً‬
‫المليارات‪ ،‬وال شــك في أن هذا العدد يزيد ً‬
‫وسنة بعد سنة‪.‬‬

‫كمــا يشــهد مجــال االســتثمار فــي عالــم االتصــاالت‬

‫مالح ًظــا‪ ،‬وقــد نجحــت وســائل الدعايــة في جذب‬
‫نمــوا‬
‫َ‬
‫ًّ‬
‫المستهلكين الجدد‪ ،‬وهي تح ّثهم على الدخول إلى عالم‬

‫االتصاالت الفسيح‪.‬‬

‫أبراج في كل مكان‬

‫وقــد أحاطــت بنــا‬
‫بــث الهاتف الجــوال من‬
‫أبــراج تقويــ ِة ِّ‬
‫ُ‬
‫العلماء إلى‬
‫جميــع الجهات‪ ،‬ودعا هــذا الحضور القوي‬
‫َ‬

‫دراســة التأثيــرات الحيويــة الناتجــة عــن تعــرض الجســم‬
‫لمــا ينبعــث مــن جهــاز الجــوال وأبراجــه مــن إشــعاعات‬
‫كامنــا يحتمل أن يتم‬
‫خطرا‬
‫قــد تحمــل بيــن طياتها‬
‫صحيا ً‬
‫ًّ‬
‫ً‬

‫اكتشافه في القريب العاجل‪.‬‬

‫وتنــص كتــب فيزيــاء األشــعة علــى أن هنــاك عالقــة‬
‫إرســال واســتقبال بيــن الهاتــف الجوال وأبــراج تقوية ب ّثه‬
‫الخاصــة بــه‪ .‬وتنشــأ فــي البيئــة المحيطــة بنــا والتــي تكثر‬
‫فيهــا أعــداد أجهــزة الجوال وأبراج تقوية إرســاله‪ ،‬حقول‬
‫مغناطيسية كهربائية من أشعة الراديو والموجات الصغيرة‬
‫المعروفــة بموجــات الميكروويــف‪ ،‬وهي المســؤولة عن‬
‫المرضية التي قد تشــاهد في من يتعرض لتلك‬
‫التأثيرات َ‬
‫طردا مع مدة‬
‫الموجات‪ ،‬وتتناســب شــدة تلك التأثيرات ً‬
‫التعــرض لإلشــعاع‪ ،‬فكلمــا زادت هــذه المــدة زاد األثــر‬
‫ّ‬
‫السلبي الناتج عنها‪.‬‬

‫إشعاعات الجهاز الجوال‬

‫تمت في جامعة الملك عبد العزيز‪ ،‬دراسة دقيقة تناولت‬
‫أبعــاد األضــرار المتعلـــقة بــاألذن نتيجة تعرضهــا للحقل‬
‫الكهربائــي المغناطيســي الصــادر عــن أجهــزة الهواتــف‬
‫ودرســت حالــة مريــض فــي‬
‫الجوالــة وأبــراج التقويــة‪ُ ،‬‬

‫الثانيــة واألربعيــن مــن عمــره‪ ،‬وكانت الشــكوى الرئيســة‬
‫لديــه‪ ،‬ضعف حاســة الســمع في األذن اليمنــى منذ ثالثة‬

‫أشهر‪ ،‬والشعور ببعض األلم داخل األذن وحولها عقب‬

‫الجوال‪ ،‬باإلضافة إلى بعض األعراض‬
‫استخدام الهاتف‬
‫ّ‬
‫التحسسية في األنف‪ ،‬ونوبات من الصداع المتتالي‪.‬‬

‫وذكر المريض أن تلك األعراض تبدأ بعد اســتخدام‬

‫الجوال بدقائق‪ ،‬وقد تستمر في بعض األحيان مدة ساعة‬

‫كاملــة‪ ،‬كمــا الحظ أن اســتخدامه لهاتف المنــزل العادي‬
‫ال يســبب لــه فــي العــادة مثل تلــك الشــكاوى المزعجة‪.‬‬

‫وأفــاد بأنــه اعتــاد اســتخدام الجــوال مدة تقارب ســاعتين‬

‫تحديــدا لســماع صوت‬
‫يوميــا‪ ،‬واســتخدام األذن اليمنــى‬
‫ً‬
‫ًّ‬

‫المكالمات‪.‬‬

‫وتــم إجــراء فحص طبي‪ ،‬والتركيز على فحص األذن‬

‫حــدة حاســة الســمع‪،‬‬
‫المصابــة‪ ،‬وأجــري تقويــم لقيــاس ّ‬

‫مرضية تـُــعرف‬
‫مشــخصة لحدوث حالة‬
‫فجــاءت النتائج‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫بـ"فقــد الســمع الحســي العصبــي" (‪Sensorineural Hearing‬‬

‫‪ )Loss‬فــي األذن اليمنــى التــي يســتخدمها المريــض أثنــاء‬
‫مكالماته عبر جهازه الجوال‪.‬‬

‫وتــم متابعــة تطــور حالة المريــض الصحيــة‪ ،‬فلوحظ‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أضرار في األذن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال تزال الدراســات حول ضرر الجهاز الجوال محدودة‪،‬‬
‫ولــم يتــم حتــى اآلن إعطــاء الموضــوع حقــه مــن جهــد‬
‫البحــث‪ ،‬فذلــك يحتاج إلــى مدة طويلة وإلــى المزيد من‬
‫التنقيــب‪ ..‬وقــد تكشــف قادمــات األيام‬
‫أضــرارا ثابتة في‬
‫ً‬
‫هذا المجال‪ ،‬إال أن أصابع اتـهام قوية أخذت في اآلونة‬
‫األخيــرة تصــف جهــاز الجــوال‪ ،‬بالخطــر الكامــن الــذي‬
‫شرعت آثاره السلبية تـتـضح شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬
‫وتقتــرح بعــض التقاريــر الطبية الحديثــة‪ ،‬وجود رابط‬
‫بيــن اســتخدام الهاتــف الجــوال وإصابــة الجســم ببعــض‬
‫ضيــة العابــرة‪ ،‬وبخاصــة فــي مســتوى‬
‫المر ّ‬
‫االضطرابــات َ‬
‫الجهــاز العصبــي؛ مثــل الشــعور باإلرهــاق والصــداع‬
‫والــدوار‪ ،‬واضطرابــات النــوم‪ ،‬وخلل في وظيفــة الذاكرة‬
‫ــدر والتنميــل‬
‫وضعــف التركيــز‪ ،‬واإلحســاس ببعــض َ‬
‫الخ َ‬
‫والشعور بالغثيان‪.‬‬
‫إال أن تقاريــر أخــرى أخــذت ُتظهــر بعــض التخــوف‬
‫والقلــق بشــأن توقعــات بوجود عالقة بين كثرة اســتخدام‬
‫الهاتــف الجــوال وظهور بعض األعــراض الخطيرة‪ ،‬مثل‬
‫اإلصابــة بــأورام الدمــاغ وارتفاع ضغط الــدم‪ ،‬والتعرض‬
‫لنوبات الصرع لدى األطفال‪.‬‬

‫حــذرت مجموعــة دوليــة مــن ‪ 23‬باحثًــا وخبيـ ًـرا بــارًزا من أخطار الهاتــف الجوال‬
‫فــي حــدوث أورام فــي المــخ‪ .‬وقــال العلماء في بيان "إن أحدث الدراســات التي‬
‫شملت أفرا ًدا ظلوا يستخدمون الهاتف الجوال على مدى ‪ 10‬سنوات متتالية‪،‬‬
‫تشــير إلى احتمال حدوث بعض األورام الحميدة‪ ،‬وبعض ســرطانات الدماغ في‬
‫المناطق التي توضع فيها السماعة على الرأس"‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫تدهــور مســتوى الســمع لديــه مــع اســتمراره باســتعمال‬

‫التــي تقــول‪ :‬إن لقوقعــة األذن‬

‫اقتــرح الطبيب أن يســتخدم المريض أذنه اليســرى لتلقي‬

‫المغناطيســي‪ ،‬مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة أنســجة‬

‫هاتفــه الجــوال وفــق نظامــه الســابق‪ .‬وفــي زيــارة الحقــة‬

‫المكالمــات الهاتفيــة‪ ،‬وإيقــاف اســتخدام األذن اليمنــى‪،‬‬
‫واســتمر ذلك ســتة أشــهر‪ ،‬تم بعدها إجــراء تقويم جديد‬
‫معا‪.‬‬
‫للحالة الصحية لألذنين ً‬

‫تحســنت حالــة األذن‬
‫وجــاءت النتائــج مدهشــة‪ ،‬إذ ّ‬

‫اليمنى بصورة ملحوظة‪ ،‬بينما بدأت حالة األذن اليسرى‬

‫صحة‬
‫ســلبا في ّ‬
‫تلــك القوقعــة ومــا جاورها‪ ،‬وهذا يؤثــــر ً‬

‫الخاليا الشــعرية (‪ ،)Hair cells‬مما يضعف حاســة الســمع‬
‫تدريجية ملحوظة‪.‬‬
‫بصورة‬
‫ّ‬

‫كيف نخفف أضرار الهاتف الجوال؟‬

‫إن جســم اإلنســان أمانة لديه‪ ،‬وعليه مسؤولية كبيرة تجاه‬

‫تدريجيــا لتصاب بأعراض َف ْقد الســمع الحســي‬
‫تتدهــور‬
‫ًّ‬

‫إلى مريضه‪ ،‬مفادها ضرورة الحد من اســتخدام الجوال‪،‬‬

‫حيــن قــال‪" :‬إن لجســدك عليك ح ًّقا" (رواه البخــاري)‪ ،‬وقوله‬
‫‪" :‬ال ضرر وال ِضرار" (رواه ابن ماجة)‪.‬‬

‫ومكب ًرا للصوت‪ ،‬فقلـــل بذلك من مدة التعرض المباشر‬
‫ّ‬

‫من تعرض الجســم لمخاطر اإلشعاع الصادرة عن جهاز‬

‫فاســتجاب لذلــك‪ ،‬فلم يتجاوز مجمــل مكالماته الهاتفية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫امتصــاص جــزء كبيــر مــن موجــات الحقــل الكهربائــي‬

‫الحفاظ على صحته‪ ،‬وصونه عما قد يحدق به من خطر‬

‫العصبــي ســابق الذكــر‪ ،‬فأصدر الطبيــب تعليمات جديدة‬

‫‪24‬‬

‫(‪)Cochlea‬‬

‫مقــدرة علــى‬

‫يوميــا‪ ،‬واســتخدم ســماعة خاصــة‬
‫خمــس عشــرة دقيقــة ًّ‬
‫للجوال‪ ،‬باإلضافة إلى إبعاد المسافة الفاصلة بين جسمه‬
‫والهاتف‪ ،‬ولوحظ بعدها تحسن وظيفة السمع لدى أذنه‬
‫من جديد‪.‬‬

‫أما التفســير العلمي لذلك فقد أوضحتـــه الدراســات‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وضرر‪ ،‬ويدخل ذلك ضمن االلتزام بوصية رسول اهلل ‪‬‬

‫وثمة العديد من أساليب الوقاية التي تساعد في الحد‬

‫الهاتــف الجــوال‪ ،‬ومن ذلك تقليل اســتخدام هذا الجهاز‬

‫قــدر المســتطاع بتقليل مــدة المكالمة واقتصار اســتعماله‬

‫أثناء الحاجة إليه‪ ،‬فكلما زادت مدة المكالمة زاد احتمال‬
‫ظهــور الخطــر‪ .‬ونشــير هنا إلــى نتائج إحدى الدراســات‬

‫التــي جــاء فيها؛ إن إجــراء مكالمة مــدة دقيقتين فقط عبر‬

‫هاتف جوال‪ ،‬كفيلة بتغيير النشاط الكهربائي للدماغ مدة‬
‫ساعة كاملة‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬االعتماد على استخدام الهاتف‬
‫ومما ينصح به ً‬

‫المنزلــي ذي الخــط األرضــي‪ ،‬وعــدم اســتخدام الجــوال‬
‫داخــل المنــزل فــي حــال وجــود خــط هاتفــي أرضي‪ ،‬ال‬

‫ســيما وأن األخيــر قــد ثبتــت ســامته وخلوه مــن أضرار‬

‫اإلشعاعات‪.‬‬

‫أيضــا إبعــاد الجــوال عــن الجســم فــي حــال‬
‫ويجــب ً‬

‫أكد بحث روسي علمي أن استخدام األطفال للهاتف المحمول‪ ،‬يضعف وظائف‬
‫أيضــا على الوظائف‬
‫العقــل لديهــم لمــدة ســاعة تقريبًــا بعد اســتعماله‪ ،‬مما ينعكس ً‬
‫الحيوية للجسم‪.‬‬

‫عــدم اســتخدامه‪ ،‬وليس مــن الصواب جعلــه بالقرب منا‬

‫في المنزل أو العمل‪ .‬كما يجب إبعاده عن الجســم أثناء‬
‫أيضا إلى تســبيب موجات الجوال‬
‫النوم‪ ،‬إذ ثمة ما يشــير ً‬

‫اســتخدامه أثنــاء ركــوب األجســام المتحركــة بســرعة‪،‬‬

‫الضطرابات النوم‪ ،‬كاإلصابة باألرق والنوم المتقطع‪.‬‬

‫كالسيارات والطائرات والقطارات‪ ،‬ألن الحركة السريعة‬

‫ويجــب كذلــك عــدم وضع الجــوال مــدة طويلة في‬

‫تزيد من إنتاج طاقة الجوال وبثـه لألشعة‪ ،‬ولذلك ُينصح‬

‫جيــب مــا نرتديه مــن ثياب‪ ،‬أو في حزام الخصر‪ .‬وتشــير‬
‫األجهزة التناسلية في الجسم لمخاطر أشعة الجوال‪.‬‬

‫وأثبتــت نظريــة أخــرى‪ ،‬أن إبعــاد جهــاز الجــوال عن‬

‫الــرأس مســافة خمســة ســنتيمترات‪ ،‬تخفــض مــا يقــرب‬

‫مــن ‪ %75‬مــن موجات اإلشــعاعات الواصلــة إلى الرأس‬
‫والعنــق‪ ،‬ويشــجعنا ذلــك علــى اســتخدام الســماعات‬
‫السلكية‪ ،‬ومكبـر الصوت (‪ )Speaker‬التي يمكن معها إبعاد‬
‫الجهاز عن أذن مستمعه ورأسه‪.‬‬

‫كما يجب الحرص على عدم استعمال الجوال داخل‬

‫األماكن المعدنية المغلقة‪ ،‬كالســيارة والطائرة والمصعد‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دراسات إلى زيادة احتمال اإلصابة بالعقم‪ ،‬نتيجة تعرض‬

‫بعدم إجراء مكالمات أثناء استخدام وسائل النقل تلك‪.‬‬

‫األطفال والسيدات الحوامل‬

‫يجــب تحجيــم اســتخدام األطفــال للهاتف الجــوال قدر‬

‫اإلمــكان‪ ،‬واالقتصــار علــى ذلــك حيــن الضــرورة‪ .‬ومــن‬

‫المؤلــم مــا نــراه من منظــر الكثير مــن أبنائنا وهــم يعبثون‬
‫معظــم أوقاتهــم بهواتفهــم الجوالــة‪ ،‬وليت األســرة تدرك‬

‫خطــر ذلــك‪.‬‬
‫وعمومــا فــإن جمجمة األطفــال ‪-‬من ناحية‬
‫ً‬
‫تشريحية‪ -‬أرق مما هي عليه لدى الكبار‪ ،‬كما أن محتوى‬

‫دماغ الطفل من الســوائل أكبر‪ ،‬وهذان عامالن يســمحان‬

‫بمــرور موجات وإشــعاعات أكثر نحو دمــاغ الطفل‪ ،‬مما‬

‫قد يزيد من المخاطر المحتملة‪.‬‬

‫علــى امتصــاص كميــة أكبــر مــن هــذه األشــعة‪ ،‬ولذلــك‬

‫جــدا للمؤثــرات الخارجيــة‪ ،‬ال ســيما‬
‫الرحــم حساســة ًّ‬

‫ومــن المهــم كذلــك‪ ،‬عــدم إجــراء مكالمــات الهاتف‬

‫علــى تقليــل اســتخدام الجــوال بعد الــوالدة أثنــاء حملها‬

‫داخــل الحيـــز المعدنــي‪ ،‬وهــذا يعني أن الجســم سيـــجبر‬

‫لألجهــزة الجوالــة؛ فأعضــاء الجنيــن الــذي تحمله داخل‬

‫يـُنصح بإغالق الجوال داخل تلك األمكنة المغلقة‪.‬‬

‫أيضا‬
‫الموجــات التــي تبثها الهواتف الجوالة‪ .‬كما تـــحث ً‬

‫الجوال إن كانت إشارة البث ضعيفة‪ ،‬وذلك ألن ضعف‬

‫اإلشــارة يجبر الجهاز على زيادة قوته وإنتاج طاقة أكبر‪،‬‬
‫وفــي ذلــك مزيــد مــن تعريــض الجســم لمخاطر األشــعة‬

‫والموجات‪.‬‬

‫كمــا تزيــد مخاطــر إشــعاعات الجــوال فــي حــال‬

‫لوليدهــا؛ فأنســجة جســمه الرخوة تســتقبل هــي األخرى‬
‫مزيدا من اإلشعاعات الضارة‪.‬‬
‫ً‬

‫(*) اختصاصــي جراحــة التجميــل بالمدينــة المنــورة ‪ /‬المملكــة العربيــة‬
‫السعودية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫وســبب ذلك أن األشــعة تميل إلى حبس جزء كبير منها‬

‫أيضــا بتخفيــف اســتعمالها‬
‫وتنصــح الســيدة الحامــل ً‬

‫‪25‬‬

‫تاريخ وحضارة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫د‪ .‬يحيى وزيري*‬

‫‪26‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المســجد فــي العمــارة اإلســامية‪ ،‬هــو‬

‫والقبــة هنــا إلــى جانــب أنها حــل وظيفي إنشــائي لتغطية‬

‫ويقيمــون الصــاة‪ ،‬ويذكــرون اهلل بالغدو‬

‫على أطراف القبة نفسها‪ -‬فإنها من جهة أخرى ترمز إلى‬

‫أكبــر مســاحة مــن قاعــة الصالة بــدون أعمــدة ‪-‬اللهم إال‬

‫المبنى الرئيس الذي يتعبد فيه المسلمون‪،‬‬

‫تعــد آية من اآليات الكونيــة الدالة على‬
‫قبــة الســماء التي ّ‬

‫واآلصــال‪ ..‬لذلــك حظــي بنــاء المســجد فــي الحضــارة‬

‫قدرة الخالق العظيم الذي رفع السماء بغير عمد ترونها‪.‬‬

‫اإلسالمية بمكانة كبيرة‪ ،‬فكان أول بناء يبنى في األمصار‬
‫والمــدن المفتوحــة‪ ،‬وظل هــو النواة التــي يلتف ويطوف‬

‫‪" -2‬الشمس‪-‬الثريا"‬

‫حولها المعمار في المجتمعات اإلسالمية‪.‬‬

‫إن إشارة القبة في عمارة المساجد العثمانية إلى السماء‪،‬‬

‫واختلفــت أشــكال المســاجد مــن حضــارة وبيئــة‬

‫ربمــا يؤكــده هذا المشــهد الــذي أثار انتباهي في مســجد‬

‫المختلفــة‪ ،‬وهــو ما يمكن مالحظته بســهوله في اختالف‬

‫فخــال زياراتــي المتعددة لمســجد الســلطان أحمد‪،‬‬

‫ولكــن يكمــن وراء العديــد مــن تلــك العناصــر‬

‫بقاعة الصالة الرئيسة‪ ،‬فأساس تصميمها عبارة عن دائرة‬

‫ألخــرى‪ ،‬فــكل طراز له ســمات انعكســت علــى عناصره‬

‫السلطان أحمد بإسطنبول وغيره من المساجد األخرى‪.‬‬

‫أشكال المآذن والقباب والزخارف وغيرها‪.‬‬

‫لفــت نظــري تصميم الثريات التي تتدلى من ســقف القبة‬

‫والمفــردات المعماريــة التــي احتوتهــا المســاجد‪ ،‬الكثيــر‬

‫متوســطة يخرج منها العديد من الخطوط المتعرجة التي‬

‫مــن اإلشــارات والرموز التي تحتــاج إلى التأمل والتفكير‬

‫تماثل أشعة الشمس‪.‬‬

‫والمعايشة إلدراك معانيها واستجالء مراميها‪.‬‬

‫إســطنبول وبورصــة وأنقــرة ‪-‬المرة تلــو األخرى‪-‬العديد‬

‫مــن األفــكار والتســاؤالت والتأمــات التــي كانــت تنمــو‬
‫وتتبلــور مــع الوقــت‪ ،‬ممــا جعلنــي أســتنتج أن المصمم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لقد أثارت زياراتي ومشاهداتي للمساجد القديمة في‬

‫وفي مساجد أخرى كـ"المسجد الجديد" ْ(ي ِني جامع)‪،‬‬

‫الشكل الدائري (وربما‬
‫تأخذ الثريا الرئيسية بقاعة الصالة‬
‫َ‬

‫تتعــدد الدوائــر)‪ ،‬حيث تتدلــى منها المصابيــح والقناديل‬

‫فــي منظــر يوحي إلى مصابيح الســماء‪ ،‬فالفكــرة والرؤية‬

‫واحــدة‪ ،‬فالثريــا إمــا هي رمز للشــمس‪ ،‬أو رمز لمصابيح‬

‫المعمــاري الــذي قام بإبداع تلك المســاجد‪ ،‬كان يتعامل‬

‫السماء‪ .‬هنا تكتمل الرؤية والفكرة‪ ،‬قبة المسجد ترمز إلى‬

‫عبــر عنها بمفــردات معمارية وبتشــكيالت‬
‫الكونيــة التــي ّ‬

‫(أو مصابيح السماء)‪ ،‬وكلها إشارات كونية رمزية تنسج‬

‫تنقــش على حوائط المســجد‪ ،‬ليبث رســالة مباشــرة لمن‬

‫أو صورة مصغرة لهذا الكون الرحيب‪.‬‬

‫معها وكأنها كون مصغر ينعكس فيه العديد من المشاهد‬

‫السماء‪ ،‬والثريا ترمز إلى الشمس بأشعتها الدافئة الحنونة‬

‫زخرفيــة وفنيــة‪ ،‬وربمــا فــي بعض األحيــان بآيــات قرآنية‬

‫مالمح الفكرة الرئيسية‪ ،‬وتؤكد أن "المسجد كون صغير"‬

‫لــم يســتطع فهــم الرســائل الرمزيــة األخــرى التــي تدعو‬
‫‪-‬كذلك‪ -‬إلى التأمل والتدبر‪.‬‬

‫دعونــا نبــدأ تلك الرحلة التدبرية من خالل المشــاهد‬

‫الكونية التي حوتها العديد من المساجد العثمانية‪:‬‬

‫‪" -1‬السماء‪-‬القبة"‬

‫‪" -3‬المجموعة الشمسية‪-‬المنبر"‬

‫سريعا إلى المسجد الكبير في مدينة بورصة‪،‬‬
‫فإذا ما انتقلنا‬
‫ً‬
‫عبر عنــه الفنــان والمصمم في‬
‫رأينــا‬
‫ً‬
‫مشــهدا ًّ‬
‫كونيــا آخــر‪ّ ،‬‬
‫هذه المرة على ريشة المنبر الخشبي للمسجد‪.‬‬

‫فعندمــا تنظــر لهذا المنبر‪ ،‬ألول وهلة يبدو لك كغيره‬

‫ات والمجنبات‪ .‬ثم تطورت‬
‫األســاس الذي أحيط بالظُّــ ّ‬

‫علــى الجانب الشــرقي للمنبر‪ ،‬تم التعبير بطريقة مباشــرة‬

‫بالمدينة المنورة‪ ،‬حيث كان الفناء المكشوف هو العنصر‬
‫وتنوعت طرز المســاجد إلى أن ظهر طراز المســجد ذي‬

‫القبة المسيطرة‪ ،‬وهو ما امتاز به طراز المساجد العثمانية‪.‬‬

‫يتبيــن أنه منبــر غير تقليــدي؛ حيث‬
‫ولكــن بإمعــان النظــر ّ‬

‫عــن المجموعــة الشمســية عبــر أنصــاف مــن الكــرات‬
‫البــارزة وضعت خالل األطباق النجمية التي تزين ريشــة‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫سار تصميم المساجد األولى على نهج المسجد النبوي‬

‫مــن منابــر المســاجد المنتشــرة فــي كل مســاجد العالــم‪،‬‬

‫‪27‬‬

‫المنبــر‪ .‬واإلبــداع فــي ذلــك يظهر في أن المســافات بينها‬

‫الطبيعة التي هي خلق وإبداع المولى ‪ ،‬فيجمع العابد‬

‫المجموعــة الشمســية التــي تطــوف حولهــا‪ ،‬وبالطبــع‬

‫رؤية تلك الزخارف النباتية‪.‬‬

‫تماما المســافات الحقيقية بين الشــمس وكواكب‬
‫تحاكي ً‬

‫بمقياس رسم أصغر‪.‬‬

‫‪" -5‬الظل‪-‬السجود"‬

‫شــواهد وأدلــة الفكــرة مــا زالــت تتجمــع وتتســاند‬

‫الظالل هو أحد الظواهر الطبيعية التي أشــار إليها القرآن‬

‫آلخــر‪ ،‬ومــن مدينة ألخرى‪ ،‬أو حتى من زمن آلخر‪ ..‬إنه‬

‫العديد من تلك اآليات إلى سجود الظالل كقوله تعالى‪:‬‬
‫ال ُل ُه َع ِن‬
‫‪َ ‬أولــم يــروا إلــى ما خلــق اهلل ِمن ش‬
‫ــي ٍء َي َت َف َّيــ ُأ ِظ َ‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َِ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ‬
‫ل َو ُهم َد ِ‬
‫ــج ًدا ِ ِ‬
‫ون‪(‬النحل‪ ،)48:‬أو‬
‫ا ْل َي ِم ِ‬
‫اخ ُر َ‬
‫ين َو َّ‬
‫ــما ِئ ِل ُس َّ‬
‫الش َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫‪‬و ِ ِ‬
‫او ِ‬
‫ات َوا َ‬
‫ض‬
‫أل ْر ِ‬
‫ل َي ْس ُ‬
‫كقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ــم َ‬
‫الس َ‬
‫ــج ُد َم ْن في َّ‬
‫اآلص ِ‬
‫ال‪(‬الرعد‪.)15:‬‬
‫َط ْو ًعا َو َك ْر ًها َو ِظ َ‬
‫ال ُل ُه ْم بِا ْل ُغ ُدوِّ َو َ‬
‫ومــن عجائــب مــا تــم رصــده بمســجد ديفريجــي‬

‫معــا مــا يعــرف بمصطلــح "األرابيســك" أو‬
‫ويمثــان ً‬
‫"العربسة"‪.‬‬

‫يص ّلــي" علــى الباب الغربي للمســجد‪ ،‬يبلــغ طوله أربعة‬

‫لتؤكد الرؤية المطروحة‪ ،‬والتي تتأكد وتتنوع من مســجد‬

‫إحســاس وعلم الفنان والمصمم المســلم الذي تشــكلت‬
‫دائما على األمر‬
‫عقليتــه نتيجــة الرؤية القرآنية التي تحث ً‬

‫بالنظر في الطبيعة‪ ،‬وملكوت السماوات واألرض‪.‬‬

‫‪" -4‬الطبيعة‪-‬الزخارف النباتية"‬

‫تنقســم الزخــارف اإلســامية بصفــة عامــة إلــى قســمين‬

‫أساســيين‪ :‬الزخــارف الهندســية‪ ،‬والزخــارف النباتيــة‪،‬‬

‫ولكن يالحظ أن الزخارف النباتية هي المسيطرة في‬

‫تزيين عناصر المساجد العثمانية على اختالفها‪ ،‬تلمح ذلك‬

‫في حوائط المسجد وعقوده وسقفه وقبابه‪ ،‬حتى النوافذ‬

‫دائما الزخارف‬
‫الملونة وربما البسط والسجاجيد‪ ،‬تلمح ً‬
‫النباتيــة وزهــرة "التوليــب" المنتشــرة فــي البيئــة التركيــة‪.‬‬
‫وكأن المعمــاري التركــي يحــاول أن ينقــل الطبيعــة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫بأشــجارها وأزهارها إلى داخل المسجد‪ ،‬فال يفتقد تلك‬

‫‪28‬‬

‫داخل المسجد بين ذكر اللسان وذكر األبصار من خالل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكريم في العديد من السور واآليات القرآنية‪ ،‬وقد نبهت‬

‫الكبير في مدينة ســيواس التركية‪ ،‬هو ظهور "ظل إنســان‬

‫قائمــا حتى انقضاء صــاة العصر ثم يغيب‬
‫أمتــار‪ ،‬ويبقــى ً‬
‫ويختفي‪ ..‬فمن أين أتت تلك الفكرة المدهشة للمصمم؟‬
‫وهــل هــي تطبيق مباشــر لمــا ورد في القــرآن الكريم عن‬

‫سجود الظالل؟‬

‫ســواء أكانت تلك الفرضية صحيحة أم ال‪ ،‬فما يهمنا‬

‫هنا أن نســجل احتواء مدخل المســجد على فكرة التعبير‬
‫عــن الصــاة باســتخدام الظــل كأحــد الظواهــر الطبيعيــة‪،‬‬
‫والتي نبه القرآن الكريم ألهمية تأملها وتتبعها وفهمها‪.‬‬

‫‪" -6‬األهلة‪-‬اإلشارة إلى اتجاه القبلة"‬

‫ربمــا ال تنفرد المســاجد العثمانية بهذا المشــهد الكوني‪،‬‬

‫ونقصد وضع األه ّلة فوق القباب وأعلى نهايات المآذن‬
‫مواجهــة لمكــة المكرمــة كــي تشــير إلــى اتجــاه القبلــة‪.‬‬

‫فاستخدام األهلة النحاسية أو البرونز وغيره من المعادن‪،‬‬
‫تقريبا في كل المساجد القديمة والحديثة‪.‬‬
‫منتشرة‬
‫ً‬

‫رمــزا‬
‫ولكــن وجــود تلــك األهلــة‪ ،‬والتــي أصبحــت ً‬

‫لإلسالم بصفة عامة وللمساجد بصفة خاصة‪ ،‬ربما يؤكد‬

‫فكــر اســتخدام المشــاهد واآليــات الكونيــة فــي عناصــر‬
‫المســاجد بصفة عامة والمســاجد العثمانية بصفة خاصة‪،‬‬

‫وهو ما أكدته المشاهد السابقة التي أشرنا إليها‪.‬‬

‫‪ -7‬استخدام اآليات القرآنية‬

‫تعتبر كل المشــاهد الكونية الســابقة والتي استخدمت في‬

‫تعبيرا غير مباشر‬
‫عمارة المساجد العثمانية بصفة خاصة‪،‬‬
‫ً‬
‫عن فكرة "المسجد كون صغير"‪ ،‬كما توضح تأثر الفنان‬

‫والمعمــاري المصمــم بما أورده القرآن الكريم من آيات‬

‫اآلفاق واألنفس وأهمية تدبرها وفهمها‪.‬‬

‫أيضا أنــه عادة ما يتــم التعبير عن هذا‬
‫ولكــن يالحــظ ً‬

‫المفهــوم بطريقــة مباشــرة‪ ،‬تتمثل في كتابــة بعض اآليات‬

‫تعبر عن آية كونيــة معينة على رقبة القبة‬
‫القرآنيــة‪ ،‬والتــي ّ‬
‫او ِ‬
‫ات‬
‫الرئيســية من الداخل‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬ا ُ‬
‫ــم َ‬
‫هلل ُن ُ‬
‫الس َ‬
‫ور َّ‬
‫َوا َ‬
‫ض‪(‬النــور‪ )35:‬فــي إشــارة إلــى أهميــة النــور بشــقيه‬
‫أل ْر ِ‬

‫المعنــوي والمــادي لحيــاة اإلنســان الروحيــة والماديــة‪.‬‬

‫ونلحظ اســتخدام هذه اآلية في رقبة قبة مســجد السلطان‬
‫أحمــد علــى ســبيل المثــال‪ ،‬وهو تقليد انتشــر فــي أغلب‬
‫المساجد اإلسالمية على اختالف طرزها‪.‬‬

‫إن ربــط القــرآن الكريــم للعبــادة والدعــاء والذكــر‬

‫والتســبيح بأوقــات معينة كالغداة والعشــي كقوله تعالى‪:‬‬
‫ون َر َّب ُه ْم بِا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِش ِي‬
‫ين َي ْد ُع َ‬
‫اصب ِْر َن ْف َس َك َم َع ا َّل ِذ َ‬
‫‪‬و ْ‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫يــد زِ َينــ َة ا ْل َح َيا ِة‬
‫ون َو ْج َه ُــه َو َ‬
‫يــد َ‬
‫ــم ُت ِر ُ‬
‫ال َت ْع ُ‬
‫ُي ِر ُ‬
‫ــد َع ْي َنــاكَ َع ْن ُه ْ‬
‫الد ْن َيا‪(‬الكهــف‪ ،)28:‬أو الصبــاح والمســاء كقولــه تعالــى‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ان ا ِ‬
‫ون‪(‬الروم‪،)17:‬‬
‫ين ُت ْصب ُِح َ‬
‫ين ُت ْم ُس َ‬
‫‪َ ‬ف ُس ْــب َح َ‬
‫ــون َو ِح َ‬
‫هلل ِح َ‬

‫أو ربــط مواقيــت الصــاة بظواهــر فلكيــة معينــة كقولــه‬
‫ا َة ِل ُد ُل ِ‬
‫س ِإ َلــى َغ َســقِ ال َّل ْي ِل‬
‫الش ْــم ِ‬
‫الصــ َ‬
‫ــوك َّ‬
‫تعالــى‪َ  :‬أ ِق ِ‬
‫ــم َّ‬
‫ودا‪(‬اإلســراء‪..)78:‬‬
‫آن ا ْل َف ْج ِر َك َ‬
‫آن ا ْل َف ْج ِر إ َِّن ُق ْر َ‬
‫َو ُق ْــر َ‬
‫ان َم ْش ُه ً‬
‫كل هــذا‪ ،‬كان الهــدف منــه ربــط اإلنســان المؤمــن العابد‬
‫الذاكــر‪ ،‬بالعديــد مــن اآليــات الكونيــة الدالــة على وجود‬
‫اهلل وقدرته‪ ،‬مما أرســى مفهوم العبادة بمفهومها الواســع‬

‫والــذي ال يقتصر فقــط على الصالة أو الحج أو الصوم‪،‬‬
‫ليشمل التفكر في ملكوت السماوات واألرض‪.‬‬

‫إن وجــود العديــد من المشــاهد واإلشــارات الكونية‬

‫فــي المســاجد العثمانيــة أو فــي غيرها من مســاجد الطرز‬
‫مســتبعدا‪ ،‬ألنــه‬
‫غريبــا أو‬
‫ً‬
‫األخــرى‪ ،‬ال يعتبــر بذلــك ً‬
‫شــيئا ً‬

‫فــي ذلــك الوقت والزمن‪ ،‬كانت األمة اإلســامية مرتبطة‬

‫ارتباطا عمي ًقا‪ ،‬أدى إلى إفراز تلك‬
‫وبسنة نبيها ‪‬‬
‫بقرآنها‬
‫ً‬
‫ّ‬

‫الرؤية لدى المعماري والفنان المســلم‪ ،‬والتي انعكســت‬
‫بتلقائيــة ِ‬
‫وح َرفيــة فــي تصميــم العمــران اإلســامي وفــي‬
‫صدارتــه المســجد بيــت اهلل‪ ،‬أو لــو شــئت فلتقــل صــورة‬
‫مصغــرة مــن الكــون الكبيــر‪ ،‬أو هكذا البــد أن يكون وأن‬

‫نفهم ونعي‪.‬‬

‫(*) كلية اآلثار‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬
‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪29‬‬

‫تاريخ وحضارة‬
‫مراد دومان*‬

‫حقيقة حريم السلطان‬
‫فــي مرحلــة توطيــد أركان الدولــة‪ ،‬كان‬

‫سكان الحريم‪ ،‬ويتعاملوا معهم ضمن قواعد‬
‫بينهم وبين ّ‬

‫حكام الدول المجاورة أو بنات األعيان‬

‫أيضا‪ ،‬هــو أن التاريخ‬
‫وممــا يجــب لفــت االنتباه إليــه ً‬

‫الســاطين العثمانيــون يتزوجــون ببنات‬
‫واألشــراف‪ ،‬ولكــن مــا إن ح ّلــت مرحلــة االزدهــار حتى‬
‫تغيــرت هــذه الحالــة؛ حيث بــدأ الســاطين يكتفون ‪-‬في‬

‫غالــب األحيــان‪ -‬بالــزواج ببعــض جــواري القصــر فقط‪،‬‬

‫وذلك ليمنعوا‬
‫حتمل أن يقوم بها‬
‫ّ‬
‫التدخالت السيئة التي ُي َ‬
‫األصهار مستغلين قرابتهم من السلطانة زوجة السلطان‪.‬‬

‫وفــي المراحــل الالحقة‪ ،‬بدأ الســلطان يعيــش مع عائلته‬

‫داخــل القصــر في‬
‫جناح يســمى "حريم الســلطان"‪ ،‬الذي‬
‫ٍ‬
‫أعيدت تنظيم هيكلته من جديد في عهد السلطان محمد‬

‫الفاتح‪ .‬وبعد فتح إسطنبول في النصف الثاني من القرن‬
‫الســادس عشــر الميالدي‪ُ ،‬ن ِقل حريم السلطان الذي كان‬
‫فــي قصــر "العتيق" في حي "بيازيد"‪ ،‬إلى قصر توب قابي‬
‫ّ‬
‫ال‪.‬‬
‫زمنا طوي ً‬
‫الذي أقام فيه السالطين العثمانيون ً‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫البــد أن نشــير بدايــ ًة إلــى أن حريــم الســلطان ‪-‬الذي‬

‫‪30‬‬

‫صارمة ومعايير منضبطة‪.‬‬

‫ســجل الكثيــر مــن مكائــد النســاء فــي القصــور األوربية‪،‬‬

‫ولكــن ال نــرى ‪-‬فــي المقابــل‪ -‬إال القليــل مــن قبيل هذه‬
‫األحــداث فــي قصور الدولــة العثمانية؛ مــن مثل ما وقع‬
‫فــي أيــام الســلطانة مــن الجواري‬
‫"هــرم" زوجة الســلطان‬
‫ُ َّ‬
‫ســليمان القانونــي‪ ،‬وأيــام الســلطانة "نــور بانــو"‬
‫و"صفية"‬
‫ّ‬

‫وســم"‪ .‬وال شــك أن أهــم ســبب أدى إلــى هــذه‬
‫ُ‬
‫و"ك َ‬
‫التدخــات من ِقبل النســاء العثمانيــات‪ ،‬هو جلوس جل‬
‫ّ‬

‫الص َغر‪ ،‬وذلك منذ‬
‫الســاطين على ســدة الحكم في سن ِّ‬
‫عهــد الســلطان أحمــد األول وطيلة معظم القرن الســابع‬

‫عشــر الميــادي‪ ..‬أدى هــذا األمــر إلــى صعوبة الســيطرة‬

‫على الدولة‪ ،‬ومن ثم إلى غياب السلطة في التنظيم‪ ،‬كما‬
‫تأثيرا‬
‫ســلبيا؛‬
‫ًّ‬
‫أ ّثــر ‪-‬بطبيعــة الحال‪ -‬على مؤسســة الحريم ً‬
‫حيث بدأت أمهات السالطين بالتدخل في شؤون الدولة‬

‫ُنقشــت جدرانــه ومداخلــه باآليــات القرآنيــة واألحاديث‬
‫النبويــة واألدعيــة المأثــورة‪ُ -‬وصفــت الحياة فيــه من ِقبل‬

‫ســابق فــي الدولــة العثمانيــة‪ .‬اســتمر هــذا الوضــع حتــى‬

‫مــن كل تلــك األوصــاف الزائفــة‪ ،‬ظــل الحريــم‬
‫محافظــا‬
‫ً‬

‫فــي الســابعة مــن العمــر‪ ،‬حيــث قامــت والدتــه الســلطانة‬

‫الغربيين بشكل خيالي مجاف للحقيقة‪ .‬ولكن على الرغم‬
‫علــى حرمتــه وأصالته فلم تتلطخ فيه قدســية العائلة التي‬

‫هــي مهــد األخــاق اإلســامية واألصالــة التركيــة‪ ،‬ألن‬

‫السالطين حرصوا أشد الحرص على أن يضعوا حواجز‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وفــرض نفوذهــن علــى الحكــم بشــكل لــم يكن لــه مثيل‬
‫عهــد الســلطان محمــد الرابــع الــذي تربع علــى العرش‬

‫"خديجــة تورهــان" بمســاعدة وتوجيــه ابنها الســلطان في‬
‫النصف األول من حكمه‪ ،‬ثم تركته ليحكم البالد بنفسه‪،‬‬
‫وراحت هي تنشــغل بتربية نســاء الحريم وترســيخ فكرة‬

‫عــدم تدخــل النســاء في شــؤون الدولــة والسياســة‪ ..‬وقد‬

‫يفعل على أرض الواقع‪.‬‬
‫مؤسســة الحريم‪ ،‬وهذا ما كان َّ‬

‫تدخــل بعــض أمهــات‬
‫العثمانيــة‪ .‬والبــد أن ننــوه هنــا‪ ،‬أن ُّ‬

‫العثمانية‪ ،‬أقامت لها حضارة راقية ال نظير لها في مسرح‬

‫اســتمرت هــذه التربيــة المحمودة حتى نهايــة عهد الدولة‬

‫السالطين في الحكم‪ ،‬كان خو ًفا منهن على زوال الدولة‬
‫العليــة‪ ،‬فذلــك أدى إلــى تدعيــم أركان الدولــة فــي وقت‬

‫ال‪ ،‬توجيهات الســلطانة "كوسم" والسلطانة‬
‫الضعف‪ .‬فمث ً‬

‫وال شــك أن هــذه القيــم اإلســامية التــي ن ّفذتهــا الدولــة‬
‫خــرج هــذه الحضــارة مــن‬
‫التاريــخ‪ ..‬وليــس بغريــب أن ُت ِّ‬
‫جــواري الحريــم؛ "الســلطانة الوالدة" أي والدة الســلطان‬
‫التــي تعنــي "‪( "First Lady‬الســيدة األولــى) فــي أيامنا هذه‪.‬‬

‫"تورهــان" التــي أبدينهــا فــي الشــؤون اإلداريــة‪ ،‬ربما كان‬

‫الحريم مدرسة قيم وأخالق‬

‫الخطأ والصواب فيما يخص اإلدارة‪ .‬يســكن في الحريم‬

‫في كونها مؤسسة تعليم تطبيقي تسعى إلى تربية الجواري‬

‫الســلطة والصالحيــات التامــة داخــل جنــاح الحريم فهي‬

‫فــي الحريم على األخالق اإلســامية الســامية‪ ،‬ويتعلّمن‬

‫ا علــى أنهمــا تمتلــكان المعرفــة الكافيــة للتمييز بين‬
‫دليــ ً‬

‫إن الوظيفة األساسية التي يتقلّدها الحريم‪ ،‬كانت تتجلى‬

‫أهل الســلطان مع‬
‫الخدام من الجواري‪ ..‬أما َمن يمتلك‬
‫ُ‬
‫ّ‬

‫يتعرفن‬
‫اللواتــي َ‬
‫ســي ُقمن بخدمة القصر‪ .‬كانت الجــواري ّ‬

‫والــدة الســلطان‪ .‬وأمــا المشــرف علــى‬
‫الخــدم والعمــال‬
‫َ‬

‫القراءة والكتابة‪ ،‬ثم يتل ّقين العلوم الدينية واالجتماعية من‬

‫إن مــن أهــم المســائل التــي يــدور النقــاش حولها في‬
‫هذه األيام عن الحريم والتي تم تفسيرها خط ًأ‪ ،‬هي مسألة‬

‫القصر واألدب في الحديث والمعاملة‪ ..‬ووف ًقا للقابليات‬

‫ال‪ ،‬فهــو شــخص يســمى "آغــا الحريــم"‪.‬‬
‫نســاء ورجــا ً‬

‫جانــب‪ ،‬ومــن جانب آخر يتعلّمن كيفية التعامل مع أهل‬

‫كــن يتعلّمــن كذلك فــن الموســيقى أو مهنة‬
‫والمواهــب‪ّ ،‬‬

‫الجــواري‪ ..‬مــن المعلــوم أن الجــواري هــن مــن أســرى‬

‫الخياطــة أو مهنــة التطريــز وغيرهــا من المهــن‪ ..‬ومن ثم‬

‫التعرض‬
‫معاملة األســرى والرفق بهــم‪ ،‬وعدم إيذائهم أو‬
‫ُّ‬

‫كن يرتقين إلى مرتبة "نائب المشرف"‪،‬‬
‫المتفوقات منهن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫بحســن‬
‫الحــروب‪ ،‬ومــن المعلــوم ً‬
‫أيضــا أن اإلســام أمر ُ‬

‫العثمانية وتعاملت مع األســرى برفق‪ ،‬وسعت إلى تربية‬
‫النســاء منهــم تربيــة إســامية‪ ،‬وبذلــت الجهــود لهدايتهن‬

‫إلــى اإلســام‪ ،‬ثــم مــن بعــد استئناســهن باإلســام قامت‬

‫أحرارا‪ ..‬نعم‪ ،‬هذا ما كان يوصي به العلماء في‬
‫بإطالقهن‬
‫ً‬

‫ومن ثم يتم تعيينهن إما إلى دائرة السلطان أو دائرة والدة‬
‫السلطان‪ ،‬وإما إلى دائرة زوجة السلطان أو دائرة فرد من‬

‫أهلــه‪ ..‬وأمــا الماهرات الذكيات منهــن‪ ،‬كان يتم ترقيتهن‬
‫درجــة درجــة مــن خــال تقييم أدائهــن‪ ،‬وفــي نهاية األمر‬

‫ُيل ََّق ْبن بـ"المعلّمة" ليقمن بخدمة الســلطان مباشــرة‪ .‬ولعل‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لما يجرح كرامتهم‪ ..‬فعلى هذا األســاس ســارت الدولة‬

‫كان يتــم توظيفهــن في القصر وف ًقــا الختصاصهن‪ ..‬وأما‬

‫‪31‬‬

‫الحريم جامعة حصينة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تــم تربيــة المئــات مــن الجواري فــي الحريم خــال فترة‬
‫االزدهــار‪ ،‬بيــد أن نســبة ‪ %90‬منهــن كــن‬
‫المتفوقات‬
‫يعملــن كخادمات‪ ..‬أما‬
‫ّ‬
‫من بيــن هذه الجــواري فكانت‬
‫تعمــل في خدمة الحريم وأهل‬
‫الســلطان فقــط مقابــل راتــب‬
‫مخصــص لهــن‪ ،‬كمــا لــم يكن‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذا النظــام دليــل علــى أن ترقية الجــواري كانت تتحقق‬
‫وف ًقا للكفاءات‪ ،‬وليس وف ًقا للشكل والجمال كما يزعم‬
‫المتفوقة في التعليم‪ ،‬الكاتبة‬
‫الكثير من الناس‪ .‬بل الجارية‬
‫ّ‬
‫جيدا‪ ،‬صاحبــة الكالم الطيب والمؤدب‪ ،‬هي َمن‬
‫القارئــة ً‬
‫كانــت تســتحق الترقيــة‪ .‬والبــد أن نلفت االنتبــاه هنا إلى‬
‫جــدا بنظام "األندرون"‬
‫أن نظــام الحريم هذا‪ ،‬كان‬
‫شــبيها ًّ‬
‫ً‬
‫ال أك ّفــاء موثوقيــن قادريــن علــى تق ُّلــد‬
‫الــذي ينشــئ رجــا ً‬
‫المناصــب اإلداريــة المهمة فــي أجهزة الدولــة العثمانية‪.‬‬
‫كانــت بعــض الجــواري ُتحــرر ويتــم تســريحها مــن‬
‫َّ‬
‫ــد َجهازها‬
‫ويقــدم لها وثيقة التســريح‬
‫الحريــم؛ حيــث ُي َع ُّ‬
‫َّ‬
‫ربــى وتع ّلــم ونشــأ ‪-‬مثلهــا‪-‬‬
‫لتتــزوج برجــل "أندرونــي" َت ّ‬
‫َّ‬
‫فــي القصــر الســلطاني‪ .‬كان الســلطان بنفســه يهتم بزواج‬
‫األندرونييــن مــع جــواري الحريــم‪ ،‬حيــث كانــت هــذه‬
‫المبــادرة مــن الســلطان‪ ،‬تعزز ثقة األندرني بــه وتزيد من‬
‫صدقه ووفائه تجاه دولته‪ .‬وال شك أن هذا األمر يبين لنا‬
‫مدى قوة المركزية وعمق جذورها لدى الدولة العثمانية‪.‬‬
‫كان يطلــق علــى الجــواري المســرحات من القصر اســم‬
‫َّ‬
‫"أهل القصور"‪ .‬هذا وقد كان القصر السلطاني يخصص‬
‫تتيسر أمور حياتهن‬
‫الرواتب وكل التسهيالت‪ ،‬للواتي لم ّ‬
‫ترم ْلن‪ ..‬أمــا اللواتي لم يرغبن‬
‫خــارج القصــر‪ ،‬أو للواتي َّ‬
‫فــي مغــادرة القصــر‪ ،‬كن ينلــن الحمايــة الكاملــة والحياة‬
‫الكريمة في الحريم طيلة حياتهن‪.‬‬

‫أبدا‪ ،‬إنما كان الســلطان يهتم‬
‫لهن أية صلة مع الســلطان ً‬
‫المتفوقات‬
‫فقــط ببعــض الجــواري المتع ّلِمات الذكيــات‬
‫ّ‬
‫اللواتــي تــم اختيارهــن مــن قبــل والــدة الســلطان أو‬
‫المشرف‪ ،‬ولم يكن يعلم شي ًئا عن غيرهن ولم يكن يرى‬
‫من األخريات واحدة‪.‬‬
‫إن التخطيــط المعمــاري للحريــم تــم تصميمــه علــى‬
‫شــكل جامعة حصينة ال تسمح بالدخول العشوائي إليها‬
‫حتــى للســلطان‪ ..‬ولعــل هــذا األمــر‪ ،‬يكفــي ألن ُيضحــد‬
‫بصف‬
‫كل االدعاءات التي تقول بأن الســلطان كان يقوم‬
‫ّ‬
‫مئات الجواري ويختار منهن من يريد‪ .‬لقد كان للحريم‬
‫تخطيــط معمــاري خــاص يمنــع رؤيــة ما يجــري داخله‪،‬‬
‫ويمنح لسكانه الحرية التامة في ممارسة الحياة اليومية‪.‬‬
‫مهما‬
‫أمرا ًّ‬
‫اســتمرارية الذُ ِّرية بالنســبة آلل عثمان كان ً‬
‫للغايــة‪ ..‬ومــع ذلــك كان ُيتو َّفــى بعــض أوليــاء العهد في‬
‫ســن مبكّ ــر بســبب أو بآخــر‪ ،‬أو لــم تكــن تنجــب بعــض‬
‫ّ‬
‫الجــواري األوالد‪ ،‬أو تلــد بعضهــا اآلخــر للســطان إنا ًثــا‬
‫فقــط‪ ..‬كل هــذه األمور‪ ،‬كانت من ضمن األســباب التي‬
‫دفعت الســاطين العثمانييــن إلى الزواج المتعدد‪ .‬والبد‬
‫أن نشــير في هذا المقام‪ ،‬إلى أن كل زوجات الســاطين‬
‫وجوارٍ ‪ -‬كانت سواسية أمام السلطان‬
‫العثمانيين‬
‫أحرارا َ‬‫ً‬
‫وأمــام الشــرع والقانــون‪ .‬بمعنــى أدق؛ كان كل ما يجري‬
‫فــي الحريــم عبــارة عــن حياة شــريفة ومنضبطــة تحكمها‬
‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫والجديــر بالذكــر أن أغلــب المعلومــات التــي دارت‬
‫حــول الحيــاة اليوميــة فــي مؤسســة "الحريــم"‪ ،‬تعــود إلى‬
‫القــرن التاســع عشــر الميــادي‪ ،‬أي إلــى الفتــرة التي بدأ‬
‫النفــوذ الغربــي يتوغــل في القصر العثماني وال ســيما في‬
‫الحريم منــه‪ ..‬وهذا دفع المؤرخين‬
‫إلــى تعميــم مــا كتبــوه عــن حيــاة‬
‫القصــر فــي القرن التاســع عشــر‪،‬‬
‫علــى مراحــل االزدهــار‬

‫أيضــا‪ ،‬وهــذا بطبيعــة الحال جاء بتقييمــات خاطئة خيالية‬
‫ً‬
‫ال تمــت إلــى الحقيقــة بصلــة‪ .‬أما الحقيقة التــي ال تتغير‪،‬‬

‫فهــي أن كل خطــوة تخطــى فــي الحريــم‪ ،‬كانــت مقيــدة‬

‫أبدا باإلفراط‬
‫بأنظمة منضبطة وقوانين صارمة ال تســمح ً‬

‫في الترف والبذخ‪ .‬بل إن حفالت تلك األيام التي كانت‬
‫تقــام فــي الحديقــة الخاصــة في حريــم قصر تــوب قابي‪،‬‬

‫كانت منضبطة بقواعد أخالقية‪ ،‬وكان المحتفلون ملزمين‬

‫بتطبيق هذه القواعد األخالقية بحذافيرها‪ .‬وقد استمرت‬
‫هــذه العــادة المحمــودة بعد انتقــال الســاطين العثمانيين‬
‫إلــى قصــر "دولمه باهشــه" و"تشــيراغان" و"يلديز" وقصر‬

‫"بشــكتاش" حتــى في األعــراس‪ ،‬واألعياد‪ ،‬والمناســبات‬
‫أيضا‪ ،‬وظلت مســتمرة‬
‫الدينيــة وغيرهــا مــن االحتفــاالت ً‬
‫علــى هــذه الوتيــرة حتــى نهايــة عهــد الدولــة العثمانيــة‪.‬‬
‫يمكن أن نجد كل ما ذُكر آن ًفا‪ ،‬في الكتب والذكريات‬

‫دونتها بعض السلطانات في أواخر العهد العثماني‪،‬‬
‫التي ّ‬

‫ويمكــن كذلــك أن نجــده فــي كتــب الباحثيــن المنصفين‬
‫والموضوعييــن الذيــن درســوا الحريــم العثمانــي دراســة‬

‫دقيقــة‪ ..‬ولعلنــا إذا انتبهنــا إلى اآليات القرآنية المنقوشــة‬
‫علــى جــدران قاعــة االســتراحة للســلطان والتــي تتعلــق‬

‫بالحيــاة األســرية والتربيــة واألخالقية‪ ،‬نتي ّقــن أن ما ُكتب‬
‫تماما‪.‬‬
‫عن الحريم من قِبل الغربيين مناف للحقيقة ً‬

‫إذن‪ ،‬إن الحريــم العثمانــي ‪-‬بعكــس مــا ُوصــف‪-‬‬

‫مدرســة أصيلة تقوم على المبادئ والقيم اإلســامية؛ من‬

‫أخالق وتعليم وســلوك وأدب ومعاملة‪ ..‬هذه المدرســة‬
‫اســتطاعت أن تحافــظ علــى هويتهــا األصيلــة ومنهجهــا‬
‫المصبــوغ بصبعــة اإلســام ســتة قــرون‪ ..‬لــذا‪ ،‬يجــب أن‬

‫تناول الحديث حول الحياة في الحريم العثماني باحترام‬
‫ُي َ‬

‫وبدون المســاس بحرمته وكرامتــه‪ ،‬وبالتالي َن ْقل الصورة‬

‫الحقيقيــة لــه دون التوغــل فــي الفانتزيــات والتحريــف‪.‬‬

‫واجب علينا أن نشــعر بالمســؤولية تجاه تاريخنا‪ ،‬ونوفي‬
‫ضحــوا بــكل غــالٍ ونفيس‬
‫حــق أجدادنــا األوفيــاء الذيــن ّ‬

‫دون تردد من أجل الرسالة العالمية اإلنسانية السمحاء‪..‬‬

‫ونعرفهم إلى العالم بأجمل‬
‫البد أن ِ‬
‫نعرف أجدادنا بحق‪ِّ ،‬‬

‫الصور واألشكال‪.‬‬
‫(*)‬

‫كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬ماهر جلقمة‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪33‬‬

‫إذا دام الربيع‬
‫بني الزهرات زهرتان؛‬
‫بالحبور م ْفعمتان‪،‬‬
‫نارضتان ر ّيانتان‪،‬‬
‫للخلود مرصودتان‪...‬‬
‫إنْ مل تعصف العواصف‪،‬‬
‫وتقصف القواصف‪،‬‬
‫فالربيع سيدوم‪،‬‬
‫واملوىت من جديد س ُيبعثون‪...‬‬
‫***‬

‫علوم‬

‫مرازي زهرة*‬

‫وحصنها من أن يدخلها َمن هو من غير أهلها‪،‬‬
‫مرضاة الخالق غايتك‪ ..‬ط ِّه ْر ساحة ق ْل ِبك ّ‬
‫وإال تزاحمت على األبواب عشرات األصنام وظهر الباطل ب َلبوس الحق‪ ..‬وبلباس الفكر‬
‫تل ّب َس ْت األهواء والشهوات‪ ،‬وباسم الجهاد اقت ْ‬
‫ُرفت الجرائم وار ُتكبت الحماقات‪.‬‬
‫املوازين‬

‫رسطان الثدي‬

‫خطر قد متنعه الرضاعة‬

‫ان ب َِوا ِل َد ْي ِه‬
‫‪‬و َو َّص ْي َنا ا ِ‬
‫إل ْن َس َ‬
‫قال اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫ــن َو ِف َصا ُل ُه ِفي‬
‫َح َم َل ْت ُــه ُأ ُّم ُــه َو ْه ًنا َع َلى َو ْه ٍ‬
‫ــك ِإ َلــي‬
‫اش ُ‬
‫ــك ْر ِلــي َو ِل َوا ِل َد ْي َ‬
‫َع َام ْي ِ‬
‫ــن َأ ِن ْ‬
‫َّ‬
‫ا ْل َم ِص ُير‪(‬لقمــان‪ .)14:‬أثبتــت الدراســات حجــم المعانــاة‬

‫الحقيقية للمرأة أثناء الحمل والوضع من إرهاق الجملة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫األم مولودهــا تقوم‬
‫العضليــة والعظــام‪ .‬وإذا مــا وضعــت ّ‬

‫‪34‬‬

‫ال بتغذيتــه عــن طريــق الرضاعــة الطبيعيــة التــي ال تفتأ‬
‫أو ً‬
‫الدراســات تؤكــد أهميتهــا بالنســبة للمولود؛ مــن تزويده‬
‫بالعناصــر الضروريــة لبناء جســمه من عظــام وعضالت‪،‬‬

‫باإلضافة إلى وقايته من مختلف األمراض والتشــوهات‪.‬‬

‫األم ال يــزال موضع‬
‫ولكــن أثــر الرضاعــة الطبيعيــة على ّ‬
‫جــدل بيــن الباحثين‪ ،‬فمنهم من يؤكد األثر الســلبي لهذه‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الرضاعة الطبيعية من حيث تعرض المرأة لمجموعة من‬

‫علــى المــرأة إرضــاع المولــود في شــهوره األولى مع أو‬

‫وخصوصا الكالسيوم‪ ،‬مما ينتج عنه مرض َتر ُّقق العظام‬
‫ً‬

‫تكمــن فــي مــدة اإلرضــاع التــي ذكرهــا القــرآن الكريــم‪،‬‬

‫الــدم‪ ،‬ونقــص العناصــر المعدنية‬
‫المضاعفــات؛ مــن فقــر ّ‬

‫بــدون الرضاعــة االصطناعيــة‪ .‬ولكــن المفارقــة العجيبــة‬

‫السن‪ ،‬حتى إن بعضهم ربط‬
‫التقدم في‬
‫(‪ )Oestéoporose‬عند ّ‬
‫ّ‬

‫وحددهــا بحوليــن كامليــن لمــن أراد إكمــال الرضاعــة‪:‬‬
‫ال َد ُه َّن َح ْو َل ْي ِن َكا ِم َل ْي ِن ِل َم ْن َأ َر َاد َأ ْن‬
‫ات ُي ْر ِض ْع َن َأ ْو َ‬
‫‪‬وا ْل َوا ِل َد ُ‬
‫َ‬
‫ي ِتم‬
‫اع َة‪(‬البقرة‪ .)233:‬بينت النتائج أن النســاء الالئي‬
‫الر َض َ‬
‫ُ َّ َّ‬
‫يتعرضــن لنفس‬
‫يرضعــن أوالدهــن أقــل من ســتة أشــهر‪ّ ،‬‬

‫لألم‪.‬‬
‫خطر اإلصابة بســرطان الثدي‪ ،‬بالرضاعة المتكررة ّ‬
‫مؤخــرا بعض البحــوث لتؤكد أن قيــام المرأة‬
‫ثــم جــاءت‬
‫ً‬

‫ضد‬
‫بدورها الطبيعي من حمل وإرضاع‪ ،‬هو بمثابة لقاح ّ‬
‫ا للرضاعة هذا‬
‫اإلصابــة بســرطان‬
‫الغــدة ال ّلبنية‪ .‬فهل فعــ ً‬
‫ّ‬
‫الدور المصيري؟‬

‫لــم يســبق لهــن اإلرضــاع‪ ،‬إال أن خطر اإلصابة بســرطان‬

‫الغــدة‬
‫فيهــا ‪ 114‬حالــة ذات تشــخيص مؤكــد لســرطان‬
‫ّ‬

‫ينمــو الثــدي عنــد المــرأة عنــد بداية بلوغهــا وهو من‬

‫نســبة خطــر اإلصابــة بســرطان الثــدي عند النســاء الالئي‬

‫أجريت دراســة ميدانية في الجزائر‪ ،‬كان حجم العينة‬

‫الثــدي ينخفــض كلمــا ازدادت المــدة عــن الســتة أشــهر‪.‬‬

‫اللّبنية‪ ،‬تخضع لمختلف العالجات‪ ،‬وذلك بالمستشــفى‬

‫الصفــات األنثويــة‪ ،‬وبالتالــي يتكون الثــدي المكتمل من‬

‫الجامعي لوالية سيدي بلعباس‪.‬‬
‫ــمت العينــة المتكونــة مــن ‪ 114‬مريضــة‪ ،‬علــى‬
‫ُق ِّس ْ‬
‫مجــاالت عمريــة مختلفــة تتــراوح مــا بيــن العقــد الثانــي‬
‫علمــا بــأن‬
‫‪ 59‬ســنة‪ ،‬نســب َة ‪ %70‬مــن العينــة المدروســة‪ً .‬‬

‫الســن هو أول عامل خطير يســبب اإلصابة بســرطان‬
‫هذا‬
‫ّ‬

‫الثــدي‪ ،‬لــذا يلزم على المرأة إجــراء الفحوصات الدورية‬
‫الكتشــاف المــرض في أول مراحله‪ .‬وهــذه النتيجة ّبينت‬
‫سن اليأس‪.‬‬
‫أن خطر اإلصابة يزداد عند بلوغ المرأة ّ‬

‫بعــد ذلــك تــم تصنيــف المريضــات وفــق عمــر بداية‬
‫اإلنجاب أو ما يدعى (‪ ،)Parité‬مما جاء بنتيج ٍة هي أن أكثر‬

‫ال ّلبنيــة‪ ،‬والنســيج الشــحمي الــذي يعطــي للثــدي شــكله‬
‫وحجمه‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والعقــد الثامــن‪ ،‬بحيــث يمثل المجال العمــري بين ‪-40‬‬

‫نســيجين اثنيــن‪ ،‬همــا النســيج‬
‫الغدة‬
‫ّ‬
‫الغــدي الــذي يمثــل ّ‬

‫الغدي من مسالك ناقلة ل ّلبن تبدأ من‬
‫يتكون النسيج ّ‬

‫تجويف محاط بخاليا مفرزة‪ ،‬حيث‬
‫يتجمع الحليب في‬
‫ّ‬
‫هذه التجاويف‪ ،‬ثم يتم تحويله عبر المسالك مباشرة إلى‬
‫الحلمة‪ .‬يتم إفراز الحليب‬
‫اعتمادا على التنبيه الممارس‬
‫ً‬
‫علــى الحلمــة مــن ِقبــل المولــود بعمليــة الرضاعــة‪ ،‬ممــا‬

‫يجعل الخاليا ال ّلبنية تستنفر لتوفير أكبر كمية من الغذاء‪.‬‬

‫إن عمــل‬
‫الغــدة اللبنيــة ال يتحقــق إال أثنــاء الــوالدة‬
‫ّ‬

‫والرضاعة‪ ،‬أما في معظم األوقات من حياة المرأة‪ ،‬تبقى‬

‫مــن ‪ %35‬مــن المريضــات أنجبن ألول مــرة بعد الثالثين‬

‫الغدة في حالة سكون‪ ،‬ولكن هذا ال يمنع من تأ ّثرها‬
‫هذه ّ‬

‫وما أثبتته الدراســات التي ّبينت أن إنجاب الطفل األول‬

‫إفرازات دورية من هرموني األستروجين والبروجسترون‬

‫من العمر‪ ،‬مما يتيح لنا فرصة المقارنة بين ما وصلنا إليه‬
‫قبل الثالثين من العمر‪ ،‬يقلل من خطر اإلصابة بســرطان‬

‫الثــدي نســبة ‪ ،%25‬فــي حيــن يزيــد الخطــر بنفس النســبة‬

‫(‪ )%25‬عند النساء الالئي لم يسبق لهن اإلنجاب‪.‬‬

‫الــدورة الجنســية‪ ،‬إذ تتلقــى‬
‫بالتغيــرات الهرمونيــة خــال ّ‬
‫اللذيــن يؤديــان إلى نشــاط مؤقــت يتبعه عــودة للخمول‪.‬‬
‫الدم‪ ،‬يؤدي‬
‫كمــا أن ارتفاع نســبة الهرمونــات األنثوية في ّ‬

‫الغدية‬
‫تتحول بعــد ذلك إلى‬
‫إلــى انقســام متتــال للخاليــا ّ‬
‫ّ‬

‫الرضاعــة علــى الســرطان أو منعــه‪ ،‬باعتبارهــا الوظيفــة‬

‫المرضية وانخفاض لكمية الهرمونات األنثوية في بالزما‬

‫هــو الرضاعــة الطبيعيــة‪ ،‬وذلــك بهــدف معرفــة تأثير هذه‬

‫سببا في إضعاف انقسام الخاليا‬
‫تعمل بنشاط‪ ،‬مما يكون ً‬

‫األساســية للثــدي‪ .‬كانــت النتيجــة مفاجئــة؛ حيــث قامت‬

‫الدم‪.‬‬
‫ّ‬

‫أبنائهــن‪ ،‬ألن تقاليد المجتمــع الجزائري ال تزال تفرض‬

‫(*) كاتبة وباحثة جزائرية‪.‬‬

‫حوالــي ‪ %61‬مــن المريضــات باإلرضــاع بعــد إنجــاب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أهم مقياس تم االعتماد عليه في مساءلة المريضات‬

‫الغدة‬
‫ســرطان‪ ،‬بينما في حالة اإلرضاع لمدة كافية‪ ،‬تظل ّ‬

‫‪35‬‬

‫أدب‬

‫مرام البار*‬

‫الحب عطاء‬

‫فــي بقعــة مــن األرض جــوادة بالخيــر‬
‫والبــركات‪ ،‬حيــث تتمتــم شــفاه الســماء‬

‫وتشع عيونها الزرقاء بالسالم‪،‬‬
‫بالرحمة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وحيــث العصافيــر متكئــة علــى أذرع األشــجار ُت ِ‬
‫رســل‬

‫زغاريدهــا وترانيمها وبهجتها للحياة‪ ..‬وقفت األم ترقب‬
‫ابنها وهو يلهو حولها بطائرته الورقية الملونة‪.‬‬

‫ا بــأن يكــون غــد األمة به‬
‫رمقتــه بعينيــن تفيضــان أمــ ً‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تماما‬
‫أجمل‪ ،‬وأن يمتد نمو غرستها في االتجاه الصحيح ً‬

‫‪36‬‬

‫تتوعد فتى الطائرة الورقية وتهدده بأن تشكوه لوالدها‪.‬‬

‫توا إلى ابنها لتستفســر منه عن سبب‬
‫ســارت أم الفتى ًّ‬

‫بــكاء الطفلــة‪ ،‬فأخبرهــا بأنهــا طلبــت منــه طائرتــه الورقية‬
‫لتلعب بها‪ ،‬لكنه رفض منحها الطائرة دون مقابل‪.‬‬

‫أصغــت األم لحديــث ابنهــا باهتمــام‪ ..‬التفتــت إليــه‬

‫وحنوا‪ ،‬وقالت واالبتســامة الوديعة‬
‫بعينيــن طافحتيــن رقة‬
‫ًّ‬
‫محياهــا‪" :‬إيــ ٍه ُبنــي‪ ،‬يــا أملي األخضــر‪ ،‬هات يدك‬
‫تكســو ّ‬
‫ّ‬
‫وجنبا إلــى جنب‪ ،‬كم أشــتاق أن‬
‫يــدا بيــد‬
‫وتعــال ّ‬
‫نتمشــى ً‬
‫ً‬
‫معا على بســاط التأمل الســحري‪ ،‬نتتلمذ سوية في‬
‫نحلق ً‬

‫ال‬
‫نحو الشمس‪ ..‬تريده‬
‫طبيبا للقلب‪ ،‬وبط ً‬
‫ً‬
‫مهندسا للروح‪ً ،‬‬
‫عظيمــا في دنيا األخالق‪ .‬وبينما تنســكب اآلمال الوردية‬
‫ً‬

‫هيــا‪ ..‬تعال راقب معي هــذي األزهار‬
‫مدرســة الطبيعــة‪ّ ..‬‬

‫بأنفاس الزهر على وجهها الحالم‪ ،‬فتنفســت بعمق حتى‬

‫أجاب الفتى ببراءة‪" :‬ال شيء أسمع يا أمي"‪ ..‬قالت‬

‫مشــبعة‬
‫التواق‪ ،‬تدفقت نســمة ناعســة‬
‫على قلب األمومة ّ‬
‫ّ‬
‫اســترواحا‪..‬‬
‫تنكــس عينيها‬
‫لكأنهــا تحتســي الهــواء وهــي ّ‬
‫ً‬

‫ولكــن أفاقهــا مــن شــرودها صــوت بــكاء مفاجــئ لفتــاة‬
‫صغيــرة تعــدو باندفاع غاضب صوب أفراد أســرتها وهي‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بم توشوش آلذان قلبك الصغير"‪.‬‬
‫وخبرني َ‬
‫ّ‬

‫كثيــرا‪،‬‬
‫األم برفــق‪" :‬أمــا أنــا فأســمعها تقــول إنهــا تحبنــا‬
‫ً‬

‫تقــدم لنــا قلوبهــا العطــرة مجا ًنــا ودون مقابــل‪،‬‬
‫ولذلــك ّ‬
‫عربو ًنا لمحبتها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫هلــم بنــا نتعلــم مــن حكيــم‬
‫إيــه يــا مالكــي الصغيــر‪ّ ،‬‬

‫الجميل‪" :‬هلل ما أعذبه من شعور! أحسست يا فلذة كبدي‬

‫أســخاه‪ ..‬يعيــش فــي أحشــائه الدولفين والقرش فيتســع‬

‫إلــى جوفــي‪ ،‬فكل ما فــي مصنع الحياة قد تعاون إلعداد‬

‫ســمى بالبحــر‪ ..‬هلل ما‬
‫الم ّ‬
‫الــدروس الزرقــاء‪ ،‬ذاك الكريــم ُ‬

‫وأنــا أشــرب هــذه القطرات‪ ،‬بأني أدخلت الحياة بأســرها‬

‫قلبه لإلثنين على السواء‪ ..‬يمخر أفالكه المؤمن والكافر‬
‫مرحبــا بهــذا وال يعبــس بوجــه ذاك‪ ..‬يحمــل‬
‫فــا ينحنــي ِّ‬

‫هــذا الكــوب الصغيــر من عصيــر الفراولة‪ ،‬األيــادي التي‬

‫بــذرت‪ ،‬والتربــة التــي احتضنت‪ ،‬والســحب التي أمطرت‬

‫ســاطين الناس كعبيدهــم‪ ،‬وأحياءهــم كأمواتهم‪ ،‬ويأكل‬

‫لسقيا األرض‪ ،‬بل‬
‫فأنبتت‪ ،‬والريح التي ساقت السحاب ُ‬

‫مــن راحتيه الزرقاء؛ اإلنســان والحيــوان والنبات بال فرق‬

‫إن هــذا الغمــام‬
‫المحمل بالطهر والبركة والعذوبة‪ ،‬ما هو‬
‫ّ‬

‫فاغرا فاه‪،‬‬
‫الحب والعطاء"؟ أصغى االبن إلى حديث أمه ً‬

‫البحــر المالحة‪ .‬إنه االبن الشــرعي للشــمس والبحر‪ ،‬لذا‬

‫وشــال الحيرة ينســكب من‬
‫في عذوبة منطقها الجميل‪،‬‬
‫ُ‬

‫إنها لعمري مدرسة عظيمة‪ ،‬وعائلة كريمة‪ ،‬ومستودع‬

‫وال حســاب‪ ..‬أفــا ســألته يــا صغيــري عــن دســتوره فــي‬

‫أشــعة الشــمس الالفحة بمياه‬
‫فــي الحقيقــة إال ثمرة قران ّ‬

‫متفكرا‬
‫محمل ًقــا في عينيها الســوداويتين بدهشــة البــراءة‪،‬‬
‫ً‬

‫كريما معطاء كوالديه‪.‬‬
‫سخيا‬
‫كان‬
‫ً‬
‫ًّ‬

‫عينيه الصغيرتين‪.‬‬

‫عجيــب‪ ،‬هــذه الحيــاة المغلفــة باألســرار والمعجــزات‪.‬‬

‫تابعــت األم الحكيمــة حديثها العــذب وهي تنظر في‬

‫إنمــا أنــا وأنت ‪-‬يا ضيائي‪ -‬نشــرب اآلن نتاج المســكونة‬

‫وتشــد على كلتا يديه قائلة‪:‬‬
‫محبوبهــا بعينين محمومتين‪،‬‬
‫ّ‬

‫بأكملهــا؛ ســواعد بشــرية زرعــت وحصــدت وعصــرت‪،‬‬

‫"أواه يــا طائــري الصغيــر‪ ،‬مــا بال هــذي األرض تؤرجح‬
‫ّ‬

‫والطــود والحصــاة‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬واألبيض واألســود‪،‬‬
‫والعا ِلم والجاهل‪ ،‬دون تذمر وال تقصير‪.‬‬
‫أمــا بناتهــا األشــجار‪ ،‬فمــا أشــبههن بأمهــن األرض؛‬

‫الحســن‪ ،‬أميــرات الجمال‪..‬‬
‫لهــف قلبــي عليهــن فاتنــات ُ‬

‫شهيا‬
‫إنهن يمألن أياديهن بالثمار‪ ،‬ويقدمنها بسخاء غذاء ًّ‬
‫طعاما لهــن‪ ..‬أال ما‬
‫لألحيــاء‪ ،‬فــي حيــن يكتفين بالتــراب‬
‫ً‬

‫أجمــل األرض‪ ،‬ثــم مــا أجمل ما تحمل فــوق ظهرها من‬

‫وعظ وتقى"‪.‬‬

‫حرصا على أن ال‬
‫كان االبن يحتضن وجه أمه بعينيه‬
‫ً‬

‫الملهِ ــم وتفاصيل حديثها‬
‫يفوته شــيء مــن تعابير وجهها ُ‬

‫عظيما على فطرته‬
‫المتــرع بالشــهد‪ ،‬إن لكلماتها ســلطا ًنا‬
‫ً‬
‫السليمة‪ .‬وقد الحظت األم بفطنتها خشوع بطلها الواعد‪،‬‬
‫وهــي تغــذي الســير باتجــاه بائــع العصيــر لشــراء بعــض‬

‫المرطبــات‪ .‬ومــا إن جلســا علــى مقعد الحديقة وارتشــفا‬

‫بضــع قطــرات مــن عصيــر الفراولــة‪ ،‬حتى أســدلت األم‬
‫أجفانها‪ ،‬وبابتســامة ســاخنة وعاطفة متدفقة تابعت البوح‬

‫تربة وسواعد سحب وسواعد ريح وسواعد شمس"‪.‬‬

‫ارتعشت شفتي الفتى واخض ّلت عيناه من شدة التأثر‬
‫ِ‬
‫"أماه!‬
‫رويدك‪ ..‬رف ًقا بقلبي الصغير‪ ..‬فلقد‬
‫فصاح منفع ً‬
‫ال‪ّ :‬‬

‫ال‬
‫وعطرا‪..‬‬
‫عت رئتاي جمــا ً‬
‫ُ‬
‫تشــب ْ‬
‫تنفســت هــذا اليوم حتى ّ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫بوركت من أم مؤمنة حكيمة في كلماتها‬
‫الشفاء والعافية‪..‬‬
‫ُ‬

‫أثري ِت روحي يا‬
‫كم صالحتيني مع نفسي ومع الطبيعة‪ْ ..‬‬
‫ِ‬
‫فداك روحي"‪.‬‬
‫أمي‪،‬‬

‫تفجــر الرجولــة المبكرة في‬
‫تهللــت أســارير األم مــن ّ‬

‫فقبلتــه بيــن عينيــه بحنــان وهــي‬
‫كلمــات بطلهــا الصغيــر‪ّ ،‬‬

‫تــردد‪" :‬بــل فــداك أمــك يــا روحهــا"‪ّ .‬أمــا هو فمــا تمالك‬
‫نفســه بعــد درس الجمال‪ ،‬فحمــل طائرته الورقية وانطلق‬
‫مســرعا صــوب الطفلــة الحزينــة يقدم لها الطائرة بســخاء‬
‫ً‬

‫نفــس وطيب خاطر‪ ..‬شــكرته الطفلــة وعائلتها‪ ،‬ووعدوه‬

‫أصر‬
‫أن يعيدوا له طائرته قبل ما يغادروا المكان‪ ،‬إال أنه ّ‬
‫علــى أن تحتفــظ الصغيــرة بها وتعتبرهــا هدية من صديق‬

‫تماما كأستاذته الطبيعة‬
‫يحلم بأن يصير من عظماء الغد‪ً ..‬‬
‫وعائلتها الكونية البديعة‪.‬‬

‫(*) أديبة إماراتية‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فراحــت تسترســل في العــزف على قيثــارة الفكر والتأمل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بلطــف وحنــان جميــع عيالهــا بيــن ذراعيهــا دون انتظــار‬
‫ِ‬
‫ــم تعتنــي بــكل أبنائهــا دون تمييــز؟ إنهــا ترضع‬
‫مقابــل؟ ل َ‬
‫الذئــب والخروف‪ ،‬والنحلة والذبابة‪ ،‬والنخلة والحنظلة‪،‬‬

‫وســواعد كائنــات ســاهمت فــي تلقيح النبات‪ ،‬وســواعد‬

‫‪37‬‬

‫تربية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫على قدر ما تعطي من قلبك تكن منزلتك عند خ ّالق القلوب‪ .‬أما منزلتك عند الناس‬
‫ففي مرآة تصرفك معهم تجدها‪ْ ،‬‬
‫الناس كأنك واحدٌ من سوادهم‪،‬‬
‫خالط َ‬
‫وليكن نظرك دائ ًما بالحق معل ًقا‪ ،‬وإليه ناظ ًرا‪ ،‬ولمرضاته مبتغ ًيا‪.‬‬

‫العنف‬

‫املوازين‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫مسبباته ودوافعه‬

‫‪38‬‬

‫لقــد ُعنــي علمــاء النفــس االجتماعــي‬
‫منــذ أمــد بعيد‪ ،‬بقضية األســباب الكامنة‬
‫وراء "العــدوان" بيــن الناس (أو العدوان‬
‫البيــن الشــخصي ‪ .)Interpersonal Aggression‬ويــدور الجدل‬
‫منــذ ســنين حــول دور الوراثــة مقارنــة بــدور البيئــة فــي‬
‫العــدوان‪ ،‬وفيمــا إذا كان الســلوك العدوانــي لــدى البشــر‬
‫بيولوجيا‪ ،‬أم أنه ينشــأ عن التعلم ويتأثر بمؤثرات‬
‫يتحــدد‬
‫ًّ‬
‫"مسالما" في طبيعة‬
‫بيئية‪ .‬فثمة اتجاه يرى الكائن اآلدمي‬
‫ً‬
‫تركيبــه‪ ،‬كل مــا فــي األمر أن "البيئة" ‪-‬بما فيها من "ثقافة"‬
‫تنمي لديه نزعة العدوان‪.‬‬
‫منحرفة‪ -‬هي التي ّ‬
‫وثمــة اتجــاه ثان يرى الكائــن اآلدمي "صفحة بيضاء"‬
‫تحولها "التنشئة" إلى "مسالم أو عدواني"‪.‬‬
‫من الممكن أن ّ‬
‫واتجــاه ثالــث يــرى أن "اإلحبــاط" هــو الســبب فــي‬
‫إنماء النزعة "العدوانية"؛ فما دامت حاجات اإلنســان لم‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"تشــبع" بشــكل يحقــق توازنه الداخلي‪ ،‬فإنــه مضطر إلى‬
‫أن يســتجيب للظواهر اســتجابة "عدوانية" ما دامت تقف‬
‫ال دون اإلشباع‪.‬‬
‫حائ ً‬
‫ويواكــب هــذا االتجــاه‪ ،‬اتجــاه ال يقصــر األمــر علــى‬
‫اإلحبــاط أو عدمــه أو درجتــه وصلــة ذلك بالعــدوان‪ ،‬بل‬
‫أساســا‪ -‬أن عجــز اإلنســان عن إشــباع حاجته في‬‫يجــد‬
‫ً‬
‫التخلــص مــن حالــة "اإلحبــاط"‪ ،‬يضطــره إلــى العــدوان‬
‫بصفته استجابة حتمية لإلحباط‪ .‬على أن أشد االتجاهات‬
‫مفارقة‪ ،‬هو االتجاه الذاهب إلى أن العدوان يمثل حاجة‬
‫فطريــا يرثــه الكائــن اآلدمــي بـ"الفعــل"‪ .‬وهــذا‬
‫دافعــا‬
‫ًّ‬
‫أو ً‬
‫يعنــي أن اإلنســان يعيــش في عالــم متغير‪ ،‬ويســيطر على‬
‫ســلوكياته مــن خالل أفعالــه ومن خالل تعرفــه بمحيطه‪،‬‬
‫وهــو قابــل بصــورة إيجابيــة للتغيــرات المذهلــة‪ ،‬بحيــث‬
‫يكتســب اإلنســان قوة خارقة تؤهله لممارسة عنف يفوق‬

‫إن الجيل الحــايل يفتقد العمــق الثقايف بعد أن‬

‫عنف كل حيوانات الطبيعة والبحار‪ .‬وتتجلى هذه القدرة‬

‫فشلت املؤسســة األرسية والرتبوية والتعليمية‬

‫بصــورة فرديــة وجماعيــة عبــر التاريخ البشــري الذي هو‬

‫يف دورهــا التوجيهــي والرتشــيدي وأصبــح‬

‫فــي جانب منه سلســلة جرائم ومحــاوالت لتفجير الكرة‬

‫التليفزيون واإلنرتنت هو املوجه واملريب‪.‬‬

‫نهائيا‪ ،‬كما يكتســب قوة خارقة‬
‫األرضيــة وإفنــاء اإلنســان ًّ‬

‫إلعادة بناء ما دمرته الحرب في الطبيعة واإلنسان نفسه‪.‬‬

‫وهكــذا يلبــث يــدور بيــن ثنائيــة الخيــر والشــر‪ ،‬الدمــار‬

‫للمعالجــة‪ ،‬ذلــك أن اإلجــراءات األمنيــة تحــاول منــع‬

‫والعمار؛ الشر المتمثل بالجانب األبرز منه في الحروب‬

‫العنــف المدفــوع بالكثيــر مــن العوامل‪ .‬ولمــا كان العنف‬

‫الفرديــة والجماعيــة‪ ،‬العالميــة واإلقليمية‪ ،‬الســيكولوجية‬

‫ســلوكا‪ ،‬فإنه يحتــاج لضمان تواصله واســتمراريته‪ ،‬طاق ًة‬
‫ً‬
‫تكمــن فــي دوافعــه‪ .‬ومــن ثــم فــإن أي تعامل مــع ظاهرة‬

‫والميتافيزيقية‪ ،‬والخير المتمثل في صناعة كل وسائل البناء‪.‬‬
‫أمــا التصــور اإلســامي للظاهــرة‪ ،‬فإنــه مــن الوضوح‬

‫العنف ال يأخذ بعين االعتبار عوامله األساســية‪ ،‬سيكون‬

‫بمــكان كبيــر أن الكائــن يــرث بـ"القــوة" مبــادئ "الشــهوة‬

‫العــاج المطلــوب‪ ،‬وربما أطال‬
‫جتــزأ ال يــؤدي‬
‫تعامــ ً‬
‫ا ُم َ‬
‫َ‬

‫والعقل" أو "الذات والموضوع" أو "الخير والشر"‪ ،‬وإلى‬

‫عمر الفيروس الحامل لممانعة المودة وجذره‪.‬‬

‫أن عملية "التأجيل" التي يمارسها في بحثه عن اللذة هي‬

‫فلــم يكن اإلنســان عني ًفا يوم ولدتــه أمه‪ ،‬بل إن عنف‬

‫التــي تترجــم "القــوة" إلى "فعل" إيجابي هو "المســالمة"‪،‬‬

‫الطبيعــة وعســر الحيــاة والتربيــة وعنف اآلبــاء‪ ،‬هو الذي‬

‫وعدمــه (أي عــدم التأجيــل) هو الذي يترجــم "القوة" إلى‬
‫وبإمكاننــا أن نتعــرف علــى هــذه الحقيقــة إذا أدركنــا‬

‫بروزا لكل ســلوك‬
‫أن إيــذاء اآلخريــن هو المظهر األشــد ً‬

‫"شــهوي"‪ .‬فالممارسات "الشــهوية" الفردية مثل الشراهة‬
‫فــي الطعــام‪ ،‬أو المال‪ ،‬أو الجنــس‪ ،‬أو اللهو‪ ...‬إلخ‪ ،‬إنما‬
‫تعكــس آثارهــا علــى "الــذات" الشــخصية دون أن تمتــد‬

‫إلــى إيــذاء اآلخريــن‪ .‬أما الممارســات الشــهوية المرتبطة‬

‫أمــرا من الوضوح‬
‫باآلخريــن‪ ،‬فإن انعكاســها عليهم يظل ً‬

‫بمكان كبير‪ .‬فالقتل‪ ،‬أو التجريح‪ ،‬أو الســب‪ ،‬أو اإلهانة‪،‬‬
‫أنماطا‬
‫بــل والحقــد علــى اآلخرين بعامة والحســد‪ ،‬تظــل‬
‫ً‬

‫بــروزا مــن األنمــاط األخــرى المتصلــة‬
‫"عدوانيــة" أشــد‬
‫ً‬

‫بالبحث عن "التفوق" أو "االستطالع"‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫جذور العنف‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"فعل" سلبي هو "العدوان"‪.‬‬

‫يغــرز العنــف فــي خاليــا الدمــاغ حتــى حملتــه صبغياتــه‬

‫الوراثية فكاد أن يكون مورو ًثا‪.‬‬

‫وهنــا تظهــر أهميــة دروس التربيــة لتعريــف النــشء‬

‫بالمبادئ اإلنسانية النبيلة التي تحث على الود والتواصل‪،‬‬
‫والعدالــة واألخــوة‪ ،‬والتفتــح علــى الــرأي اآلخــر‪ ،‬وعدم‬

‫نصــب العــداء للمعتقــدات األخــرى‪ ..‬وبذلــك نصــون‬

‫المراهقين والشباب‪ ،‬ونحصنهــم ضد المفاهيم المتطرفة‬
‫التــي تزرع الكراهية لــكل من يخالفنا الرأي والمعتقد‪-‬‬‫وبــذور الفتنة والقســوة والعنــف‪ .‬ويرى الباحثون في هذا‬
‫المجــال أن أســباب هــذه الظاهــرة عديــدة نلخصهــا فــي‬

‫األنواع اآلتية‪:‬‬

‫األسباب التربوية‬

‫نفسيا أو‬
‫ضررا‬
‫قد تحدث بعض المشكالت التي تسبب‬
‫ً‬
‫ًّ‬

‫يــرى الدارســون أن العنــف ظاهــرة لهــا جــذور سياســية‬

‫ماديا على أفراد المجتمع‪ ،‬أو جماعة محددة منه‪ ،‬فيتولد‬
‫ًّ‬

‫مثــل أي ظاهرة أخــرى‪ -‬بالعديد مــن العوامل المتداخلة‬

‫طريق اســتخدام العنف‪ .‬ويعد التفكك األســري من أبرز‬

‫واقتصاديــة واجتماعيــة ونفســية‪ ،‬وهــي ترتبــط ‪-‬مثلهــا‬

‫لهــذه العوامل‪ ،‬ســتبقى كل المعالجــات قاصرة وال تمثل‬

‫ال ناجعة لها‪ ،‬ومهما تم من تغطية أمنية مكثفة ‪-‬على‬
‫حلو ً‬
‫أهميتهــا‪ -‬فإنهــا ســتبقى دون تحقيــق النتائــج المطلوبــة‬

‫تلك المشكالت االجتماعية‪ ،‬ألن التفكك األسري يعني‬

‫انهيــار الــدور األساســي لألســرة‪ ،‬الــذي من أبــرز معالمه‬
‫التنشــئة االجتماعيــة الســليمة‪ ،‬وتقويــة أواصــر العالقات‬

‫االجتماعية المهمة‪ .‬فاألســرة تشــكل تلقيــح ممانعة ضد‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والمتشــابكة مــع بعضها البعض‪ .‬وبــدون قراءة صحيحة‬

‫من خالل ذلك شــعور باإلحباط‪ ،‬ورغبة في االنتقام عن‬

‫‪39‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫األسباب االقتصادية‬

‫‪40‬‬

‫تنتشــر فــي بعــض دول العالــم اليــوم‪ ،‬حالــة مــن انعــدام‬
‫العدالــة فــي توزيــع الثــروات االقتصاديــة‪ ،‬فتظهــر فئة أو‬
‫فئات من المجتمع تنهج سياســة االحتكار‪ ،‬األمر الذي‬
‫يولد العديد من المشكالت االقتصادية المسببة لألعمال‬
‫العدوانيــة بقصــد تحقيــق غايــات اقتصاديــة‪ ،‬وإشــباع‬
‫حاجات مادية ونفســية‪ ،‬فتفشــي البطالــة‪ ،‬وتدهور القدرة‬
‫الشــرائية لسوء األوضاع االقتصادية‪ .‬وانخفاض مداخيل‬
‫مرتعا‬
‫خصبا لكل األفكار‬
‫الدولة‪ ،‬تجعل نفوس الشــباب ً‬
‫ً‬
‫المغريــة‪ ،‬وعرضــة لــكل إغــراء مــادي يســتعمل مصيــدة‬
‫لهــؤالء لتوريطهــم فــي أعمــال العنــف بطعــم إخراجهــم‬
‫مــن وضعيتهــم الصعبــة‪ ،‬التــي تتطلــب منهــم أحيا ًنــا بيع‬
‫أعضائهم بأثمنة بخسة‪ ،‬أو القبول بدخول سوق االتجار‬
‫بهم في مزاد النخاسة العالمي‪.‬‬

‫األسباب االجتماعية واإلحباط النفسي‬

‫يترتــب عــن األســباب االقتصادية الســالفة الذكر أســباب‬
‫اجتماعيــة‪ ،‬إذ بتدهــور االقتصــاد تتدهــور األوضــاع‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬وتفكك األواصر األســرية نتيجة اســتفحال‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫االجتماعــي والمحســوبية والرشــوة والفســاد اإلداري‪،‬‬

‫فيجــد الشــباب نفســه ‪-‬فــي عمــر العطــاء‪ -‬يفقد إنســانيته‬
‫وكرامتــه‪ ،‬ويحــرم مــن فــرص تقديــم كفاءاتــه‪ ،‬ويخنــق‬

‫إبداعه‪ ..‬فيجد الشباب نفسه في الثالثين من العمر يعيش‬
‫مرحلــة التقاعــد المبكر‪ ،‬لكن من دون شــروطه‪ ،‬ال عمل‬

‫وال أسرة وال أطفال وال استقرار مادي ونفسي‪.‬‬

‫ومــن هنــا يتكــون الشــعور بالتهميــش وفقــدان الثقــة‪،‬‬

‫ويزداد قوة بعد طول انتظار‪ ،‬فتصبح النفوس مهيأة لتقبل‬

‫أي فكرة تنادي لتغيير األوضاع ‪-‬مهما كانت وسائل هذا‬
‫التغييــر‪ -‬ألن الهــدف هــو تحطيم األوضــاع التي فرضت‬

‫عليــه العيــش فــي هــذه الظــروف القاســية وجعلتهم طبقة‬

‫مهمشــة‪ ،‬فتكون االســتجابة تلقائيــة لدعوة التغيير‬
‫منبوذة ّ‬

‫بالعنــف‪ .‬ومــن أهــم نظريــات علــم النفــس االجتماعــي‪،‬‬
‫نظرية تفسر السلوك العدواني وتربطه باإلحباط‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أمراض نفســية ّفتاكة تتحول بفعل الزمن إلى ممارســات‬
‫عدوانيــة‪ ،‬إذ تعــد األســرة النــواة األساســية للمجتمــع‪،‬‬
‫والتي في أحضانها ينعم الطفل بالعناية والرعاية والحب‬
‫واألمــان‪ .‬فهــي الوعــاء الطبيعــي الذي يحتضــن الفرد في‬
‫طفولتــه وحتــى شــبابه‪ ،‬بحيــث يتــم تزويــده إمــا بالعطف‬
‫ســليما‬
‫نموا‬
‫صحيحا يتميز بالقدرة على‬
‫ً‬
‫واالحترام فينمو ًّ‬
‫ً‬
‫التكيــف مــع محيطــه‪ ،‬أو بالقســوة واإلحبــاط أو التدليل‬
‫الزائــد‪ ،‬ممــا يعرقــل نمــوه الطبيعــي ويخلــق لديه مشــاعر‬
‫القلق وعدم الطمأنينة‪.‬‬
‫فاألســرة كالجســر الــذي تعبر عليه خصائــص الثقافة‬
‫أليــة أمــة إلــى أفرادهــا‪ ،‬فــي حيــن أن أســاليب المعاملــة‬
‫والتنشــئة األســرية هــي تلــك العربــة التي تســير على هذا‬
‫الجسر‪ ،‬وتنتقل القيم واالتجاهات والمعتقدات لألفراد‪.‬‬
‫وإضافــة إلــى ســوء المعاملــة األســرية اتجاه األبنــاء‪ ،‬فإن‬
‫المشــكالت األســرية كالطــاق والغيــاب الطويــل لألب‬
‫عــن البيــت‪ ،‬والمعاناة االقتصادية لألســرة‪ ،‬لها عالقة في‬
‫انحرافات األبناء الفكرية والسلوكية العدوانية‪.‬‬

‫مشــكل األميــة والبطالــة والفقــر والفاقــة والتهميــش‬

‫ففي حالة اليأس واإلحباط من تغيير الواقع‪ ،‬يتعرض‬

‫الفــرد إلــى تغيــرات ســلبية فــي التفكيــر والشــعور‪ .‬ففــي‬

‫مجــال التفكير‪ ،‬تقل أمام العقــل الخيارات والمحاوالت‬

‫والحلــول للتغلــب علــى العوائق‪ ،‬أما في جانب الشــعور‬

‫واإلحســاس‪ ،‬فــإن الفــرد فــي حالــة اليــأس واإلحبــاط‪،‬‬
‫يغلب عليه التشاؤم والشعور بنقص الكفاءة واالنهزامية‪،‬‬

‫فينخفــض مســتوى الــروح المعنويــة‪ ،‬وينعــدم األمــل في‬
‫المستقبل‪ ،‬وقد يتجه الفرد ‪-‬بناء على ذلك‪ -‬إلى التفكير‬

‫العدواني المنحرف لعالج المشكالت‪.‬‬

‫األسباب الفكرية‬

‫تعــود األســباب الفكرية لإلرهــاب والعنف والتطرف في‬

‫أغلبها‪ ،‬إلى معاناة العالم اإلســامي اليوم من انقســامات‬

‫فكريــة حــادة بيــن تيــارات مختلفــة‪ ،‬فمــن تيــار علمانــي‬
‫يدعو إلى بناء الحياة على أســاس مفاهيم حداثية دنيوي‬
‫وغيــر مرتبــط باألصول الشــرعية وال بالتقاليــد والعادات‬

‫والموروثــات االجتماعيــة األصيلــة‪ ،‬إلــى تيــار متعصــب‬
‫منغلــق يعــارض المدنيــة الحديثــة وكل ما يتصــل بالتقدم‬

‫الحضــاري‪ .‬ومــن األســباب الفكريــة األخــرى‪ ،‬تشــويه‬

‫صــورة اإلســام والمســلمين‪ ،‬وضآلــة االهتمــام بالتفكير‬
‫الناقــد والحــوار البنــاء مــن قبــل المربيــن والمؤسســات‬

‫إن أي تعامل مع ظاهرة العنف ال يأخذ بعني االعتبار‬

‫التربويــة واإلعالميــة‪ ،‬وســوء الفهــم والتفســير الخاطــئ‬
‫ألمــور الشــرع والديــن‪ ..‬والمشــكلة أن الجيــل الحالــي‬
‫يفتقــد العمــق الثقافي بعد أن فشــلت المؤسســة األســرية‬
‫والتربويــة والتعليميــة فــي دورهــا التوجيهي والترشــيدي‬
‫وأصبــح التليفزيــون واإلنترنــت هــو الموجــه والمربــي‪،‬‬
‫فأصبــح عند المتلقي اســتعداد فطــري لتقبل كل ما تمليه‬
‫عليــه هــذه الوســائل مــن ألــوان الفكــر العبثــي الســطحي‬
‫التمييعــي لمدركاتــه ومعارفــه‪ ،‬أو الفكــر األيديولوجــي‬
‫الموجه لتعبئة وشحن العقول بأفكار متطرفة‪.‬‬

‫عوامله األساسية‪ ،‬ســيكون تعام ً‬
‫ال ُمجتزَأ ال يؤدي‬

‫العالج املطلوب‪ ،‬ورمبا أطال عمر الفريوس الحامل‬
‫َ‬

‫ملامنعة املودة وجذره‪.‬‬

‫يظهر في التغطيات اإلعالمية لبعض الحوادث اإلرهابية‬
‫التــي تقــوم بها بعــض الجماعات المتطرفــة‪ ،‬حيث تقارن‬

‫وسائل اإلعالم بمبالغة مفرطة بين أفراد تلك الجماعات‬
‫وبقيــة أفــراد المجتمــع‪ ،‬وتصويــر الدولــة والمجتمع في‬

‫األسباب السياسية‬

‫وسائل اإلع ــالم‬

‫منحر ًفــا مضــا ًّدا‪ ،‬وفجــوة هائلــة بيــن الواقــع والمثــال‪،‬‬
‫يســتغله أصحاب الفكر المنحــرف من متطرفين وغيرهم‬

‫في برنامجهم القائم في األساس على المقارنة بين مثال‬
‫خيالــي والواقــع الموجــود‪ ،‬وهــي مقارنــة تثيــر اإلحبــاط‬

‫واليأس واالستفزاز عند بعض األفراد‪.‬‬

‫وتنمــي بعــض وســائل اإلعــام مشــاعر الكراهيــة‬

‫أفكارا تبــرر العنف وتكفر‬
‫والعدوانيــة التــي تولد بدورها‬
‫ً‬
‫اآلخر وتحرض على االنتقام‪ ،‬وذلك عندما تستفز بعض‬
‫تلــك الوســائل المشــاعر الدينيــة لألمــة بتجــاوز الثوابــت‬

‫العقدية‪ ،‬واالستهانة باألحكام الفقهية الراسخة‪ ،‬أو تزييف‬

‫وتحريــف النصــوص الشــرعية لغايــات معينــة‪ ،‬وكذلــك‬
‫اســتهداف األشــخاص باتهام النوايا والتهكم والسخرية‪.‬‬
‫ومن جانب آخر‪ ،‬ساعدت شبكة المعلومات العالمية‬

‫(اإلنترنــت) كوســيلة إعالميــة عالميــة‪ ،‬فــي نشــر األفــكار‬
‫واأليديولوجيــات المتطرفــة والمنحرفــة‪ ،‬من خالل بروز‬

‫فقه جديد عبر هذه الشــبكة وهو ما يســمى فقه اإلنترنت‪،‬‬

‫بما يحتويه من فتاوى فردية مشحونة باالنفعال والكراهية‬
‫والتحريض على العنف‪.‬‬

‫ويحدونــا األمل باتجاه أن تتبنى المؤسســات الثقافية‬

‫واإلعالمية الوطنية هذه المسألة‪ ،‬وتقود الحملة اإلعالمية‬
‫والتثقيفية لتأكيد خيار االعتدال والوسطية في األمة‪.‬‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" ‪ /‬المغرب‪.‬‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫دورا ال يســتهان بــه فــي تكويــن‬
‫تلعــب وســائل اإلعــام ً‬
‫االتجاهات واألفكار والتطرف‪ ،‬فهي تؤثر بما تقدمه من‬
‫برامج وأفالم وأخبار عن األشخاص واألحداث‪ .‬وتنبع‬
‫أهميــة المؤسســات اإلعالمية من أنهــا أصبحت الصوت‬
‫المســموع لــدى جميــع أفــراد المجتمــع‪ .‬واألثــر الــذي‬
‫تتركــه المؤسســات اإلعالميــة ال يقتصر فقط على ما تبثه‬
‫خالل ســاعات البث‪ ،‬بل يتعدى ذلك إلى ممارســة دور‬
‫الموجــه‪ ،‬حيث تحــاول كل جهة غرس قيمها ومفاهيمها‬
‫ال إلى‬
‫وأفكارهــا ونظرياتهــا فــي عقــول المتلقيــن‪ ،‬وصــو ً‬
‫غريبــا أن يكــون من بين‬
‫أهــداف مبرمجــة ســل ًفا‪ ..‬وليــس ً‬
‫تلــك األهــداف‪ ،‬اإلضــرار ببعــض األنظمــة والــدول عبر‬
‫برامــج ســافرة أو مســتترة تســعى إلــى تقويــض األمــن‬
‫واألمان واالستقرار االجتماعي بها‪.‬‬
‫وتبــرز مســاهمة وســائل اإلعــام فــي تكويــن‬
‫االنحرافــات الفكريــة عنــد األفــراد والجماعــات فــي مــا‬

‫أخطــاء أفــراد الجماعــات المعتديــة‪ ،‬ممــا يحــدث‬
‫فكــرا‬
‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تقــف البواعــث السياســية خلــف الكثيــر مــن العمليــات‬
‫اإلرهابيــة وأعمــال العنف التي ترتكب فــي أنحاء عديدة‬
‫مــن بلــدان العالــم‪ ،‬من بينهمــا الحصول على حــق تقرير‬
‫المصيــر لشــعب‪ ،‬أو مقاومــة االحتــال‪ ،‬أو تنبيــه الــرأي‬
‫العــام العالمــي إلــى مشــكلة سياســية أو اجتماعيــة‪ ،‬أو‬
‫االحتجــاج علــى سياســة يتبعهــا بلــد مــا‪ ،‬أو الرغبــة فــي‬
‫إنــزال الضــرر بمصالــح دولــة معينــة وإرباك وســائل نقله‬
‫الخارجــة‪ ،‬أو الرغبة فــي إنقاذ حياة بعض المناضلين من‬
‫الرفاق المعتقلين‪.‬‬

‫"صــورة مالئكية" وإنــكار أخطاء أفراد المجتمع وتعظيم‬

‫‪41‬‬

‫علوم‬

‫د‪ .‬ناصر أحمد سنه*‬

‫مهندسون‬
‫يف عامل الحيوان‬

‫ــدس" مهنــدس بــارع‬
‫ال شــك أن "ال ُق ْن ُ‬
‫فــي عالــم الحيــوان‪ ،‬ينتمــي للقــوارض‬

‫المائية فيشيد ‪-‬بأسنانه الحادة التي تشبه‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الســدود والمســاكن مــن أخشــاب األشــجار‪.‬‬
‫اإلزميــل‪-‬‬
‫َ‬

‫‪42‬‬

‫يتراوح عرض السد ‪-‬الذي يقيمه زوج القندس‪ -‬من متر‬

‫ا مدخله‬
‫إلــى مائــة متــر‪ ،‬ثــم يبني بيته وســط البركة جاعــ ً‬
‫تحــت ســطح المــاء لحمايتــه من األعــداء‪ .‬ويبلــغ طول‬
‫أمتــارا‪ ،‬إذ تؤدي النهايــة العليا‬
‫األنفــاق المؤديــة لمســكنه‬
‫ً‬

‫للنفــق إلــى غرفــة تتســع إليــواء أســرته مغطــاة بطبقة من‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الجيــد الصــرف لوجود أعواد خشــبية‬
‫الطيــن المتماســك ّ‬

‫بأســفله‪ .‬إنــه يبني مســكنه عبــر تكديس األعواد الخشــبية‬
‫تــاركا فتحــة تهويــة علويــة‪ ،‬ثم يحفر بفمــه التربة‬
‫والطيــن‬
‫ً‬

‫يكــون الطيــن‬
‫ليكــون األنفــاق والغرفــة الرئيســية‪ ،‬وقــد‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المتساقط من بين األعواد الخشبية أرضي َة الغرفة‪ .‬وعادة‬
‫مــا تحصــل القنــادس على المــواد الالزمة للبناء بإســقاط‬

‫ال‪ ،‬ويمكن قرض جذع شجرة قطرها ‪ 30‬سم‬
‫األشجار لي ً‬
‫فــي ليلتيــن مع العمــل الدؤوب‪ .‬ومن ثــم ُتفصل الفروع‬

‫قدما‪.‬‬
‫عن الجذع و ُت َّ‬
‫جزأ إلى قطع يبلغ طول كل منها ً‬

‫وفــي الحفــر والتنقيــب يبــرع "الغريــر" األوربي‪ ،‬وهو‬

‫األكــوام والديــوك البريــة‪ ،‬وطيــور الســنونو‪ ،‬والرفــراف‪،‬‬

‫والزواحــف‪ ،‬وأرجلــه مــزودة بمخالــب طويلــة تســاعده‬

‫وســمان الغابــة‪ ،‬وماســك الذبــاب ذو العــرف وغيرهــم‪،‬‬

‫مــن الثدييــات البرية الالحمــة التي تقتات علــى الجرذان‬

‫وعصفــور الجنــة‪ ،‬وطيــور الحــب‪ ،‬والطائــر األزرق‪،‬‬

‫علــى الحفــر والصيــد‪ ،‬لذا يعيــش في "شــبكة" طويلة من‬

‫بارعــون فــي بناء وإنشــاء المســاكن بمواصفــات "إبداعية‬

‫األوجــار (األنفــاق)‪ ،‬وحجــرات النــوم المبطنــة بالتبــن‬

‫جماليــة"‪ ،‬ومعاييــر "تميز وأمان وتأميــن"‪ ،‬وحرفية عالية‪.‬‬

‫وأوراق الشــجر‪ .‬ومــا يرثــه مــن جحور عــن آبائه يضيف‬

‫ال‪ -‬تبدع عشــها بالنقر في جذوع‬
‫فثاقبات األخشــاب ‪-‬مث ً‬

‫إليهــا دهاليــز جديــدة وبعــض الحجرات‪ .‬وقــد يعيش في‬

‫األخشاب أو األعمدة الخشبية‪ ،‬وتبطنها بنشارة الخشب‬

‫الجحــر نحو ‪ 35‬حيوا ًنــا‪ ،‬ويبني في الجحر منافذ إضافية‬

‫المتســاقطة أثنــاء النقــر‪ .‬كمــا تعيــش البومــة والراقــون‬

‫لتمكنــه مــن الهــروب الســريع‪ .‬وقــد ُعثــر علــى جحر له‬

‫والســنجاب‪ ،‬داخــل جــذوع األشــجار الجوفــاء أو داخل‬

‫ا‪ ،‬ويتكــون من ‪ 50‬حجــرة‪ ،‬ويربط فيما بينها‬
‫‪ 178‬مدخــ ً‬

‫األشجار العجفاء‪.‬‬

‫مترا‪،‬‬
‫نظــام دهاليــز تصــل فــي مجموعهــا إلى طــول ‪ً 880‬‬

‫وتنتقي الطيور مواد بناء أعشاشها بكل عناية واعتبار‪،‬‬

‫أفرادا من عائلته‬
‫بعيدا عن الجحر‪ .‬وهناك شواهد "لدفنه"‬
‫ً‬
‫ً‬

‫التعامــل معهــا بدقــة واقتــدار‪ .‬فتســتخدم الطيــور البحرية‬

‫ويهتم بشدة بنظافة جحره‪ ،‬حيث يبني "مراحيض" للتبرز‬

‫كمــا يبــرع كل نوع من الطيور ‪-‬علــى كثرتها الهائلة‪ -‬في‬

‫عاما‪ ،‬لكن يكثر‬
‫بعــد نفوقهــم‪ .‬ويمكن ُ‬
‫للغ َرير العيش ‪ً 15‬‬

‫األعشــاب البحرية الطافية والمقاومة لحركة األمواج في‬

‫طمعا بجلده ووبره الجميل‪.‬‬
‫اصطياده ً‬

‫ونشــأت فيها؛ فال يبتعد "األرنب ثلجي القبقاب" لمسافة‬
‫أكثــر مــن نصف كلم من مــكان ميالده‪ ،‬فإذا طارده ثعلب‬

‫جرى ليدخل حدود منطقته ومســكنه‪ .‬وتتنقل الخفافيش‬
‫إذا ُأزعجــت مــن كهــف آلخــر‪ ،‬ولكنها تعــود للعيش في‬
‫مسكنها األصلي مرة أخرى‪.‬‬

‫عمارة الطيور‬

‫تخصــص الطيــور "مســاكنها" لوضــع البيــض ورعايــة‬

‫أفراخهــا‪ ،‬وتبنــي األعشــاش علــى األشــجار أو داخلهــا‪،‬‬
‫أو فــي شــقوق صخريــة أو على ســطح األرض‪ ،‬أو على‬
‫نباتــات عائمــة‪ ،‬أو فــي أماكــن أخــرى غيــر معتــادة‪ .‬وعبر‬

‫فصول العام‪ ،‬ما زالت مثيرة للدهشة هجر ُة الطيور ‪-‬أكبر‬

‫المهاجرين في الكائنات الحية‪ -‬إلى حيث بناء األعشاش‬

‫والــدفء والغذاء‪ ،‬ثم عودتها أو عودة صغارها بمفردهم‬
‫فــي أقصــى شــمال أوربا وأمريــكا‪ ،‬وتهاجر فــي الخريف‬

‫جنوبــا إلــى أســتراليا وإفريقيــا‪ ،‬حيــث تبقى حتــى فبراير‪-‬‬
‫ً‬
‫أبريل‪ ،‬ومن ثم تعود إلى موطنها في رحلة عجيبة‪ ،‬وتبلغ‬
‫نحو ‪ 35.500‬كلم في السنة الواحدة‪.‬‬

‫والطيور ثاقبات األخشــاب‪ ،‬والطائر الخياط‪ ،‬وطيور‬

‫الطويلة‪ ،‬فتنشــئ‬
‫أعشاشــا عميقة واســعة لتفادي السقوط‬
‫ً‬
‫عنــد هبــوب الرياح‪ .‬فــي حين تشــيد الطيــور الصحراوية‬

‫أوكارهــا علــى قمــم األشــجار حيــث انخفــاض درجــة‬
‫حرارتها بنحو ‪ 10‬درجات عن درجة المحيط‪ ،‬وإال فإن‬

‫درجــة حرارة اليابســة (تربو علــى ‪ 45‬درجة مئوية) تؤدي‬
‫إلى موت األجنة داخل البيض‪.‬‬

‫وبعد عناء البناء والتشــييد يتم توفير ســبل "الحراســة‬

‫والتأمين" قدر المســتطاع‪ ،‬كي ال يتم "ســرقة البيض"‪ ،‬أو‬
‫زوج طائر أبي‬
‫سرقة كل البيت حتى من األقرباء‪ ،‬فيطارد ُ‬

‫الحنــاء‬
‫طيور أبــي الحناء األخرى‪ ،‬ويمنعها من االقتراب‬
‫َ‬
‫من الشــجرة التي اتخذها‬
‫مســكنا له‪ .‬ويقوم الطير الواحد‬
‫ً‬
‫بمئــات مــن رحالت الطيران إلنشــاء عــش للتمويه فقط‪،‬‬
‫حيــث ال يســتطيع منقاره إال حمل قطعــة أو قطعتين من‬

‫لوازم بناء العش‪.‬‬

‫مساكن الزواحف واألسماك‬

‫مــن الســاحل البرازيلي تهاجر ســاحف البحر الخضراء‬
‫للتكاثــر‪ ،‬قاطعــة مســافة ‪ 2500‬كلــم‪ ،‬عابــرة المحيــط‬
‫األطلسـ�ي نحـ�و السـ�واحل اإلفريقيـ�ة‪ ،‬وعنـ�د جزيـ�ر ة‬

‫"�‪As‬‬

‫‪ "cension‬تضــع بيضهــا فــي مســاكن رمليــة‪ ،‬ثــم تعــود إلى‬
‫موطنهــا دون أن تضــل طريقهــا‪ .‬وفــي "أمريــكا الجنوبية"‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فخرشــنة القطب الشمالي تتواجد‬
‫إلى موطنهم األصلي‪.‬‬
‫َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وترتبط الحيوانات بمســاكنها التي شــيدتها أو ولدت‬

‫بناء أعشاشها‪ .‬أما الطيور التي تعيش في مناطق األعشاب‬

‫‪43‬‬

‫صغيــرة‪ ،‬أن يجعــل فــي بيتــه مــن الهــواء مــا يكفيــه للبقاء‬

‫أيضــا‪ ،‬يعمد الضفدع "الحــداد"‪ ،‬و"صانع الفخار" لعمل‬
‫ً‬

‫إناء من الطين على مدى ‪ 3-2‬ليالي‪ ،‬ومن ثم ينادي أنثاه‬

‫تحت الماء لمدة ‪ 45‬دقيقة‪.‬‬

‫الذ َكر من‬
‫لتضــع البيــض فــي آمــان داخلــه‪ .‬وقــد يصنــع َ‬

‫سلوك غريزي‬

‫وواســعا لتضع أنثاه فيه‬
‫مريحا‬
‫عشــا‬
‫ســمك "أبو شــوكة" ًّ‬
‫ً‬
‫ً‬

‫هــل تشــييد هذه المســاكن واألعشــاش "ســلوك غريزي"‬

‫نحو ‪ 300‬بيضة‪.‬‬

‫لهــذه الكائنــات الحيــة؟ إن الكائنــات الحية مــن ثدييات‪،‬‬

‫عمارة الحشرات‬

‫وطيــور‪ ،‬وزواحــف‪ ،‬وبرمائيــات‪ ،‬وأســماك‪ ،‬وحشــرات‪،‬‬

‫تتضــح قوانيــن الهندســة المعماريــة ونظــام العمــل‬

‫ال‬
‫تقوم بالتخطيط قبل الشروع في تنفيذ البناء؛ فتختار أو ً‬

‫االجتماعي التعاوني في الحشــرات االجتماعية؛ كالنحل‬
‫ٍ‬
‫بيوت‬
‫قدرة‪ ،‬ومهارة فائقة في بناء‬
‫والنمــل‪ ،‬وتبــرز براعة ُم ّ‬

‫أمنــا لبنائهــا‪ ،‬ثم تنتقــي من مواد‬
‫المــكان األمثــل واألكثــر ً‬

‫البناء المتوافر والمناسب للظروف البيئية‪ ،‬مما يوفر راحة‬

‫معقــدة اإلنشــاء‪ ،‬بالغــة الدقة‪ ،‬رائعة األشــكال الهندســية‪،‬‬

‫طيرا يبني عشه ألول‬
‫وسكينة داخلية وخارجية‪ .‬حتى إن ً‬

‫ذات غرف ودهاليز ومخازن وممرات وأنفاق متشــابكة‪.‬‬

‫مرة‪ ،‬يملك قدرة عجيبة في البناء وينجز مهمته دون خبرة‬

‫هذا وقد يصل ارتفاع عش النمل األبيض إلى سبعة أمتار‪،‬‬

‫ال عن أن العديد من أنواع الحيوانات عبر‬
‫ســابقة له‪ .‬فض ً‬

‫ألن عــدد البيــض قــد يصــل إلى ‪ 30‬ألف بيضــة في اليوم‬

‫الواحد‪ ،‬وما سيتتبعه من بناء غرف جديدة‪ ،‬لتسع هؤالء‬

‫العالم تبني مساكنها بالكيفية العمرانية والنسق المعماري‬

‫القادميــن الجــدد مــن النمــل‪ .‬وكذلــك حشــرة "الترميت"‬

‫ال منــه الهواء البــارد من‬
‫الســاخن إلــى األعلــى ليحــل بــد ً‬
‫أســفل‪ .‬إنهــا طريقة رائعة مــن حيث تكييف الهواء‪ ،‬أليس‬
‫كذلك؟‬

‫دعونا‪ ،‬وفق ما يحث عليه األستاذان "بديع الزمان سعيد‬

‫النورســي"‪ ،‬و"فتــح اهلل كولــن" أن "نتأمل في بســتان هذه‬

‫الكائنــات‪ ،‬وننظــر إلــى جنــان هــذه األرض"‪ .‬وفــي هــذا‬

‫ويعتبــر إنتــاج الحريــر فــي العناكــب عمليــة روتينيــة‬

‫البيــض من الجفــاف والعوامل الجويــة‪ ،‬ولصيد الفرائس‬

‫أمام تصرف القدرة اإللهية‪ ،‬ألن العزة والعظمة تقتضيان‬

‫في عبادة األســباب‪ ،‬ليعلم أن األســباب ليســت إال ستائر‬

‫معا‪ .‬فهناك نوع ينصب الشــباك للفرائس الطائرة‪،‬‬
‫في آن ً‬

‫الفاعل الحقيقي فهو القــدرة الصمدانية"‪.‬‬
‫الحجــاب‪ ،‬أمــا‬
‫ُ‬

‫أنواعا‬
‫لزجة قابلة للصق الفرائس عليها‪ .‬وتنسج العناكب‬
‫ً‬

‫البعض ما قد يشعر به من مظاهر الدهشة مما يرد في هذه‬

‫فخه‪ ،‬حيث تكون الخيوط‬
‫ونــوع آخر يحفر فــي األرض ّ‬

‫ال مختلفة من األنســجة؛ فمنها ما هو على شــكل‬
‫وأشــكا ً‬
‫مثلث أو دائرة أو نســيج متشــابك أو على شــكل أنابيب‪.‬‬

‫أما عناكب الماء فتكيفت لتســتطيع العيش بالماء‪ ،‬فتبني‬
‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والخالصة‬

‫التأمــل اإليمانــي والنظــر المعرفــي "تنبيــه للغافــل الغارق‬

‫تســتعمل فيها العديد من أنواع الخيوط الحريرية لحماية‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلفريقيــة‪ ،‬تبنــي بيو ًتــا كالقبــاب والتــال والمســات‪،‬‬
‫وتزودهــا بقنــوات وفتحــات خاصــة‪ ،‬كــي يرتفــع الهــواء‬

‫ذاته‪.‬‬

‫مقنطرا بيــن النباتات تحت المــاء‪ .‬وطريقتها‬
‫حريريــا‬
‫بيتــا‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫ً‬

‫فــي التنفــس؛ حمل فقاعة هواء من ســطح المــاء تجعلها‬
‫قرب معدتها بواسطة رجليها الخلفيتين‪ ،‬بينما تنحدر بها‬
‫إلــى بيتهــا‪ ،‬وهنــاك تطلقها فيصعد الهــواء إلى قنطرة بيتها‬

‫آخــذا محــل بعض الماء‪ .‬وباســتطاعة العنكبــوت الصياد‬
‫ً‬
‫الذي يعيش في مياه أميركا الشمالية والمكسو بشعيرات‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولعــل المقولة األخيرة لألســتاذ "النورســي" تـــذهب عن‬

‫الســطور وأمثالها‪ .‬وليس من شــك في أن التفكر والتدبر‬

‫وتعليميا‬
‫علميــا‬
‫نهجا وبرها ًنــا‬
‫فــي "آيــات اآلفــاق" تمثــل ً‬
‫ًّ‬
‫ًّ‬
‫وفلســفيا يــؤدي إلى تبين الحق والرشــد‬
‫وفكريــا‬
‫وتربويــا‬
‫ًّ‬
‫ًّ‬
‫ًّ‬
‫‪‬س ُــن ِريهِ ْم َآيا ِت َنا ِفي اآل َف ِ‬
‫اق َو ِفي‬
‫والشــهود‪ ،‬يقول تعالى‪َ :‬‬

‫َ ِ‬
‫ــن َل ُهم َأ َّن ُــه ا ْل َح ُّق َأ َو َلم َي ْك ِ‬
‫ــف ب َِر ِّب َك َأ َّن ُه‬
‫ْ‬
‫أ ْن ُفســهِ ْم َح َّتــى َي َت َب َّي َ ْ‬
‫يد‪(‬فصلت‪.)53:‬‬
‫َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َشهِ ٌ‬

‫(*) كاتب وأكاديمي ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫أدب‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫بالحق التزم‪ ،‬وعال ًيا ارفعه‪ ،‬وابحث عن الوسائل التي توصل إليه‪.‬‬
‫املوازين‬

‫في حب كالم الله‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أحب كالمه‪،‬‬
‫أحب المرء‬
‫ً‬
‫شــخصا َّ‬
‫إذا َّ‬
‫أحبــه‬
‫أحــب كالم شــخص‬
‫وإذا‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫بالضرورة‪ّ .‬أما َمن فصل بين الشــجرة‬
‫وثمرهــا‪،‬‬
‫هوى‬
‫وفرق بين اإلنســان ومنطقه‪ ،‬ثم ّادعى ً‬
‫َّ‬
‫لألصل دون الفرع أو للفرع دون األصل‪ ،‬فقد ناسب‬
‫"حبيبا"‪.‬‬
‫"دعيا" ال‬
‫يسمى‬
‫أن ّ‬
‫ًّ‬
‫ً‬
‫القرآن الكريم كالم اهلل تعالى‪ ،‬هذه حقيقة بديهية‬
‫ال غبار عليها وال تحتاج إلى دليل‪ .‬والمسلم السوي‬
‫بطبعــه يحــرص علــى إظهــار معانــي حــب اهلل لينــال‬
‫أن قلــة من الناس‬
‫رضــاه ورضوانــه‪ ،‬غيــر أن المفارقة َّ‬
‫َمــن يرتبــط بكالم اهلل برابطة "الحب والعشــق"؛ فكثير‬
‫ومنا َمن يحاول فهمه‬
‫منا يتلوه‪ ،‬ويص ّلي به‪ ،‬ويختمه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وتدبره وتفسيره‪ ،‬وقد يغوص في معنى من معانيه‪ ،‬أو‬
‫ُّ‬
‫قد ُينجز بح ًثا أو بحو ًثا تحوم حوله‪ ..‬غير أن كل هذا‬
‫قد ال يعني بالضرورة أننا نرتبط بهذا الكتاب "بقلوبنا‬
‫ووجداننــا" ارتبــاط الحبيب بمحبوبه‪ ،‬ونتع َّلق به تعلُّق‬
‫العاشق بمعشوقه‪.‬‬
‫أمامه‪ ،‬وإذا‬
‫هائم‬
‫إذا غابت محبوب ُة ٍ‬
‫َّ‬
‫اسودت الدنيا َ‬
‫تمنعــت‬
‫رحبت‪،‬‬
‫ْ‬
‫َّ‬
‫وهجــرت ضاقــت عليه األرض بمــا ُ‬
‫ِ‬
‫وضجر من الحياة‪،‬‬
‫بدلــت به غيره تمنــى الموت‬
‫وإذا َّ‬
‫َ‬
‫بكيا؛‬
‫باكيا ُم ًّ‬
‫وإذا ماتت وانتقلت إلى باريها الزم قبرها ًّ‬
‫قلبــه‬
‫وهــو ال يهجرهــا وال يتنكــر لهــا إال إذا انصــرف ُ‬
‫حبِه األول‪ ،‬أو إذا وجد‬
‫عنهــا وصــادف ًّ‬
‫حبا آخر غيــر ّ‬
‫مــن ُينســيه في حبيبــه المألوف ويغريــه بتجربة جديدة‬
‫صاحبنــا تغييــر الحبيــب‬
‫وأمــل حقيــق‪ّ .‬أمــا إذا اعتــاد‬
‫ُ‬

‫‪45‬‬

‫ً‬
‫فهم وقراءة‬
‫أبــرت َمن يصل القلب بالعقــل‪،‬‬
‫إذا‬
‫َ‬

‫ريا لكالم الله ســبحانه‪ ،‬ثم‬
‫إحساسا ووجدانًا‬
‫ً‬
‫وتفس ً‬
‫ومت ُّثال ًوإدامة‬
‫وصل بكالم الله جل شأنه‪ ،‬فاعلم أنه‬
‫ٍ‬
‫من‬
‫"الكمل"‪ ،‬وهو محســوب يف عداد "املؤ َّيدين"‬
‫َّ‬
‫ُح َّ‬
‫وإماما"‪ ،‬وهو عند‬
‫"رائدا‬
‫ق له أن يكون للمتقــن‬
‫ً‬
‫ً‬

‫الله محبو ًبا‪.‬‬

‫الكذاب‪،‬‬
‫على وقع المواســم والتقلبات‪ ،‬فذاك المخادع َّ‬
‫وذلك هو األ َّفاك المبين‪.‬‬

‫أحب القرآن الكريم؟‬
‫أسأل نفسي‪ :‬هل‬
‫اآلن‬
‫ُ‬
‫ُّ‬

‫يحبني هذا الكتاب العظيم؟‬
‫ثم أسألها ثانية‪ :‬وهل ُّ‬
‫باردا دون تفكُّ ر‪:‬‬
‫قد أســتعجل الجواب‪ ،‬وقد ألقي به ً‬

‫شك في ذلك‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال َّ‬

‫وقــد أســوق بعض األدلــة وبعض األمثلــة على قربي‬

‫من كالم ربي وارتباطي به‪.‬‬

‫وفــي أغــوار وجدانــي‪،‬‬
‫واضــح لــي وضوح الشــمس في‬
‫ٌ‬
‫رابعــة النهــار‪ ،‬صريــح عندي صراحة القمــر حين اكتماله‬

‫بدرا‪ ،‬ال تخفى الشمس وال يخفى القمر إال لمن أغمض‬
‫ً‬
‫عينيه أو أدار ظهره لمصدر النور‪.‬‬

‫خفيــة مكنونــة‪،‬‬
‫ولذلــك‪ ،‬كانــت حقيقــة الحــب ذاتيــ ًة َّ‬

‫احا‪.‬‬
‫وكان أثر الحب‬
‫احا‪ ،‬بل ّ‬
‫ظاهرا ّبي ًنا ّ‬
‫فض ً‬
‫صد ً‬
‫ً‬

‫لــو أنك‬
‫وضعت نســخة من المصحف الشــريف بين‬
‫َ‬

‫شــيئا إال ما‬
‫يــدي عجــوز أعجميــة ال تعــرف مــن العربيــة ً‬

‫تضمه إلــى صدرها‬
‫تص ّلــي بــه‪ ،‬ثــم َ‬
‫رأيتها جالســة بوقــار‪ُّ ،‬‬
‫وهــي تبكــي بعيــون منهمــرة‪ ،‬ال تلوي على أحــد وال تأبه‬

‫تتفنن في‬
‫لمــا حولهــا وال لمــن حولهــا‪ ،‬تي َّق َ‬
‫نت أن المــرأة َّ‬

‫معانــي الحــب للكتــاب الحكيــم‪ ،‬وتمارس لــوازم الحب‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لهذا الكتاب الكريم‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫ّأمــا إذا رأيــت‬
‫منغمســا فــي تفريــع ألفــاظ القــرآن‬
‫ً‬
‫إعرابــا وبالغــة وبيا ًنا‪ ،‬أو َمــن يحيط به بعلوم مختلفة مما‬
‫ً‬
‫يتحرك‬
‫ال‬
‫ذلــك‪-‬‬
‫مــع‬‫هــو‬
‫ثــم‬
‫فيــه‪،‬‬
‫ــص‬
‫تخص‬
‫قلبــه قيد‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫يعبِر عن هواه هنيهة‪،‬‬
‫ابتلي‬
‫َ‬
‫فهمت أن المسكين ُ‬
‫أنملة وال ّ‬
‫زم بجفاف الوجدان‪.‬‬
‫بجفاء القلب ُ‬
‫وه َ‬
‫لكن‪ ،‬إذا‬
‫فهما وقراءة‬
‫َ‬
‫أبصرت َمن يصل القلب بالعقل ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مخبــ ٌأ هنالك‪ ،‬في قــرارة قلبي‪،‬‬
‫غيــر أن الخبــر اليقيــن َّ‬

‫وتفســيرا لكالم اهلل سبحانه‪ ،‬ثم‬
‫إحساسا ووجدا ًنا وتم ُّثالً‬
‫ً‬
‫ً‬
‫وإدامــة‬
‫وصــل بكالم اهلل جل شــأنه‪ ،‬فلم يقطع ما أمر اهلل‬
‫ٍ‬
‫ِ‬
‫يفرق بين‬
‫بــه أن يوصــل‪ ،‬ولم يجعل القــرآن عضين‪ ،‬ولم ِّ‬
‫قــول وفعــل‪ ،‬وال بين فهم وحــب‪ ،‬وهو فوق ذلك يحمل‬
‫كالم اهلل إلــى مفاصــل الحيــاة لينيرهــا ويرشــدها‪ ،‬وهــو‬
‫ِ‬
‫كل حركية ومشــروع وفكرة‬
‫مــع ذلــك‬
‫ومؤسســة‬
‫ِّ‬
‫يجــذر َّ‬
‫ّ‬
‫وكل إقــدام أو إحجــام‪ ،‬بجــذور غائــرة في تربة‬
‫واختيــار‪َّ ،‬‬
‫الحية المحيية المعطاء‪ ..‬إذا رأيت‬
‫كالم اهلل تعالــى ّ‬
‫الطيِبة َّ‬
‫أحــدا مــن هؤالء فاعلم أنه من‬
‫"الكمل"‪ ،‬وهو محســوب‬
‫ً‬
‫َّ‬
‫"المؤيديــن"‪ُ ،‬ح َّق لــه أن يكون للمتقيــن‬
‫فــي عــداد‬
‫"رائدا‬
‫ً‬
‫َّ‬
‫وإماما"‪ ،‬وهو ‪-‬وال شك‪ -‬عند اهلل‬
‫محبوبا‪ُ  :‬ق ْل إ ِْن ُك ْن ُت ْم‬
‫ً‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫‪،‬‬
‫هلل‪(‬آل عمران‪)31:‬‬
‫ا‬
‫ــم‬
‫ك‬
‫ِب‬
‫ب‬
‫ح‬
‫ي‬
‫ي‬
‫ن‬
‫و‬
‫ِع‬
‫ب‬
‫ات‬
‫ف‬
‫هلل‬
‫ا‬
‫ــون‬
‫‪‬ي ِح ُّب ُه ْم‬
‫ُ‬
‫ُْ ْ ُ ُ‬
‫ُت ِح ُّب َ َ َ َّ ُ‬
‫ُ‬
‫َو ُي ِح ُّبو َن ُه‪(‬المائدة‪.)54:‬‬
‫حاجتنــا اليوم‪ ،‬إلى الســمو بالقــرآن نحو مقام الحب‪،‬‬
‫ُ‬
‫ال بالفكــر الصريح‬
‫والعلــو بــه إلــى مقام العشــق‪ ،‬موصــو ً‬
‫منعميــن‬
‫والفهــم الصحيــح‪ ،‬أي إن الحاجــة ّ‬
‫ماســة إلــى َّ‬
‫اج َت َب ْي َنــا ِإ َذا ُت ْت َلى‬
‫‪‬و ِم َّم ْ‬
‫ــن َه َد ْي َنــا َو ْ‬
‫يصــدق فيــه قولــه ‪َ :‬‬
‫عليهِ م آي‬
‫ات الر ْح َم ِن َخ ُّروا ُس َّج ًدا َو ُب ِك ًّيا‪(‬مريم‪.)58:‬‬
‫َ َ ْ ْ َ ُ َّ‬
‫اج َت َب ْي َنا‪ ‬هو شــطر التوفيق والتمكين‬
‫‪‬و ِم َّم ْن َه َد ْي َنا َو ْ‬
‫َ‬
‫والعمارة والعقبى فيهم‪.‬‬
‫ــج ًدا َو ُب ِك ًّيــا‪ ‬هــو شــطر الحــب والعشــق‬
‫َ‬
‫‪‬خ ُّــروا ُس َّ‬
‫والصدق والعرفان في حقهم‪.‬‬
‫أمــا ‪‬إذا تتلــى عليهِ ــم آيــات‬
‫ــن‪ ‬فهــو عنــوان‬
‫الر ْح َم ِ‬
‫ّ ِ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َّ‬
‫المنهــج‪ ،‬ودليــل الطريــق‪ ،‬ووصفــة االنعتــاق مــن الدائرة‬
‫المغلقــة‪ ،‬ومــن أســباب الوهــم واالدعــاء المعرفــي‬
‫والوجودي على السواء‪.‬‬
‫فــا يقــوم معنــى من هذه اآليــة مقام آخــر‪ ،‬وإنما هي‬
‫الحب صد ًقا ال ادعاء‪:‬‬
‫شروط ثالثة حتى يواتينا‬
‫ُّ‬
‫ تالوة ومداومة‬‫ اهتداء واجتباء‬‫ سجود وبكاء‬‫وحــب كتابــك‪،‬‬
‫اللهــم ارزقنــا حبــك‪،‬‬
‫وحــب نبيــك‪،‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫يحبــك‪،‬‬
‫تحبه‪ ،‬يا عزيــز يا حليم‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫وحــب مــن ُّ‬
‫وحب عمــل ُّ‬
‫يا حكيم‪.‬‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫علوم‬

‫د‪ .‬مجدي سعيد*‬

‫وحسن تصرفك مداخل إلى قلوب اآلخرين‪ ..‬فإذا أح ّبك اآلخرون‬
‫اتخذ من سلوكك ْ‬
‫ْ‬
‫ْ‬
‫وهفت إليك األرواح‪ ..‬واجعل جوهرك اإلنساني يشع دو ًما ألبعد‬
‫انفتحت لك القلوب‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫الناس وأقربهم‪ ..‬فإنْ‬
‫واستخف بك اآلخرون‪.‬‬
‫غفلت عن ذلك‪ ،‬ساءت حالك وهبط شأنك‪،‬‬
‫املوازين‬

‫إيالف النباتات للنمل‬
‫قال العالمة الشــيخ طنطاوي جوهري ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في تفســيره‬
‫لســورة الفاتحــة‪" :‬لمــا كان أكثــر النــاس ال يلحظــون العجائــب‬
‫الكامنــة فيهــم‪ ،‬وال يعــرف نفســه إال قليــل منهــم وهــم أكابــر‬
‫الحكماء واألولياء‪ ،‬وجب أن أبين في هذا المقام بعض رحمة اهلل ‪ ‬في العالم‬
‫المشــاهد (‪ )...‬ومــن هــذه العجائــب ما شــاهده العلماء الباحثون فــي أمر النحل‬
‫والنمــل والعنكبــوت (‪ )...‬وأمــا النمــل فمن عجائب الرحمــة الخاصة به‪ ،‬أن اهلل‬
‫خلق له حشــر ًة تســمى "افس" باللســان اإلفرنجي‪ ،‬يحاربها النمل ويغلبها‪ ،‬ومتى‬
‫غلبهــا أخــذ يســتولدها ويربيهــا ويســيمها فــي ورق الورد‪ ،‬ومتى أكلت وشــبعت‬
‫أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حلوة‪ ،‬فكأنه بقر له يشــرب لبنه"(‪ ،)1‬وتحت‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪47‬‬

‫الكائنــات؛ كالنباتات والمفصليــات والفطريات والقائمة‬
‫فــي األغلب علــى التعايش والمنفعــة المتبادلة‪ ،‬لكنها قد‬
‫أيضا على التطفل‪.‬‬
‫تقوم ً‬

‫قد تكون للكائنات أليفة النمل هذه‪ ،‬وظائف مختلفة‬

‫في مســاكن النمل المضيفة‪ ،‬فبعضها يقوم بمهمة تنظيف‬
‫تلك المســاكن من النفايــات مثل النمل الميت واليرقات‬

‫الميتــة‪ ،‬كمــا توفر بعض تلك المســاكن مكا ًنا لنمو بعض‬

‫أنــواع الفطريــات‪ ،‬بينمــا يتغــذى بعــض الكائنــات علــى‬
‫الطعــام المخــزن مــن قبــل النمــل‪ ،‬ويقــوم البعــض اآلخر‬

‫بافتــراس بيــض النمــل أو يرقاتــه أو العــذارى‪ ،‬وعلــى‬

‫عنــوان "اكتشــاف أقــدم أليــف نمــل مدفو ًنــا" نشــر موقــع‬

‫العكس من ذلك تقوم بعض تلك الكائنات بتوفير مصادر‬
‫ــن ُك ِّل َشــي ٍء َخ َل ْق َنا‬
‫‪‬و ِم ْ‬
‫لغــذاء النمــل‪ ،‬وســبحان القائل‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫َز ْو َج ْي ِن‪(‬الذاريــات‪ ،)49:‬وكأن تلــك الوظائــف المتضــادة‬
‫نموذجا لهذه الزوجية‪ ،‬كما أنها‬
‫لتلــك الكائنــات تقدم لنا‬
‫ً‬

‫تطمــر نفســها في مســتعمرات النمل منــذ أن ُوجد عائلها‬

‫فــا يطغــى بعضهــا على بعض‪ .‬وفي ذلــك يقول الدكتور‬

‫نموذجا للتوازن الطبيعي بين الكائنات في الكون‬
‫تقدم لنا‬
‫ً‬

‫‪ Nature‬الطبعــة العربيــة(‪ :)2‬لطالما ُوجدت الحشــرات التي‬

‫ســنة‪ ،‬ووجــدت مدفونة في الكهرمان‪ ،‬وهــي أقرب مثال‬
‫معــروف ألليــف النمــل "‪"Myrmecophile‬؛ وهو النوع الذي‬

‫ــد النوع‬
‫هويته‬
‫وي َع ّ‬
‫َّ‬
‫يعتمــد فــي بقائه على النمل‪ُ .‬‬
‫المحددة َّ‬

‫حدي ًثــا "‪ ،"Protoclaviger trichodens‬ســل ًفا‬
‫منقرضــا للخنافس‬
‫ً‬

‫المعاصــرة‪ ،‬ولديه ســمات مميزة‪ ،‬كالشــعر الــذي ينقل به‬
‫إفرازات حلوة إلى شغاالت النمل‪.‬‬

‫إيالف النمل‬

‫فمن عجائب تربية اهلل لخلقه في إطار رحمانيته سبحانه‪،‬‬
‫مــا ينشــأ بين الخالئق من عالقــات تكافل وتعايش‪ ،‬ومن‬
‫ذلــك مــا ينشــأ بين النمــل وأنــواع مختلفة مــن الكائنات‪.‬‬

‫وتقــدر أنــواع النمل فــي العالم بما يقارب العشــرة آالف‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫نــوع يعيــش أغلبهــا فــي المناطــق المداريــة‪ .‬لكــن النمــل‬

‫‪48‬‬

‫يتواجــد فــي كل النظــم اإليكولوجيــة فــي العالــم‪ ،‬بل إنه‬
‫يمثل النوع الســائد‬
‫وبيئيا بين الالفقاريات الرئيســة‬
‫ًّ‬
‫عدديا ًّ‬

‫علميا‬
‫حــول العالــم‪ .‬أمــا إيــاف النمل أو مــا يطلق عليــه‬
‫ًّ‬

‫"الميرمكوفيلــي" (‪ ،)Myrmecophily‬فهــي تلــك الحالــة مــن‬
‫العالقــة اإليجابيــة بيــن النمــل ومجموعــة متنوعــة مــن‬
‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تقريبــا‪ ،‬ومنهــا الخنفســاء التــي عاشــت منــذ ‪ 52‬مليــون‬
‫ً‬

‫أحمــد زكــي‪ :‬فــي عالــم األحيــاء‪ ،‬كل يقتــل‪ ،‬وكل يأكل‪،‬‬

‫وكل مقتول هو في دوره قاتل‪ ،‬وكل مأكول هو في دوره‬
‫آكل‪ ،‬ولو عشــب األرض‪ ،‬فال خالل العشب من الحياة‪.‬‬

‫إنه قانون الحياة‪ ،‬ليس إلى إنكاره سبيل‪ ،‬وهو بين قوانين‬
‫الحيــاة أصدق قانون وأشــمل قانون‪ ،‬وهــو القانون الذي‬

‫إذا تعطل تعطلت معه الحياة كما نعرفها"‪ .‬وصدق القائل‬
‫‪‬و َأ ْنب ْت َنا ِف َيها ِم ْن ُك ِّل َشي ٍء َم ْو ُز ٍ‬
‫ون‪(‬الحجر‪.)19:‬‬
‫سبحانه‪َ َ :‬‬
‫ْ‬


Aperçu du document hira-46.pdf - page 1/68

 
hira-46.pdf - page 2/68
hira-46.pdf - page 3/68
hira-46.pdf - page 4/68
hira-46.pdf - page 5/68
hira-46.pdf - page 6/68
 





Télécharger le fichier (PDF)




Sur le même sujet..





Ce fichier a été mis en ligne par un utilisateur du site. Identifiant unique du document: 00305861.
⚠️  Signaler un contenu illicite
Pour plus d'informations sur notre politique de lutte contre la diffusion illicite de contenus protégés par droit d'auteur, consultez notre page dédiée.