p06hab01 .pdf


À propos / Télécharger Aperçu
Nom original: p06hab01.pdf

Ce document au format PDF 1.4 a été généré par Adobe InDesign CS5 (7.0) / Adobe PDF Library 9.9, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 18/06/2016 à 22:00, depuis l'adresse IP 197.0.x.x. La présente page de téléchargement du fichier a été vue 766 fois.
Taille du document: 13.9 Mo (16 pages).
Confidentialité: fichier public


Aperçu du document


‫لماذا يحقد التونسي على المثقف؟‬
‫السيد التوي‬

‫ص ‪9-8‬‬

‫في التغيير الجامعي المنشود‬
‫في عالقته بالتغير االجتماعي الجاري‬
‫منير السعيداني‬

‫الملحق الثقافي لجريدة الشعب‬
‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫الدكتور ‪:‬‬

‫جلول عزونة‬

‫في حديث شامل لـ «منارات»‬

‫احلفاظ عىل الثبات‬
‫ورضورة املوازنة بني الواجب‬
‫واحللم عند املثقف‬
‫ص ‪6-5-4‬‬

‫كالب الحراسة المعاصرة‬
‫أو الثقافة المسعورة‬
‫خالد الهداجي‬

‫اضطهاد المثقفين في‬
‫الحضارة العربية اإلسالمية‬
‫النوي‬
‫د‪.‬محمد ّ‬

‫‪2‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫سلطة المثقف‬
‫ومثقف السلطة ؟‬
‫محمد الجاب ّلّي‬

‫ال يشء يحمي االبداع غري الحرية‪ ،‬تلك التي يؤمن بها الكاتب‬
‫املبدع يف ذاته أوال ثم يسعى يك تنعكس عىل الواقع منجزا‬
‫ابداعيا و سلوكيا ‪.‬‬
‫ثورتنا «املطعونة» حررت الجميع‪ ،‬لكنها وبدرجة أوىل حررت‬
‫الطاقات الفكرية والخيالية وفتحت‬
‫بابا للمبادرات اإلبداعية واملغامرات‬
‫الفنية‪ ،‬هي امتحان سهل يرتقي‬
‫فيه املبدعون الحقيقيون من سلطة‬
‫الخشية والتوجس إىل سلطان الحرية‬
‫الرحب الفسيح‪...‬‬
‫البعض يرفض االرتقاء ويرص عىل‬
‫الرسوب‪ ،‬أقول هذا ويف ذهني طابور‬
‫املناشدين الذين فتحوا باب التأبيد‬
‫لدكتاتورية سابقة البعض منهم من مل يتطهر يف نهر الثورة‬
‫العظيم بل رسب كجذع ميت يف القاع يعيق حركة التيار‪ ،‬تيار‬
‫الحرية‪ ،‬يف ذهني بعض «الكتبة» الذين تعودوا املناشدة حتى‬
‫باتت سلوكا دامئا يف مسارهم‪ ،‬فئة من اتحاد الكتاب هرعوا‬
‫يطرقون أبواب قرص قرطاج بعيد الثورة القرتاح مناشدة للرئيس‬
‫الجديد‪...‬‬
‫يف ذهني كذلك بعض الجامعيني الذين كانوا مختبئني يف املدارج‬
‫ال يربحون قاعة الدرس ويطلون من ثقب الباب عىل الحاصل‬
‫يف حركة الواقع الكسيح‪ ،‬كيف هبت رياحهم فباتوا يفتون يف‬
‫الثقافة ويتزعمون بعض حراكها ‪...‬‬
‫يف ذهني كذلك طابور من «خدمة الثقافة» الذين زينوا منصات‬
‫اإلنتخابات القريبة السابقة ثم اختفوا مع الالفتات واألضواء‬
‫واألخشاب‪...‬‬
‫سلطة السلطة من سلطة الجاه واملال‪ ،‬من سلطة التاجر‪ ،‬ناقدا‬
‫ومنقودا‪...‬وسلطة املثقف من سلطة املبادئ والقيم الكلية‪،‬‬
‫رصاع دائب بني املحدود واملطلق‪ ،‬وبني الحكمة والسلطان هو‬
‫رصاع ومناورة اخترصتها متون الحكمة القدمية بني «بيدباء‬
‫الحكيم ودبشليم امللك»‪.‬‬
‫تاريخ الثقافة هو تاريخ مقاومة ومقامرة ومغامرة‪ ،‬هو مسرية‬
‫شائكة من سقراط يف محنته‪ ،‬اىل بن املقفع وأيب حيان التوحيدي‬
‫وإخوان الصفاء وأيب العالء وبن رشد ‪...‬‬
‫نعم للكتاب واملبدعني وسائر املثقفني حاجات ورضورات لكنهم‬
‫أصحاب كرامة‪ ،‬بل إن الكرامة من صلب خلقهم وعجينتهم‪،‬‬
‫ولهم كذلك رؤى تحتك بالواقع ومتاحك ما فيه من خري ورش‪،‬‬
‫ولهم مواقف ووالءات‪ ،‬لكن الحاكم فيها هو املبدأ ومنظومة‬
‫القيم الكربى التي تفرتض الثبات والتموقع الطليعي الفاعل‬
‫املؤثر بعيدا عن دعائية املشهد االنتهازي املهتز واملتغري ‪...‬‬
‫يف احتفالية نوبل لآلداب قال الكاتب األملاين «غونرت جراس»‬
‫يف كلمته‪ :‬إن قدر الكاتب الحقيقي أن يقف دوما يف صف‬
‫الخارسين‪...‬وصف الخارسين هو صف الحقيقة املغيبة يف‬
‫التاريخ البرشي‪...‬هو صف املظلومني واملحرومني ‪...‬‬
‫لذلك نقول ال ميكن ألحد أن يرد االعتبار للمثقف غري املثقف‬
‫نفسه‪ ،‬أن يؤمن بقدره وقدرته‪ ،‬وأن يزاحم زحام النبل الفكري‬
‫وأن يجعل من حريته وكرامته طليعة كيانه‪ ،‬حينها يرتقي فوق‬
‫السلطات ألنه سيصبح سلطة مدججة بأسلحة كثرية‪ :‬منها‬
‫اإلرادة والبصرية وفعل الكيان وقدرة االبداع املتجدد فكرا وخياال‬
‫وجامال ‪...‬‬

‫من شذرات الحكمة‬

‫« في أن السعادة والكسب إنما يحصل‬
‫غالبا ألهل الخضوع والتملق ‪»...‬‬
‫«‪...‬إن الخضوع والتملق من أسباب حصول الجاه املحصل‬
‫للسعادة والكسب‪ ،‬وإن أكرث أهل الرثوة والسعادة بهذا التملق‪،‬‬
‫ولهذا نجد الكثري ممن يتخلق بالرتفع والشمم ال يحصل لهم‬
‫غرض الجاه‪ ،‬فيقترصون يف التكسب عىل أعاملهم‪ ،‬ويصريون‬
‫إىل الفقر والخصاصة‪ ،‬واعلم أن هذا الكرب والرتفع من األخالق‬
‫املذمومة إمنا يحصل من توهم الكامل‪ ،‬وأن الناس يحتاجون اىل‬
‫بضاعته من علم أو صناعة كالعامل املتبحر يف علمه والكاتب‬
‫املجيد يف كتابته أو الشاعر البليغ يف شعره‪...‬‬
‫وكذلك أهل الحيلة والبرص والتجارب باألمور‪ ،‬قد يتوهم بعضهم‬
‫كامال يف نفسه بذلك‪ ،‬واحتياجا إليه وتجد هؤالء األصناف كلهم‬
‫مرتفعني‪ ،‬ال يخضعون لصاحب الجاه وال يتملقون ملن هو أعىل‬
‫منهم‪ ،‬ويستصغرون من سواهم‪ ،‬ألعتقادهم الفضل عىل الناس‪،‬‬
‫فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولوكان للملك‪ ،‬ويعده مذلة‬
‫وهوانا وسفها‪ ،‬ويُحاسب الناس يف ُمعاملتهم إياه مبقدار ما‬
‫يتوهم يف نفسه‪ ،‬ويحقد عىل من قرص له يف يشء مام يتوهمه‬
‫من ذلك‪ ،‬ورمبا يدخل عىل نفسه الهموم واألحزان من تقصريهم‬
‫فيه ‪ ،‬ويستمر يف عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية‬
‫الناس له من ذلك‪ ،‬ويحصل له املقت من الناس‪ ،‬ملا يف طباع‬
‫البرش من التأله‪ ،‬وقلام يسلم أحد منهم ألحد يف الكامل والرتفع‬
‫عليه‪ ،‬إال أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة واإلستطالة‪.‬‬
‫وهذا كله من ضمن الجاه‪ ،‬فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه‪،‬‬
‫وهو مفقود له كام تبني لك‪ ،‬مقته الناس بهذا الرتفع‪ ،‬ومل يحصل‬
‫له حظ من إحسانهم‪ ،‬وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي‬
‫هي أعىل منه‪ ،‬ألجل املقت وما يحصل له بذلك من القعود عن‬
‫تعاهدهم وغشيان منازلهم‪ ،‬ففسد معاشه‪ ،‬وبقي يف خصاصة‬
‫وفقر أو فوق ذلك بقليل‪ ،‬وأما الرثوة فال تحصل له أصال‪ ،‬ومن‬
‫هذا‪ ،‬اشتهر بني الناس أن الكامل يف املعرفة‪ ،‬محروم من الحظ‪،،‬‬
‫وأنه قد حوسب مبا ُرزق من املعرفة واقتطع له ذلك من الحظ‬

‫ولقد يقع يف الدول أرضاب يف املراتب من أهل الخلق‪ ،‬ويرتفع‬
‫فيها كثري من السفلة‪ ،‬وينزل كثري من العلية بسبب ذلك‪.‬‬
‫وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب واإلستيالء‪،‬‬
‫انفرد منها منبت امللك مبلكهم وسلطانهم ويئس من سواهم‬
‫من ذلك‪ ،‬وإمنا صاروا يف مراتب دون مرتبة امللك‪ ،‬وتحت يد‬
‫السلطان‪ ،‬وكأنهم خول له‪ ،‬فإذا استمرت الدولة وشمخ امللك‪،‬‬
‫تساوى حينئذ يف املنزلة عند السلطان كل من انتمى اىل خدمته‬
‫وتقرب إليه بنصيحة‪ ،‬واصطنعه السلطان لغنائه يف كثري من‬
‫مهامته‪.‬‬
‫فتجد كثريا من السوقة‪ ،‬يسعى يف التقرب من السلطان بجده‬
‫ونصحه ويتزلف بوجوه خدمته‪ ،‬ويستعني عىل ذلك بعظيم‬
‫من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه‪ ،‬حتى يرسخ‬
‫قدمه معهم‪ ،‬وينظمه السلطان يف جملته‪ ،‬فيحصل له بذلك‬
‫حظ عظيم من السعادة‪ ،‬وينتظم يف عدد أهل الدولة وناشئة‬
‫الدولة حينئذ من أبناء قومها‪ ،‬الذين ذللوا أضغانهم ومهدوا‬
‫أكنافهم مغرتين مبا كان آلبائهم يف ذلك من اآلثار‪ ،‬مل تسمح‬
‫به نفوسهم عىل السلطان‪ ،‬ويعتدون بآثاره ويجرون يف مضامر‬
‫الدولة بسببه‪ ،‬فيمقتهم السلطان لذلك ويُباعدهم‪ ،‬ومييل اىل‬
‫هؤالء املصطنعني الذين ال يعتدون بقديم وال يذهبون إىل دالة‬
‫وال ترفّع‪ ،‬إمنا دأبهم الخضوع له‪ ،‬والتملق واإلعتامل يف غرضه‬
‫متى ذهب إليه‪ ،‬فيتسع جاههم وتعلو منازلهم‪ ،‬وتنرصف إليهم‬
‫الوجوه والخواطر‪ ،‬مبا يحصل لهم من قبل السلطان واملكانة‬
‫عنده‪ ،‬ويبقى ناشئة الدولة فيام هم فيه من الرتفع واإلعتداد‬
‫بالقديم‪ ،‬وال يزيدهم ذلك إال بعدا من السلطان‪ ،‬ومقتا وإيثارا‬
‫لهؤالء املصطنعني عليهم‪ ،‬إىل أن تنقرض الدولة وهذا أمر‬
‫طبيعي يف الدولة‪ ،‬ومنه جاء شأن املصطنعني يف الغالب والله‬
‫سبحانه وتعاىل أعلم وبه التوفيق وال رب سواه‪».‬‬
‫‪ -‬عن ابن خلدون‪ :‬املقدمة‪-‬‬

‫محاور العدد القادم‬

‫التعبيرات الثقافية بعد الثورة بين‬
‫سطحيات المشهد وعمق التأثير‬
‫البريد االلكتروني ‪manaratculturel@gmail.com :‬‬

‫المدير المسؤول‬

‫حسين العباسي‬

‫المدير‬

‫أسرة التحرير‬

‫سامي الطاهري‬

‫منتصر الحملي ‪ -‬رشيدة الشارني ‪ -‬حسني عبد الرحيم ‪ -‬سعدية بن سالم‬
‫إشراف وتنسيق ‪ :‬محمد الجابلي‬
‫المراجعة اللغوية ‪ :‬عبد الفتاح حمودة ‪ -‬اإلخراج الفني ‪ :‬محمد كريم السعدي‬
‫السحب ‪ :‬مطبعة دار األنوار ‪ -‬الرشقية ‪ -‬تونس‬

‫املقر ‪ 41 :‬شارع عيل درغوث ‪ -‬تونس ‪ - 1001‬الهاتف ‪ / 71 330 291 - 71 255 020 :‬الفاكس ‪- 71 355 139 :‬‬
‫العنوان االلكرتوين ‪ - manaratculturel@gmail.com :‬الحساب الجاري بالربيد ‪300 - 51 :‬‬

‫‪3‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫فلوبير ‪:‬‬
‫الروح المقيمة بيننا‬
‫رشيدة الشارني‬
‫تتم ّيز البيوت التي أقام فيها كبار املبدعني بسحر خاص باعتبارها فضا ًء‬
‫للخيال واألفكار ومنشأ األعامل العظيمة وتبدو بعضها وكأنّها مازالت‬
‫مسكونة بأرواحهم ومحتفظة بأطياف أبطالهم‪ ،‬ولذاكرة املكان سلطة‬
‫عجيبة إذ كثريا ما ينتابنا اإلحساس ونحن نتوغل فيها بأننا غادرنا اللّحظة‬
‫الراهنة وقفزنا إىل أزمنة صعبة كانت فيها للكلمة الح ّرة التي تزعزع‬
‫املوروث وتفضح الزيف وتصنع الجامل اإلنساين العميق رضيبة كربى‪.‬‬
‫ويويل الغرب أهم ّية كربى للبيوت التي عاش فيها كبار األدباء والشعراء‬
‫والرسامني والفنانني‪ ..‬ويسعى إىل تحويلها إىل مراكز ثقافية ووجهات‬
‫سياحية تعبرّ عن ثراء املخزون الفكري والفني للدولة فنجد يف بريطانيا عىل‬
‫سبيل املثال منزل فرجينا وولف بحديقته الغناء ومكتب صاحبته ومخدعها‬
‫وكأن املكان مازال يف انتظار عودة صاحبته من جولتها قرب ال ّنهر‪ ..‬ويف‬
‫تحتل بيوت‬
‫فرنسا نجد منازل فيكتور هيقو و بودليري وغريهام ويف النمسا ّ‬
‫كبار املوسيقيني أهمية سياحية كربى وهي مفتوحة للزيارة والتأ ّمل‪ ...‬يف‬
‫قل ما يحظى بيت الكاتب باألهمية التي يستحقّها وكأن‬
‫العامل العريب ّ‬
‫السلطة تنفّست الصعداء برحيل صاحبه‪..‬‬
‫الكاتب الفرنيس الكبري غوستاف فلوبري ‪1821‬ـ ‪ 1880‬مؤسس الواقعية‬
‫يف األدب وصاحب رائعة «مدام بوفاري» قدم إىل تونس يف شهر أفريل‬
‫من سنة ‪ 1862‬واتخذ من أحد بيوت الضاحية الشاملية للعاصمة مسكنا‬
‫ومالذا بعد املحاكمة الشهرية التي تع ّرض لها سنة ‪ 1857‬بسبب أفكاره التي‬
‫تق ّمصتها بطلته والتي اعتربتها املحكمة خادشة للحياء ومح ّرضة عىل التم ّرد‬
‫ومزعزعة للثوابت األخالقية مام دعا صديقه الشاعر الكبري المرتني إىل جمع‬

‫‪ 374‬توقيعا أله ّم أعالم فرنسا ملنع إصدار عقاب بشأنه‪.‬‬
‫أقام فلوبري بضاحية قرطاج إىل أواخر شهر ماي من سنة ‪ 1861‬ث ّم تو ّجه‬
‫نحو الجزائر مرورا بدقّة حيث زار اآلثار الرومانية ث ّم توقّف لع ّدة أيّام‬
‫مبدينة الكاف وتنقّل بني آثارها وأعجب بالحماّ م والبدويّات ث ّم واصل‬
‫الطريق نحو سوق هراس وقسنطينة قبل أن يعود إىل فرنسا وكأنّه بهذه‬
‫الرحلة يقتفي أثر بطل لرواية قادمة وهو ما حصل فعال إذ عاد فلوبري يف‬
‫نفس السنة ليقيم يف بيته هذا ويكتب روايته الشهرية «صالمبو» وهي‬
‫رواية تاريخية تدور أحداثها يف قرطاج يف القرن الثالث قبل امليالد وقد‬
‫تخلىّ فيها عن الواقعية وبدا رومنطيقيا‪.‬‬
‫عصبي جعله يرتك العمل ويصبح م ّياال‬
‫فلوبري الذي أصيب سنة ‪ 1944‬مبرض‬
‫ّ‬
‫للعزلة‪ ،‬بدا وكأنه يريد أن يقطع مع حدود الزمان أيضا ويعيش أحداث‬
‫رواية مغرقة يف التاريخ يف أماكن وقوعها الحقيقية‪.‬‬
‫مازال البيت الذي تح ّول إىل مالذ وعنوان إلهام للكاتب الكبري قامئا إىل ح ّد‬
‫اآلن ولكنه مهجور وكئيب ويف حال س ّيئة للغاية‪ ...‬حتى اللّوحة التي تحمل‬
‫اسم غوستاف فلوبري غطتها طبقة كثيفة من اإلسمنت‪ ،‬أين وزارة الثقافة؟‬
‫أين القامئون عىل الرتاث؟ مل ال يرمم البيت ويفتح للزائرين الذين يعرفون‬
‫قيمة املبدع الكبري وأهمية الجدران التي آوت كلامته ورمزية املكان؟‬

‫الصحبي اليعقوبي ‪ :‬بطل في الحياة مات بصمت‬
‫كثري من ال ّناس أبطال يف الحياة دون ا ّدعاء تراهم‬
‫يواجهون التهميش والظلم والقمع بشجاعة نادرة‬
‫ويظلون عىل مسافة من األضواء ممتلئني بالذات‬
‫وبعيدين كلّ البعد عن الحسابات الض ّيقة والطمع‬
‫بثمن حبّهم للوطن‪.‬‬
‫الصحبي اليعقويب‪ ،‬املريب الذي سقط الجمعة املاضية‬
‫ميّتا أمام باب املدرسة التي يعمل فيها واحد من‬
‫هؤالء األبطال املتواضعني‪ ...‬كان نقاب ّيا رشسا مدافعا‬
‫عن حقوق املعلّمني وسبّاقا إىل الوقفات االحتجاجية‬
‫يف ساحة مح ّمد عيل وقد يخفى عىل الكثريين أن يس‬
‫الصحبي واجه السلطة القامئة سنة ‪ 1984‬يف انتفاضة‬
‫الخبز وهو تلميذ مبدرسة ترشيح املعلّمني بالكاف‬

‫متابعات ثقافية‬

‫حيث أُصيب برصاصة يف يده أثناء املواجهات مع رجال‬
‫األمن ولك ّن املدهش يف األمر أنّه رفض تسليم نفسه‬
‫إليهم وقام عدد من رفاقه بإنزاله إىل قبو البازيليك‬
‫حيث تج ّرأ أحدهم عىل القيام بعملية إخراج الرصاصة‬
‫دون بُنج وتكّتم الجميع عىل املوضوع‪ ،‬كام رفض بعد‬
‫ذلك املزايدة بهذا الحادث وطلب مثن لنضاله أو‬
‫تعويضا لرضره‪...‬‬
‫واصل الصحبي اليعقويب دراسته العليا وحصل عىل‬
‫اختص يف ميدان الرياضة وراسل‬
‫اإلجازة يف الصحافة و ّ‬
‫جريدة الفالح وجرائد عربية أخرى ولك ّنه ظلّ وف ّيا‬
‫ملهنة التعليم التي متثّل مورد رزقه األسايس‪.‬‬
‫عرف الفقيد وهو أصيل ال ّدهامين بدماثة أخالقه وح ّبه‬

‫للفكاهة ومعاملته‬
‫الط ّيبة للتالميذ وقد‬
‫شيّعته األجيال التي‬
‫د ّرسها يف مدرسة‬
‫النجاة من دائرة‬
‫وادي اللّيل يف جنازة‬
‫كربى ومهيبة إىل‬
‫مقربة صنهاجة‪.‬‬
‫خلّف الفقيد بنتا ‪ 12‬سنة وابنا ‪ 9‬سنوات زوجة غري‬
‫عاملة وصدمة كربى يف القلوب‪ ،‬عاش يتيام وخلّف‬
‫يتيمني رحمه اللّه‪.‬‬
‫رشيدة‬

‫إحياء ذكرى الكنعاني المغدور بشارع بورقيبة‬
‫كانت املدينة جميلة بعصافريها ومبدعيها‪ ...‬كانت أكرث برأة‬
‫وطأمنينة وجامال حني كان الكنعاين املغدور ميد خطاه يف‬
‫أنهجها‪ ...‬ذكراه حية يف زوايا وجدانينا‪ ...‬روحه ترفرف فوق‬

‫الحارضين من أصذقائه ذات أمسية بهيجة بنزل الهناء من تنظيم‬
‫املندوبية الجهوية للثقافة بوالية تونس وجمعية شكري لإلبداع‬
‫والفنون‪ ..‬لروحك السالم عبد الحفيط‬

‫أسرة «منارات»‬
‫تنعى فقيدة‬
‫اإلعالم الح ّر‬

‫فقد اإلعالم التونيس وتونس عا ّمة إحدى‬
‫عالماته املضيئة النقيبة نجيبة الحمروين‪ ،‬وقد‬
‫تقلّدت الفقيدة دواليب نقابة الصحافيني يف‬
‫مرحلة حرجة من تاريخ البالد حني ع ّمت‬
‫الفوىض املجاالت كلّها‪ ،‬وقادتها إىل ب ّر األمان‬
‫ديدنها الدفاع عن حر ّية الكلمة وصدقها‪،‬‬
‫وقد شهدت فرتة توليها لنقابة الصحافيني أ ّول‬
‫إرضاب عام للقطاع دفاعا عن كرامة منظوريها‬
‫ومل تثنها عن ذلك حمالت التشويه ورشاستها‪.‬‬
‫رحم الله نجيبة الحمروين وأسكنها فراديس‬
‫جنانه‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫الدكتور جلول عزونة في حديث شامل لـ «منارات»‬

‫الحفاظ على الثبات وضرورة الموازنة‬
‫بين الواجب والحلم عند المثقف‬
‫حاوره‪ :‬منتصر الحملي‬

‫الدكتور جلول عزونة جامعي اختص في األدب المقارن‪ ،‬له عشرات المصنفات بحثا وتحقيقا وإبداعا‪ ...‬يجمع بين‬
‫السياسي والمثقف‪ ...‬من مؤسسي الوحدة الشعبية ورئيس رابطة الكتاب التونسيين األحرار ورئيس الحزب الشعبي‬
‫للحرية والتقدم وعضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية‪...‬وعضو المجمع التونسي بيت الحكمة‪ ...‬رجل متعدد‬
‫تراه في جل المنابر مجادال من أجل الكلمة الحرة‪ ،‬جريئا صريحا في ذاته ونصه يذكرنا بكبار الفاعلين في الوعي‬
‫والواقع‪ ...‬تلتقيه صفحات «منارات» في هذا الحوار الخاص‪...‬‬
‫املثقف اإلنسان الغريب والخارج من الرسب والدونكيشويت الحامل‬
‫* باديء ذي بدء‪ ،‬من هو المثقف من وجهة‬
‫باملستحيل‪ ،‬ولكن هذه النظرة لن تحول دون مواصلة املثقف لدوره‬
‫نظرك؟ وما هي خصوصياته ووظائفه؟‬
‫االستفزازي يف دوائره القريبة والبعيدة وجوهر وظيفة املثقف هو يف‬
‫ املثقف له تعريفات متعددة حسب الثقافات‬‫هذا اإلرصار ويف هذا املنهج املثور والثائر‪.....‬‬
‫والحضارات واألزمنة املختلفة‪ ،‬من رجل اإلدارة يف الصني‪....‬‬
‫إىل األديب اآلخذ من كل يشء بطرف يف حضارتنا‬
‫* أنت كاتب وباحث ومحقق وقصاص وفي نفس‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬اىل األديب امللتزم يف أوروبا يف القرن‬
‫الوقت رجل سياسة ومناضل في الجبهة الشعبية‪،‬‬
‫العرشين‪ ،‬إىل املثقف العضوي عند قراميش‪ ،‬ومع هذا‪،‬‬
‫إلى أي مدى استطعت أن تحافظ طوال مسيرتك على‬
‫ويف مجتمعنا التونيس اليوم‪ ،‬مازلنا نحتفظ بوهج قيمة‬
‫خصوصية المثقف فيك دون أن تضحي بها لفائدة‬
‫املتعلم واملثقف رغم تغري سلم القيم واألولويات‬
‫السياسي أو الحزبي ؟‬
‫وطغيان الجانب املادي يف هذا الظرف الصعب االنتقايل‬
‫ يُشت ُّم من السؤال‪ ،‬أن السياسة واالشتغال فيها قد يفرضان تنازال‬‫واملثقف حسب رأيي هو الذي يحمل اله ّم الوطني يف‬
‫عن املباديء وهذا فهم شائع ‪ -‬لألسف ‪ -‬لدى البعض يف بالدنا وهو فهم‬
‫داخله وينشغل مبصري املجموعة التي يعيش معها ويحلم‬
‫ال يستقيم‪ ...‬هناك فهم أسمى وأنبل وهو أن تكون السياسة نضاالً من‬
‫لنفسه ولها بالكلمة الطيبة والتبشري بالتغيري املستمر رغم‬
‫أجل املصلحة العامة أوال وأخريا والفهم بأن مردود ذلك النضال سيعود‬
‫املع ّوقات واالحباطات وهو بكلمة بسيطة من ال يرمي‬
‫بالفائدة املشرتكة عىل الجميع ‪ -‬عىل البالد وعىل املناضل نفسه ‪ -‬ومن‬
‫املنديل مطلقا وميثل ذلك العنرص الكيميايئ املهاجم للرداءة‬
‫ذلك ثراء النسيج الجمعيايت ببالدنا والرثاء الحزيب الذي ينطلق من دفع‬
‫والنزعة املحافظة يف عقلية املواطن واإلنسان‪ ،‬فيساهم يف‬
‫اشرتاك سنوي يف املنظمة أو الحزب واملشاركة يف األنشطة والحضور فيها‬
‫تهرئتهام شيئا فشيئا‪ ....‬ويهيء لربوز إنسان‬
‫واملساهمة ماديا ومعنويا عند االقتضاء من أجل إنجاح حمالت دورية‬
‫جديد أكرث مرونة مع إمالءات‬
‫وتحقيق أهداف آنية أو آجلة‪.‬‬
‫الحارض املتجدد‪.‬‬
‫كنت منذ طفولتي أحمل هذا التصور الواضح يف ذهني لرضورة‬
‫وقد يرى املواطن‬
‫املساهمة يف الشأن العام وأنا أنتمي إىل عائلة دستورية كان أيب وأخوا َي‬
‫يف‬
‫العادي‬
‫الكبريان يحرصون عىل تجديد اشرتاكاتهم يف الحزب االشرتايك ويحرضون‬
‫أغلب أنشطته زمن االستعامر الفرنيس وقد تلقيت درسا عميقا جدا‬
‫ومبارشا يف آخر جانفي ‪ 1952‬حني اعتقلت فرنسا – يف نفس اليوم‪ -‬خايل‬
‫«عضو املجلس امليل للحزب ‪ -‬اللجنة املركزية‪ »-‬وأخي األكرب ومدير‬
‫مدرستي ومعلّمي للغة الفرنسية وزوج أختي وزوج خالتي ضمن أكرث‬
‫من خمسني من املناضلني من منزل متيم‪ ،‬ثم رأيتهم يُطلق رساحهم‬
‫ويعودون بالزغاريد واإلنشاد‪ ،‬بعد أقل من سنتني‪ ،‬فتلقيت الدرس الكبري‬
‫ايجيب»‪ ،‬كان عمري عندها عرش سنوات‪ ،‬وبقيت تلك القناعة‬
‫«النضال ْ‬
‫راسخة يف أعامقي اىل اليوم ‪ -‬وقد تجاوزت السبعني ‪ -‬وأنا يف نشاطي‬
‫السيايس والثقايف أومن بالعطاء‪ ،‬دون حسابات سياسية ضيقة وآنية‪.‬‬
‫كنت أعتقد ومازلت أن النضال يف أي ميدان منها النقايب وقد‬
‫تحملت عضوية املكتب الوطني لنقابة التعليم العايل زمن أحداث‬
‫الخميس األسود ‪ 26‬جانفي ‪ ،1978‬ومنها الثقايف والسيايس وهو‬
‫التشبث باملبادئ وعدم الحياد عنها ‪ -‬رغم إكراهات املرحلة ‪ -‬وأن‬
‫تبقى الروح النضالية هي السائدة أذكر نفيس بها كل حني تجنبا‬
‫لالنزالقات وخوف االنحرافات واإلغراءات وهي كثرية‪ ،‬من السلط‬
‫أو من العائلة‪ ...‬فحاولت ‪ -‬وقد أكون نجحت يف ذلك ‪ -‬أن تبقى‬
‫حرية املثقف حية يف داخيل فمن ذلك ‪:‬‬
‫أ‪ :‬وأنا أرأس تحرير جريدة الوحدة من ‪ 1981‬إىل ‪1988‬‬
‫لسان حزب الوحدة الشعبية ‪ -‬الذي ساهمت يف تأسيسه ‪-‬‬
‫حاولت أن أفرض عىل زماليئ أعضاء املكتب السيايس تخصيص‬
‫ملحق ثقايف بالجريدة وهذا ما ت ّم فعال‪.‬‬
‫ب‪ :‬تخصيص فضاء ثقايف يف الصفحة األوىل للجريدة ومن‬
‫ذلك إصدار مقتطفات مهمة من قصيدة املرحوم «محمد‬
‫الصغري أوالد أحمد» سنة ‪ - 1984‬نشيد األيام الستة ‪-‬‬

‫‪5‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫وذلك بُعيْد مصادرة ديوان الشاعر الحامل لنفس عنوان‬
‫القصيدة تعب ًريا منا عن رفض مصادرة اإلبداع ومساندة‬
‫للشاعر وقد بقي الديوان مصادرا من ‪ 1984‬اىل سنة‬
‫‪.1988‬‬
‫ج‪ :‬محاولة أن يكون للحزب الشعبي للحرية والتقدم‬
‫برنامج ثقايف ‪ -‬بعد الثورة ‪ -‬وذلك يف شكل محارضات‬
‫ولقاءات ثقافية يف كامل تراب الجمهورية ومحاولة أن‬
‫يكون للجبهة الشعبية حضورها الثقايف بتنظيم ندوات‬
‫وموائد مستديرة واإلستعانة بالخرباء ومساندتها للمبدعني‬
‫واملثقفني وفضح مامرسات الظالميني والتصدي لهم فيام‬
‫حصل من تهجامت عىل «النوري بوزيد‪ ،‬حامدي الردييس‪،‬‬
‫زياد كريشان‪ ،‬آمال قرامي‪ ،‬سينام أفريكا‪ ،‬العبدلية‪...‬‬
‫ألفة يوسف‪ ،‬رجاء بن سالمة‪ ،‬يوسف الصديق‪ ،‬محمد‬
‫الطالبي‪.»...‬‬
‫د‪ :‬ويف نطاق رابطة الكتاب األحرار حاولنا بعث هيكل‬
‫جامع مع املرسحيني «عز الدين قنون» ومع التشكيليني‬
‫«عمر الغداميس» والسنامئيني الهواة منهم واملحرتفني‬
‫ونقابة املوسيقيني ونقابة كتاب تونس «لسعد بن‬
‫حسني»‪ ...‬ورغم أن هذه املحاولة مل تنجح ‪ -‬ال قبل الثورة‬
‫وال بعدها ‪ -‬فإن األمل مل يفقد وسنواصل املحاولة‪...‬‬
‫وبكلمة موجزة فإن الحفاظ عىل الثبات ‪ -‬كمثقف‬
‫يحمل اله ّم الجامعي‪ -‬ليس بأمر سهل عىل مناضل سيايس‬
‫لذلك إن الجمع بني الحقلني يدفعني دامئا إىل اليقظة‬
‫حتى ال يطغى الواجب اآلين والتزاماته عىل الحلم الكبري‬
‫للمثقف الذي يسكنني وهو االرتقاء بالحلم الجامعي ‪-‬‬
‫ولو كان ذلك عىل مراحل ‪.-‬‬
‫* يتحدث بعض المفكرين الغربيين‪ ،‬منذ‬
‫ظهور العولمة وانتشارها على موت المثقف‬
‫بالمفهوم الكالسيكي الذي ترك مكانه‬
‫للخبير أو التقني‪ ...‬هل مازالت مقولة المثقف‬
‫العضوي صالحة للمرحلة التاريخية التي تم ّر‬
‫بها اإلنسانية اليوم ؟‬
‫ نحتاج دامئا إىل خربة الخرباء وتخصص التقنيني اليوم‬‫أكرث من أي وقت مىض‪ ،‬بحكم تشعب الحياة وتعقيداتها‬
‫وتطور العلوم والتقنيات‪ ،‬فنحن يف حاجة باعتبارنا سياسيني‬
‫ومثقفني الستيعاب ‪ -‬ولو جزء ‪ -‬من هذه املكتسبات‬
‫املستحدثة من ذلك مثال البد لنا من درس وتأهيل يف‬
‫تعاملنا مع اإلعالم واستعامله وكذلك عند ضبط الربامج‬
‫السياسية والثقافية ال بد من اللجوء إىل الخرباء أصحاب‬
‫التخصص الدقيق وهو ما نلجأ إليه بانتظام يف الجبهة‬
‫الشعبية مثال عند إعدادنا الخطو َط‬
‫العريض َة للتصدي للمديونية أو‬
‫الجباية وكيفية ضبطها وإدخال‬
‫جرعة من الدميقراطية والعدالة‬
‫فيها أو عند محاولة ضبط الطرق‬
‫السليمة للتنمية الجهوية أو عند‬
‫اقرتاح مشاريع قوانني فال بد من‬
‫االستعانة بالخرباء‪...‬‬
‫اليشء نفسه بالنسبة إىل‬
‫الثقافة‪ ،‬فالرجوع ألهل االختصاص‬
‫يف ميادين التنشيط أو التسويق أو‬
‫الصناعة الثقافية أو ضبط حقوق‬
‫املؤلفني أو النرش والتوزيع‪ ...‬ومع‬
‫كل هذا فإن دور املثف ال ميكن أن يُلغى ألن املثقف‬
‫العضوي يتجدد فيعتمد ما يضيفه إليه التقني والخبري‬
‫من زاد رضوري لكنه يبقى الحامل للحلم واملسترشف‬
‫لآلفاق الجديدة واملتجاوز للممكن يبقى ذلك االنسان‬
‫القلق املهووس باآليت والفيلسوف الحائر املقلب لألسئلة‬
‫األزلية الحارقة واملستجدة‪ :‬من أنا‪ ،‬إىل أين‪ ،‬مالعمل؟ ما‬
‫مصري البرشية؟ وأي طريق أسلم لتحقيق األحالم؟ وكيف‬
‫نقلص األرضار وكيف نسعى إىل تحقيق السعادة لإلنسان‬
‫اآلن وهنا؟‬

‫* يتهم البعض المثقف التونسي خصوصا‬
‫منبت عن واقعه وغير‬
‫والعربي عموما بأنه ٌّ‬
‫فاعل فيه‪ ،‬ويستدلّون عن ذلك بضعف‬
‫مشاركته فيما ُس ّمي بالربيع العربي إبان‬
‫الثورة وخالل المسار الثوري‪ ،‬الى أي مدى يصح‬
‫هذا االتهام؟ وما هي األسباب حسب رأيك؟‬
‫ إن املفهوم العادي والشائع للمثقف ينطبق عىل ما‬‫ذهب إليه السؤال وهو توصيف االنبتات وذلك متاشيا مع‬
‫املفهوم املاركيس للمثقف الربجوازي‪ ،‬ذلك الخائن لطبقته‬
‫والساعي إىل االلتحاق بالطبقات املحظوظة حتى يتمتع‬
‫بالجاه واملنزلة االجتامعية والنفوذ السيايس واالقتصادي‬
‫فيتنكر املثقف بهذا املعنى ألصله الشعبي الفقري ويطمح‬
‫إىل اللحاق مبن هم أعىل منه طبقيا ويتناىس دوره األصيل‬
‫يف االرتقاء مبواطنيه والدفاع عن قضايا العامل والفالحني‬
‫والطلبة فيصيب نظره الحول ألنه مل يعد ينظر إىل األسفل‬
‫رصه ويضَ لَّ الطريق إىل‬
‫بل إىل ما ليس بحوزته فيعىش ب ُ‬
‫نفسه وشعبه‪ ...‬وهذا عشناه يف تونس خاصة قبل الثورة‪،‬‬
‫ويكفي أن نتذكر صائفة ‪ 1910‬والقامئات األلفية املناشدة‬
‫لنب عيل للرتشح مجددا النتخابات ‪ 2014‬وهو مازال خارجا‬
‫لت ّوه من انتخابات ‪ ،2009‬انتخابات ضد الدستور الذي‬
‫مكنه من ثالث ترشحات فقط ‪ 89/94/99‬وكان عليه أن‬
‫ال يرتشح من جديد سنة ‪ 2004‬ولكنه ح ّور الدستور عىل‬
‫مقاسه وكذلك فعل سنة ‪ 2009‬وقد حوت تلك القامئات‬
‫عددا كبريا من املثقفني واإلطارات العليا يف الدولة وأذكر‬
‫هنا بالخصوص قامئات الكتاب واألدباء والجامعيني وهي‬
‫أكرب القامئات نسبيا مقارنة بالقطاعات األخرى من فالحني‬
‫وصناعيني ومحامني وتجار‪...‬‬
‫وهذا أكرب دليل عىل تورط املثقف مع السلطة القامئة‪.‬‬
‫نسب فإن كان أغلب‬
‫ولكن هذا التعميم يجب أن يُ َّ‬
‫املثقفني قد اختاروا السالمة واملهادنة فإن أسامء أخرى قد‬
‫ناضلت ضد الدكتاتورية زمن بورقيبة وبن عيل وحتى زمن‬
‫الرتويكا فمن الكتاب ال بد من ذكر «فاتح وايل» صاحب‬
‫رواية مولد البطل الذي سجن يف عهد بورقيبة‪ ،‬والشاعر‬
‫منور صامدح وعز الدين املدين صاحب اإلنسان الصفر‬
‫وحسن بن عثامن صاحب ع ّباس يفقد الصواب وهشام‬
‫القروي صاحب رواية نون وآدم فتحي صاحب ديوان‬
‫«نشيد النقايب الفصيح» «وقد ُصودرت هذه الكتب زمن‬
‫بورقيبة» وبعدها استفحلت ظاهرة حجز الكتب ومنع‬
‫املرسحيات واألفالم زمن بن عيل وبلغت العرشات «راجع‬
‫كتابينا الحرية أوال‪ ...‬الحرية دامئا‪ ...‬ضد الرقابة عىل‬
‫اإلبداع دار سحر ‪ - 2013‬وعار الرقابة ‪ -‬دار سحر ‪» 2015‬‬
‫وفيهام قامئة الكتب املحجوزة‬
‫ومقاالت ودراسات تعريفية بأغلب‬
‫تلك الكتب كتبتها زمن بن عيل‬
‫ونرشتها يف الجرائد التالية املوقف ‪/‬‬
‫مواطنون‪ /‬الطريق الجديد‪ .‬وهنا ال‬
‫بد من ذكر توفيق بن بريك وإيقافه‬
‫ومحاكمته واضطراره إىل نرش كتبه‬
‫خارج تونس‪ ...‬ونذكر بدور رابطة‬
‫الكتاب األحرار وبأدوار كل من‬
‫جلول عزونة والشهيد الشاعر شكري‬
‫بلعيد والشهيد الشاعر الفاضل سايس‬
‫والدكتور الكاتب املنصف املرزوقي‬
‫ومن املحامني ما قام به كل من فوزي‬
‫بن مراد وراضية النرصاوي وعبدالنارص العويني وفاضل‬
‫محفوط والبشري الصيد ومحمد عبو وجالل الزغالمي‪...‬‬
‫وغريهم يُع ّدون بالعرشات‪.‬‬
‫وال ننىس دور السياسيني املثقفني والكتاب منهم‬
‫بالخصوص‪ :‬حمة الهاممي وعبدالرزاق الكيالين‬
‫ومحمد الكيالين وأحمد ابراهيم وعبدالرزاق الهاممي‬
‫وعبداللطيف عبيد وأحمد الخصخويص والشاعر بوجمعة‬
‫الدنداين وعبدالجبار املدوري وخريي الصوابني والشاعر‬
‫سمري طعم الله والشاعر املناضل الطاهر الهاممي‪...‬‬

‫الحفاظ على الثبات‬
‫وضرورة الموازن‬
‫بين الواجب والحلم‬
‫عند المثقف‬

‫وكذلك املثقفون الذين عمروا الجمعيات والنقابات‬
‫ونذكر منهم محمد الجابليّ ونورالدين الشمنقي وعاللة‬
‫حوايش‪« ...‬يف رابطة الكتاب األحرار» وخالد الكرييش‬
‫وعادل معيزي «يف هيأة الحقيقة والكرامة» وشكري‬
‫لطيف‪ »...‬جمعية مناهضة التعذيب»‪ ...‬والقامئة طويلة‬
‫دون شك‪.‬‬
‫وهذا ما جعل من بالدنا تونس العزيزة يف طليعة‬
‫الدول العربية التي عرفت التعددية السياسية والحيوية‬
‫االجتامعية املبكرة منذ أواخر القرن التاسع عرش‬
‫«بعهد األمان» ودستور ‪ 1861‬وبعث «مجلة الحارضة»‬
‫و«الجمعية الخلدونية» وإلغاء ال ّرقّ والعبودية ‪1846‬‬
‫وبعث أول منظمة للدفاع عن حقوق اإلنسان يف البالد‬
‫العربية واإلفريقية‪...‬‬
‫ومع كل هذا‪ ،‬فإن عىل املثقف التونيس والعريب‬
‫االنغراس أكرث يف واقعه والعمل عىل تغيري مجتمعاتنا ‪-‬‬
‫املحافظة جدا ‪ -‬والدفع بها نحو عقالنية أكرب ونحو التنوير‬
‫الفكري والرتبية عىل تطوير امللكة النقدية لدى املواطن‬
‫العادي حتى تصبح خبزا يوميا‪.‬‬
‫الدولة الوطن ّية في تونس‬
‫* منذ نشأة ّ‬
‫والمثقف على م ّر‬
‫السلطة‬
‫ّ‬
‫كانت العالقة بين ّ‬
‫الطويلة‬
‫العقود متو ّترة‪ .‬انطالقا من تجربتك ّ‬
‫ياسي ما هي‬
‫ّقافي ّ‬
‫والس ّ‬
‫في المجالين الث ّ‬
‫والمثقف؟‬
‫الصراع على واقع الثّقافة‬
‫ّ‬
‫مآالت ذاك ّ‬
‫ هناك محطّات مه ّمة يف هذا الصرّ اع األز ّيل بني‬‫السلطة يف بالدي كام يف بالد العامل‪ .‬وأذكّر هنا‬
‫املثقّف و ّ‬
‫مبصادرة مجلّة ‪ Action’L‬بعد مقال عن حكم بورقيبة‬
‫الفرد ّي (مح ّمد املصمودي والبشري بن يحمد)‪ ،‬وبطرد‬
‫ال ّدكتور هشام جع ّيط من كلّ ّية الشرّ يعة وأصول ال ّدين‬
‫بعد مقال له بعنوان ‪arrivés sont arrivistes Les‬‬
‫وبحلّ الشبكة الجمعيات املستقلّة الّتي لعبت أدوارا‬
‫مه ّمة زمن االستعامر‪ ،‬وكلّ الجمعيات األخرى يف تونس‬

‫(الثّقاف ّية واألدب ّية والخرييّة والطّالب ّية‪ )...‬عند إحداث‬
‫وزارة الثّقافة أوائلَ ستّينات القرن املايض‪ ،‬وما تبع ذلك‬
‫من إحداث لجان ثقاف ّية وطن ّية وجهويّة ومحلّ ّية مع ّينة‬
‫ومنصبة وتابعة وبالتّايل اإلبعاد التّا ّم لألصوات املستقلّة‬
‫ّ‬
‫واملعارضة وتدجني املشهد الجمعيايتّ والحز ّيب لفائدة‬
‫الحزب الواحد األوحد‪.‬‬
‫والب ّد من التّذكري هنا بتج ّند عدد قليل من املثقّفني‬
‫وال ّنقابيني ض ّد محاولة هيمنة ال ّدولة عىل االتّحاد العا ّم‬
‫يس للشّ غل بعد ‪ 26‬جانفي ‪( 1978‬بيان املثقّفني‬
‫التّون ّ‬
‫الصادر بجريدة ال ّرأي واملمىض من عرشة جامعيني نذكر‬
‫ّ‬
‫منهم بالخصوص املرحوم صالح القرمادي واملرحوم صالح‬
‫املغرييب ود‪ .‬حماّ دي الشرّ يف وتوفيق بكّار وعبد املجيد‬
‫الشرّ يف‪ ،)...‬وبصمود نقابة التّعليم العايل والبحث العلمي‬
‫املنصبني عىل رأس قيادة االتّحاد‪ ...‬كام ال‬
‫ض ّد «الشرّ فاء» ّ‬
‫ننىس دور رابطة الكتّاب األحرار ونقابة كتّاب تونس منذ‬
‫السلطة‬
‫انبعاثهام سنة ‪ 2001‬و‪ 2010‬يف التّص ّدي لهيمنة ّ‬
‫وإلرادة فرضها لصوت واحد هو صوتها‪ .‬وال ننىس أيضا‬
‫الصحافيني‬
‫السينامئيني واملرسحيني وخصوصا ّ‬
‫صمود ّ‬
‫السلطة املتواصلة‬
‫محاوالت‬
‫د‬
‫ض‬
‫ار‬
‫ر‬
‫األح‬
‫التّونسيني‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لرتكيعهم وتدجينهم‪.‬‬
‫رشفة كان ال ب ّد من‬
‫امل‬
‫ة‬
‫ي‬
‫ضال‬
‫ن‬
‫ال‬
‫ّات‬
‫كلّ هذه املحط‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التّذكري بها لنستنتج أمرين مه ّمني‪:‬‬
‫السلطة بقمعها وسياساتها الجامعة بني‬
‫أ ّولهام أ ّن ّ‬
‫العصا والجزرة وبني الترّ غيب والترّ هيب قد استطاعت‬
‫دون ّ‬
‫شك لج َم عديد األصوات وترويضها لفائدتها فغنمت‬
‫تبعيّتها لها واستغاللها يف دعايتها يف شتّى املجاالت‪ .‬من‬
‫ذلك مثال ترويض عرشات املؤ ّرخني الجامعيني التّونسيني‬
‫وغريهم لكتابة تاريخ تونس املمت ّد عىل أكرث من ثالثة‬
‫آالف سنة يف كتاب صدر أوائلَ األلف ّية بتونس نرشه‬
‫مركز ال ّدراسات االجتامعيّة واالقتصاديّة يف أربعة أجزاء‪،‬‬
‫خصصت األجزاء الثّالثة األوىل منها لتأريخ ألف سنة بينام‬
‫ّ‬
‫خصص الجزء ال ّرابع بأكمله لتأريخ عرش سنوات فحسب‬
‫ّ‬

‫‪6‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫من حكم زين العابدين بن عيل‪ .‬وهذا أبلغ مثال عىل‬
‫تزوير تاريخ الشّ عوب وتزييفها‪ ،‬وكانت فضيحة كربى‬
‫لتملّق «املؤ ّرخني ال ّرسميني» وخيانتهم لدورهم ورسالتهم‪.‬‬
‫الصمود وال ّنضال والوفاء للمبادئ هي‬
‫ثانيهام أ ّن ّ‬
‫الحصيلة اإليجابيّة لكلّ نفس مثقّف‪ ،‬و«ما يْدوم يف الوا ْد‬
‫عبي العميق واألصيل‪.‬‬
‫كان َح ْجرو» كام يقول مثلنا الشّ ّ‬
‫وقد ثبت م ّرة أخرى ما ُج ّرب منذ قرون‪ :‬أ ّن أرض تونس‪،‬‬
‫عبي املنغرس يف تربتها‪ ،‬عص ّية عىل كلّ ج ّبار‪.‬‬
‫ّ‬
‫بحسها الشّ ّ‬
‫الصو ّيف سيدي أحمد ز ّروق‪،‬‬
‫يقول الشّ اعر والكاتب والعامل ّ‬
‫قص ُف»‪.‬‬
‫دفني ليبيا متح ّدثا عن تونس‪...« :‬وكلّ ج ّبار بها يُ َ‬

‫يف تربة بالدنا ويف أفئدة شبابنا‪ .‬وأنا أزعم أ ّن جذوتها لن‬
‫تنطفئ‪ ،‬وأ ّن سلسلة التّح ّركات االحتجاج ّية الّتي مل تنقطع‬
‫يوما ستتواصل إىل أن يحني موعدها‪ .‬فاألفئدة‪ ،‬وقد ذاقت‬
‫حالوة الح ّريّة وقد تراءت لها إمكان ّية تحقيق الحلم يف غد‬
‫أكرث عدالة يف توزيع الثرّ وة الوطنيّة ويف تساوي الحظوظ‬
‫للجميع‪ ،‬لن تستكني مطلقا بعد اليوم لتلعب دور الضّ ح ّية‬
‫وترىض بال ّدون‪.‬‬
‫فالثّورة الثّقاف ّية تتطلّب لتنجح وقتا لتتغيرّ العقليات‬
‫ولتتع ّود عىل كرس املمنوعات أو ما يبدو كذلك إىل حني‪.‬‬
‫ظل الجامعيون ‪ -‬وهم نخبة‬
‫* لماذا ّ‬
‫المجتمع – ح ّتى بعد الثّورة حبيسي جدران‬
‫الجامعة؟‬
‫ لقد سبق أن تح ّدثت عن خيانة املثقّف ني ‪trahi� La‬‬‫‪ clercs des son‬من وجهة نظر ماركسيّة وغريها‪ .‬وكأ ّن‬
‫ذلك قانون رسمد ّي عرفته كلّ الحضارات يف كلّ األزمنة‪.‬‬
‫الجامعي يف ما ّدة‬
‫وكان صديقي ورفيق دريب األستاذ‬
‫ّ‬
‫الفيزياء‪ ،‬املناضل منري كشّ وخ‪ ،‬يستنكف تقدميه ملن ال‬
‫يعرفه بكونه أستاذا جامعيّا‪ ،‬وكان يغضب ع ّيل صارخا‪:‬‬
‫الساحقة‬
‫«ملاذا تريد إهانتي بتقدميي جامع ًّيا واألغلب ّية ّ‬
‫رشف ال الجامعة وال الوطن وال عموم‬
‫من جامعيينا ال ت ّ‬
‫املواطنني‪ ،‬أنا ال أرىض بتقدميي إالّ مناضالً وكفى»‪.‬‬
‫وفعال‪ ،‬فأغلب جامعيينا إ ّما م ّمن ناشد بن عيل وتذلّل‬
‫وانبطح وسال لعابه أمام إغراءات نظام بن ع ّيل للحصول‬
‫عىل بعض االمتيازات املاليّة أو املعنويّة من مناصب‬
‫ومسؤوليات سياس ّية‪ ..‬أو م ّمن تعاىل عىل املواطنني‬
‫العاديني معتربا نفسه‪ ،‬بفضل ما لديه من شهائد جامعيّة‪،‬‬
‫قني‬
‫فوق مستوى بق ّية البرش‪ ،‬وغرقوا يف ّ‬
‫تخصصهم التّ ّ‬
‫ّ‬
‫الجاف واملحدود‪ ،‬متقوقعني حول ذواتهم املتضخّمة‬
‫مرض ّيا‪ ،‬وانزووا يف جدران الجامعة‪.‬‬

‫ّقافي‬
‫* ي ّتفق جميع الخابرين بالمشهد الث ّ‬
‫ونسي أ ّنه لم يشهد بعد الثّورة تغييرا جذر ّيا‬
‫ال ّت ّ‬
‫المثقفين مع الواقع‬
‫إن على مستوى تعاطي ّ‬
‫كما ونوعا‪.‬‬
‫االجتماعي أو على مستوى اإلنتاج ّ‬
‫ّ‬
‫إالم ُيعزى ذلك حسب رأيك؟‬
‫يس خالل أكرث من‬
‫ لقد متيّز املشهد الثّقا ّيف التّون ّ‬‫عرشيّتني قبل الثّورة بالتّن ّوع يف اإلنتاج والثرّ اء كماّ وكيفا‪،‬‬
‫السلطة تدجني املثقّفني‪ .‬فاستطاع‬
‫رغم ال ّرقابة ومحاولة ّ‬
‫يس‪ ،‬داخل البالد وأحيانا خارجها اضطرارا‪ ،‬إنتاج‬
‫التّون ّ‬
‫ك ّم مه ّم نسبيّا يف كافّة امليادين‪ ،‬مرسحا وف ّنا تشكيليّا‬
‫القصة‬
‫وسينامئ ّيا ودراسات وإبداعا خصوصا يف ال ّرواية و ّ‬
‫والشّ عر‪ ،‬وهو ما جعل عديد األسامء تش ّع وطنيّا وعربيّا‬
‫ودول ّيا‪ .‬وتقلّص اإلنتاج ربمّ ا نوع ّيا بعد الثّورة‪ ،‬بسبب‬
‫دخول البالد واملواطنني رهانات جديدة تتمثّل يف تجربة‬
‫يش عىل‬
‫ال ّدميقراط ّية الجنين ّية وغلبة اله ّم ّ‬
‫يس واملعي ّ‬
‫السيا ّ‬
‫ما سواهام‪ ،‬ولكن بكلّ تأكيد لتقلّص ميزانيّة وزارة الثّقافة‬
‫تخصص لألجور)‪ .‬هذا ما جعل رابطة‬
‫(قرابة ‪ 80%‬منها ّ‬
‫الكتّاب األحرار تتج ّند يف سلسلة من الوقفات للتّنديد‬
‫بهذا التّمشيّ يف التّقليص بدالً عن الترّ فيع‪.‬‬
‫وقد الحظنا ومازلنا ارتجاال مخجال يف تنظيم التّظاهرات‬
‫الثّقاف ّية (العدول مثال عن اللّجنة االستشاريّة الوطن ّية‬
‫ملعرض الكتاب الّتي رأت ال ّنور بعد الثّورة‪ ،‬والعودة إىل‬
‫االنغالق داخل ال ّدوائر اإلداريّة للوزارة‪ ،‬مماّ جعل ال ّرابطة‬
‫تقاطع املشاركة يف ورشات املعرض‪ ،‬وكذلك معرض‬
‫جينيف للكتاب وعودة الوجوه القدمية واملامرسات الّتي‬
‫بان فشلها أكرث من م ّرة)‪ ،‬وبالخصوص غياب اسرتاتيجيا‬
‫مح ّددة املالمح والترّ كيبة ملقاومة اإلرهاب بالثّقافة ولجعل‬
‫الثّقافة خبزا يوميّا لكلّ مواطن (من ال ّروضة إىل الجامعة‬
‫وداخل كلّ الوزارات وكلّ الشرّ كات الوطن ّية وكلّ القرى‬
‫واألرياف‪ ،‬ومن املهد إىل اللّحد‪ ،‬ببعث الورشات الثّقافيّة‬
‫حي وداخل كلّ البيوت‪.).‬‬
‫والفكريّة وال ّرياض ّية يف كلّ ّ‬
‫هكذا فقط ميكن لنا أن نغيرّ واقعنا الثّقا ّيف يف العمق‪،‬‬
‫بترشيك كافّة املثقّفني يف التّص ّور والتّخطيط والتّنفيذ‬
‫للسياسة الثّقافيّة للبالد‪ .‬ولن يتس ّنى ذلك إالّ مببدأ ح ّريّة‬
‫ّ‬
‫التّنظّم عىل أساس االنتخاب يف كلّ الهياكل محلّ ّيا وجهويّا‬
‫ووطنيّا‪ ،‬حسب روح دستور الثّورة‪.‬‬

‫والمنظمات‬
‫* عديدة هي الجمعيات‬
‫ّ‬
‫والمثقفين في‬
‫ّقافي‬
‫المهتمة ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫بالشأن الث ّ‬
‫تونس‪ ،‬ونذكر على سبيل المثال رابطة‬
‫تترأس هيئتها‪ .‬لماذا‪،‬‬
‫الك ّتاب األحرار الّتي‬
‫ُ‬
‫ظل حال الك ّتاب والمبدعين في‬
‫رغم ذلك‪ّ ،‬‬
‫غالبيتهم مزريا؟‬
‫ رغم وجود وزارة الثّقافة منذ أوائل ستّينات القرن‬‫املايض وبقائها أفقر وزارة من حيث امليزانيّة‪ ،‬فإ ّن‬
‫غياب ال ّنصوص القانون ّية الكافية والواضحة املعرتفة‬
‫بدور املثقّف يف بالدنا وحقّه يف العيش الكريم ورعايته‬
‫الص ّح ّية املضمونة اجتامع ّيا‪ ،‬قد أبقى الوضع العا ّم للكتّاب‬
‫ّ‬
‫واملبدعني يف أسوأ حال‪ .‬ولن يتغيرّ الوضع إالّ بتجميع‬
‫هؤالء يف هياكل أقوى وأحسن تنظيام ملواصلة التّج ّند‬
‫من أجل فرض إصدار تلك ال ّنصوص وتطويرها وخصوصا‬
‫العمل عىل تغيري ال ّنظرة االجتامع ّية للمبدع ومكانته‬
‫ودوره‪.‬‬

‫* لماذا لم تقع حسب رأيك الثّورة الثّقاف ّية‬
‫المنشودة؟‬
‫ عندما وقع االلتفاف عىل مجلس حامية الثّورة منذ‬‫أواسط سنة ‪ ،2011‬بل بعد أقلّ من ثالثة أشهر من فرار‬
‫بن عيل‪ ،‬وذلك ببعث ما يس ّمى «الهيئة العليا لتحقيق‬
‫أهداف الثّورة‪( »..‬انظر كتاب شكري لطيف «مجلس‬
‫حامية الثّورة – دار سحر – ‪ ،)2014‬انقسم املجلس واعرتى‬
‫الفتو ُر نشاطَه وتجاهلته وسائل اإلعالم املدعومة من قُ ًوى‬
‫خفيّة ومعلومة‪ ،‬داخليّة وخارجيّة‪ ،‬متثّل القوى ال ّرجعيّة‬
‫وال ّرأسامل ّية املرتبطة مصالحها بالخارج‪ ،‬وتساندها بخفْية‬
‫يف أ ّول األمر وعل ًنا فيام ب ْع ُد قوى التّهريب والتّه ّرب‬
‫الجبا ّيئ واإلرهاب والتّج ّمعيون ال ّدستوريون‪ ،‬مبباركة من‬
‫العاملي بدعم قطر ّي تريكّ‪ ،‬التقت كلّ تلك‬
‫تنظيم اإلخوان‬
‫ّ‬
‫القوى إلجهاض الثّورة وملنع الثّورة الثّقاف ّية الّتي أطلّت‬
‫برأسها وبشرّ ت بها القوى املؤمنة بالتّغيري والتّط ّور‪.‬‬
‫ولك ّن البذرة الثّوريّة الثّقاف ّية ‪ -‬حسب رأينا ‪ -‬قد زرعت‬

‫المثقف‬
‫إن ّ‬
‫* هل تشاطر ال ّرأي القائل ّ‬
‫واليساري خصوصا‬
‫مي عموما‬
‫ّ‬
‫العربي ال ّت ّ‬
‫قد ّ‬
‫ّ‬
‫عاجز عن فهم مجتمعه وعن الفعل فيه‬
‫بسبب استناده إلى نظريات ومرجعيات‬
‫مستوردة وعلى غير صلة بثقافة شعبه‬
‫ووجدانه؟‬
‫الص ّحة خصوصا‬
‫ إ ّن هذا ال ّرأي فيه جانب كبري من ّ‬‫يس والعر ّيب غري مدروس‬
‫إذا ما علمنا بأ ّن مجتمعنا التّون ّ‬
‫اجتامعي وباملقاربات املعلومة‬
‫بالقدر الكايف من جانب‬
‫ّ‬
‫العلم ّية العامل ّية‪ .‬ونحن نعرف أ ّن أصغر األقسام يف‬
‫جامعتنا هو قسم علم االجتامع (أساتذ ًة وطالّبا) ولنا‬
‫قسم وحيد فقط يف كامل الجامعات التّونس ّية‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬ليس غريبا أن نركن إىل تدريس تجارب غرينا من‬
‫األمم وإحصائ ّياتهم ولغاتهم وفنونهم وآدابهم وعقائدهم‬
‫ونفسياتهم وعقلياتهم باألساليب واملناهج التّي ابتدعوها‬
‫هم‪ .‬فشعوبنا هي إذن كالعجني «غري املعروك وغري‬

‫املحكوك» كفاي ًة وهو أمر رضور ّي إلنتاج حلويات ممتازة‪.‬‬
‫فمجتمعاتنا بدائ ّية من ال ّناحية ال ّدراس ّية‪ ،‬نجهل جوهرها‬
‫وخصوصياتها ونقائصها وممي ّيزاتها‪ .‬فال تنجح فيها‬
‫استنباطاتنا يف كافّة امليادين وال مقرتحاتنا وال تص ّوراتنا‬
‫إلصالح أعطابها الكثرية‪ .‬فتكون حلولنا شبه علم ّية‪،‬‬
‫مسقطة عىل واقع غري متحكّم فيه‪ ،‬فال هي بالحلول‬
‫الناجعة وال هي تس ّهل عمل ّيات االنتقال من طور إىل آخر‪،‬‬
‫بل ربمّ ا تتفاقم األعطاب بسبب ذلك القصور‪.‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فإ ّن االستنارة بتجارب غرينا من الشّ عوب‬
‫وبنتائج أبحاثها وعلومها رضوريّة لنا ألنّنا يف آخر األمر‬
‫جزء من البرشيّة‪ ،‬ويكون تفتّحنا عليها أمرا حتم ّيا مبا أ ّن‬
‫مصريها هو مصرينا‪.‬‬
‫والمحقق‬
‫* ما تفسيرك وأنت الباحث‬
‫ّ‬
‫بقوة خالل العقدين‬
‫ياسي ّ‬
‫لعودة اإلسالم ّ‬
‫الس ّ‬
‫العربي؟‬
‫األخيرين في تونس وفي الوطن‬
‫ّ‬
‫ باعتبارنا مثقّفني‪ ،‬ال ب ّد لنا من نظرة أشمل ما ميكن‬‫يس‪ ،‬وكذلك‬
‫لهذه الظّاهرة‪ ،‬وهي عودة اإلسالم ّ‬
‫السيا ّ‬
‫توسيع معارفنا مبا طرأ عىل شعوب أخرى غرينا سبق أن‬
‫عاشت هذه املرحلة من تاريخها‪.‬‬
‫من ذلك ما ت ّم يف أوروبّا طيلة أكرث من قرن‪ ،‬من آخر‬
‫السادس عرش مماّ س ّمي‬
‫القرن الخامس عرش حتّى القرن ّ‬
‫بالحروب ال ّدين ّية‪ ،‬بني الكاثوليك والربوتستانت‪ ...‬وما‬
‫شاب تاريخ بلداننا العرب ّية واإلسالم ّية وما دار من حروب‬
‫الس ّنة (يف تونس دور سيدي‬
‫دمويّة فيها بني الشّ يعة و ّ‬
‫الس ّنة‬
‫محرز بن خلف زمن ال ّدولة الفاطم ّية) وما بني ّ‬
‫والخوارج (ظهور دولة تاهرت بالجزائر‪ ،‬ال ّدولة ال ّرستم ّية)‬
‫وحرب القرامطة وثورة صاحب الحامر بديارنا ض ّد ال ّدولة‬
‫الشّ يع ّية باملهديّة وحروب اإلمام ّية ال ّزيديّة باليمن ض ّد‬
‫السلطة العثامن ّية وحرب هذه ض ّد شيعة فارس‪...‬‬
‫ّ‬
‫وربمّ ا ما ت ّم يف بلداننا من محاوالت تحديث ّية ملجتمعاتنا‬
‫رسعة‪ ،‬مماّ دفع بفئات‬
‫بصفة فوق ّية مسقطة وقد تكون مت ّ‬
‫السبل‬
‫انتهاج‬
‫و‬
‫العاطفي‬
‫عريضة إىل ر ّد الفعل القو ّي و‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ال ّدمويّة لفرض تص ّوراتهم‪ .‬كلّ هذا يدفعنا إىل االنكباب‬
‫عىل واقعنا املعقّد ج ّدا بال ّدرس والتّحليل ومحاولة ترشيك‬
‫كافّة ال ّناس يف نقد هذا الواقع وتفكيك جميع عنارصه‬
‫ومحاولة فهمه الفهم األعمق واقرتاح الحلول لدائه بصفة‬
‫جامع ّية‪.‬‬
‫السقوط يف نظريّة املؤامرات الخارج ّية‪،‬‬
‫دون‬
‫ننىس‪،‬‬
‫وال‬
‫ّ‬
‫دور القوى الخارج ّية لل ّدول الكربى وللتّ ّيارات ال ّدين ّية‬
‫العامل ّية املتط ّرفة من تصدير تص ّوراتها خدمة ملا تعتقده‬

‫«الحق املطلق» وملا تكون قد رضيت بأن تلعبه من دور‬
‫ّ‬
‫لفائدة تلك القوى ومصالحها‪ .‬ومع هذا الوعي ال ّدقيق‬
‫بأخف‬
‫بكلّ هذه املامرسات ميكننا اجتياز املرحلة ال ّراهنة ّ‬
‫رسع أو تش ّنج ولكن ليس من دون‬
‫األرضار املمكنة دون ت ّ‬
‫اليقظة والحزم الضرّ وريني‪.‬‬
‫* لماذا حسب رأيك لم تنجح الالّئك ّية في‬
‫فرض نفسها في المجتمعات العرب ّية؟‬
‫ حني أمضينا ‪ -‬ضمن ما س ّمي بهيئة ‪ 18‬أكتوبر (من‬‫‪ 2005‬إىل ‪ )2011‬وك ّنا عديد الجمعيات (مبا فيها رابطة‬
‫الكتّاب األحرار) واألحزاب عىل ثالثة نصوص أساس ّية‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اعتبار مجلّة األحوال الشّ خصيّة بتونس أمرا إيجابيّا‬
‫ينبغي تطويره إىل ما هو أحسن‬
‫ب – فصل ال ّدين عن ال ّدولة‬
‫ج – ح ّريّة الضّ مري واملعتقد‪...‬‬
‫مع عديد البيانات األخرى‪ ،‬تراجعت حركة ال ّنهضة بعد‬
‫الثّورة عىل ما أمضت عليه باعتبار أ ّن أغلب قواعدها‬
‫غري موافقني عىل ما رضيت به القيادة تكتيكيّا يف مرحلة‬
‫الصعب‪ .‬وهذا املثال دليل قاطع عىل أن‬
‫ال ّنضال املشرتك و ّ‬
‫يس الّذي تطغى فيه األ ّميّة‬
‫جزءا كبريا من املجتمع التّون ّ‬
‫الفعل ّية وشبه األ ّم ّية مل يبلغ ب ْع ُد من الوعي ما يجعله‬
‫يف ّرق بني ما هو مد ّين جمهور ّي وما هو عقائد ّي وإميا ّين‪.‬‬
‫لذلك تلزمنا مراحل أخرى طويلة حتّى تصري الالّئك ّية‬
‫مفهومة ومقبولة‪.‬‬
‫رجل‬
‫* أخيرا‪ ،‬من وجهة نظرك ّ‬
‫مثق ًفا وليس َ‬
‫تحقق الثّورة ال ّتونس ّية ح ّتى‬
‫سياسة‪ ،‬لماذا لم ّ‬
‫اآلن أهدافها؟‬
‫ تلزمنا أعوام وأعوام من التّغلغل املعر ّيف والفكر ّي‬‫العلمي وخصوصا األد ّيب يف ضامئر أفراد شعبنا ويف‬
‫و ّ‬
‫عقل ّيته‪ ،‬بتحبيبنا إيّاه إلبداعاتنا وآدابنا (مرسح وغناء‬
‫وقصة ودراسات‬
‫ورقص وفنون تشكيليّة وموسيقى ورواية ّ‬
‫يف كافّة االختصاصات)‪.‬‬
‫يس‪ ،‬وهو أحسن حاال من عقول‬
‫فعقل املواطن التّون ّ‬
‫غريه من مواطني الشّ عوب العرب ّية ‪ -‬أو هكذا نزعم ‪-‬‬
‫كاألعىش بني العميان‪ .‬فهو مازال خا ًما أو يكاد‪ ،‬وتربة‬
‫بالدنا مازالت بورا‪ .‬وعلينا بالعمل الجا ّد واملتواصل‬
‫ألجيال وبحرث تلك الترّ بة وإعادة الحرث إىل ما ال نهاية‪.‬‬
‫‪ ..peine la de prenez ,Labourez‬كام يقول الشّ اعر‬
‫يس الفونتان‪.‬‬
‫الفرن ّ‬

‫‪7‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫محنة المثقف في عالقته‬
‫بالسلطة من خالل نماذج‬
‫عمره كام تحمله لنا كتب الرتاجم واملؤلفات التي‬
‫مليكة العمراني‬
‫ألفت يف شأنه‪.‬‬
‫إن املتأمل يف سرية أيب حيان التوحيدي خاص ًة يف‬
‫طرحت إشكالية عالقة املثقف بالسلطة يف أدبيات النقد‬
‫عالقة املثقف بالسلطة تكشف لنا جانباً من جوانب‬
‫العريب القديم والحديث عىل السواء وبشكل معمق وأثارت‬
‫محنة املثقف عرب األزمنة وسعيه إىل أن يكون‬
‫ومازالت تثري جدال كبريا يف األوساط الفكرية والثقافية قدميا‬
‫حرا ً مختلفاً يفلسف ويتفلسف ويفكر بعيدا ً عن‬
‫وحديثا‪.‬‬
‫إكراهات املجتمع والسلطة ولقد عالج إبن خلدون‬
‫إن املثقف هو ضمري أمته وهو الناطق الرسمي هذه املسألة يف مقدمته ونعني بذلك العالقة بني‬
‫باسم وعيها وكثريا ما كان املبدع واملثقف مدافعا السلطة السياسية واألدبية وقال يف هذا الصدد «اعلم‬
‫عن القضايا اإلنسانية العادلة كالحق والخري والعدل أن السيف والقلم كالهام آلة لصاحب الدولة يستعني‬
‫والحرية وعن منظومة القيم الثقافية السائدة يف بهام عىل أمره»(‪.)3‬‬
‫عرصه‪ .‬وإذا كانت الصورة التي ميثلها املثقف تختلف وكثريا ً ما ارتبطت وظيفة املثقف بااللتزام بقضايا‬
‫عرب األزمان فإنه كثريا ما لعب أدوارا ووظائف متغايرة عرصه وعدم الخضوع إىل إكراهات املناصب وميكننا‬
‫ومختلفة عرب األزمان فنجد املثقف املوايل للسلطة أن نذكر عىل سبيل املثال أيضا محنة إبن رشد املفكر‬
‫ونجد املثقف املعارض لها أو املناهض ألفكارها كام والفيلسوف العريب ولد سنة ‪ 520‬هـ وتويف سنة ‪595‬‬
‫نجد ما يسمى اليوم باملثقف الحر من كل االلتزامات هـ وقد قامت شهرته أساسا عىل الفلسفة والفقه‬
‫الفكرية والسياسية‪.‬‬
‫وكانت مؤلفاته يف الفقه سابقة للفلسفة وتشغل حياة‬
‫يخلو‬
‫ال‬
‫منهجي‬
‫بشكل‬
‫التالية‬
‫اإلشكاليات‬
‫وسننظر يف‬
‫إبن رشد القرن الثاين عرش تقريبا وهو مرتبط مبحاولة‬
‫من الدقة العلمية ومن املوضوعية الالزمة‪ .‬كثريا ما العباسيني يف الرشق العريب واألمويني من توسيع لحقل‬
‫كان املثقف فاعال منفعال شاهدا عىل عرصه ميكننا العلم والنهوض به رافدا أساسيا من روافد املعرفة‬
‫لقي إبن رشد بدوره عىل غرار أيب‬
‫أن نذكر عىل سبيل املثال تجربة أيب حيان التوحيدي والثقافة ولقد َ‬
‫هذا الذي قال عنه الدكتور عبد السالم املسدي يف حيان التوحيدي نكبات وحيفا كبريين وساهم ذلك‬
‫كتابه بني النص وصاحبه‪ :‬التوحيدي‪ -‬نزار قباين إنه يف شهرته الواسعة بعد وفاته وكثريا ما ارتبطت أعامل‬
‫أي «التوحيدي بسلوكه قد أضحى شخصية رصاعية‪ ،‬إبن رشد فكرا وفلسفة مبظاهر النقد والرشح والنقاش‬
‫وإن التوحيدي‪ ،‬بحديثه عن نفسه‪ ،‬قد أمىس شخصية والتمحيص‪.‬‬
‫خالفية‪ ،‬وإن التوحيدي بإرصاره عىل البوح واإلفاضة ولقد روى املؤرخون واملفكرون الذين أتوا بعده أن‬
‫قد بات شخصية إشكالية»(‪.)1‬‬
‫األندلس تحولت يف عهده إىل سوق فكرية وفلسفية‬
‫هو‬
‫الحق‬
‫املثقف‬
‫أن‬
‫وتفسري هذه املقولة مفادها‬
‫عظيمة وكان له دور بارز يف إحياء وإثراء الحياة‬
‫الذي يثري إشكاالت يف عرصه باعتباره مفكرا متميزا عن الثقافية يف تلك املرحلة من تاريخ املسلمني‪.‬‬
‫اآلخرين صاحب موقف من القضايا األدبية والثقافية وقد كان لنكبة إبن رشد أثرها يف التاريخ الفكري‬
‫يف عرصه‪.‬‬
‫والفلسفي فيذكر بعض املؤرخني أن من أسباب نكبة‬
‫إن أبا حيان التوحيدي قد تغلغل يف قضايا عرصه هذا الفيلسوف اختصاصه بأيب يحي شقيق الخليفة‬
‫االجتامعية والثقافية واملعرفية والسياسية وكان املنصور‪ .‬ويرجح بعضهم أن سبب محنته هو عدم‬
‫شاهدا عىل عرصه وهو «شاهد باإليجاب عىل قدر ما مجاملته ألمري املؤمنني ومهام يكن من األمر ميكننا‬
‫هو شاهد بالسلب»(‪.)2‬‬
‫أن نستنتج من خالل اطالعنا عىل بعض مؤلفات إبن‬
‫إن أبا حيان التوحيدي قد عاش محنة املثقف واملفكر رشد يف الفقه والفلسفة أن هذه األخرية كان العامل‬
‫يف عرصه وحمل وزر املظامل اإلنسانية املرتبطة بتفكره الحقيقي ملحنته وذلك ألنها صنعت له من األعداء‬
‫ألنه كان مساجالً كثري النزاع مناقشاً ومتكلامً بارعاً لفلسفته جعلوا من فلسفته مثال إشكال وشبهة‬
‫ذائع الصيت يف عرصه عايش املفكرين والفقهاء لدى املنصور وأمر األمري يف ذلك الزمن بإرسال رسائل‬
‫واملتكلمة ورجال الدين حتى انه قيل عنه أنه عرفة إىل األقاليم املجاورة ملنع كتبه وإجراء االسرتاتجيات‬
‫بقوة النفس وازدراء أهل عرصه‪.‬‬
‫القاضية إلحراقها وإتالفها واتهم إبن رشد بالزندقة‬
‫وأما املرحلة الفارقة يف حياته والتي شكلت أسباب واإللحاد وشاعت أخباره بني خصومه وسلطت عليه‬
‫محنته أنه أقدم عىل حرق كتبه مبا تحتويه من أبشع أنواع العقاب الفكري والنفيس وميكننا أن ننكر‬
‫مخطوطات ونفائس املصنفات وهو يف التسعني من بعض املؤلفات الفكرية والفلسفية إلبن رشد منها‬

‫«تهافت التهافت» والذي ناقش ودحض به كتاب‬
‫الغزايل «تهافت الفالسفة» رسالتان يف «اتصال العقل‬
‫املفارق باإلنسان» وترجمت هذه الرسائل الالتينية‬
‫والعربية إضافة إىل مؤلفات أخرى ال تحىص وال تعد‬
‫وقد يضيق هذا املقال عن حرصها‪.‬‬
‫كام أننا قرأنا يف هذا املجال كتابا تونسيا مهام لألستاذ‬
‫مصطفى التوايت عنوانه «املثقفون والسلطة يف‬
‫الحضارة العربية (الدولة البويهية منوذجا يف جزئني‬
‫عن منشورات املعهد العايل للغات بتونس جامعة‬
‫تونس ‪ 1‬سنة ‪ 1999‬وقد ذكر املؤلف يف الصفحة‬
‫األوىل من الجزء األول ما ييل «غن فئة املثقفني هذه‬
‫كثريا ما كانت تصطدم إبان القيام بوظيفتها بفئة‬
‫أخرى هي فئة رجال السياسة مبا يحوزونه من سلطة‬
‫سياسية ويتوفرون عليه من قوة مادية ومعنوية»‬
‫وفيه عرض أشكال عالقة املثقفني بالسلطة يف الدولة‬
‫البويهية وعرض مناذج من ذلك ومن أهم الفصول‬
‫التي ميكن التعرض إليها يف هذا الكتاب هو الفصل‬
‫الثالث من الكتاب وجاء تحت عنوان «كتاب الدولة‬
‫البويهية والرصاع من أجل السلطة عبد العزيز يوسف‬
‫منوذجا» وذكر فيه أن مصائب فئة الكتاب كانت‬
‫نتيجة أساسية الشتداد املنافسة بينهم وانغامسهم يف‬
‫الحياة السياسية إضافة إىل ما كان يسود عرص الدولة‬
‫البويهية من تكالب ورصاع دموي عىل السلطة‪.‬‬
‫من بني املثقفني الغرب الذين كتبوا عن عالقة املثقف‬
‫بالسلطة ميكن أن نذكر جوليان باندا وكتابه املوسوم‬
‫ب«خيانة املثقفني» ويضع فيه املثقف يف مرتبة عليا‬
‫معتربا إياه ضمري البرشية والناطق الرسمي باسم‬
‫وعيها وشعورها‪.‬‬
‫ويعترب جوليان باندا أن املثقف قادر عىل أن يقول‬
‫كلمته وأن يرصح بكلمة الحق يف مواجهة السلطة‬

‫وأنه ال سلطة بإمكانها أن تعلو عىل سلطة املثقف‬
‫واملثقف أيضا عىل ح ّد تعبري باندا يتمتع مبوهبة خاصة‬
‫وله رسالة وجب عليه تأديتها وهو ما ميتلك موقف‬
‫مغايرا من الوجود واملثقف وحده كفيل بأن يطرح‬
‫األسئلة عىل مجتمعه ليتمكن من كرس املمنوعات‬
‫واملقدسات عىل صعيد الفكر والفلسفة وتحرضنا يف‬
‫ما ييل مقولة شهرية لجربان خليل جربان مقتطفة من‬
‫كتابه رمل وزبد وهي التالية «باألمس رأيت فالسفة‬
‫يحملون رؤوسهم يف سالل وينادون بأعىل الصوت‬
‫«الحكمة للبيع مساكني هم الفالسفة ينبعون رؤوسهم‬
‫ليطعموا قلوبهم»(‪ )4‬والحقيقة أن لفظة قلوبهم هذه‬
‫يف غري محلها إذ ميكننا استبدال هذه العبارة املغرقة‬
‫يف الرومنسية بالجملة التالية «مساكني هم الفالسفة‬
‫يبيعون رؤوسهم ليطعموا بطونهم»‪)5(.‬‬
‫يف النهاية مقالنا هذا وحتى نفتح بابا للبحث واالجتهاد‬
‫ميكن أن نعود إىل املدونة الشعرية العربية والغربية‬
‫وعالقة الشعراء والكتاب (كتاب القصة والرواية‬
‫بالسلطة والسؤال الذي نطرحه هنا كيف كانت هذه‬
‫العالقة عرب العصور هل هي عالقة قطيعة أم عالقة‬
‫تواصل أم كالهام معا)؟‬
‫‪ )1‬الدكتور عبد السالم املسدي بني النص وصاحبه (‬
‫التوحيدي – نزار قباين) دار قرطاج للنرش والتوزيع‬
‫الطبعة األوىل‪ ،2002 ،‬ص‪.20‬‬
‫‪ )2‬الدكتور عبد السالم املسدي بني النص وصاحبه (‬
‫التوحيدي – نزار قباين) دار قرطاج للنرش والتوزيع‬
‫الطبعة األوىل‪ ،2002 ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ )3‬إبن خلدون‪ :‬املقدمة ص ‪.228‬‬
‫‪ )4‬األنصاري املخطوط‬
‫‪ )5‬د‪ .‬مصطفى التوايت‪ :‬املثقفون والسلطة يف الحضارة‬
‫العربية (الدولة البويهية منوذجا)ج‪1‬ص‪.7‬‬

‫‪8‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫لماذا يحقد التونسي على المثقف؟‬
‫السيد التوي‬

‫تمهيد‬
‫يتناول هذا املقال بال ّدرس موضوعا قدميا جديدا وهو نظرة املجتمع‬
‫إىل املثقف‪ ،‬كام يتنزل يف إطار الجدل الذي أمىس حارضا يف املشهد‬
‫السيايس يف تونس ويف البلدان العربية عشية االنتفاضات الشعبيّة‬
‫وما آلت إليه من تغيري يف هرم السلطة ويف بعض مالمح املجتمع‪.‬‬
‫ويدور هذا الجدل حول األمنوذج املجتمعي الذي يجب أن َتكون‬
‫عليه مجتمعات االنتفاضة بعد أن تخلّصت حسب ما يعتقد البعض‬
‫من سيطرة من ك ّرسوا بالقوة ال ّنموذج القديم‪ ،‬والواقع أن املوضوع‬
‫ق ْيد الدرس يقتيض تدبُّر مسألتني عىل غاية من األه ّمية ‪ :‬أوالهام‬
‫ٍ‬
‫تعريف لكلمة املثقف والثانية تتصل بتحديد العالقة‬
‫تتعلّق بضبط‬
‫بني املثقف واملجتمع‪.‬‬
‫إن أ ّول ما يجب االنتباه إليه يف فهم هذا املوضوع هو النظرة‬
‫الدونية التي أضحى يك ّنها املجتمع العريب للمثقف‪ .‬وقد استغلت‬
‫بعض األحزاب السياسية اليمينية املتل ّبسة بال ّدين استعارة ووسيلة‬
‫ال منهجا وتصورا يف إطار حملتها التعبويّة هذه النظرة‪ ،‬ألجل إقصاء‬
‫خصومها السياسيني م ّمن يدعون النضال من موقع الطبقة املسحوقة‬
‫ويف إطارها أو م ّمن يحملون مرشوعا يزعمون كونه حداث ّيا مستنريا‪.‬‬
‫عىل أ ّن اإلشكال الذي يجب ّفك جوانب التّعقيد فيه هو‪ :‬هل يُعترب‬
‫وص ُف بكونه يحمل خطابا ال صلة‬
‫املثقّف الذي يشار إليه بالبنان ويُ َ‬
‫له بالجامهري مثقّفا فعال ؟ ومن هو املثقف الحقيقي ؟‬
‫تعريف المثقف‬
‫ميكن أن نعرف املثقّف‪ ،‬من خالل ثالث منطلقات‬
‫أنرثوبولوجي ويرتبط رأسا بفرضية وقع‬
‫‪ :‬األ ّول‬
‫ّ‬
‫االستدالل عىل ص ّحتها وهي أ ّن الثقافة نقيض‬
‫للطّبيعة‪ ،‬وبالتّايل يكون كلّ إنسان مثقفا بشكل أو‬
‫بآخر‪ ،‬وليس خفيّا عن ال ّدارس الحصيف ما عليه‬
‫هذا املنطلق من تعميم يتعذّر معه محارصة مفهوم‬
‫السياق الذي نتح ّدث فيه‪.‬‬
‫املثقّف يف إطار ّ‬
‫أ ّما املنطلق الثاين فيتّصل بعلم االجتامع‪ ،‬ويح ّدد‬
‫أصحابه مفهوم الثّقافة باعتبارها األخذ من كلّ‬

‫يشء بطرف أي مجموع الخربات املعرفية واملهاريّة‬
‫والسلوك ّية التي تجعل اإلنسان ناجعا عىل مستوى‬
‫وجامعي‪ ،‬إالّ أن هذا املنطلق عىل ما فيه من‬
‫فرد ّي‬
‫ّ‬
‫منفعي ض ّيق يجعل‬
‫ر‬
‫و‬
‫تص‬
‫رهني‬
‫يبقى‬
‫تخصيص‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫املثقف يتعامل مع الواقع مبا لديه من كفاءات دون‬
‫سعي إىل تغيريه‪.‬‬
‫ويصطبغ ثالث املنطلقات بالتاريخ‪ ،‬وهي صبغة‬
‫متكّن من تعريف املثقف من جهة عالقته بالواقع‬
‫وفعله فيه‪ ،‬فاملثقف الحقيقي هو الذي ميتلك من‬
‫األدوات ما به يفهم الواقع وبناه املختلفة ومن مث َّت‬
‫الوقوف عىل مآزقه‪ ،‬ويخ ّول له هذا االقتدار االقرتاب‬
‫ويصطف‬
‫من الحلول الكفيلة بتجاوز هذه املآزق‪،‬‬
‫ّ‬
‫املثقف بهذا املعنى إىل جانب الطبقات املسحوقة‬
‫وينخرط يف النضال يف دائرتها‪ ،‬ألن التاميز الطبقي‬
‫املغلف باألبعاد امليتافيزقيّة أو النظريّات الطبيعية‬
‫هو املعضلة‪ ،‬بحلِّها تُ َحلّ جميع مشاكل األغلبية‬
‫املستضعفة‪.‬‬
‫ولعلّ أه ّم األدوات التي عىل املثقّف امتالكها هو‬
‫الوعي التاريخي الجديل‪ ،‬ألنه السبيل األكرث نجاعة‬
‫لتفهم مأساة املقهورين واملظلومني وخط النهج‬
‫املفيض إىل تحررهم‪.‬‬
‫غري أن تعريف املثقف من هذا املنطلق ال يلغي‬
‫املنطلقات األخرى بل يحتويها‪ ،‬مؤكدا عىل وعي‬
‫املثقف والتزامه‪ ،‬وليس من الفائدة القليلة اإلشارة‬
‫إالّ أن هاتني الخصلتني قد تكونان يف فضاءات‬
‫متع ّددة‪ :‬العلم‪ ،‬الفن‪ ،‬السياسة‪.‬‬
‫ومن الواضح أ ّن املرجعية التي يعكسها هذا‬
‫التعريف هي املرجعية املاركسية مبختلف تلويناتها‪،‬‬
‫وتشكّالتها‪ .‬وال شك يف أن ما قدمناه من تعريفات‬
‫هو من قبيل اإلشارات التي صغناها بطريقة‬
‫تستجيب لغايتنا من هذا املقال‪.‬‬
‫التونسي على «المثقف»‬
‫حقد‬
‫ّ‬
‫قد يكون من قبيل االستعارة الحديث عن حقد‬
‫يحمله التونيس تجاه املثقف‪ ،‬لكنه من الثابت‬

‫حد العنف‪ ،‬إضافة إىل العنف ال ّرمزي واملا ّدي الذي‬
‫التنصيص عىل القطيعة بينهام فاملثقف يف نظر‬
‫ميارس عىل أنصار الفكر الح ّر من إقصاء دليال عىل‬
‫التونيس شخص يقول كالما بعيدا عن همومه‬
‫ما تقدم‪.‬‬
‫ومشاغله وهو إىل جانب ذلك ينتمي إىل الطبقة‬
‫والواقع أن هذا املوقف من املثقف ليس واحدا‬
‫املحظوظة ويتشدق بدفاعه عن حقوق اإلنسان‬
‫بني مختلف الرشائح‬
‫وانتصاره للكادحني‪ ،‬وله صورة‬
‫وأنه قد ميارس عىل غري‬
‫أخرى ال تقلّ خطورة عماّ قبلها‬
‫التقدمني‪ ،‬إضافة إىل كونه‬
‫فهو ملحد متنكر للهوية ينتهي‬
‫ال يظهر بوضوح إال يف‬
‫نضاله بخروجه من الحانة أو من‬
‫بعض الوضعيّات املشحونة‬
‫قاعة السينام أو التياترو‪.‬‬
‫بالرصاع السيايس‪ .‬مثل هذا‬
‫ويتّصف املثقف يف عني التونيس‬
‫بصفات أخرى تجعله بعيدا المثقف الذي ينظر‬
‫القول يحملنا عىل اإلجابة‬
‫عن اتّخاذه قدوة فهو فاشل إليه التونسي بحقد عن السؤال الذي سبق أن‬
‫طرحناه يف ُمفتتح املقال‪ .‬هل‬
‫اجتامعيا‪ ،‬ال تعكس مقوالته‬
‫ليس مثقفا عضو ّيا‬
‫املثقف الذي يزدريه التونيس‬
‫املبدئية سلوكه‪.‬‬
‫إنّها صورة تدور حول محورين‪ :‬إنما هو مثقف قاصر مثقف فعال؟‬
‫إذا نظرنا إىل املثقف من‬
‫أ ّولهام يقوم عىل اعتبار املثقف‬
‫وانفعاله‪،‬‬
‫فعله‬
‫في‬
‫حيث قدرته عىل قراءة‬
‫منسلخا عن الطبقات املسحوقة‬
‫الواقع وتغيريه لصالح الطبقة‬
‫من حيث الخطاب والسلوك‪.‬‬
‫أما المثقفون‬
‫الكادحة وجامهري امله ّمشني‬
‫ثانيهام ينهض‬
‫بسبب عىلكونهالنظرشخص ّيةإىل العضويون فهم‬
‫فإنّنا ال ميكن أن نص ّنف من‬
‫املثقف‬
‫ما‬
‫تفرقهم‬
‫على‬
‫يتب ّنون األطروحات الليربالية‬
‫مأزومة فاشلة اجتامعيا ال ترتقي‬
‫ومختلف التيارات اليسارية‬
‫إىل أن تكون مثاال يحتذى‪.‬‬
‫يفتكون‬
‫انفكوا‬
‫اإلصالحية مبثقفي الجامهري‬
‫وقد ألصقت باملثقفني صفات‬
‫أكرث شناعة فهو يؤمن باملثلية نظرة احترام من‬
‫الصف‬
‫ألنهم يقفون يف‬
‫ّ‬
‫املعادي لها ويسريون يف‬
‫وماسوين‪ ،‬ومن أزالم ال ّنظام التونسي رغم كل‬
‫ذيل االنتهازيني وذلك رغم‬
‫السابق‪ ،‬وفرنكفوين‪ ،‬وقد صار‬
‫التشويه‬
‫محاوالت‬
‫املجهود التوفيقي الذي كثريا‬
‫البعض مبدعا يف نحت هذه‬
‫التهم وصارت مجاال للتنافس من القوى الرجعية‪ .‬ما يعللونه مبا هو مفروض‬
‫عامليّا وقطريا‪ ،‬كذلك ال ميكن‬
‫والتّباري‪.‬‬
‫أن ننعت من يتبنون الفكر اليساري الراديكايل‬
‫ولعلّ ما يبينّ حقيقة هذه النظرة ال ّدونية التي‬
‫مبثقفي الجامهري ألنهم لو كانوا كذلك لتمكنوا من‬
‫يحملها التونيس عن املثقف تشنجه يف كل مرة‬
‫إيجاد األدوات الكفيلة من االقرتاب منه ولَتَ َو ّصلُوا إىل‬
‫يحاول فيه هؤالء تقديم تص ّورهم يف مسألة من‬
‫معادلة تجمع بني األهداف التكتيكية واالسرتاتيجية‬
‫مسائل الشأن العام سياسيا أو اجتامعيا أو فنيا‪،‬‬
‫لطأمنة عموم املستضعفني أن مرشوعهم إمنا يهدف‬
‫وميكن أن نعترب ما تع ّرض إليه الكثري من السياسيني‬
‫إىل تحررهم‪.‬‬
‫التقدميني والفنانني واملفكرين من مضايقات بلغت‬

‫‪9‬‬
‫أ ّما إذا تعرضنا إىل من ينتسبون إىل الثقافة‬
‫شكال فاملسألة تصبح أكرث وضوحا‪ ،‬فهل ميكن‬
‫أن نعترب كل من يهاجم الفكر الديني مثقفا‬
‫وهل نعترب كذلك من يلبس قبعة‪ ،‬ويطيل‬
‫شعره‪ ،‬ويرتاد الحانات ويتأبط كتابا يف كل‬
‫وقت وحني‪ ،‬ويتمتم بعض الكلامت بالفرنسية‪،‬‬
‫أو من يختزل أطروحات ال يكفي العمر مهام‬
‫طال درسها يف بعض الشعارات املكرورة التي‬
‫فقدت من فرط استهالكها مضمونها‪.‬‬
‫إ ّن التونسيني مل يزدروا مثقفني عضويني‬
‫يتحركون يف صفوفهم ثابتة أقدامهم يف أرضية‬
‫نظرية صلبة‪ .‬ومل ينفروا مثقفني مكنتهم‬
‫ثقافتهم من أن يكونوا دون خداع قدوة لهم‪.‬‬
‫ومل يرفضوا مثقفني يراعون ما هم عليه من‬
‫سوء فهم للدين والدنيا‪ ،‬ومل ينكروا مثقفني هم‬
‫زمن األزمة أول من يتقدم وآخر من يرتاجع‪.‬‬
‫لقد لفظوا مثقفني ال يتقنون إال اتهامه بالجهل‬
‫والتخلف‪ ،‬أو املزايدة عليه بالنضال‪.‬‬
‫إنّه ملن املعقول دامئا أن يدير التونيس ظهره‬
‫ملن يختزلون مبادئهم يف لباس أو سلوك معني‪،‬‬
‫ملن ينفق يف اليوم مقدار دخله الشهري‬
‫يف نزواته ثم يرفع عقريته مناديا بالعدالة‬
‫االجتامعية‪ ،‬أو من يعلق شماّ عة فشله عىل ما‬
‫يحمله من مبادئ‪.‬‬
‫إالّ أ ّن ما رددناه ال يعني عدم توفّر مثقفني‬
‫يتحركون يف صلب املضطهدين ومن أجلهم‬
‫وفق تصورات ثاقبة‪ ،‬إنهم متوفّرون لكنهم مل‬
‫يك ّونوا نواة قادرة عىل الفعل يف الواقع‪.‬‬
‫إنهم موزعون عىل أحزاب لو تخلّت عن‬
‫األبعاد الذاتية والتشويش النظري التي هي‬
‫عليه واتّحدت النتقلت من موقع التربير‬
‫إىل مواقع التغيري‪ .‬وأقصد هنا أحزاب اليسار‬
‫الراديكايل بتفريعاته‪ ،‬واتحادها ليس مجرد‬
‫مقولة مثالية تستند إىل فهم بكا ّيئ للواقع‬
‫وإمنا هو مطمح ينبني عىل قراءة نقدية‬
‫معمقة ملختلف األطروحات من منظور ثوري‬
‫يفيض إىل تصور واحد لتغيري الواقع‪.‬‬
‫هكذا نتبينّ أ ّن املثقف الذي ينظر إليه‬
‫التونيس بحقد ليس مثقفا عضويّا إمنا هو‬
‫مثقف قارص يف فعله وانفعاله‪ ،‬أما املثقفون‬
‫العضويون فهم عىل تفرقهم ما انفكوا يفتكون‬
‫نظرة احرتام من التونيس رغم كل محاوالت‬
‫التشويه من القوى الرجعية‪.‬‬
‫دور القوى ال ّرجع ّية في بلورة الحقد‬
‫التونسي على المثقف‬
‫ّ‬
‫لقد ساهمت القوى الرجعية يف تونس ويف‬
‫الوطن العريب منذ االستعامر يف تشويه الفكر‬
‫الح ّر ونخص بالذكر الفكر اليساري الراديكايل‬
‫للدفاع عن مصالحها‪ ،‬وتأبيد الواقع الذي‬
‫ترتضيه لنفسها‪ ،‬لقد اُتِّ ِه َم أصحابه بالكفر‬
‫واملروق‪ ،‬ويف أحسن الحاالت بإفساد العقيدة‪،‬‬
‫أمل تتهم فرنسا الزيتونيني املج ّددين بالبدع‬
‫مؤيدة التيار املحافظ؟ أما بورقيبة فقد حرص‬
‫الشيوعية يف اإللحاد لصالح رؤية اشرتاكية‬
‫ممسوخة‪ ،‬ولقد ورث بن عىل هذه الفلسفة‬
‫وتفنن يف نحت مالمحها واختزل التيارات‬
‫اليسارية الراديكالية يف كليشيهات أبعدتهم‬
‫عن الجامهري فهم مالحدة ور ّواد صالونات‬
‫وخطابهم ملغز بل هو طلسم يصعب فك‬
‫شفرته‪ ،‬ثم بعد ذلك ويف فجر االنتفاضة‬
‫الشعبية للشعب التونيس نهجت التيارات‬
‫نفسه مدعمة بإرث من‬
‫الس ْم َت َ‬
‫اإلسالمية َّ‬
‫التفكري يتخلل تكتيكها السيايس اعتمدته عرب‬
‫رصاعها الطويل مع الفكر الحر‪ ،‬إننا نراها‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫اليوم تحول بكياسة عجيبة مجال الرصاع من‬
‫االقتصاد والسياسة إىل مجال العقيدة وما‬
‫يلحق بها من «دوغام» اإلقصاء والرفض‪ .‬وقد‬
‫نجحت هذه التيارات نجاحا باهرا فزادت من‬
‫غربة املثقفني‪ ،‬وصار النضال ض ّدها مسألة‬
‫عسرية جدا‪.‬‬
‫وقد ع ّولت مختلف الجهات املعادية للتيارات‬
‫املاركسية الثورية منذ االستعامر إىل اآلن عىل‬
‫املك ّون العاطفي للجامهري وما ينطوي عليه‬
‫من حنني إىل ماض يع ّوض انكسارات الحارض‬
‫الحس‬
‫وخيباته‪ ،‬كام اتخذت من غياب‬
‫ّ‬
‫النقدي يف صفوف الكادحني لتصوغ تصورا‬
‫«ميتا ‪-‬تاريخ ّيا» للترّ اث‪ ،‬ومتكنت تدريجيا‬
‫من التأسيس ملجموعة من «الرباديغامت»‬
‫تستجيب ملطامحها يف احتكار حقيقة قراءة‬
‫ال ّنص وتأويله ورشعية توظيف الرتاث‬
‫واالستفادة منه‪ ،‬وميثل «براديغام» ال ُهويّة‬
‫والشرّ يعة عامد هذا املسلك يف التّضليل‬
‫ومخادعة الجامهري‪.‬‬
‫ويتأكد هذا املنطق القائم عىل احتقار عموم‬
‫املستضعفني يف ظل الجهل واألمية‪ ،‬وليس‬
‫ّفي أن أغلب التونسيني يعانون من هاتني‬
‫بخ ّ‬
‫اآلفتني‪ ،‬وحتى املتعلم منهم هو ضحية نظام‬
‫تعليمي د ّربه عىل كلّ يشء إالّ عىل الفكر‬
‫ّ‬
‫ال ّنقدي‪ ،‬ومل يعلّمه شيئا قدر تقديسه لغري‬
‫املق ّدس‪ .‬لذلك الغ ْرو إن ألفيْنا رفضا للفكر‬
‫الحر يف هذه األوساط‪.‬‬
‫جملة القول إن حقد التونيس عىل املثقف‬
‫يعود إىل عوامل متنوعة لعلّها اإلرث الذي‬
‫كرسه ومازال يك ّرسه أمئة الرجعية بشقيها‬
‫الليربايل اإلسالمي والليبايل الحدا ّيث إن ص ّح‬
‫التعبري‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫إن املثقف الذي يحقد عليه املواطن التونيس‬
‫ال يستحق هذه الصفة ألنه عىل مسافة من‬
‫الجامهري‪ ،‬و ال يحسن التّواصل معها وال يتقن‬
‫ف ّنيات النضال يف صفوفها‪ ،‬أما املثقف العضوي‬
‫فهو عىل ندرته يعيش مأساة تشتت الجهود‬
‫حتى أن صوته يضيع يف زحمة األصوات‪،‬‬
‫كام أنه يبذل مجهودا خرافيا لالقرتاب من‬
‫الجامهري لك ّن مجهوده يذهب أدراج الرياح‬
‫يف ظل الحمالت الدعائية املضللة‪ .‬ويعود هذا‬
‫الوضع املأسوي إىل ثقافة أصلها االستعامر‬
‫ووكالؤه لرضب أعدائه‪.‬‬
‫وسعنا دائرة مفهوم املثقف العضوي‬
‫وحتى إن ّ‬
‫ليشمل كل من ينخرط يف روح العرص مؤمنا‬
‫بقيم الحداثة فإننا ال نستطيع االبتعاد كثريا‬
‫عن املنطق الذي اعتمدناه يف التحليل‪.‬‬
‫الصعوبات التي تعرتض‬
‫إالّ أ ّن كلّ هذه ّ‬
‫املثقفني وغريه من منارصي الفكر الح ّر ال‬
‫يجب أن يثنينا عىل مواصلة النضال ألن‬
‫املعركة مع الرجعية مبختلف تنويعاتها طويلة‬
‫جدا وما يبدو اليوم مفروضا وقرسيا وال مناص‬
‫منه يكون يف املستقبل سهل االستئصال‪ ،‬ومن‬
‫مثت ما عىل قصريي النفس إال أن ينسحبوا‪.‬‬
‫َ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫• نقصد بالتونيس كل من ينتمي طبقيّا إىل‬
‫توسعت هذه‬
‫الكادحني وامل ُفقّرين وقد ّ‬
‫الطبقة يف العرشين سنة األخرية لتشمل ما‬
‫كان يس ّمى بالطبقة الوسطى‪ .‬وال يعني ذلك‬
‫أن من ال ينتمي إىل هذه الطبقة ليس تونسيا‪.‬‬
‫لقد اخرتنا هذه الكلمة عىل سبيل التعميم‬
‫بُغية اإليضاح‪.‬‬

‫اضطهاد المثقفين في‬
‫الحضارة العربية اإلسالمية‬
‫زنديق‪ ،‬وقد أفسدت الناس»‪ .‬لقد أصبح هذا القتل الوحيش‬
‫النوي‬
‫د‪.‬محمد ّ‬
‫حي ورميها يف النار عضوا عضوا‬
‫ تقطيع أوصال رجل‪ /‬مثقف ّ‬‫حتى املوت ‪ -‬س ّن ًة متبعة‪ .‬وهي طريقة يف القتل تكشف عن‬
‫لقد قامت السلطة يف الحضارة العربية اإلسالمية عىل أساس‬
‫احتفاء باضطهاد املثقفني وعن سباق بني أصحاب السلطة يف‬
‫ديني مام أدى إىل نشوء تحالف بني رجل الدين ورجل‬
‫املحمي‪ :‬وضع‬
‫ابتداع أشكال من القتل عنيفة‪ :‬القتل بالطست‬
‫ّ‬
‫السياسة‪ ،‬أو بني أهل الشوكة وأهل الحل والعقد‪ ،‬أو بني الفقيه‬
‫إناء من املاء مح ّمى عىل رأس الضحية حتى يسيخ رأسه‪ ،‬القتل‬
‫والسلطان‪ .‬وهو تحالف متني ذهب به الفقيه إىل أقىص مداه‬
‫بال ّنورة‪ :‬وضع رأس الضحية يف جراب ميلء بالحرشات وربطه‬
‫حني ح ّرم الخروج عىل السلطان الجائر وفقا للمسلمة التي‬
‫حتى تثقب الحرشات رأسه‪ ،‬القتل بالنمل‪ :‬نفخ ال ّنمل يف بطن‬
‫صاغها الفقهاء‪«:‬سلطان غشوم خري من فتنة تدوم»‪ .‬ورغم أن‬
‫الضحية حتى ميزق أحشاءه‪ ،‬القتل بالعطش‪ :‬مع الحرص عىل‬
‫بعض رجال الفقه مل يسلموا هم اآلخرون من سوط السلطان‬
‫ربط الضحية قرب املاء‪ ،‬القتل بالتربيد‪ :‬جلد الضحية ثم سكب‬
‫وسطوته‪ ،‬فإننا نالحظ أن أغلب املشتغلني بالفكر من أهل‬
‫املاء البارد عليه ليتعفن الجلد‪ ،‬الصلب‪ ،‬القتل صربا بتقطيع‬
‫اإلسالم من علامء وأدباء وفالسفة ومتكلمني ومتصوفة قد‬
‫حي‪ ،‬القتل ذب ًحا‪...‬قال أبو سعيد الدارمي‬
‫أوصال الضحية وهو ّ‬
‫كانوا ضحايا لسيف السلطان وفتوى الفقيه يف آن‪ .‬والطريف‬
‫يف «الر ّد عىل الجهمية» عن مقتل الجعد بن درهم سنة ‪124‬‬
‫أن كثريين يتباهون اليوم مبساهامت املسلمني يف بناء رصح‬
‫هـ ‪ -‬والجعد من أوائل املعتزلة ممن قال بحرية االختيار‬
‫الحضارة اإلنسانية يف شتّى املجاالت فيذكرون ابن املقفع‬
‫وبتنزيه الله عن الصفات ‪«-‬وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد‬
‫والجعد بن درهم وغيالن الدمشقي والجاحظ وابن الراوندي‬
‫الله القرسي فذبحه ذب ًحا بواسط يف يوم اإلضحى عىل رؤوس‬
‫والطربي والرازي والفارايب وثابت بن قرة والخوارزمي والكندي‬
‫من شهد العيد معه من املسلمني‪ ،‬ال يعيبه به عائب وال يطعن‬
‫والبريوين وابن سينا وابن الهيثم والغزايل وإخوان الصفاء‬
‫عليه طاعن‪ ،‬بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه من رأيه»‪.‬‬
‫وابن رشد والعسقالين والحالج وابن عريب والسهروردي وابن‬
‫أما غيالن الدمشقي املعتزيل هو اآلخر فأخذه هشام بن عبد‬
‫حيان وبشار بن برد وصالح بن عبد القدوس ولسان الدين‬
‫امللك فقطّع أطرافه وتركه أياما ث ّم قطع لسانه وتركه أياما ث ّم‬
‫الخطيب وابن الفارض ورابعة العدوية واملجريطي واملعري‬
‫قتله‪ .‬ويكشف مقتل الحالج (‪ 244‬هـ‪ -309‬هـ) وهو متص ّوف‬
‫وابن طفيل والطويس وابن بطوطة والتوحيدي وابن خلدون‪...‬‬
‫حب الذات اإلالهية عن ذلك‬
‫وشاعر رقيق قرص شعره عىل ّ‬
‫وهم ال يعلمون أن جل هؤالء قد قتلوا‪ ،‬أو ماتوا كمدا وحرسة‪،‬‬
‫التحالف املتني بني الفقيه والسلطان‪ .‬فقد‬
‫أو ُه ّجروا‪ ،‬أو ضُ ّيق عليهم يف معاشهم‪،‬‬
‫رمى به حامد بن العباس ‪ -‬وزير املقتدر‬
‫أو اضطروا إىل التقية أو إىل الرباءة من‬
‫ يف السجن ملدة عرش سنوات ث ّم جمع‬‫أفكارهم‪ ،‬أو منع دفنهم يف مقابر املسلمني‬
‫له الفقهاء وعىل رأسهم القايض أبو عمر‬
‫يف أحسن الحاالت مثلام هو شأن الطربي‬
‫املاليك فأفتوا بقتله‪ .‬ورغم اعرتاض الحالج‬
‫رائد علم التفسري والتاريخ يف الثقافة‬
‫قائال‪« :‬ظهري حمى ودمي حرام واعتقادي‬
‫العربية اإلسالمية؟‬
‫السلطان إذا كان‬
‫اإلسالم فالله الله يف دمي»‪ ،‬فإن الوزير قد‬
‫ولعل عرض بعض الصفحات من تاريخ‬
‫رضبه ألف سوط ث ّم رفعوه عىل الصليب‬
‫اضطهاد املثقفني يف حضارتنا ‪ -‬وهو من مح ّبي الشهرة‬
‫حي‪ ،‬ث ّم‬
‫وهو‬
‫رجليه‬
‫م‬
‫ث‬
‫يديه‬
‫وقطعوا‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫اضطهاد يبلغ أحيانا ح ّد التفنن يف‬
‫صنوف التعذيب والقتل ‪ -‬يساعدنا عىل لدى الشعب دون أن ح ّزوا رأسه بالسيف‪ ،‬ثم أحرقوا جثته‬
‫وألقوا برماده إىل الرياح‪ ،‬أما رأسه فقد‬
‫تف ّهم أمرين يف حارضنا‪ :‬أولهام شدة يهمه خير الشعب‬
‫نصب يومني عىل الجرس ببغداد ث ّم حمل‬
‫عداء السلطة والعامة عىل ح ّد سواء‬
‫للمثقفني بسبب ذلك التحالف بني رجل الحقيقي ق ّيد العلم إىل النواحي ونُود َي يف الناس أالّ تُشرتى‬
‫كتب الحالّج وال تُباع وأن تحرق‪ .‬ومل‬
‫بقيود حديد‬
‫الدين ورجل السياسة‪ ،‬وليست العامة‬
‫يقنع الفقهاء بهذا املصري الفاجع فألصقوا‬
‫سوى ق ِ‬
‫ُوت هذين الرجلني وق ّوتهام يف‬
‫بالحالّج بعد موته كل التّهم املمكنة حتى ال ّزىن باملحارم‪ .‬نختم‬
‫آن‪ ،‬وثانيهام رضورة النضال من أجل فرض حرية التفكري أمرا‬
‫مع ابن رشد (‪ 520‬هـ‪ -595‬هـ) رائد العقالنية وفيلسوف قرطبة‬
‫واقعا ال كالما من ّمقا يف الدساتري والقوانني وهو نضال ال ب ّد‬
‫الذي تبنت أفكاره أوربا وجعلت من بعضها أساسا لنهضتها‪.‬‬
‫من خوضه‪.‬‬
‫لكن فقهاء قرطبة الذين جمعهم الخليفة أبو يوسف يعقوب‬
‫الصفحات ذلك املصري الفاجع للمفكر الشاب عبد‬
‫أوىل هذه ّ‬
‫املنصور أفتوا بكفره فأقيم ابن رشد يف املسجد للعامة يصفعونه‬
‫الله ابن املقفع (‪ 106‬هـ‪ -142‬هـ) الذي قتل يف س ّن السادسة‬
‫ويبصقون عليه ث ّم حرم من الصالة يف املسجد ونفاه املنصور‬
‫والثالثني من عمره‪ .‬كان ابن املقفع ناثرا مجيدا ومفكرا ح ّرا‬
‫إىل أليسانة (بلدة يهودية) ث ّم إىل املغرب وأحرقت كتب ابن‬
‫وفيلسوفا مصلحا مثلام تدلّ عىل ذلك آثاره‪ :‬كليلة ودمنة‬
‫رشد ومنع‪/‬ح ّرم االشتغال بالفلسفة‪ .‬صحيح أن ابن رشد مل يقتل‬
‫املع ّرب‪ ،‬واألدب الصغري‪ ،‬واألدب الكبري‪ ،‬ورسالة الصحابة ‪-‬‬
‫ولكنه قتل رمزيا يف حياته عرشات املرات‪ .‬إ ّن تحالف السلطان‬
‫ويعني بالصحابة حاشية الحاكم ‪ -‬التي تعرض فيها لرضورة‬
‫مع الفقهاء قد جعل الخليفة املنصور يضحي بابن رشد وهو‬
‫إصالح مؤسسة الحكم ومؤسسة القضاء وإصالح حال الجند‬
‫من أخلص أصدقائه والسبب يف ذلك هو شدة تأثري رجال الدين‬
‫والفالحني وتص ّدى إىل فساد حاشية الحكم‪ .‬وقد أدى ذلك‬
‫يف العامة‪ ،‬و«السلطان إذا كان من مح ّبي الشهرة لدى الشعب‬
‫إىل قتله قتل ًة تن ّم عن الحقد والتشفي البليغ وتدعو غريه‬
‫دون أن يهمه خري الشعب الحقيقي ق ّيد العلم بقيود حديد‬
‫من املثقفني الطالئعيني إىل التزام الصمت إن رغبوا يف الحياة‪.‬‬
‫تزلفا إىل ذلك الشعب» كام يقول فرح أنطون يف مناظرته مع‬
‫استدعاه سفيان بن معاوية املهلبي وايل الخليفة املنصور عىل‬
‫ميض حوايل‬
‫محمد عبده دفاعا عن العلامنية سنة ‪ .1903‬وبعد ّ‬
‫البرصة و«قال له‪ :‬ألدخل ّنك نار الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬وأمر بت ّنور‬
‫ألف سنة عىل قصة ابن رشد نظ ّن أن املثقف اليوم مازال واقعا‬
‫فسجر‪ ،‬ثم أمر بابن املقفع فقطعت أطرافه عضوا عضوا‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫يف رشك تحالف السلطان ورجل الدين ومعهام العامة يتق ّوتان‬
‫يلقيها يف الت ّنور‪ ،‬وهو ينظر‪ ،‬حتى أىت عىل جميع جسده‪ ،‬ثم‬
‫من جهلها ويتق ّويان بجهلها‪.‬‬
‫أطبق عليه التنور‪ ،‬وقال‪ :‬ليس ع ّيل يف امل ُثلة َبك حرج‪ ،‬ألنك‬

‫‪10‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫حكومات النقد‪:‬‬
‫فساد‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫عبدالدائم السالمي‬

‫وع ّما ُله‬
‫علما ُء ال ّنقد ُ‬

‫توصيف املامرسة النقدية العربية املعارصة قلنا إنها مامرسة‬
‫متى ُرمنا‬
‫َ‬
‫ُسلطوية ال تنهض عىل وعي نقدي يتغيّا مجاوزة السائد من الحكومات‬
‫الذوقية لتأسيس نظام جام ّيل ُح ِّر الرؤية وذايتِّ األداة‪ ،‬وإمنا هي مامرسة‬
‫توفيقية مهادنة ومنط ّية أوقعت امل ُنتَج النقدي يف مط ّبات كثرية‪ ،‬وصار‬
‫فيها النقد إ ّما عملَ املتقاعدين عن العمل الذين ميلؤون به فرا َغ وقتهم‬
‫ويقتلونه‪ ،‬وإ ّما عملَ ُموظَّفي املعرفة الجامعية الذين يتقاضون راتبا‬
‫شهريا أج َر ك ََسلِهم املعريف‪ ،‬وأحيانا يُنجزه نف ٌر من ال ُكتّاب املشتغلني‬
‫باملنابر اإلعالمية الثقافية‪.‬‬
‫وإ ّن من أكرب َهنات النقد ثباتُه يف خانة مدرسانية‬
‫اجرتارية ومتعاملة يكتفي فيها الناقد بالظاهر من ماء‬
‫النصوص‪ ،‬فإن َحفَلَ م ّر ًة بوديانه العميقة ال تراه إالّ‬
‫فاق ًدا ما يحتاجه الحف ُر من صرب ومداومة عليه كبرييْن‪،‬‬
‫وإ ْذ يفعل ذلك يتع ّنى تقدي َم إجابة عن سؤال‪ :‬كيف‬
‫نصه دومنا تن ُّب ٍه منه إىل سؤال‪ :‬ملاذا‬
‫كتب املبدع الفالين َّ‬
‫َ‬
‫نصه‪ ،‬أي مل اختار الكتابة عن هذا‬
‫كتب ذاك املبدع َّ‬
‫املوضوع وعن هذه ال ِقيَم يف هذه اللحظة ويف هذا‬
‫نص ّما‪،‬‬
‫املكان‪ .‬ذلك أ ّن غاية الناقد‪ ،‬وهو ينجز قراءة ّ‬
‫أن ينترص لفكرة يف رأسه هو وليس لفكرة يف رأس‬
‫النص‪ ،‬فال تراه إالّ ُمتّ ِكئًا باطمئنان عىل مقوالت نظرية‬
‫عديدة دون وعي منه بأ ّن أصحابها قاموا مبراجعات‬
‫ألغلبها ليقينهم بأنها مل تعد تفيد الفعل النقدي‬
‫عندهم‪ .‬وعليه‪ ،‬تراه يلوي أعناق النصوص لتُالئم‬
‫فكرته حتى يكاد يستلّ منها أنفاسها‪ ،‬ويف خالل ذلك‬
‫يظلّ يحشد يف كتابته من الشواهد ما يتجاوز حجم‬
‫الشخيص‪ ،‬بل تراه يستل ّذ اإلكثار من عبارة «قال‬
‫كالمه‬
‫ّ‬
‫قلت أنا؟‬
‫فالن» وأخواتها دون أن يسأل نفسه‪ :‬وماذا ُ‬
‫وهو سؤال طرحه البعض من نقّادنا ويجب أن يطرحه‬
‫الكثري منهم‪.‬‬
‫ويبدو أن تلك القراءة املدرسانية منعت النقد العريب‬
‫من أن ينهض عىل مرشوع فكري واضح وجريء‬
‫وملب النتظار نصوصنا اإلبداعية املعارصة‪ .‬ويف زعمنا‬
‫ٍّ‬
‫يتكئ الفعل النقدي عىل دعامة مرشوع‬
‫أنه متى مل ْ‬
‫صار فعال غري رشعي أدبيا‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬يخرج من مجال‬
‫الجام ّيل ويدخل حقل التجار ّي‪ ،‬ويصري مامرسة ربحية‬
‫تحكمها قوانني العرض والطلب وتخضع إىل طوارئ‬
‫األزمات الدولية وللمواالة واملحاباة‪ .‬وعليه‪ ،‬مل يُفلح‬
‫النقد العريب املعارص‪ ،‬عىل وفرة إصداراته ومقاالته‪،‬‬
‫يف تأصيل مامرسة نقدية مناسبة لثقافة نصوصنا‬
‫اإلبداعية‪ .‬حيث ظلّ أغلب ما كُتب فيه مج ّرد‬
‫تطبيقات تجريبية ملناهج وافدة ذات َم ْيزات فكرية‬
‫وجاملية قد تتقاطع حينا مع ثقافتنا العربية ولكنها‬
‫تختلف عنها أحيانا أخرى كثرية‪ .‬وهو أمر بدت فيه‬
‫الكتابة النقدية كالما عاما شبي ًها ِب ُج ّبة تصلح لكلّ‬
‫أجساد النصوص اإلبداعية امل ُن َجزة يف النرث والشعر‬
‫بقدميها وحديثها أو حتى تلك التي مل تُن َجز بع ُد‪ .‬بل‬
‫إننا ال نعدم يف مد ّونة النقد العريب املعارص وجو َد‬
‫نص من‬
‫نقّاد يستجلبون املنه َج ويُط ّبقونه بأمانة عىل ّ‬
‫وعي منهم بأن لكلّ منهج قرايئ‬
‫زمن الجاهلية بال ٍ‬
‫حاضن ًة حضاري ًة هي منه ُمح ِّد ٌد من ُمح ِّددات مقوالته‬
‫الجاملية شكال ومضمونا‪ ،‬ودون تبصرُّ ٍ لديهم مبا لحركة‬
‫الزمن من تأثري يف سياقات َح َد ِث الكتابة ويف رشوط‬
‫فعل التقبّل م ًعا‪ ،‬ال‪ ،‬وال حتى تنبّه منهم طفيف إىل‬
‫اختالف ذاكرة النصوص وتن ّوع هواجسها الثقافية يف‬
‫مسريتها الزمنية‪.‬‬

‫وطلبة املدارس‪ .‬وهو أمر أدّى إىل عزلة هؤالء النقاد‬
‫ولعلّ يف هذا التوصيف ما يُجيز لنا القولَ إ ّن مامرستنا‬
‫وكساد سلعتهم القرائ ّية‪ ،‬وخلَق توتّرا يف عالقتهم مع‬
‫النقدية الراهنة ال تزيد عن كونها مامرسة منط ّية‬
‫املبدعني الذين اندفع كثري منهم إىل التشفّي من‬
‫باهتة‪ ،‬فال تُقبِلُ عىل النصوص إال متى وافقت هواها‬
‫غل ّو كتابات هؤالء النقاد مبنافستهم لهم يف حلبتهم‬
‫نص َّما فال تراها إالّ جالس ًة‬
‫املنهجي‪ ،‬وإذا أقبلت عىل ٍّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫و»تلميعي»‬
‫«تجمييل»‬
‫د‬
‫نق‬
‫مامرسة‬
‫عرب‬
‫النقدية‪،‬‬
‫خانات‬
‫يف‬
‫ة‬
‫و‬
‫بالق‬
‫اه‬
‫ي‬
‫إ‬
‫حارشة‬
‫معانيه‪،‬‬
‫رقاب‬
‫عىل‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لنصوص زمالئهم برضبٍ من الكالم امل ّجاين الذي يت ّم‬
‫نقدية غالبا ما تُش ِّوه فيه ُصو َره الفنية وتُجربه عىل‬
‫الحق يف أغلب األحوال‪.‬‬
‫قول اعرتافات مل تخطر عىل باله أبدا‪ ،‬بل ورمبا كانت‬
‫أثواب ّ‬
‫إلباس باطل النص َ‬
‫فيه ُ‬
‫وإن يف هذا ما يُنبئ بتعثرّ حركة اإلبداع يف ساحتنا‬
‫اعرتافاتُه مناقض ًة أصال لبنيته الفنية وملزاجه ال َّدال ّيل‬
‫الثقافية‪ ،‬وبضآلة مستوى نتاجها الكتا ّيب‪ ،‬وبعكوف‬
‫ولروحه الثقاف ّية‪.‬‬
‫النقد فيها عىل مق ّرراته النظرية املستوردة أو دخوله‬
‫وال تُخفي مالحظ ُة مشهدنا الثقايف حقيق َة أ ّن حال‬
‫يف سوق املضاربة باملعاين دومنا تن ّب ٍه منه إىل رضورة‬
‫النقد املعارص تيش بفوىض عارمة طغت فيها سلطة‬
‫مراعاة ثقافة النص العريب مراعاة النقد الغريب لثقافة‬
‫النقّاد عىل رعاياهم من الكتّاب‪ ،‬وخضع أثناءها هؤالء‬
‫نصوصه‪ .‬وهي أمور تتعاضد مع‬
‫الرعايا إىل وصايا حكامء النقد‬
‫ما سبق لنا أن ذكرناه يف ما م ّر‬
‫إبداعي ينجزونه‪،‬‬
‫يف كل فعل‬
‫ّ‬
‫معنا لتكشف عن غياب مرشوع‬
‫حتى صارت لنا‪ ،‬مع بعض‬
‫للنقد العريب كانت مالمحه قد‬
‫التعميم املتع َّمد م ّنا‪ ،‬آالف‬
‫ظهرت مع بدايات القرن الثامن‬
‫القصائد التي ال تختلف إالّ يف‬
‫امليالدي ولك ّنه توقّف عند عرص‬
‫العنوان‪ ،‬وظهرت عندنا‬
‫مئات النقد العربي الراهن‬
‫االنحطاط‪ ،‬ليخلفه مرشوع‬
‫الروايات التي ما إن يفكّر‬
‫آخر يك ّرس الخرافات ومييل إىل‬
‫الروا ّيئ يف كتابة واحدة منها‬
‫اليوم إلى إجراء‬
‫ّ‬
‫مدعو َ‬
‫الحشو وينبذ املعرفة‪.‬‬
‫حتى يكون مبستطاع القارئ‬
‫لحسه بأنها مراجعة ّ‬
‫الحدس بتفاصيلها ِ‬
‫حادة ومؤلمة‪ ،‬ويبدو أ ّن صور ْيت الناقد املذكور ينْت‬
‫ُ‬
‫كل سابقا قد تعاضدتا لتُحيال عىل‬
‫ستُكتب وفق الخطاطة والتّيمة وإلى االنتصار إلى ّ‬
‫تح ّول املامرسة النقدية العربية‬
‫الرسديتينْ اللتينْ كُ ِتبت وفقَهام‬
‫وإنساني‪،‬‬
‫وح ٍّر‬
‫ارتضتها ذائق ُة ُحكّا ُم جدي ٍد ُ‬
‫ّ‬
‫إىل شكل من أشكال «االعرتاف»‬
‫سابقتُها و‬
‫النص إىل فضاء‬
‫النقد وحكامئه وعلامئه‪.‬‬
‫ال َك َنسيِِّ ؛ يدخل ّ‬
‫والخروج من قاعات‬
‫القراءة‪ ،‬ويجلس صاغرا قبالة‬
‫وإن من أسباب فساد عالقة‬
‫الح ْشر الجامعي‬
‫َ‬
‫الناقد (له فه ٌم مجرو ٌح ملنهج‬
‫الناقد بالكاتب ما يعود إىل‬
‫ّما) ليعرت َِف له بذنوبه الفنية‬
‫أمرين‪ :‬أولهام استمراء الكاتب‬
‫وبروتوكوالتها‬
‫وال ّدالليّة أمالً منه يف التط ّهر‬
‫لوقع سياط الناقد عىل كيانه‬
‫اإلبداعي وضُ عف نزوعه إىل المتعالية على معيش منها‪ .‬إالّ أ ّن «طُهريّة» املناهج‬
‫ّ‬
‫الغربية ال يجب أن تُخفي ع ّنا‬
‫التح ّرر من سلطته‪ ،‬وثانيهام‬
‫األفراد والنزول‬
‫ما تشهده من رصاعات بينيّة‬
‫قوة الناقد العالئقية عىل شَ كْم‬
‫ّقلم أ ّي مبدع يُبدي عصيانه إلى شوارع الكتابة‬
‫ح ّولتها إىل ما يشبه الكنائس؛‬
‫حيث يسعى كلّ منهج منها إىل‬
‫عليه‪ .‬وقد ساعد هذا الوضع وميادينها الحقيقية‬
‫تفنيد وجاهة املناهج األخرى‬
‫عىل أن يحتلّ الناقد يف متخيّل‬
‫يك يُثبت وجاه َة تص ّوراته‪ ،‬ويك يُشيع بني الناس أنه‬
‫أغلب الكتّاب العرب صورتينْ ‪ :‬صورة أوىل ظاهرة‬
‫الحق التأوي ّيل‪ .‬وما عىس أن‬
‫و ُم ْصط َن َعة يتجلىّ فيها كائنا مق َّدسا بأثواب راهب أو‬
‫الوحيد الذي يهدي إىل ّ‬
‫ٍ‬
‫خطابات ٍ‬
‫ألناس‬
‫تكون املناهج يف مجال الرسد غري‬
‫بعاممة دا ٍع يعلم ما بني أيدي الكتُّاب من معنى وما‬
‫ي ّدعون قدرة الكشف عن معاين الروايات ليُخفوا بذلك‬
‫خلفهم‪ ،‬ويتو ّجب أن تُق َّدم إليه الهدايا وتُكتَب فيه‬
‫عج َزهم عن كتابتها؟ أمل ينرش جريار جينيت‪ ،‬وهو‬
‫املدائ ُح واألذكا ُر خوفا منه ورهبة‪ ،‬ويَ ْسكت الجمي ُع‬
‫أحد منظّري السرَّ دية الحديثة‪ ،‬كتابًا بعنوانٍ ف ٍّج هو‬
‫إذا تكلّم هو حتى ال تُصيبهم لعنتُه أو يلتهم قلوبَهم‬
‫«‪ »Bardadrac‬وناله فيها فشلٌ «حكايئ» كب ٌري‪ ،‬فهل‬
‫الصغرية النيّئة ويُح ّول قصور معانيهم إىل قبور مظلمة‬
‫من القراء َمن سمع بهذا الكتاب؟ أمل يتم َّن روالن بارت‬
‫يُرشف عىل نوبات التعذيب فيها عفريت أقرع‪ ،‬وفق‬
‫أن يكتب رواية بعنوان «‪ »Vita Nova‬وطالت أمنيته‬
‫تخويفي عن عذاب القبور‪ .‬ويف‬
‫ما يشاع من تص ُّو ٍر‬
‫ّ‬
‫ومل تُحقَّق حتى ساعة وفاته؟‬
‫الصورة الثانية‪ ،‬وهي صورة خفيّة وحقيقيّة‪ ،‬يظهر‬
‫علينا أن نعي بأ ّن كلّ منهج إمنا هو وليد بيئة ثقافية‬
‫الناقد دكتاتو ًرا يحكم معاين النصوص بالق ّوة‪ ،‬وحني‬
‫مع ّينة‪ ،‬وحينام يصل إلينا مرت َجام فإ ّن الرتجمة ال‬
‫تستعيص عليه تلك النصوص وتتم ّرد عىل سلطانه‬
‫النقد ّي بسبب ِ‬
‫تصفّيه من ثقاته‪ ،‬بل هو يصل بأزمات واقعه وتاريخه‬
‫ضعف آالته القرائية تراه يستجلب لها‬
‫وأحالمه التي تختلف عن أزمات واقعنا وتاريخه‬
‫مرتزقة من املناهج الغربية ليسكت أصواتَ معانيها‬
‫وأحالمه‪ ،‬ومن ث َّم فقلّام يصدق منهج يف فهم نصوصنا‪،‬‬
‫ويز ّج بها يف سجون معانيه‪.‬‬
‫وإذا افرتضنا أنه فَ ِه َمها فلن يكون فه ُمه لها إال عرب لَ ِّيه‬
‫وبنا ًء عليه‪ ،‬بدا املشهد النقد ّي األد ّيب يف أزمة حبىل‬
‫ألعناق معانيها وإجبارها عىل قول ما ال تنوي قوله‪.‬‬
‫بتق ّرحات كثرية‪ ،‬حيث استغلقت ألفاظ النقّاد‬
‫ولعلّ من خلوص املناهج النقدية لبيئاتها الثقافية ما‬
‫واستغربت دالالت كتاباتهم وكرثُ جفافُها حتى باتت‬
‫كان من حال املنهج الشكالين‪ ،‬فهو مل يظهر بسبب‬
‫النصوص اإلبداعية بالنسبة إليهم أرضً ا للتجريب‬
‫احتياج النصوص إليه احتياجا فنيا وإمنا ظهر بسبب‬
‫واللعب عىل ذقون معانيها‪ ،‬ومن ث َّم فقد النص‬
‫سياق فكري معلوم جعل نقّاد تلك النصوص األدبية‬
‫النقدي جمهوره ومل يبق له إال نفر من النخبة النقدية‬

‫يفضِّ لون البحث يف أشكال النصوص دون الحفر يف‬
‫دالالتها در ًءا منهم ملخاطر التصادم مع نظام االتحاد‬
‫السوفيايت الشمويل الذي مل يكن يرىض وقتذاك من‬
‫املعاين إال مبا يخدم أيديولوجيته‪.‬‬
‫ال يعني قولنا هذا رفضا منا للمناهج‪ ،‬وإمنا هو دعوة‬
‫إىل الوعي بفلسفاتها وبحدودها اإلجرائية‪ ،‬ويف زعم‬
‫الكثريين أ ّن املنهج هو الذي يعيش من النصوص‪ ،‬وهو‬
‫النص اإلبداعي إىل‬
‫يحتاج إليها ل ُيثبِت ِصدقَه وال يحتاج ّ‬
‫منهج ليثبت أدبيتَه‪ ،‬وهذا ما مل يأخذه الناقد العر ّيب‬
‫يف حسبان مامرسته النقدية‪ ،‬حيث اختار أن يكون‬
‫ُموظ ََّف معرفة عالِمة‪ ،‬بكل ما تعنيه الوظيفة من‬
‫التزام بإنجاز مها ّم معلومة ُمس ّيجة مبحاذير صارمة‪،‬‬
‫وكلّام أخلص لوظيفته وآمن بأوهام بهجتها املعرفية‬
‫ودافع عن قوانينها برشاسة امل ُؤ َّجرين كلّام نال رضا َء‬
‫مؤسسة النقد التي تؤ ِّج ُره وكُ ِتب يف سجالّتها من‬
‫ّ‬
‫الناقدين‪ .‬والحر ّي بنا التذكري به يف هذا الشأن هو أننا‬
‫مل نعد نلفي يف املنجز النقدي العريب الحديث حقيقة‬
‫النصوص وما يعتمل فيها من معنى‪ ،‬وإمنا رصنا نقف‬
‫فيها عىل حقيقة آراء النقاد‪ ،‬وهو ما ميكن معه القول‬
‫إ ّن الكتابات النقدية‪ ،‬يف أغلبها العا ّم‪ ،‬ميكن أن متثّل‬
‫ع ّينات تشخيصية ألمراض النقاد النفسية والثقافية‬
‫واالجتامعية وذلك من جهة ما تكت ّظ به من نوايا‬
‫قرائية ُمسقَطة عىل النصوص سواء أكانت تروم مد َحها‬
‫أم ذ َّمها‪.‬‬
‫ويف خض ّم هذا الرصاع الحا ّد بني ما يُس ّمى ثورات تنزع‬
‫إىل تأسيس وعي حضاري جديد وما يُس ّمى ثورات‬
‫مضادّة تروم تكريس السائد وتجميله‪ ،‬فإ ّن النقد‬
‫العريب الراهن مدع ّو اليو َم إىل إجراء مراجعة حادّة‬
‫ومؤملة‪ ،‬وإىل االنتصار إىل كلّ جدي ٍد و ُح ٍّر وإنسا ّين‪،‬‬
‫والخروج من قاعات ال َحشرْ الجامعي وبروتوكوالتها‬
‫املتعالية عىل معيش األفراد والنزول إىل شوارع الكتابة‬
‫وميادينها الحقيقية حيث حرار ُة اإلبداع تُذيب مرارة‬
‫الواقع‪ ،‬وحيث املعنى يتشكّل جميال يف الهامش‬
‫واألطراف بروح تفاؤلية مكتنزِة برغبة يف االنتصار‬
‫عىل املك َّر ِس بجميع قداساته‪ .‬بل إن النقد مدع ّو إىل‬
‫محاورة مد َّونته األدبية واالنفتاح عىل جميع املناهج‬
‫وجميع الفنون والعلوم انفتاحا ُح ّرا ال يخالطه الرضوخ‬
‫إلكراهاتها وتعاليمها‪ .‬ومتى فعل ذلك‪ ،‬يكون مالكا‬
‫لزمام نفسه‪ ،‬ولزوايا نظره ملفردات األشياء واألحياء‬
‫بكل ما فيها من معانٍ ورموز‪ .‬ومن ث َّم يغادر عادة‬
‫تقويل النصوص إىل فع ِل تأويلها‪ ،‬ويتح ّول من كتابة‬
‫اغتصاب ّية ومعيارية جافّة إىل كتابة إبداعية جديدة‬
‫تنهض عىل دعامة نصوص أخرى يف الشعر والرواية‬
‫والقصة وغريها وتلوذ بها سبيال إىل بناء أدبيتها‪ ،‬ويصري‬
‫قادرا عىل التخ ّيل عن شغفه باستحضار مقوالت الرسد‬
‫وإسقاطها عىل النصوص‪ ،‬وقادرا من ث َّم عىل إبدا ِع‬
‫معنى له جدي ٍد وبِك ٍر تكون عجينتُه معاين النصوص‬
‫التي يشتغل عليها ويكون ماؤها ثقاف ُة الناقد وخرباته‬
‫نصا إبداعيا راقيا‬
‫الحياتية ما يجعل النص النقدي ّ‬
‫نص إبداعي راقٍ ‪ .‬ومتى تحقّقت للنقد‬
‫مكتوبا عن ّ‬
‫هذه الثقافة وآمن بها‪ ،‬أصبح جنسا مثل باقي أجناس‬
‫الكتابة األخرى‪ ،‬وحاز عىل أهلية الحضور يف حقول‬
‫اإلنتاج اإلبداعي‪ ،‬ولن يعود مبقدور موظَّفي املعرفة‬
‫«املنهجية» مبُتعالياتها النظريّة (أولئك الذين يحبّذون‬
‫صفة‪ :‬علامء النقد‪ ،‬وال ينفكّون ير ٍّوجون لِ ِملَّ ِتهم)‬
‫الخوض فيه إال َمن كان منهم مبدعا أصال‪ ،‬أي ينتمي‬
‫إىل عُماّ ل النقد ال إىل علامئه وسالطينه‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫كالب الحراسة المعاصرة أو الثقافة المسعورة‬
‫خالد الهداجي‬
‫تتعدد تعريفات املثقف ويلتبس املفهوم خاصة يف التاريخ املعارص حيث مل يعد‬
‫املثقف كام عرف يف العصور الوسطى بأنه موسوعة من املعارف ومصدر للحكمة‬
‫ومرجع نظر للجميع وخاصة للعامة‪ ..‬نحن إزاء التغريات املعارصة ال ميكننا تحديد‬
‫تعريف للمثقف بشكل نهايئ وواضح وحتى األدوار التي ميكن أن تنسب إليه‬
‫تبقى غامضة وغري محددة متام كالتباس مفهوم الثقافة بصفة عامة‪ .‬نحن يف‬
‫زمن التخصص والنسبية يف زمن التفكري وإعادة التفكري زمن التغريات املتسارعة‪..‬‬
‫ميككنا أن نالحظ أن مراكز البحث والدراسات ولجان التفكري قد عوضت املثقف‬
‫الفرد وأزاحته عن مركزيته‪ .‬مل يعد للمثقف الواحد من أهمية كام كان يف املايض‬
‫اليوم نتحدث عن فرق البحث وتششت مجاالت الثقافة وتنوعها لكننا سننظر‬
‫إىل املوضوع من خالل مجاالت الثقافة التي لها عالقة بالسلطة ‪/‬الدولة وبسلطة‬
‫الثقايف يف الدولة ميكننا اإلشارة هنا إىل أن الدولة أيضا فقد مركزيتها السلطوية‬
‫يف ظلّ ما يشهده العامل من انفجار الحركات االحتجاجية والرصاعات العرقية‬
‫والحروب األهلية والطائفية التي انفجرت بعد ما اصطُلح عىل تسميته بالربيع‬
‫العريب حيث ميكننا أن نرى يف الدولة الواحدة مراكز مختلفة ومتناقضة للسلطة‬
‫والسلطة املضادة حيث ال ميكننا حرص كيفية توظيف السلطة لثقافة معينة‪،‬‬
‫أي هل الثقافة املضادة لسلطة ما بريئة من أنها خاضعة إىل سلطة أخرى فمثال‬
‫يقف عديداملثقفني العرب إىل جانب الثورة السورية ضد سلطة بشار األسد‬
‫بعنوان االنتصار للشعب والثورة والحرية لك ّن هؤالء املثقفني هل هم أبرياء من‬
‫االنتامء إىل ثقافة وسلطة أخرى فبعض املراكز الثقافية والقنوات الفضائية مقراتها‬
‫ومتويلها يقع بني االمارات والسعودية وقطر وينشط فيها عديد الخرباء األمريكان‬
‫واألوروبيني‪ ..‬ويف املقابل نطرح نفس السؤال‪/‬املأزق حول املثقفني الذين يقفون‬
‫إىل جانب سلطة بشار يطرح السؤال حول عالقتهم باملؤسسات االيرانية والروسية‪..‬‬
‫هذه الصورة حول الرصاع اإلقليمي والدويل يف الرشق األوسط نجد لها انعكاسها يف‬
‫رصاع املثقفني ومواقفهم وأفكارهم‪ ..‬هل هي قناعات أم هم مثقفون مأجورون‬
‫يؤدون وظيفة ملصلحة أحد أطراف الرصاع‪ ..‬إنه رصاع ثقايف عىل أشده إىل درجة‬
‫يفقد فيها املتقبل بوصلة الفهم ويكتفي باالستهالك فعىل سبيل املثال نجد عديد‬
‫النرشيات األدبية والثقافية الفنية الخليجية التي تجوب العامل العريب فيها عديد‬
‫اإلنتاجات لكبار األدباء واملفكرين املعارصين من العامل العريب وحتى من العامل‬
‫تقودنا إىل االنبهار فال نطرح السؤال التايل من ميول هذه اإلصدارات وملاذا خاصة‬
‫أنها تأيت إلينا بأبخس األمثان ناهيك عن التأمل يف مضامني هذه اإلصدارات‬
‫والخطاب الذي تحاول ترويجه وإليك هذا االختالف يف املصطلحات املستعملة‬

‫حول املوضوع الواحد فلو نتأمل ابلمفاهي َم التي يستعملها كتاب النرشيات التي‬
‫تصدر من قطر حول مرص لوجدنا أغلب الكتاب يستعملون مصطلح «االنقالب‬
‫العسكري يف مرص» أما ما يستعمله كتاب اإلصدارات اإلماراتية مثال أو السعودية‬
‫سنجده «الثورة الثانية»‪ ..‬إنه رصاع غري مريئ بني قوى رجعية تحاول السيطرة‬
‫عىل‪/‬أو صناعة رأي عام عرب مفكّرين ومنظرين يحظون مبكانة علمية أو ثقافية‬
‫مرموقة كاملفكر كعزمي بشارة الذي يعترب رأيه معتربا لدى جمهور واسع من‬
‫االنتلجنسيا العربية ولدى فئة الشباب العريب املثقف لكن من يستطيع أن‬
‫من‬
‫يلمح إىل األجندا التي أصبح يتحرك وفقها هذا الرجل‪،‬‬
‫يستطيع أن يتشمم رائحة البرتودالر يف خطاباته‪ ..‬ولنا‬
‫أن نصفّق كثريا لسالمة كيلة وهو يحارض حول تجديد‬
‫اليسار وإعادة الروح الثورية والدماء الجديدة له لينهض‬
‫اليسار من جديد ويقوم بدوره سننبهر بهذا الخطاب‬
‫الثوري‪ ..‬لكن من سيعلم أن سالمة كيلة يكتب لنا من‬
‫جامعة أمريكية ومركز دراسات أمرييك بقطر وأن كل‬
‫مايصدره هذا املفكر يت ّم طبعه بآالف ال ّنسخ ويوزع يف‬
‫كامل الوطن العريب بتمويل قطري‪ ..‬لقد الحظنا يف املدة‬
‫األخرية أن عديد املثقفني واملفكرين واملدونني واإلعالميني‬
‫وحتى األدباء والشعراء بدؤوا ينهضون من خمولهم‬
‫وينتجون ويتحركون بشكل مكثف وعىل عديد الواجهات‪.‬‬
‫قد نفهم أن الربيع العريب أعاد إليهم األمل وأيقظهم من‬
‫سباتهم ويأسهم فتحركوا ‪ -‬رمبا ‪ -‬يف محاولة منهم للتأثري‬
‫والقيام بأدوارهم التنويرية والتثقيفة‪ .‬قد ينطبق هذا‬
‫األمر عىل البعض منهم ممن كانوا من قبل عىل نفس‬
‫املبدإ واملوقف والخطاب وهؤالء قلة تتامثل مع الصوت‬
‫األقيل للقوى االجتامعية واليسارية والقومية يف العامل‬
‫العريب التي ليست لديها ارتباطات بجهات أو‬
‫مؤسسات أو أجندات خارجية يبقى هذا‬
‫الصوت خافتا‪ ..‬لكن هؤالء الذين تحولوا‬
‫فجأة إىل شعلة من النشاط‬
‫يتنقلون بني العواصم و‬
‫املطارات بشكل مكويك‬
‫اللقاء محارضات‬
‫واملشاركة يف ندوات‬

‫رخاوة السلطة وتيه المثقف‬
‫كمال عقيلي‬

‫يبدو أن التأمل يف الحالة العربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا سينتهي بنا إىل‬
‫استنتاجات ونتائج صادمة ومفزعة تستحيل معها عملية التفكري أو التحليل إىل‬
‫محاولة يائسة وخائبة تحمل بذور فنائها وانتحارها منذ البدء‪ .‬والحالة العربية‬
‫املذكورة آنفا ليست معطًى معلقا يف الفضاء وخارج الزمن والتاريخ إنها شكل‬
‫من أشكال تعاطي اإلنسان العريب مع مشكالته وقضاياه وأسئلته‪ .‬ومن خالل هذا‬
‫التعاطي ميكن تنزيل اإلشكالية التي نروم التصدي لها أال وهي املثقف والسلطة‬
‫والتي كانت مثا َر جدل ومشغالً من املشاغل استأثر بكتابات وتحاليل الكتاب‬
‫والباحثني العرب‪.‬‬
‫وقد تخرينا أن ننظر يف هذه اإلشكالية بطريقة مختلفة فيها قدر من املجازفة‬
‫واملخاطرة التي تقطع مع النظرة االسرتجاعية املتحصنة بالنصوص واملتون أكرث‬
‫من تسلحها باملغامرة وال َجسارة وسلك الطرق الصعبة املليئة باألشواك وعندما‬
‫أرشنا يف التمهيد إىل الحالة العربية الراهنة فإن تلك اإلشارة تأخد بعني االعتبار‬
‫«الراه َن» أو «املا‪-‬يحدثُ » أو «اآلن والهنا» ويف هذا املركح أو عىل هذا املهاد‬
‫سنقوم بترشيح إشكالية السلطة واملثقف ومقاربتها وتقليب النظر فيها أي معنى‬
‫للسلطة يف الزمن العريب والحالة العربية الراهنة؟‬
‫وإذا تساءلنا يف هذا املفصل من مفاصل هذه الورقة عن معنى السلطة فإننا‬
‫مجسدة يف مفهوم الدولة من‬
‫سنقترص عىل السلطة مبعناها السيايس أي السلطة ّ‬
‫جهة كونها الجهاز الجامع الذي تصهر بداخله كل االختالفات والتاميزات معدال‬
‫وكابحا وميزانا‪.‬‬
‫ذلك أن الدولة يف أحد أدوارها املهمة والخطرية هي الوسيط أو الباين للمشرتك‬
‫ولنقاط االلتقاء أو االئتالف بني الطوائف والفئات والجهات واألعراق واألجناس‬
‫وإذا تأملنا حالة الدولة يف هذا الزمن العريب املوحش فستستوقفنا نقاط استفهام‬

‫عديدة من خالل أمثلة عديدة لعل أبرزها (لبنان‪ -‬العراق ‪ -‬سوريا ‪ -‬اليمن ‪-‬‬
‫ليبيا)‪.‬‬
‫وهذه األمثلة هي التي تفرض علينا أو تجربنا عىل التساؤل عن مفهوم السلطة‬
‫الذي بات مه ّددا بالتاليش والتفتت والتحلّل من خالل خلق د ّمل أو حفر يف‬
‫جسد الدولة لتستنفر قواها وجهودها لردمها ومعالجة هذه العاهات أو هذه‬
‫التشويهات املتمثلة أساسا يف الحالة الداعشية أو اإلرهاب‪.‬‬
‫ها هنا تحديدا كان عىل املثقف أو يفرتض ذلك أن يغري اسرتاتجياته ومواقعه‬
‫الدفاعية أو الناقدة للسلطة ويبدو أنه واقع يف منطقة املا‪-‬بني أو منطقة الرتدّد‬
‫واالرتباك املضني والقاتل أحيانا كثرية‪.‬‬

‫إقامة المثقف في منطقة االرتباك‬
‫يبدو أن قدر املثقف يف الوطن العريب هو اإلقامة يف مناطق رخْوة لزجة أو‬
‫السري عىل رمال متحركة فهو من جهة مل ينته ب ْع ُد من إجبار السلطة عندما‬
‫كانت سلطة عىل التصدي لألسئلة التي ظلت معلقة ومؤجلة أال وهي كيفية‬
‫التداول السلمي عىل الحكم والتوزيع العادل للرثوة وإقامة مساحات واسعة‬
‫لحرية التفكري والتعبري واإلبداع لتظهر عىل السطح مشكالت مستجدة متمثلة يف‬
‫اإلرهاب املع ْومل أو ما ُس ّم َي يف بعض األدبيات السياسية بالفوىض الخالقة هذه‬
‫الفوىض التي ق ّوضت مفهوم الدولة والسلطة معا وفتّتَتْه إىل أن أضحى عبارة عن‬
‫هباءات أو ذ ّرات تذروها الرياح‪.‬‬
‫إذ كان لزاما عىل املثقف أن يغري مت ْوقعه وطرائق نظره وتعاطيه مع السلطة ألن‬
‫الداعيش الداهم يتهدد الكيانني كيان السلطة وكيان املثقف مجتمعني‬
‫الخطر‬
‫ّ‬
‫وحينئذ تحولت السلطة واملثقف املعارض أساسا إىل حليفني اسرتاتجيني ‪ -‬خاصة‬
‫يف الحالة السوية ‪ -‬هذا التحالف حتمته العواصف التي تهدد كيان الدولة اإلطار‬
‫الحاوي والجامع لكل من السلطة واملثقف وخري مثال عىل ذلك صاحب كتاب‬

‫ودورات تكوينية وغريها من االنشطة التي لو بحثنا ع ّمن ميولها لوجدنا أن‬
‫الجهات التي متنح السالح ملا يُس ّمى بالثوار يف كل من سوريا وليبيا وراء ذلك‬
‫ليبقى نفس السؤال قامئا هل متويل الثورات بالسالح واملثقفني باألموال أمر‬
‫مجا ّين؟ هل كل هذه األموال التي ترصف حقا لتطبيق الدميقراطية يف العامل‬
‫العريب؟ يبدو هذا السؤال غاية من السذاجة والبالهة ألن من يرصفون تلك‬
‫األموال هم من أنظمة ملكية وراثية مازالت تطبق الحدود وقطع األيادي‬
‫والرجم‪ ،‬فمن املضحكات أن تقرأ املركز التنموي القطري األمرييك للدميقراطية‬
‫يف العامل العريب أو أن تقرأ العاهل السعودي يعرب عن تفاؤله بنجاح االنتقال‬
‫الدميقراطي يف تونس أمر مضحك حقا لكن املهزلة األكرب أن نجد عديد املثقفني‬
‫من يشاركون يف هذه املهازل ومبثل شعارات كهذه دون أن يخجلوا من‬
‫أنفسهم‪ .‬إنهم ينخرطون يف أجندا أمريكية ويقبضون من دفرت صكوك‬
‫خليجي‪ .‬ولنفهم رشاسة هؤالء يف النشاط الفكري والثقايف املكثف علينا‬
‫أن ننظر إىل بطونهم التي تكرشت وإىل سياراتهم الفاخرة التي يقتنونها‬
‫وإىل أرصدتهم البنكية املتضخمة‪ ،‬يف زمن النيوليربالية املتوحشة يت ّم‬
‫تسليع كل يشء حتى الخطاب الثقايف أصبح وجبة رسيعة لالستهالك‪..‬‬
‫الصحايف الفرنيس «بول نيزان»‬
‫ففي سنة ‪ 1932‬أصدر الفيلسوف و ّ‬
‫كتابا عنوانه «كالب الحراسة» تنديدا مبثقفي عرصه الذين كانوا حر َاس‬
‫النظام القائم تحت غطاء املوضوعية والحياد‪ ،‬ففي هذا الكتاب‬
‫ح ّدد مالمح الخطاب الثقايف الثوري املناقض ألطروحات‬
‫كالب الحراسة ويف سنة ‪ 1997‬أصدر املفكر والناقد الفرنيس‬
‫«سريج حليمي» كتاب «كالب الحراسة الجدد» بني فيه مالمح‬
‫املثقفني الجدد يف الزمن املعارص الذين تستعملهم مؤسسات‬
‫السيطرة لبسط وترويج ثقافتها وهم «اإلعالميون والصحافيون‬
‫واملحلّلون والخرباء‪ »...‬وقد ت ّم تحويل هذا الكتاب إىل فيلم وثائقي‬
‫من إخراج «جيل بالباسرت» و«يانيك كريغوت» وهام صحافيان مهتماّ ن‬
‫بنقد اإلعالم وقد بينّ الفيلم كيف تت ّم صناعة املعلومة وتسليعها‬
‫وتوزيعها لتصبح خربا‪ .‬فاإلعالم مل يعد نقال لألحداث والوقائع بقدر ما‬
‫أصبح بضاع ًة تصنع يف مراكز املال والسيطرة وبتقنيات حاذقة تجعل‬
‫منها وكأنها حدث حقيقي ويتعامل معها املتلقي عىل أنها‬
‫ويقيني‪ ،‬بحيث يصعب اكتشاف أنها مفربكة‬
‫حقيقي‬
‫حدث‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫بدقّة متناهية وحتى من يعرفون أنها كذلك يعملون عىل‬
‫ترويجها وبطريقة مسعورة تزداد رشاس ًة كلام ارتفع‬
‫األجر الذي يقبضونه!‬

‫«من الرتاث إىل الثورة» «الطيب تيزيني»‪.‬‬
‫ومن هذه الزاوية عنونّا هذه الورقات برخاوة السلطة وتيه املثقف‪ ،‬التيه الذي‬
‫الغصة املا‪-‬بعدية ألن املثقف يف حال ضياع الدولة‬
‫يعادل الشقاء األنطولوجي أو ّ‬
‫السلطة أو تفتتها وافتقارها إىل رقعة التسلط لن يجد م ّربرات لوجوده أو نقده أو‬
‫معارضته حينها يصبح أشبه بذلك املقاتل الروماين الذي أحرق قرطاج ث ّم رشع يف‬
‫البكاء كمن يبيك فقدا عظيام متسائال يف مرارة وماذا بعد قرطاج ؟‬
‫يبدو أن هذا السؤال ما ّ‬
‫انفك يخامر أذهان املثقفني العرب العضويني الذين‬
‫بدؤوا يف استشعار مدى خطورة ضياع الدولة وتحللها ورمبا انخرطوا يف صياغة‬
‫اسرتاتجية دفاعية مناضلة أو مقاومة مع مختلف الفاعلني السياسيني الستعادة‬
‫مفهوم الدولة السلطة وبريقه وألقه‪.‬‬
‫السلطة في الحالة التونسية‪:‬‬
‫كان الرئيس الباجي قائد السبيس يلهج يف كثري من أحاديثه وخطاباته برضورة‬
‫استعادة الدولة لهيبتها أو وجوب استعادة الشعب لرضورة احرتامه للقانون‬
‫الضامن لعدم متدد رقعة أو مساحة العنف والعبث ويبدو أن كثريا من املثقفني‬
‫تج ّوزًا سايروه يف هذا املطلب إن مل يكن ذلك ترصيحا فقد كان موافقة صامت ًة‬
‫يف ما يشبه االجامع السكويت يف الحالة الفقهية ولكن القضية املحورية يف تقديرنا‬
‫والتي كان فيها املثقفون أو املعارضون التاريخيون للسلطة إيجابيني أو غادروا‬
‫عىل األقل املنطقة السلبية واالنتظار هي كيف تكون السلطة عاملة ال جاهلة‪.‬‬
‫وكأن املثقف الناقد للسلطة يف تونس يستنهضها ويستنفر قواها يكْ تكون سلطة‬
‫جديرة بسلطتها أي عاملة ال جاهلة أو تقيم يف أزمنة فكرية تغطيها األغربة ال أن‬
‫تظلّ السلطة تتخفّى أو تتذ ّرع بتدبّر الشأن اليومي وإيجاد إجابات أو حلول‬
‫للمشكالت أو املطالب االجتامعية امللحة‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫في التغيير الجامعي المنشود‬
‫في عالقته بالتغير االجتماعي الجاري‬
‫منير السعيداني‬
‫من آثار ما حدث يف تونس بعد ‪ 17‬ديسمرب ‪ 2010‬تغي ٌري يف‬
‫مواقع عديد الفاعلني االجتامعيني ويف أدوار عديد املؤسسات‬
‫االجتامعية‪ .‬كان التغيري السيايس واالجتامعي والفكري‬
‫ومازال عميقا وشامال وحادا ورسيعا‪ .‬ويخطئ من يعتقد‬
‫أن الحال سرتكن إىل الهدوء قريبا‪ .‬نحن مازلنا نعيش أطوار‬
‫مخاض عنيف واضطراب كبري‪ .‬مواقع الفاعلني السياسيني‬
‫تتغري ال فقط عىل وقع نتائج االنتخابات املتك ّررة ومتقلبة‬
‫النتائج ولكن عىل وقع انشقاقات األحزاب وانقسامات بني‬
‫كتل فئوية متشظية داخل األحزاب‪ ،‬وبروز متواتر لتشكالت‬
‫سياسية غري تقليدية شبابية ومنشقة عىل الغالب‪ .‬ليس هذا‬
‫مقصورا عىل حزب دون آخر بل هو عام وشامل لألحزاب‬
‫الحاكمة ولتلك التي تحتل مواقع املعارضة‪ ،‬متقلبة األوضاع‬
‫هي أيضا وللتشكالت السياسية غري التقليدية‪ .‬مواقع‬
‫الفاعلني الجمعياتيني تتغري هي أيضا بني منظامت حكومية‬
‫وغري حكومية وذات ارتباطات حزبية سياسية وإيديولوجية‬
‫داخلية وخارجية موزّعة بني البلدان والقارات من الخليج‬
‫العريب حتى الواليات املتحدة األمريكية مرورا برتكيا‬
‫ومختلف البلدان األوروبية ذات التأثري الوازن‪ .‬وقد زادت‬
‫جائزة نوبل التي أسندت مؤخرا إىل االتحاد العام التونيس‬
‫للشغل واالتحاد التونيس للصناعة والتجارة والصناعات‬
‫التقليدية والهيئة الوطنية للمحامني التونسيني والرابطة‬
‫التونسية للدفاع عن حقوق اإلنسان من «حساسية» موقع‬
‫مثل هذه املنظامت «الوازنة» ضمن الخريطة االجتامعية‬
‫ السياسية التونسية من جهة ومن قنوات اتصالها أو‬‫شبكات ارتباطها بالقوى الخارجية ذات املصلحة يف تونس‪،‬‬
‫سواء أكانت تلك القوى عبارة عن حكومات أم مؤسسات‬
‫مالية واستثامرية أم واضعة للسياسات االسرتاتيجية‪ ،‬عىل‬
‫املستويات الدولية والقارية واإلقليمية‪.‬‬
‫يراجع هذا التغري ما يكاد يشمل كل ما استتب عليه أمر‬
‫الدولة ما بعد االستعامرية‪ ،‬وليدة اتفاقية ‪ 1956‬التونسية‬
‫ الفرنسية وترتيباتها‪ ،‬يف تونس منذ ستني سنة حيث ال‬‫ميس الفاعلني ومنازلهم ومواقعهم وأدوارهم فحسب بل‬
‫وكذلك املؤسسات‪ ،‬من جميع األنواع واألحجام‪ .‬ولدى كل‬
‫تغيري اجتامعي مبثل العمق والح ّدة والرسعة والشمول‬
‫الذي كان يف ما شهدته تونس خالل السنوات الخمس‬
‫املاضية يكون املثقف إزاء تغيرّ يف مواقعه وأدواره ومنازله‬
‫االجتامعية املمكنة‪ .‬إ ّن أمناط املثقفني التي كانت متثلها‬
‫بعض أطياف املد ّرسني الجامعيني صار بفعل التغيري الذي‬
‫كنا بصدده مدعوا إىل التنحي إزاء ترجرج ما كان يقف عليه‬
‫من أرضيات َوضُ ح أنّها مل تعد صلبة بالقدر الذي كانت‬
‫عليه‪ .‬فالجامعي‪ -‬املثقف املوايل للحزب ‪ -‬السلطة ‪ -‬ال ّدولة‬
‫(كان ينعت بـ«املنسجم») يجد نفسه اليوم أمام انقسامات‬
‫ال ُحكم اإليديولوجية والسياسية والحزبية واملصلحية وحتى‬
‫القبلية ‪ -‬العشائرية أو الجهوية‪ .‬ولذلك مل يعد مبقدوره‪،‬‬
‫ملؤسسات الحكم‪ ،‬أن يضطلع بنفس‬
‫إزاء التف ّجر الداخيل ّ‬
‫الدور الذي كان يضطلع به قبل ثورة ‪2010 17-12-‬‬
‫املتصلة حتى ‪ 14-01-2011‬وما بعده‪ .‬الجامعي‪ -‬املثقف‬
‫اإلسالمي املوايل اآلن للنهضة الحاكمة يبدو‪ ،‬ظاهريا‪ ،‬أهنأ‬
‫إزاء مسألة «االنقسامات واالنشقاقات» ولكنه يف الحقيقة‪،‬‬
‫وحتى يحوز ذلك الهناء‪ ،‬يض ّحي مبا ميكن أن يكون «فكرا‬
‫حرا»ليشهد‪ ،‬عاجزا أو منبهرا‪ ،‬محبطا أو مستفيدا‪ ،‬فعل‬
‫اآللة الحزبية الطاحنة وهي تُلزمه باالصطفاف وراء مواقف‬
‫حزبية تكتيكية فيها من املناورة السياسية أكرث مام فيها من‬
‫االستناد إىل زاوية نظر مخصوصة مبتكرة‪.‬ومام يزيد األمر‬
‫عرسا بالنسبة إىل الجامعي ‪ -‬املثقف اإلسالمي املوايل للنهضة‬

‫الحاكمة أ ّن سلوكها السيايس بالغ الحذر ومرتبص بأول‬
‫فرصة لقلب املوازين عن طريق ما أصبح يعرف ب«اللعبة‬
‫الدميقراطية» من دون تأكيد عىل أي مبدأ كان‪ ،‬رغم ما يبدو‬
‫من «موافقات الشيخ»‪ .‬ومل يكن لبعض الجامعيني‪ -‬املثقفني‬
‫ممن التفوا حول املنصف املرزوقي بعد أن خرس انتخابات‬
‫‪ 2014‬يف تجربة «حراك شعب املواطنني» إال أن يقفوا عىل‬
‫انقسامات مريرة أسابيع قليلة بعد أن خاضوا أ ّول املناقشات‬
‫الحامسية حول «زواج ممكن بني فكر حر انشقاقي وإرادة‬
‫تغيري سيايس نزيه»كام قيل‪ .‬حتى الجامعي‪-‬املثقف القديم‬
‫اآلخر الذي كان قبل الثورة « ُمعارضا للنظام» من موقع‬
‫دميقراطي أو حقوقي أو يساري‪ ...‬يجد نفسه إزاء انقسامات‬
‫شبيهة مبا هو موجود يف الحكم الحايل‪ ،‬مهام كان موقعه يف‬
‫شتى املعارضات متزايدة التشظي السيايس والفكري‪ .‬ومن‬
‫نفض منهم يديه أو يكاد من «الفعل السيايس» املبارش‪ ،‬ال‬
‫يكاد يقف عىل قرار بني االنخراط يف أو التعاون مع مراكز‬
‫و‪ /‬أو مؤسسات بحثية محلية وعربية ومن بلدان أوروبية‬
‫والقبول أو طلب مساعدات مؤسسات مانحة أو ممولة‬
‫تابعة لألمم املتحدة و‪/‬أو أوروبية و‪ /‬أو خليجية من جهة‪،‬‬
‫وبني إطالق مبادرات يف التعامل مع الشأن العام ينتهي‬
‫الوازن منها‪ ،‬طوعا أو استيعابا‪ ،‬إىل أيادي السلطان مثلام‬
‫كان عليه األمر يف «املؤمتر الوطني للمثقفني التونسيني ضد‬
‫اإلرهاب» (‪ 12‬أوت ‪ .)2014‬وقد ال يستثني هذا املشهد إال‬
‫ما كان من املشاريع ذات الطبيعة الفكرية من قبيل املجالت‬
‫الحامئة حول صيغة «مجلة ثقافية» («الفكر الجديد») أو‬
‫صيغة «مجلة فكرية» يضاف إليهام‪ ،‬أو ال يضاف‪ ،‬نعت‬
‫«مستقلة» («أفق»)‪.‬‬
‫ال يتعلق بعض األمر هاهنا بطبيعة املؤسسات السياسية‬
‫املذكورة بوصفها مؤسسات للحكم أو للفعل السيايس مهام‬
‫كان موقعه من الحكم فحسب بل بالتعارض الكامن بني‬
‫طبيعة املواقع واألدوار واملنازل التي ميكن أن تسند إىل‬
‫املؤسسات وبني ما هو أقرب‬
‫املثقف‪ ،‬أي مثقف‪ ،‬ضمن هذه ّ‬
‫إىل طبيعة مه ّمة املثقف االجتامعية من ابتكار وتجديد‬
‫وإعادة بناء مرتاكم الجهد ومتتابع الحلقات‪ .‬يف مثل هذه‬
‫األوضاع التي تعيشها تونس راهنا يكون الطلب االجتامعي‬
‫عىل األفكار املجددة البانية واملوجهة نحو املستقبل غامضا‬
‫وملتويا وغري نقي ألنه يقع بني اسرتاتيجيتني متنافرتني هام‬
‫حاجة األحزاب والجمعيات واملنظامت واملؤسسات امل ُك ّونة‬
‫للنظام السيايس إىل أقىص درجات الرسعة السطحية يف‬

‫االستتباب والسيطرة عىل التعارضات والتشققات التاريخية‬
‫ االجتامعية متجددة الربوز من جهة‪ ،‬وحاجة املجتمع‬‫العميق إىل أقىص درجات الرصانة الوئيدة يف مراجعة املناويل‬
‫الفكرية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية القامئة‪ .‬يتوزع‬
‫الطلب االجتامعي عىل املثقف يف سياق التحوالت الشبيهة‬
‫بالتي تعيشها تونس بني هذين االسرتاتيجيتني بحيث يكون‬
‫إيجاد مدى للمواءمة بني مواقع وأدوار ومنازل تستجيب‬
‫لكليهام يف آنٍ م ًعا مستحيال‪.‬‬
‫بقدر محدود‪ ،‬أفلتت الجامعة التونسية بعد الثورة من قبضة‬
‫التحكم الدكتاتوري يف تسيريها وإدارتها وتنظيمها من جهة‬
‫ويف إنتاج املعرفة فيها والتعريف بها واستغاللها من جهة‬
‫أخرى‪ .‬تعيش هي أيضا وقع هذا التغري التي كنا بصدد بعض‬
‫وجوهه‪ .‬آليات التسيري الجديدة التي تعتمد عىل الغالب‬
‫عىل انتخاب املسؤولني األول عن املؤسسات اآلكادميية‬
‫والبحثية من كليات ومعاهد عليا وصوال إىل الجامعات‬
‫وهياكل البحث (التي تُتبوأ فيها املسؤوليات األوىل عن طريق‬
‫«اختيار داخيل» مييل إىل التوافق التفاويض وإن كان عسريا‬
‫أحيانا) أثبتت أن باإلمكان االستجابة إىل الطلب االجتامعي‬
‫عىل الجامعي ‪ -‬املثقف بطريقة فيها شوط ال يستهان به من‬
‫االستقاللية عن السلطتني السياسية واإلدارية‪ .‬كان ذلك يف‬
‫مثال تكوين رؤساء الجامعات لندوة مستقلة عن السلطة‬
‫السياسية وعن السلطة اإلدارية للوزارة‪ ،‬ندوة منتظمة‬
‫االجتامع تقريبا تلقائية التعهد بإصدار مواقف من الشأن‬
‫العام وحرة التدخل إىل مدى معينّ يف الفضاء العمومي‬
‫حيث نصص بيانها الصادر بتاريخ ‪ 31-01-2015‬عىل تفعيل‬
‫مقرتح إداث «ندوة رؤساء الجامعات» باعتبارها «هيئة‬
‫مستقلة متثل هيكال للتفكري يف وضع منظومتنا الجامعية‬
‫واستنباط الحلول املناسبة ملشاكلها والعمل عىل تنفيذها من‬
‫أجل إصالح هذه املنظومة وتطويرها» (أمىض البيان رؤساء‬
‫جامعات جندوبة‪ ،‬املنستري‪ ،‬سوسة‪ ،‬قفصة‪ ،‬قرطاج‪ ،‬تونس‬
‫املنار‪ ،‬القريوان‪ ،‬منوبة‪ ،‬تونس‪ ،‬الجامعة االفرتاضية)‪ .‬ولكن‬
‫رغم كل هذا الجديد يف موقع الجامعيني وصلتهم بالشأن‬
‫العام فإن البنية الكولونيالية للمعرفة هي اإلشكال الذي مل‬

‫يت ّم حتى البدء يف تصور كيفية مراجعته بل إمكانيتها‪.‬‬

‫اإلقليمي لل ّدول‬
‫مفهوم «املعرفة» الذي اعتمده املكتب‬
‫ّ‬
‫ومؤسسة مح ّمد‬
‫العرب ّية ‪ /‬برنامج األمم املتّحدة اإلمنا ّيئ‪ّ ،‬‬
‫بن راشد آل مكتوم يف تقرير املعرفة العر ّيب األ ّول للعام‬
‫‪« 2009‬نحو تواصل معر ّيف منتج»‪ ،‬وتقرير املعرفة العريب‬
‫للعام ‪« 2014‬الشّ باب وتوطني املعرفة») مثال يدل عىل أنها‬
‫تتك ّون من البيانات واملعلومات والباراديغامت واألفكار‪ ،‬أو‬
‫ما اعتربه التقريران ‹البنى الرمزية› التي يحملها اإلنسان أو‬
‫ميتلكها املجتمع أو يقيمها‪ ،‬يف سياق تاريخي مح ّدد‪ ،‬بحيث‬
‫ومؤسسيا‪ ،‬يف كافّة مجاالت النشاط‬
‫تُو ّجه سلوك الناس‪ ،‬فرديا ّ‬
‫السلع والخدمات‪ ،‬ويف نشاط املجتمع‬
‫اإلنسا ّين‪ ،‬يف إنتاج ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫السياسة ويف الحياة ّ‬
‫املدين و ّ‬
‫سيايس‬
‫وحينئذ ليست بنية املعرفة نتيجة تص ّور إدار ّي‬
‫ّ‬
‫يف كيف ّية تنظيمها بقدر ما هي نتيج ٌة أكرث مبارشة لتص ّور‬
‫عالقتها باملجتمع الذي ينتجها من جه ٍة ومبا يَ ُروج من‬
‫معارف يف محيط ذلك املجتمع الجغرا ّيف والحضار ّي والثقا ّيف‬
‫والفكر ّي املبارش وغري املبارش ث ّم لعالقتها (املعرفة) بالوجهة‬
‫السياسات العموم ّية املنظِّمة‬
‫التي يت ّم فيها استخدامها يف ّ‬
‫للعيش املشرتك بني أفراد املجتمع ومجموعاته‪ .‬فالنظم‬
‫التص ّورية للمعرفة واملِ ْخيَال البانيِ لعالقة الجامعة مبجتمعها‬
‫الحق يقال‪ ،‬مبثل هذا‬
‫يف تونس موروث عن بنية مل تكن‪ ،‬و ّ‬
‫االكتامل والوضوح زمن االستعامر الفرنيس املبارش‪ .‬ولكن ما‬
‫ت ّم بناؤه خالل حكم الدولة ما بعد االستعامرية من أنظمة‬
‫معرفية باملعني املادّي للكلمة (البنية املاديّة والتّنظيم ّية‬
‫والتّسيرييّة واملُتَصرَ ِّفة يف إنتاج املعرفة وامل ُتدبِّرة لكيفيات‬
‫العلمي‬
‫ترويجها وتوزيعها واستعاملها) وباملعنى املعر ّيف ‪-‬‬
‫ّ‬
‫اإلبستيمولوجي للكلمة (املخيال الباين للمبادئ التي تقوم‬
‫‬‫ّ‬
‫عليها املعرفة وال ّناظم لعالقتها بال ّنظام الثقايف الوطني) يتّسم‬
‫العاملي لسوق املعرفة‪ .‬يتبني‬
‫ِب َك ْونه واق ًعا تحت أثر التّقسيم‬
‫ّ‬
‫ذلك األثر يف الهيمنة العددية للجامعات التّعليمية الناقلة‬
‫للمعرفة الجاهزة يف مك ّونات املنظومة الجامعية التونسية‬
‫عىل حساب الجامعات البحثية امل ُحدثة للمعرفة املتجددة‬
‫كام يدلّ عليه دليل مخابر البحث ووحداته الصادر يف نرشته‬
‫األوىل سنة ‪ 2015‬يف صيغة أ ّولية عن وزارة التعليم العايل‬
‫والبحث العلمي والذي ال يحيص (امللحق ‪ ،6‬صص ‪)89-90‬‬
‫إال ‪ 38‬مركز بحث أنشئت يف ما بني ‪ 1893‬و‪ .2013‬كام‬
‫يتبني ذات األثر يف «ميزان قوى» لغات التدريس واألفكار‬
‫واإلنتاج وبراءات االكتشاف أو االخرتاع والتنظري واملفاهيم‬
‫الساري يف مختلف‬
‫والتص ّورات‪ .‬ويكفي أن نعود إىل املنطق ّ‬
‫التّصنيفات اإلقليميّة والقا ّرية والدوليّة أو العامليّة للجامعات‬
‫السوق‬
‫حتّى نرى أ ّن ما هو متوفّر من البضائع والخريات يف ّ‬
‫الكون ّية للمعرفة ُم َص ّنع ومصنوع يف مراكز إنتاجها الكربى‬
‫يف ما وراء بحارنا وأن املكافآت املادّية واملعنويّة وال ّرمزية‬
‫املسندة إىل ما ينتج هنا‪ ،‬ليست إال فتاتا مماّ ميكن أن يدره‬
‫إنتاجه لو كان ت ّم هناك‪ .‬ولسنا‪ ،‬نحن التونسيني أو املغاربيني‬
‫أو العرب مثال‪ ،‬بوحيدين يف مثل هذه الحالة الكونيّة وإن‬
‫كانت اسرتاتيج ّيات نقضها يف جنوب القا ّرة األمريكية أو‬
‫اإلقليم الهند – صيني من القا ّرة اآلسيويّة أو جنوب القا ّرة‬
‫األفريقية مثال أكرث تقدما مماّ نحن عليه من الجرأة عىل‬
‫تص ّورها وتنفيذها‪ .‬قد يكون املوقع من سوق املعرفة الكو ّين‬
‫نوعا من املوروث غري القابل لل ّنقض ب ُيرس‪ ،‬ولك ّن املوقع ثم‬
‫السوق من جهة وإىل‬
‫املوقف من إخضاع املعرفة إىل منطق ّ‬
‫رصف من جهة ثانية وإىل منطق التقسيم‬
‫منطق التّسيري املت ّ‬
‫العاملي ملناطق نفوذ املعارف والثقافات واللغات من جهة‬
‫أخرى يجعلنا من ّيز بني أقاليم ومناطق وأوطان وبلدان تشهد‬
‫استحكاما الستعامريّة املعرفة وإعادة إنتاج لها وأخرى تشهد‬

‫‪13‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫ت ََصا ُع َد الاستعامرية املعرفة‪ ،‬سواء أكانت هذه الالاستعامرية‬
‫واقعا قامئا أم اسرتاتيجية متوخاة أم توقا مستقبليا‪.‬‬
‫ودون النظر إىل هذا ال ميكن أن نفكّر يف نقض حالة الطالق‬
‫املزدوج بني الجامعة واملجتمع يف تونس‪ .‬لقد كان من نتيجة‬
‫إرساء نظام معريف واقع تحت أثر استعامرية املعرفة منذ بدايات‬
‫الدولة ما بعد االستعامرية يف تونس‪ ،‬ذلك النظام الذي ينبني‬
‫يف كلّيته وجزئياته عىل موروث استعامري مركزي أورويب نافذ‬
‫يف لسان التدريس ومحتوياته وتص ّوراته وفلسفاته وموقفه‬
‫من التاريخ الوطني وذاكرته ومجمل األوضاع االقتصادية‬
‫واالجتامعية والثقافية‪ ،‬أن استتب لعقود تجاهلٌ متبادل بني‬
‫الجامعة واملجتمع‪ :‬جامعة أجربها النظام السيايس الذي أنشأها‬
‫وكذا النظام املعر ّيف الذي تب ّنته عىل تطليق مجتمع أدار لها‬
‫ظهره ومل يعد أفراده املنضوون فيها‪ ،‬مع عائالتهم وجامعاتهم‬
‫االجتامعية القريبة‪ ،‬يطلبون منها إال شهادات جامعية بأبخس‬
‫ما أمكن من الجهد ومل تعد مؤسساته‬
‫االقتصادية واالجتامعية وغريها تطلب‬
‫منها إال أنصاف مؤهلني لالضطالع مبهام‬
‫املؤسسات الجامعية‪،‬‬
‫التنفيذ‪ .‬يف مثل هذه ّ‬
‫يبدو الجامعيون أقرب إىل أن يكونوا من‬
‫تقنيي املعرفة ومر ّوجي نسخها الدراسية‬
‫أو مردّدي ملخّصاتها املفقّرة بحيث يكونون‬
‫غري مرشّ حني إىل أن يك ّونوا منطا جديدا فريدا‬
‫من الجامعي ‪ -‬املثقف‪ .‬وبالفعل ليس يت ّم‬
‫تخليق هذا النمط إال بإيجاد حلقات ربط‬
‫متكّن من وصل العروة‪ ،‬وبأوثق ما أمكن‪،‬‬
‫بني الجامعة واملجتمع وذلك بأن يعاد‬
‫وضع مختلف مكوناتها الطالبية والبحثية‬
‫واآلكادميية والتنظيمية يف سياق ما يستجيب‬
‫لحاجة املجتمع العميق إىل أعىل تفاعالت‬
‫التداول االسرتاتيجي يف مراجعة املناويل‬
‫الفكرية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية‬
‫القامئة‪.‬‬

‫لعائداتها املمكنة وهو ما يستوجب من كلّ من يعتزم االنتظام‬
‫يف دروسها توظيف مق ّدرات معيّنة منها الزمن املستدام للرتكيم‪،‬‬
‫واملخاطرة‪ ،‬واملجازفة الفردية‪ ،‬وق ّوة رأس املال املعريف خاصة‬
‫والثقايف عامة وهو ما ال ميلكه املحرومون من كل ذلك‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا هو ما يفرس ميلهم‪ ،‬بل إرصارهم عىل بناء اجتامعية‬
‫رصف يف املخاطر بطريقة مغايرة ملا تنشده‬
‫أخرى‪ ،‬تتدبر أمرها وتت ّ‬
‫الجامعة أصال فيهجرونها أو يقلّ اعتبارهم لها أو ال يحرصون‬
‫هويّاتهم االجتامعية يف االنتظام فيها بحيث يزاولون بالتوازي مع‬
‫«زياراتهم» لها أيام االمتحانات خاصة ِم َه ًنا متقطعة وموسمية‬
‫ويتقلّبون فيها عىل وقع حاجتهم إىل املال وإىل توسيع شبكة‬
‫عالقاتهم وتركيم رؤوس أموالهم االجتامعية‪ .‬من هذا املنظور‬
‫تبني مثل هذه الجامعة الفوارق االجتامعية ‪ -‬الثقافية وتعيد‬
‫بناءها عىل أساس هذا االفرتاق بني منطي اجتامعية مختلفني‪.‬‬
‫وعىل هذا األساس‪ ،‬تبدو مثل هذه الجامعة يف جوهرها غري‬
‫دميقراطية‪ ،‬باملعنى االجتامعي العميق للكلمة‪.‬‬
‫إن الربط بني «املسار االنتقايل‬
‫املجتمعي الشامل» و«التغيري‬
‫الجامعي» اللذين تشهدهام تونس‬
‫يظهر أننا يف سياق عايل املخاطر‪ .‬يتعلّق‬
‫بعض تلك املخاطر مبظاهر عجز لدى‬
‫النخب السياسية الحاكمة يف إدارة‬
‫الشأن الجامعي‪ ،‬ويتعلق بعضها اآلخر‬
‫بانعدام جاهزية األرسة الجامعية من‬
‫هيئة تعليمية وهيئة إدارية وطلبة‬
‫ملالقاة متطلبات جامعة تعيش هي‬
‫ذاتها تغريا حادا ورسيعا‪ .‬وبالفعل‪،‬‬
‫وإزاء هذه املخاطر ال تُبدي الحركة‬
‫الطالبية مبكوناتها املختلفة إال حرصا‬
‫عىل تسجيل االنتصارات االنتخابية‬
‫رسيعة الزوال واالستفادة من املناورة‬
‫السياسية دون أي تخطيط اسرتاتيجي‬
‫يتمكن من تنزيل شعار مركزي من‬
‫قبيل «جامعة شعبية‪ ،‬تعليم دميقراطي‪،‬‬
‫ثقافة وطنية» مثال إىل موضع الربمجة‬
‫العملية املمكنة أو حتى املحتملة‪ .‬وإزاء‬
‫نفس املخاطر ال تبدي الحركة النقابية‬
‫ملدريس الجامعة التونسية إال حرصا عىل‬
‫إنفاذ اسرتاتيجية الترشيك أي تقاسم‬
‫األدوار بني ما تعتربه «هياكل متثيلية‬
‫بيداغوجية وعلمية وإدارية منتخبة‬
‫للجامعيني» ذات أحقي ٍة تص ّورية‬
‫وتسيريية كاملة من جهة وبني الهياكل‬
‫الوزارية املركزية واإلدارية الجهوية‬
‫(تابعة للجامعات) واملحلية (تابعة‬
‫للمؤسسات)‪ .‬وإزاء نفس املخاطر ال‬
‫تبدي الهياكل الوزارية ال ّرسمية إال‬
‫حرصا متزايدا عىل التشبث بأقىص‬
‫ما أمكن من الصالحيات واملقدرات‬
‫التنفيذية ُمنفّسة عن االحتقان‬
‫الحادث ببعض إجراءات «ترشيكية»‬
‫و«تفاوضية» و«تداولية» تفضّ ل عىل‬
‫األغلب أالّ تكون ُمخرجاتها ذات صبغة‬
‫تقريرية‪ .‬وليس من مكسب بعيد املدى‬
‫ممكن لتظافر هذه االسرتاتيجيات‪ ،‬عىل‬
‫تعارضاتها الظرفية أحيانا‪ ،‬إال توطيد‬
‫محتمل للعالقة بني الجامعة والسلط السياسية القامئة عىل‬
‫حساب توطيد مطلوب للعالقة بني الجامعة واملجتمع‪ ،‬ودون‬
‫املساس مبا يتعلّق بسوق املعرفة ببنيتها التي ذكرنا وشبكة‬
‫عالقاتها التقليدية داخال وخارجا‪.‬‬

‫ال تبدي الهياكل‬
‫الوزارية ال ّرسمية‬
‫إال حرصا متزايدا‬
‫على التشبث‬
‫بأقصى ما أمكن‬
‫من الصالحيات‬
‫والمقدرات‬
‫التنفيذية‬
‫نفسة عن‬
‫ُم ّ‬
‫االحتقان الحادث‬
‫ببعض إجراءات‬
‫«تشريكية»‬
‫و«تفاوضية»‬
‫تفضل‬
‫و«تداولية» ّ‬
‫على األغلب أ ّال‬
‫تكون ُمخرجاتها‬
‫ذات صبغة‬
‫تقريرية‪.‬‬

‫لقد شهدت الحركات االجتامعية املستجدة‬
‫خالل السنوات الخمس األخرية يف تونس ويف‬
‫محيطها اإلقليمي القومي والثقايف املبارش‬
‫تجارب انتظام «للمواطنني» وللمه ّمشني‬
‫واملقصيني منهم عىل وجه الخصوص‬
‫يف أشكال تضامنية خارجة عن األشكال‬
‫الدولوية املتعارف عليها وعن النظم‬
‫البريوقراطية املعروفة حيث عملوا عىل بناء‬
‫عالقات تبادلية وتفاوضية خارجني ما أمكن‬
‫لهم ذلك عن البناء العالئقي املبني عىل‬
‫املصلحة الذاتية الفردية‪ ،‬وقواعد السلوك‬
‫االجتامعي التي يضبطها القانون ويث ّبتها‬
‫ويفرض احرتامها وعن مختلف التعاقدات‬
‫«املواطنية» الواعية «املسلّم بها»‪ .‬إزاء‬
‫ذلك تبدو الجامعة غري قابلة للوجود إال‬
‫وفق ما تنبني فيه من منط عيش يتطلب‬
‫أ ّوال وأساسا استطاعة التكيف مع أمناط‬
‫سلوك معيرّ ة ومق ّننة وتعاقدية من قبيل‬
‫االلتزام بالوقت واالنتظام يف املكان والتفرغ‬
‫للتحصيل الدرايس ثم للقيام بأبحاث…إلخ‬
‫وملدد طويلة‪ ،‬وهو ما يبدو مكلّفا بال ّنسبة‬
‫إىل املهمشني والفقراء و«غريبا» إىل ح ّد‬
‫عماّ اعتادوه من بناء تدبّري ‪ -‬تلفيقي ألساليب تحصيل القوت‬
‫ومجابهة رصوف الحياة‪ .‬وليس نجاح الفقراء واآلفاقيني يف زمن‬
‫الجامعة األوىل يف تونس قابال لالستعادة النتفاء رشطه التاريخي‬
‫االجتامعي الذي كان قوامه انفتاح السوق عىل منتجاتها وحاجة‬
‫املجتمع إليها واستطاعة «ال ّدولة» توظيفها وتوالد إمكانيات‬
‫«تشغيلها»‪ .‬ومقابل ذلك يدفع التعامل مع األنظمة النظرية‬
‫والعملية التي تبنيها الجامعة الواقعة تحت أثر كولونيالية‬
‫املعرفة ويسعى من يقوم عليها (الجامعة) إىل تطبيقها وترويجها‬
‫يف املجتمع نحو تبني التّقليل من الكلفة وزيادة العائد وتحديث‬
‫رصف يف جميع رؤوس األموال ذات‬
‫أنظمة التدبري االجتامعي املت ّ‬
‫الصلة (املادية االقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬والعائلية والتضامنية‪،‬‬
‫والثقافية)‪ .‬وليس يتم لهم (القامئون عىل الجامعة) ذلك إال عن‬
‫طريق االستثامر املع ّمم لرؤوس األموال تلك والتثمني الشامل‬

‫ينفتح عمق مناقشة «التغيري الجامعي املنشود» يف عالقته‬
‫ب«التغري االجتامعي الجاري» يف تونس إذًا عىل مناقشة‬
‫رصف يف الشّ أن الجامعي من داخل األنظمة املعرفية‬
‫أمناط الت ّ‬
‫والسياسية القامئة أو من خارجها‪ ،‬تلك األنظمة الخاضعة‬
‫الستعامرية املعرفة والسياسة وبدائلها الّتي قد تجد لها مصادر‬
‫يف مناذج تفكري أخرى من قبيل ما أسست له الدراسات ما بعد‬
‫الكولونيالية ودراسات جدل التح ّرر واالستتباع‪.‬‬

‫فتوى حول «ساطور»‬
‫ا ّتحاد الك ّتاب التونسيين‪..‬‬
‫يوسف خديم اهلل‬

‫كنت أمت ّرنُ‪ ،‬هذه األيّام‪ ،‬عىل مغالبة كسيل الهيكيل‪ ،‬الذّهني أيضا‪ ،‬صادفتني هذه الوثيقة‪.‬‬
‫[‪ ...‬فيام ُ‬
‫ِ‬
‫اسالت‬
‫ر‬
‫م‬
‫إحدى‬
‫عىل‬
‫ل‬
‫ج‬
‫املتع‬
‫ي‬
‫د‬
‫ر‬
‫يبدو‪،‬‬
‫هي‪ ،‬عىل ما‬
‫الصحاف ّيات ‪ -‬ال فرقَ ‪ -‬الذي‬
‫أو‬
‫حافيني‬
‫الص‬
‫أحد‬
‫‪1‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫دعاين إىل تعقيبٍ فور ّي ‪ -‬كام فهمت‪ ،‬اآلن تحديدا ‪ -‬عىل بيان اتّحاد الكتّاب بشأن التّهديد «اإلرهايب»‬
‫الذي طال أحد أعالمِ األدب والثقافة التونسيني‪ ،‬الشاعر منصف الوهايبي‪ .‬الحقيقة‪ ،‬لست متأكّدا إن‬
‫أرسلت ر ّدي هذا إىل من يه ّمه األمر‪ ،‬يف أوانه‪.‬‬
‫كنت‬
‫ُ‬
‫ريب فيه هو املفارقة التالية‪:‬‬
‫ما ال َ‬
‫الصحفيّات يف الشّ أن العام متاما مثل‬
‫الصحافيون و ّ‬
‫كاتب كب ٌري ‪ ،‬يستفتيني ّ‬
‫‪ - 1‬أنا أيضا‪ ،‬والعياذ ّ‬
‫بالرب‪ٌ ،‬‬
‫املنجم الشّ هري حسن الشارين أو ف ّنان األجيال كافون أو نجالء التونس ّية أو أي مف ٍْت يف الرياضةأو فنون‬
‫التّجميل والطّبخ‪ ،‬ال ّراقيني‪.‬‬
‫‪ - 2‬غري أنني كسولٌ أك ُرب‪ ،‬متكبرّ ٌ‪ُ ،‬م ّدعٍ‪ ،‬و َجحو ٌد ال ُ‬
‫أعرف كيف أق ّد ُر نضال «زمالء» الكلمة الرشيفة ‪ -‬يف‬
‫اللّحظات الحرجة ‪ -‬فأسعى بني أيديهم وأرجلهم أدحر ُج معاملي ومعاريف ليفتحوا يل بابًا مفتوحا‪ ،‬أغلق ُه‬
‫ٍ‬
‫بحامقات بائد ٍة أنا‪ ،‬يف ال ّنهاية‪ ،‬س ّي ُدها وعبدها‪ ،‬ال غري‪.‬‬
‫ِ‬
‫رش هذه الوثيقة‪ ،‬بال أج ٍر أو ثوابٍ ‪ ،‬طبعا‪]..‬‬
‫وعليه‪،‬‬
‫لتدارك قامتي ومقامي‪ ،‬املهدو َرين‪ ،‬أن ُ‬
‫***‬
‫للسفر إىل الفيتنام‬
‫برسع ِة شاع ٍر أو كاتبٍ من أعيان «اتّحاد كتّاب بعض التّونسيني»‪ ،‬يستع ُّد لت ّوه ّ‬
‫الصني‪ ،‬لتأم ِني الغطاء الثّقايف‪ ،‬الرضور ّي إلنقاذ مسا ِر «الثّورة»‪ ،‬االنتقايل امل ُعطّل‪ ..‬أس ّجلُ فقط‪،‬‬
‫أو ّ‬
‫«الحقائق» ‪ -‬حقائقي ال ّنسبيّة التّالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬املنظومات ال ّدين ّية‪ ،‬التّوحيديّة عموما‪ ،‬هي نُظُ ٌم مغلق ٌة النغال ِقها عىل( الـ)حقيق ِة (الـ) ُمطلق ِة التي‬
‫تقتيض اإلميا َن والتسلي َم‪ ،‬ال غري‪.‬‬
‫كالسياسة مثال‪ ،‬باعتبارها فعال ّية للممكن‪ ،‬اصطدمت‬
‫النسبي‪،‬‬
‫ز‬
‫ي‬
‫ح‬
‫يف‬
‫هي منظوماتٌ ‪ ،‬كلّام أُقحمت‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫توس ِ‬
‫بتوسطات الق ّوة‪ ،‬وبالتايل العنف‪.‬‬
‫طات العقل‪ ،‬فتحلّ تناقضاتها ّ‬
‫بحدودها‪ ،‬تلك التّي ال تقبَلُ ّ‬
‫وأفق كلّ منظوم ٍة دين ّي ٍة ُمس َّيسة‪ ،‬باعتبارها قامئة عىل محاولة ِ‬
‫فرض املق ّدس‬
‫‪ - 2‬العنف إذن هو واق ُع ُ‬
‫(الشرّ ع اإللهي)‪ ،‬عىل املدنّس‪( ،‬القانون الوضعي املدين)‪.‬‬
‫العنف مو ّج ٌه أساسا ض ّد ال ّنخبِ املدن ّية يف املجتمع‪ ،‬الثّقافية والعلم ّية تحديدا‪..‬‬
‫‪ُ -3‬‬
‫الساسة عموما‪ ..‬ألنها‬
‫خب» تلك‪ ،‬هي‪ ،‬بال ّنسبة إىل «املتط ّرفني»‪ ،‬أخط ُر من خصو ِمهم املبارشين‪ّ ،‬‬
‫«ال ّن ُ‬
‫هي املؤمتنة عىل إنتاج وإعادة إنتاج منظوم ِة الح ّريات الفرديّة والعا ّمة‪ ،‬التي دونها ال ُمواطن وال دولة‬
‫الخصويص‪..‬‬
‫مدنية وال انخراط فعيل يف الفضاء العام‪ ،‬مجالها الحيو ّي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫‪ - 4‬آل ّية اإلرهاب املعنوي واملادي هي ذاتها تقري ًبا‪ ،‬وقد أثبت التاريخ القريب جدا ذلك (يف الجزائر‬
‫ُ‬
‫وتستهدف من بني ال ّنخب تلك‪ ،‬الكتّاب واألدباء والف ّنانني ملج ّرد أنّهم كذلك ال غري‪ ،‬أل ّن م ّربر‬
‫مثال‪.)..‬‬
‫ِ‬
‫قناعات ُدعاة الحياة املؤ ّجلة‬
‫يتعارض مع‬
‫وجودهم بوصفهم ص ّنا َع خيا ٍل وحيا ٍة ممكنينْ ‪ ،‬يف ال ّدنيا‪،‬‬
‫ُ‬
‫بوصفها آخرةً‪..‬‬
‫ِ‬
‫ٍ‬
‫انكامش أو‬
‫بالعنف هم اآلن‪ ،‬ومنذ بوادرِه األوىل العديدة‪ ،‬يف حال ِة‬
‫‪ - 5‬لألسف‪ ،‬امله ّددون األساس‬
‫انتظار أو بهتة‪..‬‬
‫هم يف كلّ الحاالت‪ ،‬سلب ّيون‪ ،‬يفت ُحون الطّريق ‪ -‬حسب منطق «الوفاق» املزعوم ‪ -‬لـ«ترشيعٍ ناعمٍ »‬
‫ِ‬
‫للعنف‪ ،‬يف ال ّدستور‪ ،‬ولـ«تدبريه» يف الشّ ارع‪:‬‬
‫ومؤ ّج ٍل‬
‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫غياب أو تر ّهلَ أو‬
‫يعني‬
‫ما‬
‫بداياته‪،‬‬
‫منذ‬
‫العنف‬
‫ة‬
‫موج‬
‫افق‬
‫ر‬
‫ت‬
‫ة‬
‫فاعل‬
‫ة‬
‫ي‬
‫جامع‬
‫ة‬
‫بادر‬
‫أي‬
‫لهؤالء‬
‫نسمع‬
‫مل‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫الحس املدين لديهم‪..‬‬
‫متيّع ّ‬
‫ترب‬
‫الذي‬
‫تحديدا‬
‫اب‬
‫ت‬
‫الك‬
‫ّحاد‬
‫ت‬
‫ا‬
‫ة‪،‬‬
‫ي‬
‫مثيل‬
‫ت‬
‫ال‬
‫ّمتهم‬
‫ظ‬
‫من‬
‫تاريخ‬
‫هو‬
‫ٌ‪،‬‬
‫خ‬
‫تاري‬
‫له‬
‫هذا‬
‫املدين‬
‫الحس‬
‫ّ‬
‫ىّ‬
‫‪ُ -6‬‬
‫غياب ّ‬
‫ّ ّ‬
‫ورب نسلَ ُه عىل استهجان «أخالق العالِم» األصيلة والرتويج الضّ مني «ألخالق التّاجر» الهابطة‪..‬‬
‫ىّ‬
‫أتذكّر أ ّن مبارش ًة بعد «الثورة» تلك‪ ،‬الحوار الوحيد الذي تر ّدد بني أهله من دا ِخله ومن خارجِه‪ ،‬تعلّق‬
‫بجدارة زيد أو عمر يف االستفادة من فضائ ِل االتّحاد املنحرصة يف «متثيل األدب التونيس يف الخارج»‪،‬‬
‫السف ِر وعوائد ِه التي نعرف وال نعرف‪ ،‬وهو ما أثبتت ُه الوقائع اليوم‪ ..‬أي أ ّن املا َء‬
‫أي مج ّرد االنتفا ِع مبزايا ّ‬
‫ترب عليه اتّحاد الكتاب التونسيني وبعض أهله من ال ّنافذين والطّيعني الطّامعني مازال‬
‫االنتهازي الذي ىّ‬
‫يفعل فعلَ ُه إىل اآلن‪..‬‬
‫عجب إذن يف أن يتعاطى هؤالء‪ ،‬وآخرون خار َجه‪ ،‬مع خط ِر اإلرهابِ املع ّمم الذّي يدقّ األبواب‬
‫‪ - 7‬ال َ‬
‫السذاجة وقصرَ ِ ال ّنظر‪ٍ ..‬‬
‫تهافت قد يعطي ل ُدعاة املوت ُحججا إضافية‬
‫و‬
‫و‬
‫هافت‬
‫ت‬
‫ال‬
‫بهذا‬
‫منذ م ّدة‪،‬‬
‫الحمقِ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يس ّوقونها للعا ّمة لترشيعِ ما يفعلون وما سيفعلون‪ ،‬بهم أ ّوال‪ ،‬وبالجميع أخريا‪..‬‬
‫‪ - 8‬وعليه‪ ،‬فإن اتّحاد الكتّاب‪ ،‬وأولئك‪ ،‬ال ي ِزنُون شيئا يف قض ّية الحال‪..‬‬
‫وتنظيامتُ املجتمع املدين التّي مت ّرست مبقاومة القمعِ سابقا‪ ،‬والتي ب َدا عليها الفتو ُر هذه األيّام‪ ،‬هي‬
‫يجب أن تح ّرك الجميع من ورائها‪ ..‬قبل فوات األوان‪..‬‬
‫القاطر ُة التّي ُ‬
‫أ ّما منصف الوهايبي‪ ،‬فشاع ٌر ومثقّف يقوم بواجبه يف غري ثرثرة‪ ،‬أحيّيه‪ ..‬هو غري مه ّد ٍد يف ِ‬
‫شخصه‪ ،‬بل‬
‫رصا عىل غري هذا‪ ،‬فليحملْ ساطو ًرا «مق ّدسا» ب َدل‬
‫نح ُن جميعا مه ّددون فيه ويف غريه‪ ..‬أ ّما من بقي ُم ّ‬
‫قلمٍ ‪ ...‬قلمٍ قد ُر ُه أن يكون‪:‬‬
‫«مدنّسا»‪( ،‬و) دامئًا‪..‬‬

‫‪14‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫سياسة الكالم‬
‫عبد الفتاح بن حمودة (ايكاروس)‪.‬‬

‫تبدو إشكالية عالقة السلطة باملثقف إشكالية مستهلكة‪ ،‬لكنها جديرة بالطرح والنقاش ووضعها‬
‫موضع الدّرس والترشيح لكن بشكل آخ َر‪ ،‬بعيدًا عن االبتسار واالجتزاء‪.‬‬
‫بالسطح والقشور أن السلطة هي املامرسة‬
‫يذهب‪ ،‬يف ذهن البعض م ّمن احرتفوا االنبها َر ّ‬
‫السياسية يف ُمطلقها‪ ،‬غري أن هذا ال ّرأي ثبت تهافُته من جهة أخرى فليس كل سلطة سياسة وليس‬
‫كل سياسة سلطة‪ ،‬فالسياسية لها مجال واسع أبعد من السلطة‪ ،‬فكم من مشتغل بالسياسة هو‬
‫أبعد عن السلطة ألنّه مل ميارسها يو ًما وكم من مامرس سلطة هو غري منتم حزب ّيا أو متخندق‬
‫وراء السياسة‪.‬‬

‫ابتسام خليل‬
‫‪1‬‬

‫الت ّنين‬

‫مىش يف الشارع مزه ّوا‪ ،‬ينطق الفرح من أعطافه‪،‬‬
‫شباله الصغريان ‪ :‬أح ُدهام عىل كتفيه‪ ،‬واآلخر‬
‫يريد أن يتأرج َح بني صدره وأعىل بنطلونه‬
‫األنيق‪ ...‬تتباطأ خطواته‪ ،‬يزداد ضحك الشقيَّني‬
‫وأبوهام يبحث عن حامل املفاتيح يف قميصه ث ّم‬
‫يف جيب رسواله‪ ،‬دون أن يض َع أياّ من الولدين‬
‫امل ُه ّر َجني عىل األرض‪ ،‬يأخذ املفاتي َح ويصعد‬
‫املرقاة ذاتَ الدرجات األربع‪ ،‬يدير املفتاح يف‬
‫قفل الباب‪ ،‬إنّه يدخل بيته ناطحا الباب املفتو َح‬
‫برؤوسه الثالثة‪ ،‬رأسه الكبرية ورأيس ول َديه‪...‬‬
‫نحيب‬
‫يُنزلهام مرحا‪ ،‬يُزع ُجه أن تلتق َط أذناه َ‬
‫املذياع يُؤبّن قت َىل ُج ُد ًدا‪ ،‬يُسكت صوتَ املذياع‪،‬‬
‫ومي ّرر يد ُه ُمتَ َن ّعامً َمل َم َس لحيته السوداء امل ُرسلَة‬
‫إىل ُمنتَ َصف رقبته‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫الوي اخر‬
‫َج َب ّ‬

‫عبَ ُدو ُه‪ ،‬تَ َق ّربوا إليه بأرانب ب ّرية وحماَ م وإ َوزّ‪،‬‬
‫َرقَصوا ليُزيّ َن سام َءهم‪ ،‬مل تمَ ََّس يدا َ اإلله‬
‫الشفاّفتان َ‬
‫تلك القراب َني‪ ،‬أصابت ُه الوحش ُة من‬
‫دماء ُسفكت من أجله‪.‬‬
‫عند َجبل َحزيز نا َم وحيدا بال أنبياء وال مؤمن َني‪.‬‬
‫‪------------‬‬

‫إ ّن أجمل وأبلغ التعريفات التي قرأتها‪ :‬أ ّن السياسة عندما تتعلق باللغة أو الكالم ـ هي جوهر‬
‫عمل ّية اللّغة سواء كانت منطوقة شفاه ًة أو مكتوب ًة وفق نظام لغو ّي ما مرتبط بالتلّفظ فالسياسة‬
‫فساس الكالم أي قاد ُه عىل نحو مخصوص‬
‫هي الرتتيب من جهة أن سياسة الكالم هي قيادته َ‬
‫وبهذا املعنى تكون سياسة الكالم إبدا ًعا م ْحضً ا‪.‬‬
‫فسوسوا الكالم أيها املبدعون‪ ..‬و ُقودوه قياد ًة مجنونة ضاربة‬
‫فكثرية هي سياسة املبدعني هنا‪ُ ..‬‬
‫النص لتفوزوا بل ّذة السياسة‪ ..‬بعيدا عن الكرايس املنذورة لل ّزوال‪ ..‬فالكرايس‬
‫يف الرفّض ومت ّردوا يف ّ‬
‫كاذبة عابرة ونصوصكم باقية‪.‬‬

‫محمد العربي‬

‫لمن هذه الوردة؟‬
‫قلت إنني مل أقطف ورودا من حدائق‬
‫كذبت حني ُ‬
‫لقد ُ‬
‫الجريان ألهديها ألول عابرة طريق‪ ،‬رغم أن ِّك مل تكوين عابرة‬
‫طريق بل كنت الطريق الذي أسلكه كل صباح‪ ،‬املعلّم‬
‫والدرس‪ ،‬الطاولة والكريس والحديقة والصباحات الطريّة‬
‫وسط الشتاءات القاسية‪.‬‬
‫كانت املدرسة بعيدة عن بيتنا‪،‬يف قرية تس ّمى الداموس‪،‬‬
‫مل يكن أهايل تلك القرية من سكان األنفاق وال الكهوف‬
‫‪،‬وليسوا حرشات وال ثعابني‪ .‬فقط كانت اسمها الداموس‪.‬‬
‫هذا ما عرفته عىل األقلّ ‪ .‬نعم ويشء آخر أيضا كان سخيّا‬
‫ح ّد القرف هي تلك األمطار التي مل تكن تتوقف‪.‬‬
‫ست سنوات يف اتجاه داموسك امليضء‪ ،‬يف اتجاه عينيك الخجولتني‪ .‬عيناك هام‬
‫مثانية كيلومرتات من امليش كل يوم نحوك واليك‪ّ .‬‬
‫اليشء الوحيد الذي مل يكن يسمح يل بالتكاسل‪.‬‬
‫أذكر االن جيّدا ذلك اليوم‪ ،‬تلك املرة األوىل واألخرية التي قفزت فيها فوق سور حديقة يف بيت رشطي‪ .‬كنا يف طريق العودة من‬
‫املدرسة‪ ،‬يومها كدت انتهي فريسة لكلبه الربجي الضخم‪.‬‬
‫_ برجي‪ ...‬برجي‪ ...‬هكذا رصخ صديقي الذي كان يرفعني عىل ظهره يك أصل إىل حافة السور‪.‬ردد تلك الكلامت املتقطعة وانطلق‬
‫هاربا مع أول نبحة‪.‬‬
‫فهمت بعد ذلك أن الربجي هو نوع من أنواع كالب الحراسة الخطرية‪.‬لكن ما كان يعنيني يف تلك اللحظة هو أن أقطف لك وردة‪.‬‬
‫وقطفت ِ‬
‫لك وردة حمراء‪.‬خدشني ذلك الكلب يف يدي‪ ،‬وخلف يل جروحا ‪ -‬ظلت تلك الجروح تتسع إىل اآلن وتزداد عمقا –‪.‬‬
‫كنت كمن يقطف قبلة من شفاه أمرية يف حفلة ملكية مل يكن مدع ّوا اليها‪ ،‬ثم يطري بحصانه فيام تنهال عليه السهام وتالحقه فرسان‬
‫القرص‪.‬‬
‫الحقني الرشطي بعد ان تعرثت مرارا وانزلقت من فوق السور‪.‬رحت أركض‪ ...‬أركض‪ ...‬أركض‪ ...‬أركض‪ ....‬أركض‪....‬أركض‪ .....‬أركض‪.....‬‬
‫شفتي‪.‬‬
‫أركض الوردة تتعرق‪ ،‬متتزج بالدم الذي يترسب من يدي والقبلة أخريا بني ّ‬
‫خبأت الوردة يف حقيبتي كمن يخبئ جوهرة عن لصوص‪،‬حرستها ليلة كاملة ألسلمها يف الصباح إىل أناملك‪.‬‬
‫صباحا‪ ،‬كان ع ّيل ككل اللصوص واملجرمني أن أغيرّ الطريق إىل املدرسة‪،‬بعيدا عن رجل الرشطة وكلبه الضخم‪.‬‬
‫وصلت أخريا‪ ،‬الهثا‪ ،‬بني يدي الوردة املمزوجة بدمي ويف فمي اسمك‪.‬‬
‫وصلت وحني نادى املعلم باسمك‪ ،‬ردد التالميذ ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد انقطعت عن الدراسة سيدي‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫فاطمة بن فضيلة‬

‫منى الرزقي‪:‬‬

‫تح ّرش‬

‫الحكاء األعمى‬
‫ّ‬

‫‪---------------‬‬‫احي‬
‫َحل ُ‬
‫َّقت عاليًا َحا ِملاً بُذو َر فَنائيِ بَينْ َ َج َن َّ‬
‫أنا الحكّا ُء األ ْع َمى يا إ ْخوتيِ ‪..‬‬
‫بعصا مبْتو َر ٍة بَ ْحثًا َع ْن َصعي ٍد َها ِدئٍ‬
‫عبرَ ْتُ العاملَ ً‬
‫أُحبُّكُم فَ ْوقَ أ ِدمي ِه‬
‫وبني ُج ْدران فُوهة الربكان يف أَسا ِف ِل ه ِذه البيئ ِة امل ُ ْؤذية‬
‫ألسفارِي‪..‬‬
‫َوضَ َعت الفرئَا ُن ح ًّدا ْ‬
‫أنا طائ ُر الرباكني الحزين‪،‬‬
‫َز َماين ف ْوضو ٌّي َوأ ْحالمي غابَ ٌة َم َداري ٌة‬
‫تَ ُع ُّج بمِ َ ْخلوقات ُمخيف ٍة ُمذهلة‬
‫أنا آ ِخ ُر الذّاهب َني إلىَ َحتْفهم‬
‫الناعم‬
‫أُم ِّر ُغ منقاري يف تُراب الرباكني ِ‬
‫السحيق‬
‫َوأُشيِّ ُع َصا ِمتًا َم ْج َد ُساللَ ِتي ّ‬
‫السقُوط امل ُ َد ِّوي لِ ُص ُخور املا ْغماَ‬
‫عىل وقْعِ ّ‬
‫عند َما يَحلُّ اللّيلُ يف جزيرة «موريشيوس»‬
‫يَتَدلىَّ حبْلُ َخسا َرتِكُم ِمن أمامي‬
‫أو ِق ُد نا َر َم َحبَّ ِتكُم يف ُحطام سفين ٍة‬
‫قَ َذفَها ال ُهدا ُم إىل ساحيل امل َ ْهجور‬
‫َوبيْ َنام ك ْن ُت أُربيِّ ُخ َّدا ًما َسامويّ َني ألَ ْسامئِكُم‬
‫كُنتُم تَصوغو َن املَراثيِ ضَ ا ِحكني‬
‫ُوجو ُهكُم ضَ ْو ٌء بَعي ٌد‬
‫أصواتُكُم فقاقي ُع َهواء‪..‬‬
‫َريق طَويلٌ‬
‫الط ُ‬
‫َوأَنَا تَ ِعبْ ُت ِم َن ال َحكيْ ِ يَا إ ْخ َوتيِ الشُ عراء‪..‬‬

‫كوثر الدوزي‬

‫مطر‬
‫كنت أقرأ قصائد لشاعر ٍة ميت ٍة‪،‬‬
‫سمعت خرير املياه‬
‫وقطرات مطر تدقّ الطّبول‬
‫أرسعت إىل نافذة غرفتي املغلقة‬
‫فتحتها‬
‫رفعت يد ّي إىل السامء‬
‫مل ألتقط شيئًا‬
‫يف حفل زواج املطر‪.‬‬

‫ديمة محمود (مصر)‬

‫رسالة إلى سيلفر‬
‫تلتف ساقي بالجبرية‬
‫غدا ً عندما ُّ‬
‫سيقولون كانت شجاع ًة مبا يكفي لتعود‬
‫وبعد عامني عندما ينخلع حويض وتتعطلّ فخذي من األعىل عن‬
‫الحركة مبرونة وترافقني السيقان الخشبية‬
‫سأطلُّ من عليايئ يف العرش ألقول‬
‫كنت وحش ّي ًة مبا يكفي ألُجاب َه هذا العامل املتغ ّول‬
‫ُ‬
‫سوا ًء شُ في مفصيل أو تعاىف نسبياً وآنستني سيقان الخشب‬
‫سأكاىف ُء نفيس برقصة زوربا كلَّ يوم‬
‫ساقي‬
‫وسأظلُّ‬
‫ُ‬
‫أداعب الجربوت وأنا أمل ّ ُع ّ‬

‫ُهفهف ساقاي كاملرمر بني الخشبتني‬
‫ألرتد َي التنور َة القصرية وت َ‬
‫وأنا يف الهواء الطلق‬
‫سأظلُّ أرد ُّد خمسة عرش رجالً ماتوا من أجل صندوق‬
‫ويف ليل ٍة يص ُري فيها القمر بدرا ً‬
‫لك ّنني لن أموتَ مثلهم يا سيلفر من أجل الكنز‬
‫الفرق بيني وبينهم أن كنز َي الذي أجاب ُه من أجله هو ذايت‬
‫خفي ال يدركُه إالّي يَ ْصالين يف كل رضّ ة‬
‫مثة وقو ٌد ٌّ‬
‫ــش ذاتـي يف خابية التمرد‬
‫يُـنـ ِت ُ‬
‫لن أسق َط ولو رصتُ صلعاء وبال أنف!‬

‫امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر‬
‫تحتسيان كو ْيب عصري‬
‫فالجعة شأن رجا ّيل‬
‫عاطفي‬
‫والقهوة شأن‬
‫ّ‬
‫وهام امرأتان‬
‫مج ّرد امرأتني‬
‫«ما من نهر يف الناحية»‬
‫لكنهام كانتا تجلسان يف مقهى عىل النهر‬
‫تحتسيان كوبيَ ْ عصري بارد‬
‫وتتجاذبان أطر َاف الذكريات‬
‫عن رجل أح ّبتاه معا‬
‫وهجرتاه معا‬
‫يف الركن اآلخر من املقهى‬
‫يف الركن املطلّ عىل النهر‬
‫فتًى يبسط قوارير الجعة‬
‫واألوراق البيضاء عىل ظهر الطاولة‬
‫ال يرشب شيئا‬
‫وال يكتب شيئا‬
‫امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر‬
‫«لعلّ النهر اندلع خارج الصورة يف قصيدة أخرى»‬
‫تحتسيان العصري البارد‬
‫وتتح ّرشان بالفتى الجالس يف الركن املطلّ عىل‬
‫النهر‬
‫وهو يض ّم رجليه يف حركة ال إراديّة‬
‫وينأى ببرصه عنهام‬
‫امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر‬
‫«والنهر الزمة القصيدة»‬
‫تتح ّرشان بقوارير الجعة امللقاة عىل الطاولة‬
‫والفتى يض ّم قواريره‬
‫وينأى بظلّه عنهام‬
‫امرأتان تجلسان يف مقهى يف النهر‬
‫تحتسيان الجعة الباردة‬
‫وتتح ّرشان بأوراق الفتى النامئة عىل الطاولة‬
‫فيحمل أوراقه‬
‫ويغادر بخطى مرتبكة‬
‫مل تنتبها وهام تحتسيان حرب الفتى املسكوب يف‬
‫األوراق‬
‫أ ّن نهرا اندلع بينهام‬
‫وأنّهام أنجبتا قصيدة عابثة تتح ّرش بالعابرين يف‬
‫الطرقات‬

‫‪16‬‬

‫الخميس ‪ 2‬جوان ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 27‬شعبان ‪ - 1437‬العدد ‪49‬‬

‫قراءات لنصوص صديقة‬
‫سفيان رجب‬
‫كتب‪ .‬هي إذن نصوص صديقة تتقاسم معها الفكرة والدمعة والضحكة‪ ،‬وال تتح ّرج أبدا من إبراز عيوبها «إن‬
‫ممتع أن تكتب عن نصوص قرأتها في عيون أصحابها قبل أن تقرأها في ٍ‬
‫السماء‪ :‬نصوص ألنور اليزيدي وصبري‬
‫والطفولة والزّرقة ّ‬
‫بالصراخ ّ‬
‫ُوجدت» في ما ّ‬
‫تظن صادقا أ ّنه يخدمها ف ّن ّيا‪ ،‬هي نصوص حمراء مملوءة ّ‬
‫والضوء والجاز‪ ...‬نصوص تح ّرض على ال ّنظر إلى ّ‬
‫ال ّرحموني وعبد الفتاح بن حمودة ورضا العبيدي ومحمد العربي وأشرف القرقني ومنصف الخالدي وزياد عبد القادر وخالد الهداجي والناصر المولهي وعبد العزيز الهاشمي ونزار الحميدي‬
‫غداس ووليد تليلي وشاكر السياري‪...‬‬
‫وصالح بن عياد وأمامة الزاير وصابر العبسي وجميل عمامي ووئام ّ‬
‫وهذا األمر في ال ّنهاية ليس انتصارا أعمى لهذا الجيل‪ ،‬بقدر ما هو انتصار للشعر ولل ّنص المختلف والمنفلت‪.‬‬
‫سنبدأ في هذه القراءات األولى‪ ،‬بثالث مجموعات‪ ،‬وهي «حتى ال يجرحك العطر» لمحمد العربي المنشورة عن بيت الشعر التونسي‪ ،‬ومجموعة «مجرد رائحة ال غير» لخالد الهداجي والمنشورة‬
‫كل شيء تنتهي» لمحمد ال ّناصر المولهي‪ ،‬والمنشورة عن بيت الشعر‪.‬‬
‫عن دار زينب‪ ،‬ومجموعة «مثل ّ‬

‫السامء‬
‫املطر الذي يبني عشّ ه خلف ّ‬
‫املطر ال ّرابض خلف الربق‬
‫سيؤ ّجل اللّيلة رغبته يف البكاء‪.‬‬
‫اختار محمد العريب مع أغلب شعراء‬
‫األلفية الثّالثة قصيدة ال ّنرث نهجا جامل ّيا‬
‫لبناء عوامله الشّ عريّة‪ ،‬هو يكتب‬
‫ببساطة وعفويّة بعيدا عن ال ّتكلّف‬
‫والتنميق اللّغوي‪ ،‬فقط يختار ما يخدم‬
‫رؤيته الشّ عرية ال غري‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫العودة إلى الينابيع األولى‬
‫في مجموعة «ح ّتى ال يجرحك‬
‫العطر»‬
‫يف مجموعته األوىل «حتى ال يجرحك‬
‫العطر» يسبح «محمد العريب» بأسلوب‬
‫السلمون عائدا إىل عوامل‬
‫سمكة ّ‬
‫الطّفولة مبا تحمله من دهشة وبراءة‪:‬‬
‫أيّها الطّفل ال تحدّ ق يف الربق طويال‪...‬‬
‫ال تحدّ ق يف الغيم‬
‫ال ّراكض‬
‫فوق‬
‫املاء‬
‫كغزال أبيض‬

‫الشوارع أُطفئ لهيبها‬
‫الشهداء يف املقابر‬
‫القتل إشاعة مل يرتكبها أحد‬
‫الثورة يف بطون السامرسة‬
‫الثوريون ميوتون بطلقة يف الرأس‬
‫أعداء الحياة يدخلون الجنة‬
‫الجنة بيد الله دامئا‬
‫كل تلك الجرائم‪.‬‬
‫«باسم الله» تُقرتف ّ‬
‫يكتب الشّ اعر عن ال ّتفاصيل الهامشية‬
‫التي ال يعريها أحد اهتامما (املسامري‪،‬‬
‫أكياس البالستيك‪ ،‬األعشاب النامئة‬
‫تحت األقدام‪ ،‬الخمور املغشوشة‪)...‬‬
‫يكتب عن الهامشيني والشوارع‬
‫كل ما يؤثث حياة الشاعر‬
‫والشعراء‪ّ ..‬‬
‫ينقله إىل النص‪.‬‬
‫يعتمد الشاعر كذلك عىل ال ّنصوص‬
‫املوازية‪ :‬اإلهداءات وال ّتصديرات‬
‫خاصة‪ ،‬فالشّ اعر يعي متاما أنّ ال ّنص‬
‫الحديث هو آلة هضم معريف باألساس‪:‬‬
‫األرقام لعنة من أضاعوا أسامءهم‬

‫«وادي خضرة»‪..‬‬
‫حسني عبد الرحيم‬

‫النص الذي مثلته فرقة القرصين عىل مرسح الريو خالل ثالث سهرات من‬
‫نص «جدانويف» فكل ما يتعلق بالرصاع‬
‫تأليف «وائل حجي» و«عيل عامري» ّ‬
‫الطبقي والسيايس موجودا وال يخلو العرض من قصة غرامية مناضلة‪.‬‬
‫«وادي خرضة» مثل عديد املناطق امله ّمشة بها معمل لالسمنت وكذلك‬
‫طاحونة ومركز للبوليس ومعتمدية وحوانيت ومركز للبوليس وكذلك ناس‬
‫معذبون‪.‬‬
‫يعمل يف «طاحونة املستقبل «خدامة» يقومون بكل األعامل الصعبة يف‬
‫ظروف غري إنسانية‪ ..‬ذات صباح يُفاجؤون بانتحار زميل لهم «صابر» الذي‬
‫كان كام يقول صاحب الطاحونة «لسود» عامال مثاليا‪.‬‬
‫يدخل «الخدّامة» يف اعتصام مفتوح وتأيت «منجية» والدة الفقيد يك تدفن‬
‫جثة إبنها ويقنعها زمالؤه بالبقاء يف االعتصام حتى حضور البوليس وإجراء‬
‫تحقيق يعمل املوىل عىل فض اإلرضاب وإقناع األم بأن تحريض النقابيني‬
‫فاسد ويحاول إقناع الشيخ «بأن يفتي بأن االنتحار مخالف للرشع وأن‬

‫كدت أن تكون واحدا منهم‬
‫انتبه إىل ما كتب عىل الباب قبل أن‬
‫تخرج‬
‫«الغرفة داخلك اآلن‪...‬‬
‫وحدك متلك مفاتيحها»‪.‬‬
‫النص املهدى إىل الشاعر‬
‫يف هذا ّ‬
‫«صربي الرحموين» شأنه شأن بقية‬
‫النصوص املهداة إىل شعراء يقاسمهم‬
‫الشاعر اإلقامة داخل ال ّنص وخارجه‬
‫مثل «عبد الفتاح بن حمودة» و«صابر‬
‫العبيس»‪ ...‬يؤكّد الشاعر عىل ما تقاطع‬
‫من األفكار واألحالم التي تجمع هذا‬
‫الجيل من الشّ عراء الذي ميثل حركة‬
‫شعرية لها ما مي ّيزها عامّ سبقها من‬
‫الحركات الشعرية التي عرفها الشعر‬
‫العريب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫االحتجاج على نظام العالم‬
‫الجديد بنصوص من أزهار‬
‫ومطر‬
‫قراءة في مجموعة «مج ّرد‬
‫رائحة ال غير»‬
‫ال شك يف أنّ «خالد الهداجي» ميلك‬
‫أصابع خرضا َء‪ ،‬إذا أشار بها إىل الخريف‬
‫َ‬
‫يجعله بيتا للخطاطيف واألمطار‬
‫وأوراق ال ّتوت‪ ...‬هذا ما تقوله‬
‫مجموعته األوىل هذه «مجرد رائحة‬
‫ال غري»‪:‬‬
‫ستظل أصابع الوردة تكتب طوال اللّيل‬
‫ّ‬

‫سرية من سقطوا ـ هناك ـ يف القمم‬
‫العالية‪.‬‬
‫بناي مازالت عالقة عليه أنفاس لوركا‬
‫ومحمد املاغوط‪ ..‬يعزف لنا الهداجي‬
‫موسيقى قمرية يف ليايل الضباب‪،‬‬
‫يشعل شموعا زرقاء يف أركان اللّيل‪،‬‬
‫وميأل العزلة بالقطط والحامم وال ّنساء‪:‬‬
‫بسهولة تجد األشياء أسامءها‪.‬‬
‫بتلقائ ّية تجد األشياء أمكنتها‪.‬‬
‫األشياء التي تستق ّر يف ال ّذاكرة‪،‬‬
‫حيث تنمو مثل أعشاب تتسلّق‬
‫الجدران‪.‬‬
‫مثل أشجار وارفة‬
‫حيث يبني الحامم أعشاشه‪.‬‬
‫مثة قمم بلغها الشّ اعر يف مجموعته‬
‫األوىل‪ ،‬هناك حيث تلتهب شعلة‬
‫الشعر‪ ،‬حيث الطّائر الذي خرج لل ّتو‬
‫من بيضة الحكمة‪ ،‬حيث الخيط‬
‫الشفيف الذي يفصل بني الجميل‬
‫والجليل‪ ،‬والذي يتقاطع بدوره مع‬
‫خيط شفيف آخر يفصل بني الغموض‬
‫والوضوح لينسج قصيدة مدهشة مثل‬
‫ضوء خافت ينبعث من نافذة عالية‪:‬‬
‫يف الضّ فة األخرى من الشّ ارع املظلم‪،‬‬
‫ضوء خافت ينبعث من نافذة عالية‪.‬‬
‫عىل ال ّنافذة مزهريّتان‪،‬‬
‫يف املزهريتني بنفسجتان‪.‬‬
‫وراء ال ّنافذة عيون تتش ّهى شيئا ما‬
‫نهدان يطالّن عىل الشارع‬
‫شفاه تحرتق ببطء‪.‬‬
‫كل هذا الليل إذن‪،‬‬
‫مثّة ما ينري ّ‬

‫الرجل قتل نفسه وهذا حرام‪.‬‬
‫املناضل النقايب «رفيق» مع حبيبته «حياة» يحرضون عىل اإلرضاب بينام‬
‫يستجوب البوليس حياة ويهرب رفيق من املتابعة ويهدّد املفتش حياة‬
‫بكشف تصاوير حميمة لهام‪..‬‬
‫يف املستشفى يقوم الطبيب بكشف الحالة الصحية املرتدية للسكان وانعدام‬
‫الرعاية بينام يقوم املدرس املوجود بكشف الحالة املرتدّية للمدارس‪.‬‬
‫يعمل رفيق وحياة عىل إقناع «الخدامة» بعدم القيام بانتحار جامعي وينتهي‬
‫العرص دون مخرج مناسب أو واضح‪..‬‬
‫النص كام أسلفنا هو عرض ملجمل الرصاع االجتامعي لكن الدراما املرسحية‬
‫مجال آخر غري الخطاب السيايس املبارش حتى لدى مرسح «بريخت»‬
‫التعليمي‪.‬‬
‫ال يخلو هذا النص من عنارص إيجابية فالديكور الذي يتكون من لوحات‬
‫متحركة عىل محور يغري وبرسعة محتوى الركح وكذلك املوسيقى التي‬
‫وضعتها املبدعة امللتزمة «آمنة معرف» ويتكون من عزف منفرد عىل‬
‫العود يتواكب مع التغريات الدرامية من حزن وفرح وحداد ورصاع وحتى‬

‫مثة فراشة تراود الضّ وء‪،‬‬
‫وتسقط مع الفجر‪.‬‬
‫ما هذه القراءة املوجزة ملجموعة‬
‫الشاعر «خالد الهداجي» مجرد‬
‫رائحة ال غري‪ ،‬سوى بلل خفيف من‬
‫أثر أمطارها الدّ افئة‪ ،‬مجموعة تشري‬
‫بأصابعها إىل السامء‪ ،‬وتث ّبت قدميها يف‬
‫األرض‪ ،‬وهي تحرض عىل إدمان الورود‬
‫الحمراء واألجنحة واألشجار‪:‬‬
‫الوردة الحمراء التي سقطت عىل رأس‬
‫لوركا‬
‫جعلته يكتشف جاذبية الشعر ورائحة‬
‫أشجار الزيتون‬
‫يف صباحات األندلس الرطبة برائحة‬
‫غجريّة‪.‬‬

‫استخدامها ملوسيقى عاملية معروفة جاء مناسبا‪..‬‬
‫املمثلون برز منهم «حمدان» يف دور الشيخ ث ّم املعلم وكذلك الطبيب‬
‫«سيف» وهدى التي مثلت دور حياة بشكل ووسام يف دور «رفيق»‪.‬‬


Aperçu du document p06hab01.pdf - page 1/16

 
p06hab01.pdf - page 2/16
p06hab01.pdf - page 3/16
p06hab01.pdf - page 4/16
p06hab01.pdf - page 5/16
p06hab01.pdf - page 6/16
 





Télécharger le fichier (PDF)


p06hab01.pdf (PDF, 13.9 Mo)



Sur le même sujet..





Ce fichier a été mis en ligne par un utilisateur du site. Identifiant unique du document: 00433400.
⚠️  Signaler un contenu illicite
Pour plus d'informations sur notre politique de lutte contre la diffusion illicite de contenus protégés par droit d'auteur, consultez notre page dédiée.