p06hab01 .pdf
À propos / Télécharger Aperçu
Ce document au format PDF 1.4 a été généré par Adobe InDesign CS5 (7.0) / Adobe PDF Library 9.9, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 18/06/2016 à 22:00, depuis l'adresse IP 197.0.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 766 fois.
Taille du document: 13.9 Mo (16 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
لماذا يحقد التونسي على المثقف؟
السيد التوي
ص 9-8
في التغيير الجامعي المنشود
في عالقته بالتغير االجتماعي الجاري
منير السعيداني
الملحق الثقافي لجريدة الشعب
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
الدكتور :
جلول عزونة
في حديث شامل لـ «منارات»
احلفاظ عىل الثبات
ورضورة املوازنة بني الواجب
واحللم عند املثقف
ص 6-5-4
كالب الحراسة المعاصرة
أو الثقافة المسعورة
خالد الهداجي
اضطهاد المثقفين في
الحضارة العربية اإلسالمية
النوي
د.محمد ّ
2
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
سلطة المثقف
ومثقف السلطة ؟
محمد الجاب ّلّي
ال يشء يحمي االبداع غري الحرية ،تلك التي يؤمن بها الكاتب
املبدع يف ذاته أوال ثم يسعى يك تنعكس عىل الواقع منجزا
ابداعيا و سلوكيا .
ثورتنا «املطعونة» حررت الجميع ،لكنها وبدرجة أوىل حررت
الطاقات الفكرية والخيالية وفتحت
بابا للمبادرات اإلبداعية واملغامرات
الفنية ،هي امتحان سهل يرتقي
فيه املبدعون الحقيقيون من سلطة
الخشية والتوجس إىل سلطان الحرية
الرحب الفسيح...
البعض يرفض االرتقاء ويرص عىل
الرسوب ،أقول هذا ويف ذهني طابور
املناشدين الذين فتحوا باب التأبيد
لدكتاتورية سابقة البعض منهم من مل يتطهر يف نهر الثورة
العظيم بل رسب كجذع ميت يف القاع يعيق حركة التيار ،تيار
الحرية ،يف ذهني بعض «الكتبة» الذين تعودوا املناشدة حتى
باتت سلوكا دامئا يف مسارهم ،فئة من اتحاد الكتاب هرعوا
يطرقون أبواب قرص قرطاج بعيد الثورة القرتاح مناشدة للرئيس
الجديد...
يف ذهني كذلك بعض الجامعيني الذين كانوا مختبئني يف املدارج
ال يربحون قاعة الدرس ويطلون من ثقب الباب عىل الحاصل
يف حركة الواقع الكسيح ،كيف هبت رياحهم فباتوا يفتون يف
الثقافة ويتزعمون بعض حراكها ...
يف ذهني كذلك طابور من «خدمة الثقافة» الذين زينوا منصات
اإلنتخابات القريبة السابقة ثم اختفوا مع الالفتات واألضواء
واألخشاب...
سلطة السلطة من سلطة الجاه واملال ،من سلطة التاجر ،ناقدا
ومنقودا...وسلطة املثقف من سلطة املبادئ والقيم الكلية،
رصاع دائب بني املحدود واملطلق ،وبني الحكمة والسلطان هو
رصاع ومناورة اخترصتها متون الحكمة القدمية بني «بيدباء
الحكيم ودبشليم امللك».
تاريخ الثقافة هو تاريخ مقاومة ومقامرة ومغامرة ،هو مسرية
شائكة من سقراط يف محنته ،اىل بن املقفع وأيب حيان التوحيدي
وإخوان الصفاء وأيب العالء وبن رشد ...
نعم للكتاب واملبدعني وسائر املثقفني حاجات ورضورات لكنهم
أصحاب كرامة ،بل إن الكرامة من صلب خلقهم وعجينتهم،
ولهم كذلك رؤى تحتك بالواقع ومتاحك ما فيه من خري ورش،
ولهم مواقف ووالءات ،لكن الحاكم فيها هو املبدأ ومنظومة
القيم الكربى التي تفرتض الثبات والتموقع الطليعي الفاعل
املؤثر بعيدا عن دعائية املشهد االنتهازي املهتز واملتغري ...
يف احتفالية نوبل لآلداب قال الكاتب األملاين «غونرت جراس»
يف كلمته :إن قدر الكاتب الحقيقي أن يقف دوما يف صف
الخارسين...وصف الخارسين هو صف الحقيقة املغيبة يف
التاريخ البرشي...هو صف املظلومني واملحرومني ...
لذلك نقول ال ميكن ألحد أن يرد االعتبار للمثقف غري املثقف
نفسه ،أن يؤمن بقدره وقدرته ،وأن يزاحم زحام النبل الفكري
وأن يجعل من حريته وكرامته طليعة كيانه ،حينها يرتقي فوق
السلطات ألنه سيصبح سلطة مدججة بأسلحة كثرية :منها
اإلرادة والبصرية وفعل الكيان وقدرة االبداع املتجدد فكرا وخياال
وجامال ...
من شذرات الحكمة
« في أن السعادة والكسب إنما يحصل
غالبا ألهل الخضوع والتملق »...
«...إن الخضوع والتملق من أسباب حصول الجاه املحصل
للسعادة والكسب ،وإن أكرث أهل الرثوة والسعادة بهذا التملق،
ولهذا نجد الكثري ممن يتخلق بالرتفع والشمم ال يحصل لهم
غرض الجاه ،فيقترصون يف التكسب عىل أعاملهم ،ويصريون
إىل الفقر والخصاصة ،واعلم أن هذا الكرب والرتفع من األخالق
املذمومة إمنا يحصل من توهم الكامل ،وأن الناس يحتاجون اىل
بضاعته من علم أو صناعة كالعامل املتبحر يف علمه والكاتب
املجيد يف كتابته أو الشاعر البليغ يف شعره...
وكذلك أهل الحيلة والبرص والتجارب باألمور ،قد يتوهم بعضهم
كامال يف نفسه بذلك ،واحتياجا إليه وتجد هؤالء األصناف كلهم
مرتفعني ،ال يخضعون لصاحب الجاه وال يتملقون ملن هو أعىل
منهم ،ويستصغرون من سواهم ،ألعتقادهم الفضل عىل الناس،
فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولوكان للملك ،ويعده مذلة
وهوانا وسفها ،ويُحاسب الناس يف ُمعاملتهم إياه مبقدار ما
يتوهم يف نفسه ،ويحقد عىل من قرص له يف يشء مام يتوهمه
من ذلك ،ورمبا يدخل عىل نفسه الهموم واألحزان من تقصريهم
فيه ،ويستمر يف عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية
الناس له من ذلك ،ويحصل له املقت من الناس ،ملا يف طباع
البرش من التأله ،وقلام يسلم أحد منهم ألحد يف الكامل والرتفع
عليه ،إال أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة واإلستطالة.
وهذا كله من ضمن الجاه ،فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه،
وهو مفقود له كام تبني لك ،مقته الناس بهذا الرتفع ،ومل يحصل
له حظ من إحسانهم ،وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي
هي أعىل منه ،ألجل املقت وما يحصل له بذلك من القعود عن
تعاهدهم وغشيان منازلهم ،ففسد معاشه ،وبقي يف خصاصة
وفقر أو فوق ذلك بقليل ،وأما الرثوة فال تحصل له أصال ،ومن
هذا ،اشتهر بني الناس أن الكامل يف املعرفة ،محروم من الحظ،،
وأنه قد حوسب مبا ُرزق من املعرفة واقتطع له ذلك من الحظ
ولقد يقع يف الدول أرضاب يف املراتب من أهل الخلق ،ويرتفع
فيها كثري من السفلة ،وينزل كثري من العلية بسبب ذلك.
وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب واإلستيالء،
انفرد منها منبت امللك مبلكهم وسلطانهم ويئس من سواهم
من ذلك ،وإمنا صاروا يف مراتب دون مرتبة امللك ،وتحت يد
السلطان ،وكأنهم خول له ،فإذا استمرت الدولة وشمخ امللك،
تساوى حينئذ يف املنزلة عند السلطان كل من انتمى اىل خدمته
وتقرب إليه بنصيحة ،واصطنعه السلطان لغنائه يف كثري من
مهامته.
فتجد كثريا من السوقة ،يسعى يف التقرب من السلطان بجده
ونصحه ويتزلف بوجوه خدمته ،ويستعني عىل ذلك بعظيم
من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه ،حتى يرسخ
قدمه معهم ،وينظمه السلطان يف جملته ،فيحصل له بذلك
حظ عظيم من السعادة ،وينتظم يف عدد أهل الدولة وناشئة
الدولة حينئذ من أبناء قومها ،الذين ذللوا أضغانهم ومهدوا
أكنافهم مغرتين مبا كان آلبائهم يف ذلك من اآلثار ،مل تسمح
به نفوسهم عىل السلطان ،ويعتدون بآثاره ويجرون يف مضامر
الدولة بسببه ،فيمقتهم السلطان لذلك ويُباعدهم ،ومييل اىل
هؤالء املصطنعني الذين ال يعتدون بقديم وال يذهبون إىل دالة
وال ترفّع ،إمنا دأبهم الخضوع له ،والتملق واإلعتامل يف غرضه
متى ذهب إليه ،فيتسع جاههم وتعلو منازلهم ،وتنرصف إليهم
الوجوه والخواطر ،مبا يحصل لهم من قبل السلطان واملكانة
عنده ،ويبقى ناشئة الدولة فيام هم فيه من الرتفع واإلعتداد
بالقديم ،وال يزيدهم ذلك إال بعدا من السلطان ،ومقتا وإيثارا
لهؤالء املصطنعني عليهم ،إىل أن تنقرض الدولة وهذا أمر
طبيعي يف الدولة ،ومنه جاء شأن املصطنعني يف الغالب والله
سبحانه وتعاىل أعلم وبه التوفيق وال رب سواه».
-عن ابن خلدون :املقدمة-
محاور العدد القادم
التعبيرات الثقافية بعد الثورة بين
سطحيات المشهد وعمق التأثير
البريد االلكتروني manaratculturel@gmail.com :
المدير المسؤول
حسين العباسي
المدير
أسرة التحرير
سامي الطاهري
منتصر الحملي -رشيدة الشارني -حسني عبد الرحيم -سعدية بن سالم
إشراف وتنسيق :محمد الجابلي
المراجعة اللغوية :عبد الفتاح حمودة -اإلخراج الفني :محمد كريم السعدي
السحب :مطبعة دار األنوار -الرشقية -تونس
املقر 41 :شارع عيل درغوث -تونس - 1001الهاتف / 71 330 291 - 71 255 020 :الفاكس - 71 355 139 :
العنوان االلكرتوين - manaratculturel@gmail.com :الحساب الجاري بالربيد 300 - 51 :
3
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
فلوبير :
الروح المقيمة بيننا
رشيدة الشارني
تتم ّيز البيوت التي أقام فيها كبار املبدعني بسحر خاص باعتبارها فضا ًء
للخيال واألفكار ومنشأ األعامل العظيمة وتبدو بعضها وكأنّها مازالت
مسكونة بأرواحهم ومحتفظة بأطياف أبطالهم ،ولذاكرة املكان سلطة
عجيبة إذ كثريا ما ينتابنا اإلحساس ونحن نتوغل فيها بأننا غادرنا اللّحظة
الراهنة وقفزنا إىل أزمنة صعبة كانت فيها للكلمة الح ّرة التي تزعزع
املوروث وتفضح الزيف وتصنع الجامل اإلنساين العميق رضيبة كربى.
ويويل الغرب أهم ّية كربى للبيوت التي عاش فيها كبار األدباء والشعراء
والرسامني والفنانني ..ويسعى إىل تحويلها إىل مراكز ثقافية ووجهات
سياحية تعبرّ عن ثراء املخزون الفكري والفني للدولة فنجد يف بريطانيا عىل
سبيل املثال منزل فرجينا وولف بحديقته الغناء ومكتب صاحبته ومخدعها
وكأن املكان مازال يف انتظار عودة صاحبته من جولتها قرب ال ّنهر ..ويف
تحتل بيوت
فرنسا نجد منازل فيكتور هيقو و بودليري وغريهام ويف النمسا ّ
كبار املوسيقيني أهمية سياحية كربى وهي مفتوحة للزيارة والتأ ّمل ...يف
قل ما يحظى بيت الكاتب باألهمية التي يستحقّها وكأن
العامل العريب ّ
السلطة تنفّست الصعداء برحيل صاحبه..
الكاتب الفرنيس الكبري غوستاف فلوبري 1821ـ 1880مؤسس الواقعية
يف األدب وصاحب رائعة «مدام بوفاري» قدم إىل تونس يف شهر أفريل
من سنة 1862واتخذ من أحد بيوت الضاحية الشاملية للعاصمة مسكنا
ومالذا بعد املحاكمة الشهرية التي تع ّرض لها سنة 1857بسبب أفكاره التي
تق ّمصتها بطلته والتي اعتربتها املحكمة خادشة للحياء ومح ّرضة عىل التم ّرد
ومزعزعة للثوابت األخالقية مام دعا صديقه الشاعر الكبري المرتني إىل جمع
374توقيعا أله ّم أعالم فرنسا ملنع إصدار عقاب بشأنه.
أقام فلوبري بضاحية قرطاج إىل أواخر شهر ماي من سنة 1861ث ّم تو ّجه
نحو الجزائر مرورا بدقّة حيث زار اآلثار الرومانية ث ّم توقّف لع ّدة أيّام
مبدينة الكاف وتنقّل بني آثارها وأعجب بالحماّ م والبدويّات ث ّم واصل
الطريق نحو سوق هراس وقسنطينة قبل أن يعود إىل فرنسا وكأنّه بهذه
الرحلة يقتفي أثر بطل لرواية قادمة وهو ما حصل فعال إذ عاد فلوبري يف
نفس السنة ليقيم يف بيته هذا ويكتب روايته الشهرية «صالمبو» وهي
رواية تاريخية تدور أحداثها يف قرطاج يف القرن الثالث قبل امليالد وقد
تخلىّ فيها عن الواقعية وبدا رومنطيقيا.
عصبي جعله يرتك العمل ويصبح م ّياال
فلوبري الذي أصيب سنة 1944مبرض
ّ
للعزلة ،بدا وكأنه يريد أن يقطع مع حدود الزمان أيضا ويعيش أحداث
رواية مغرقة يف التاريخ يف أماكن وقوعها الحقيقية.
مازال البيت الذي تح ّول إىل مالذ وعنوان إلهام للكاتب الكبري قامئا إىل ح ّد
اآلن ولكنه مهجور وكئيب ويف حال س ّيئة للغاية ...حتى اللّوحة التي تحمل
اسم غوستاف فلوبري غطتها طبقة كثيفة من اإلسمنت ،أين وزارة الثقافة؟
أين القامئون عىل الرتاث؟ مل ال يرمم البيت ويفتح للزائرين الذين يعرفون
قيمة املبدع الكبري وأهمية الجدران التي آوت كلامته ورمزية املكان؟
الصحبي اليعقوبي :بطل في الحياة مات بصمت
كثري من ال ّناس أبطال يف الحياة دون ا ّدعاء تراهم
يواجهون التهميش والظلم والقمع بشجاعة نادرة
ويظلون عىل مسافة من األضواء ممتلئني بالذات
وبعيدين كلّ البعد عن الحسابات الض ّيقة والطمع
بثمن حبّهم للوطن.
الصحبي اليعقويب ،املريب الذي سقط الجمعة املاضية
ميّتا أمام باب املدرسة التي يعمل فيها واحد من
هؤالء األبطال املتواضعني ...كان نقاب ّيا رشسا مدافعا
عن حقوق املعلّمني وسبّاقا إىل الوقفات االحتجاجية
يف ساحة مح ّمد عيل وقد يخفى عىل الكثريين أن يس
الصحبي واجه السلطة القامئة سنة 1984يف انتفاضة
الخبز وهو تلميذ مبدرسة ترشيح املعلّمني بالكاف
متابعات ثقافية
حيث أُصيب برصاصة يف يده أثناء املواجهات مع رجال
األمن ولك ّن املدهش يف األمر أنّه رفض تسليم نفسه
إليهم وقام عدد من رفاقه بإنزاله إىل قبو البازيليك
حيث تج ّرأ أحدهم عىل القيام بعملية إخراج الرصاصة
دون بُنج وتكّتم الجميع عىل املوضوع ،كام رفض بعد
ذلك املزايدة بهذا الحادث وطلب مثن لنضاله أو
تعويضا لرضره...
واصل الصحبي اليعقويب دراسته العليا وحصل عىل
اختص يف ميدان الرياضة وراسل
اإلجازة يف الصحافة و ّ
جريدة الفالح وجرائد عربية أخرى ولك ّنه ظلّ وف ّيا
ملهنة التعليم التي متثّل مورد رزقه األسايس.
عرف الفقيد وهو أصيل ال ّدهامين بدماثة أخالقه وح ّبه
للفكاهة ومعاملته
الط ّيبة للتالميذ وقد
شيّعته األجيال التي
د ّرسها يف مدرسة
النجاة من دائرة
وادي اللّيل يف جنازة
كربى ومهيبة إىل
مقربة صنهاجة.
خلّف الفقيد بنتا 12سنة وابنا 9سنوات زوجة غري
عاملة وصدمة كربى يف القلوب ،عاش يتيام وخلّف
يتيمني رحمه اللّه.
رشيدة
إحياء ذكرى الكنعاني المغدور بشارع بورقيبة
كانت املدينة جميلة بعصافريها ومبدعيها ...كانت أكرث برأة
وطأمنينة وجامال حني كان الكنعاين املغدور ميد خطاه يف
أنهجها ...ذكراه حية يف زوايا وجدانينا ...روحه ترفرف فوق
الحارضين من أصذقائه ذات أمسية بهيجة بنزل الهناء من تنظيم
املندوبية الجهوية للثقافة بوالية تونس وجمعية شكري لإلبداع
والفنون ..لروحك السالم عبد الحفيط
أسرة «منارات»
تنعى فقيدة
اإلعالم الح ّر
فقد اإلعالم التونيس وتونس عا ّمة إحدى
عالماته املضيئة النقيبة نجيبة الحمروين ،وقد
تقلّدت الفقيدة دواليب نقابة الصحافيني يف
مرحلة حرجة من تاريخ البالد حني ع ّمت
الفوىض املجاالت كلّها ،وقادتها إىل ب ّر األمان
ديدنها الدفاع عن حر ّية الكلمة وصدقها،
وقد شهدت فرتة توليها لنقابة الصحافيني أ ّول
إرضاب عام للقطاع دفاعا عن كرامة منظوريها
ومل تثنها عن ذلك حمالت التشويه ورشاستها.
رحم الله نجيبة الحمروين وأسكنها فراديس
جنانه.
4
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
الدكتور جلول عزونة في حديث شامل لـ «منارات»
الحفاظ على الثبات وضرورة الموازنة
بين الواجب والحلم عند المثقف
حاوره :منتصر الحملي
الدكتور جلول عزونة جامعي اختص في األدب المقارن ،له عشرات المصنفات بحثا وتحقيقا وإبداعا ...يجمع بين
السياسي والمثقف ...من مؤسسي الوحدة الشعبية ورئيس رابطة الكتاب التونسيين األحرار ورئيس الحزب الشعبي
للحرية والتقدم وعضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية...وعضو المجمع التونسي بيت الحكمة ...رجل متعدد
تراه في جل المنابر مجادال من أجل الكلمة الحرة ،جريئا صريحا في ذاته ونصه يذكرنا بكبار الفاعلين في الوعي
والواقع ...تلتقيه صفحات «منارات» في هذا الحوار الخاص...
املثقف اإلنسان الغريب والخارج من الرسب والدونكيشويت الحامل
* باديء ذي بدء ،من هو المثقف من وجهة
باملستحيل ،ولكن هذه النظرة لن تحول دون مواصلة املثقف لدوره
نظرك؟ وما هي خصوصياته ووظائفه؟
االستفزازي يف دوائره القريبة والبعيدة وجوهر وظيفة املثقف هو يف
املثقف له تعريفات متعددة حسب الثقافاتهذا اإلرصار ويف هذا املنهج املثور والثائر.....
والحضارات واألزمنة املختلفة ،من رجل اإلدارة يف الصني....
إىل األديب اآلخذ من كل يشء بطرف يف حضارتنا
* أنت كاتب وباحث ومحقق وقصاص وفي نفس
العربية اإلسالمية ،اىل األديب امللتزم يف أوروبا يف القرن
الوقت رجل سياسة ومناضل في الجبهة الشعبية،
العرشين ،إىل املثقف العضوي عند قراميش ،ومع هذا،
إلى أي مدى استطعت أن تحافظ طوال مسيرتك على
ويف مجتمعنا التونيس اليوم ،مازلنا نحتفظ بوهج قيمة
خصوصية المثقف فيك دون أن تضحي بها لفائدة
املتعلم واملثقف رغم تغري سلم القيم واألولويات
السياسي أو الحزبي ؟
وطغيان الجانب املادي يف هذا الظرف الصعب االنتقايل
يُشت ُّم من السؤال ،أن السياسة واالشتغال فيها قد يفرضان تنازالواملثقف حسب رأيي هو الذي يحمل اله ّم الوطني يف
عن املباديء وهذا فهم شائع -لألسف -لدى البعض يف بالدنا وهو فهم
داخله وينشغل مبصري املجموعة التي يعيش معها ويحلم
ال يستقيم ...هناك فهم أسمى وأنبل وهو أن تكون السياسة نضاالً من
لنفسه ولها بالكلمة الطيبة والتبشري بالتغيري املستمر رغم
أجل املصلحة العامة أوال وأخريا والفهم بأن مردود ذلك النضال سيعود
املع ّوقات واالحباطات وهو بكلمة بسيطة من ال يرمي
بالفائدة املشرتكة عىل الجميع -عىل البالد وعىل املناضل نفسه -ومن
املنديل مطلقا وميثل ذلك العنرص الكيميايئ املهاجم للرداءة
ذلك ثراء النسيج الجمعيايت ببالدنا والرثاء الحزيب الذي ينطلق من دفع
والنزعة املحافظة يف عقلية املواطن واإلنسان ،فيساهم يف
اشرتاك سنوي يف املنظمة أو الحزب واملشاركة يف األنشطة والحضور فيها
تهرئتهام شيئا فشيئا ....ويهيء لربوز إنسان
واملساهمة ماديا ومعنويا عند االقتضاء من أجل إنجاح حمالت دورية
جديد أكرث مرونة مع إمالءات
وتحقيق أهداف آنية أو آجلة.
الحارض املتجدد.
كنت منذ طفولتي أحمل هذا التصور الواضح يف ذهني لرضورة
وقد يرى املواطن
املساهمة يف الشأن العام وأنا أنتمي إىل عائلة دستورية كان أيب وأخوا َي
يف
العادي
الكبريان يحرصون عىل تجديد اشرتاكاتهم يف الحزب االشرتايك ويحرضون
أغلب أنشطته زمن االستعامر الفرنيس وقد تلقيت درسا عميقا جدا
ومبارشا يف آخر جانفي 1952حني اعتقلت فرنسا – يف نفس اليوم -خايل
«عضو املجلس امليل للحزب -اللجنة املركزية »-وأخي األكرب ومدير
مدرستي ومعلّمي للغة الفرنسية وزوج أختي وزوج خالتي ضمن أكرث
من خمسني من املناضلني من منزل متيم ،ثم رأيتهم يُطلق رساحهم
ويعودون بالزغاريد واإلنشاد ،بعد أقل من سنتني ،فتلقيت الدرس الكبري
ايجيب» ،كان عمري عندها عرش سنوات ،وبقيت تلك القناعة
«النضال ْ
راسخة يف أعامقي اىل اليوم -وقد تجاوزت السبعني -وأنا يف نشاطي
السيايس والثقايف أومن بالعطاء ،دون حسابات سياسية ضيقة وآنية.
كنت أعتقد ومازلت أن النضال يف أي ميدان منها النقايب وقد
تحملت عضوية املكتب الوطني لنقابة التعليم العايل زمن أحداث
الخميس األسود 26جانفي ،1978ومنها الثقايف والسيايس وهو
التشبث باملبادئ وعدم الحياد عنها -رغم إكراهات املرحلة -وأن
تبقى الروح النضالية هي السائدة أذكر نفيس بها كل حني تجنبا
لالنزالقات وخوف االنحرافات واإلغراءات وهي كثرية ،من السلط
أو من العائلة ...فحاولت -وقد أكون نجحت يف ذلك -أن تبقى
حرية املثقف حية يف داخيل فمن ذلك :
أ :وأنا أرأس تحرير جريدة الوحدة من 1981إىل 1988
لسان حزب الوحدة الشعبية -الذي ساهمت يف تأسيسه -
حاولت أن أفرض عىل زماليئ أعضاء املكتب السيايس تخصيص
ملحق ثقايف بالجريدة وهذا ما ت ّم فعال.
ب :تخصيص فضاء ثقايف يف الصفحة األوىل للجريدة ومن
ذلك إصدار مقتطفات مهمة من قصيدة املرحوم «محمد
الصغري أوالد أحمد» سنة - 1984نشيد األيام الستة -
5
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
وذلك بُعيْد مصادرة ديوان الشاعر الحامل لنفس عنوان
القصيدة تعب ًريا منا عن رفض مصادرة اإلبداع ومساندة
للشاعر وقد بقي الديوان مصادرا من 1984اىل سنة
.1988
ج :محاولة أن يكون للحزب الشعبي للحرية والتقدم
برنامج ثقايف -بعد الثورة -وذلك يف شكل محارضات
ولقاءات ثقافية يف كامل تراب الجمهورية ومحاولة أن
يكون للجبهة الشعبية حضورها الثقايف بتنظيم ندوات
وموائد مستديرة واإلستعانة بالخرباء ومساندتها للمبدعني
واملثقفني وفضح مامرسات الظالميني والتصدي لهم فيام
حصل من تهجامت عىل «النوري بوزيد ،حامدي الردييس،
زياد كريشان ،آمال قرامي ،سينام أفريكا ،العبدلية...
ألفة يوسف ،رجاء بن سالمة ،يوسف الصديق ،محمد
الطالبي.»...
د :ويف نطاق رابطة الكتاب األحرار حاولنا بعث هيكل
جامع مع املرسحيني «عز الدين قنون» ومع التشكيليني
«عمر الغداميس» والسنامئيني الهواة منهم واملحرتفني
ونقابة املوسيقيني ونقابة كتاب تونس «لسعد بن
حسني» ...ورغم أن هذه املحاولة مل تنجح -ال قبل الثورة
وال بعدها -فإن األمل مل يفقد وسنواصل املحاولة...
وبكلمة موجزة فإن الحفاظ عىل الثبات -كمثقف
يحمل اله ّم الجامعي -ليس بأمر سهل عىل مناضل سيايس
لذلك إن الجمع بني الحقلني يدفعني دامئا إىل اليقظة
حتى ال يطغى الواجب اآلين والتزاماته عىل الحلم الكبري
للمثقف الذي يسكنني وهو االرتقاء بالحلم الجامعي -
ولو كان ذلك عىل مراحل .-
* يتحدث بعض المفكرين الغربيين ،منذ
ظهور العولمة وانتشارها على موت المثقف
بالمفهوم الكالسيكي الذي ترك مكانه
للخبير أو التقني ...هل مازالت مقولة المثقف
العضوي صالحة للمرحلة التاريخية التي تم ّر
بها اإلنسانية اليوم ؟
نحتاج دامئا إىل خربة الخرباء وتخصص التقنيني اليومأكرث من أي وقت مىض ،بحكم تشعب الحياة وتعقيداتها
وتطور العلوم والتقنيات ،فنحن يف حاجة باعتبارنا سياسيني
ومثقفني الستيعاب -ولو جزء -من هذه املكتسبات
املستحدثة من ذلك مثال البد لنا من درس وتأهيل يف
تعاملنا مع اإلعالم واستعامله وكذلك عند ضبط الربامج
السياسية والثقافية ال بد من اللجوء إىل الخرباء أصحاب
التخصص الدقيق وهو ما نلجأ إليه بانتظام يف الجبهة
الشعبية مثال عند إعدادنا الخطو َط
العريض َة للتصدي للمديونية أو
الجباية وكيفية ضبطها وإدخال
جرعة من الدميقراطية والعدالة
فيها أو عند محاولة ضبط الطرق
السليمة للتنمية الجهوية أو عند
اقرتاح مشاريع قوانني فال بد من
االستعانة بالخرباء...
اليشء نفسه بالنسبة إىل
الثقافة ،فالرجوع ألهل االختصاص
يف ميادين التنشيط أو التسويق أو
الصناعة الثقافية أو ضبط حقوق
املؤلفني أو النرش والتوزيع ...ومع
كل هذا فإن دور املثف ال ميكن أن يُلغى ألن املثقف
العضوي يتجدد فيعتمد ما يضيفه إليه التقني والخبري
من زاد رضوري لكنه يبقى الحامل للحلم واملسترشف
لآلفاق الجديدة واملتجاوز للممكن يبقى ذلك االنسان
القلق املهووس باآليت والفيلسوف الحائر املقلب لألسئلة
األزلية الحارقة واملستجدة :من أنا ،إىل أين ،مالعمل؟ ما
مصري البرشية؟ وأي طريق أسلم لتحقيق األحالم؟ وكيف
نقلص األرضار وكيف نسعى إىل تحقيق السعادة لإلنسان
اآلن وهنا؟
* يتهم البعض المثقف التونسي خصوصا
منبت عن واقعه وغير
والعربي عموما بأنه ٌّ
فاعل فيه ،ويستدلّون عن ذلك بضعف
مشاركته فيما ُس ّمي بالربيع العربي إبان
الثورة وخالل المسار الثوري ،الى أي مدى يصح
هذا االتهام؟ وما هي األسباب حسب رأيك؟
إن املفهوم العادي والشائع للمثقف ينطبق عىل ماذهب إليه السؤال وهو توصيف االنبتات وذلك متاشيا مع
املفهوم املاركيس للمثقف الربجوازي ،ذلك الخائن لطبقته
والساعي إىل االلتحاق بالطبقات املحظوظة حتى يتمتع
بالجاه واملنزلة االجتامعية والنفوذ السيايس واالقتصادي
فيتنكر املثقف بهذا املعنى ألصله الشعبي الفقري ويطمح
إىل اللحاق مبن هم أعىل منه طبقيا ويتناىس دوره األصيل
يف االرتقاء مبواطنيه والدفاع عن قضايا العامل والفالحني
والطلبة فيصيب نظره الحول ألنه مل يعد ينظر إىل األسفل
رصه ويضَ لَّ الطريق إىل
بل إىل ما ليس بحوزته فيعىش ب ُ
نفسه وشعبه ...وهذا عشناه يف تونس خاصة قبل الثورة،
ويكفي أن نتذكر صائفة 1910والقامئات األلفية املناشدة
لنب عيل للرتشح مجددا النتخابات 2014وهو مازال خارجا
لت ّوه من انتخابات ،2009انتخابات ضد الدستور الذي
مكنه من ثالث ترشحات فقط 89/94/99وكان عليه أن
ال يرتشح من جديد سنة 2004ولكنه ح ّور الدستور عىل
مقاسه وكذلك فعل سنة 2009وقد حوت تلك القامئات
عددا كبريا من املثقفني واإلطارات العليا يف الدولة وأذكر
هنا بالخصوص قامئات الكتاب واألدباء والجامعيني وهي
أكرب القامئات نسبيا مقارنة بالقطاعات األخرى من فالحني
وصناعيني ومحامني وتجار...
وهذا أكرب دليل عىل تورط املثقف مع السلطة القامئة.
نسب فإن كان أغلب
ولكن هذا التعميم يجب أن يُ َّ
املثقفني قد اختاروا السالمة واملهادنة فإن أسامء أخرى قد
ناضلت ضد الدكتاتورية زمن بورقيبة وبن عيل وحتى زمن
الرتويكا فمن الكتاب ال بد من ذكر «فاتح وايل» صاحب
رواية مولد البطل الذي سجن يف عهد بورقيبة ،والشاعر
منور صامدح وعز الدين املدين صاحب اإلنسان الصفر
وحسن بن عثامن صاحب ع ّباس يفقد الصواب وهشام
القروي صاحب رواية نون وآدم فتحي صاحب ديوان
«نشيد النقايب الفصيح» «وقد ُصودرت هذه الكتب زمن
بورقيبة» وبعدها استفحلت ظاهرة حجز الكتب ومنع
املرسحيات واألفالم زمن بن عيل وبلغت العرشات «راجع
كتابينا الحرية أوال ...الحرية دامئا ...ضد الرقابة عىل
اإلبداع دار سحر - 2013وعار الرقابة -دار سحر » 2015
وفيهام قامئة الكتب املحجوزة
ومقاالت ودراسات تعريفية بأغلب
تلك الكتب كتبتها زمن بن عيل
ونرشتها يف الجرائد التالية املوقف /
مواطنون /الطريق الجديد .وهنا ال
بد من ذكر توفيق بن بريك وإيقافه
ومحاكمته واضطراره إىل نرش كتبه
خارج تونس ...ونذكر بدور رابطة
الكتاب األحرار وبأدوار كل من
جلول عزونة والشهيد الشاعر شكري
بلعيد والشهيد الشاعر الفاضل سايس
والدكتور الكاتب املنصف املرزوقي
ومن املحامني ما قام به كل من فوزي
بن مراد وراضية النرصاوي وعبدالنارص العويني وفاضل
محفوط والبشري الصيد ومحمد عبو وجالل الزغالمي...
وغريهم يُع ّدون بالعرشات.
وال ننىس دور السياسيني املثقفني والكتاب منهم
بالخصوص :حمة الهاممي وعبدالرزاق الكيالين
ومحمد الكيالين وأحمد ابراهيم وعبدالرزاق الهاممي
وعبداللطيف عبيد وأحمد الخصخويص والشاعر بوجمعة
الدنداين وعبدالجبار املدوري وخريي الصوابني والشاعر
سمري طعم الله والشاعر املناضل الطاهر الهاممي...
الحفاظ على الثبات
وضرورة الموازن
بين الواجب والحلم
عند المثقف
وكذلك املثقفون الذين عمروا الجمعيات والنقابات
ونذكر منهم محمد الجابليّ ونورالدين الشمنقي وعاللة
حوايش« ...يف رابطة الكتاب األحرار» وخالد الكرييش
وعادل معيزي «يف هيأة الحقيقة والكرامة» وشكري
لطيف »...جمعية مناهضة التعذيب» ...والقامئة طويلة
دون شك.
وهذا ما جعل من بالدنا تونس العزيزة يف طليعة
الدول العربية التي عرفت التعددية السياسية والحيوية
االجتامعية املبكرة منذ أواخر القرن التاسع عرش
«بعهد األمان» ودستور 1861وبعث «مجلة الحارضة»
و«الجمعية الخلدونية» وإلغاء ال ّرقّ والعبودية 1846
وبعث أول منظمة للدفاع عن حقوق اإلنسان يف البالد
العربية واإلفريقية...
ومع كل هذا ،فإن عىل املثقف التونيس والعريب
االنغراس أكرث يف واقعه والعمل عىل تغيري مجتمعاتنا -
املحافظة جدا -والدفع بها نحو عقالنية أكرب ونحو التنوير
الفكري والرتبية عىل تطوير امللكة النقدية لدى املواطن
العادي حتى تصبح خبزا يوميا.
الدولة الوطن ّية في تونس
* منذ نشأة ّ
والمثقف على م ّر
السلطة
ّ
كانت العالقة بين ّ
الطويلة
العقود متو ّترة .انطالقا من تجربتك ّ
ياسي ما هي
ّقافي ّ
والس ّ
في المجالين الث ّ
والمثقف؟
الصراع على واقع الثّقافة
ّ
مآالت ذاك ّ
هناك محطّات مه ّمة يف هذا الصرّ اع األز ّيل بنيالسلطة يف بالدي كام يف بالد العامل .وأذكّر هنا
املثقّف و ّ
مبصادرة مجلّة Action’Lبعد مقال عن حكم بورقيبة
الفرد ّي (مح ّمد املصمودي والبشري بن يحمد) ،وبطرد
ال ّدكتور هشام جع ّيط من كلّ ّية الشرّ يعة وأصول ال ّدين
بعد مقال له بعنوان arrivés sont arrivistes Les
وبحلّ الشبكة الجمعيات املستقلّة الّتي لعبت أدوارا
مه ّمة زمن االستعامر ،وكلّ الجمعيات األخرى يف تونس
(الثّقاف ّية واألدب ّية والخرييّة والطّالب ّية )...عند إحداث
وزارة الثّقافة أوائلَ ستّينات القرن املايض ،وما تبع ذلك
من إحداث لجان ثقاف ّية وطن ّية وجهويّة ومحلّ ّية مع ّينة
ومنصبة وتابعة وبالتّايل اإلبعاد التّا ّم لألصوات املستقلّة
ّ
واملعارضة وتدجني املشهد الجمعيايتّ والحز ّيب لفائدة
الحزب الواحد األوحد.
والب ّد من التّذكري هنا بتج ّند عدد قليل من املثقّفني
وال ّنقابيني ض ّد محاولة هيمنة ال ّدولة عىل االتّحاد العا ّم
يس للشّ غل بعد 26جانفي ( 1978بيان املثقّفني
التّون ّ
الصادر بجريدة ال ّرأي واملمىض من عرشة جامعيني نذكر
ّ
منهم بالخصوص املرحوم صالح القرمادي واملرحوم صالح
املغرييب ود .حماّ دي الشرّ يف وتوفيق بكّار وعبد املجيد
الشرّ يف ،)...وبصمود نقابة التّعليم العايل والبحث العلمي
املنصبني عىل رأس قيادة االتّحاد ...كام ال
ض ّد «الشرّ فاء» ّ
ننىس دور رابطة الكتّاب األحرار ونقابة كتّاب تونس منذ
السلطة
انبعاثهام سنة 2001و 2010يف التّص ّدي لهيمنة ّ
وإلرادة فرضها لصوت واحد هو صوتها .وال ننىس أيضا
الصحافيني
السينامئيني واملرسحيني وخصوصا ّ
صمود ّ
السلطة املتواصلة
محاوالت
د
ض
ار
ر
األح
التّونسيني
ّ
ّ
لرتكيعهم وتدجينهم.
رشفة كان ال ب ّد من
امل
ة
ي
ضال
ن
ال
ّات
كلّ هذه املحط
ّ
ّ
ّ
التّذكري بها لنستنتج أمرين مه ّمني:
السلطة بقمعها وسياساتها الجامعة بني
أ ّولهام أ ّن ّ
العصا والجزرة وبني الترّ غيب والترّ هيب قد استطاعت
دون ّ
شك لج َم عديد األصوات وترويضها لفائدتها فغنمت
تبعيّتها لها واستغاللها يف دعايتها يف شتّى املجاالت .من
ذلك مثال ترويض عرشات املؤ ّرخني الجامعيني التّونسيني
وغريهم لكتابة تاريخ تونس املمت ّد عىل أكرث من ثالثة
آالف سنة يف كتاب صدر أوائلَ األلف ّية بتونس نرشه
مركز ال ّدراسات االجتامعيّة واالقتصاديّة يف أربعة أجزاء،
خصصت األجزاء الثّالثة األوىل منها لتأريخ ألف سنة بينام
ّ
خصص الجزء ال ّرابع بأكمله لتأريخ عرش سنوات فحسب
ّ
6
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
من حكم زين العابدين بن عيل .وهذا أبلغ مثال عىل
تزوير تاريخ الشّ عوب وتزييفها ،وكانت فضيحة كربى
لتملّق «املؤ ّرخني ال ّرسميني» وخيانتهم لدورهم ورسالتهم.
الصمود وال ّنضال والوفاء للمبادئ هي
ثانيهام أ ّن ّ
الحصيلة اإليجابيّة لكلّ نفس مثقّف ،و«ما يْدوم يف الوا ْد
عبي العميق واألصيل.
كان َح ْجرو» كام يقول مثلنا الشّ ّ
وقد ثبت م ّرة أخرى ما ُج ّرب منذ قرون :أ ّن أرض تونس،
عبي املنغرس يف تربتها ،عص ّية عىل كلّ ج ّبار.
ّ
بحسها الشّ ّ
الصو ّيف سيدي أحمد ز ّروق،
يقول الشّ اعر والكاتب والعامل ّ
قص ُف».
دفني ليبيا متح ّدثا عن تونس...« :وكلّ ج ّبار بها يُ َ
يف تربة بالدنا ويف أفئدة شبابنا .وأنا أزعم أ ّن جذوتها لن
تنطفئ ،وأ ّن سلسلة التّح ّركات االحتجاج ّية الّتي مل تنقطع
يوما ستتواصل إىل أن يحني موعدها .فاألفئدة ،وقد ذاقت
حالوة الح ّريّة وقد تراءت لها إمكان ّية تحقيق الحلم يف غد
أكرث عدالة يف توزيع الثرّ وة الوطنيّة ويف تساوي الحظوظ
للجميع ،لن تستكني مطلقا بعد اليوم لتلعب دور الضّ ح ّية
وترىض بال ّدون.
فالثّورة الثّقاف ّية تتطلّب لتنجح وقتا لتتغيرّ العقليات
ولتتع ّود عىل كرس املمنوعات أو ما يبدو كذلك إىل حني.
ظل الجامعيون -وهم نخبة
* لماذا ّ
المجتمع – ح ّتى بعد الثّورة حبيسي جدران
الجامعة؟
لقد سبق أن تح ّدثت عن خيانة املثقّف ني trahi� La clercs des sonمن وجهة نظر ماركسيّة وغريها .وكأ ّن
ذلك قانون رسمد ّي عرفته كلّ الحضارات يف كلّ األزمنة.
الجامعي يف ما ّدة
وكان صديقي ورفيق دريب األستاذ
ّ
الفيزياء ،املناضل منري كشّ وخ ،يستنكف تقدميه ملن ال
يعرفه بكونه أستاذا جامعيّا ،وكان يغضب ع ّيل صارخا:
الساحقة
«ملاذا تريد إهانتي بتقدميي جامع ًّيا واألغلب ّية ّ
رشف ال الجامعة وال الوطن وال عموم
من جامعيينا ال ت ّ
املواطنني ،أنا ال أرىض بتقدميي إالّ مناضالً وكفى».
وفعال ،فأغلب جامعيينا إ ّما م ّمن ناشد بن عيل وتذلّل
وانبطح وسال لعابه أمام إغراءات نظام بن ع ّيل للحصول
عىل بعض االمتيازات املاليّة أو املعنويّة من مناصب
ومسؤوليات سياس ّية ..أو م ّمن تعاىل عىل املواطنني
العاديني معتربا نفسه ،بفضل ما لديه من شهائد جامعيّة،
قني
فوق مستوى بق ّية البرش ،وغرقوا يف ّ
تخصصهم التّ ّ
ّ
الجاف واملحدود ،متقوقعني حول ذواتهم املتضخّمة
مرض ّيا ،وانزووا يف جدران الجامعة.
ّقافي
* ي ّتفق جميع الخابرين بالمشهد الث ّ
ونسي أ ّنه لم يشهد بعد الثّورة تغييرا جذر ّيا
ال ّت ّ
المثقفين مع الواقع
إن على مستوى تعاطي ّ
كما ونوعا.
االجتماعي أو على مستوى اإلنتاج ّ
ّ
إالم ُيعزى ذلك حسب رأيك؟
يس خالل أكرث من
لقد متيّز املشهد الثّقا ّيف التّون ّعرشيّتني قبل الثّورة بالتّن ّوع يف اإلنتاج والثرّ اء كماّ وكيفا،
السلطة تدجني املثقّفني .فاستطاع
رغم ال ّرقابة ومحاولة ّ
يس ،داخل البالد وأحيانا خارجها اضطرارا ،إنتاج
التّون ّ
ك ّم مه ّم نسبيّا يف كافّة امليادين ،مرسحا وف ّنا تشكيليّا
القصة
وسينامئ ّيا ودراسات وإبداعا خصوصا يف ال ّرواية و ّ
والشّ عر ،وهو ما جعل عديد األسامء تش ّع وطنيّا وعربيّا
ودول ّيا .وتقلّص اإلنتاج ربمّ ا نوع ّيا بعد الثّورة ،بسبب
دخول البالد واملواطنني رهانات جديدة تتمثّل يف تجربة
يش عىل
ال ّدميقراط ّية الجنين ّية وغلبة اله ّم ّ
يس واملعي ّ
السيا ّ
ما سواهام ،ولكن بكلّ تأكيد لتقلّص ميزانيّة وزارة الثّقافة
تخصص لألجور) .هذا ما جعل رابطة
(قرابة 80%منها ّ
الكتّاب األحرار تتج ّند يف سلسلة من الوقفات للتّنديد
بهذا التّمشيّ يف التّقليص بدالً عن الترّ فيع.
وقد الحظنا ومازلنا ارتجاال مخجال يف تنظيم التّظاهرات
الثّقاف ّية (العدول مثال عن اللّجنة االستشاريّة الوطن ّية
ملعرض الكتاب الّتي رأت ال ّنور بعد الثّورة ،والعودة إىل
االنغالق داخل ال ّدوائر اإلداريّة للوزارة ،مماّ جعل ال ّرابطة
تقاطع املشاركة يف ورشات املعرض ،وكذلك معرض
جينيف للكتاب وعودة الوجوه القدمية واملامرسات الّتي
بان فشلها أكرث من م ّرة) ،وبالخصوص غياب اسرتاتيجيا
مح ّددة املالمح والترّ كيبة ملقاومة اإلرهاب بالثّقافة ولجعل
الثّقافة خبزا يوميّا لكلّ مواطن (من ال ّروضة إىل الجامعة
وداخل كلّ الوزارات وكلّ الشرّ كات الوطن ّية وكلّ القرى
واألرياف ،ومن املهد إىل اللّحد ،ببعث الورشات الثّقافيّة
حي وداخل كلّ البيوت.).
والفكريّة وال ّرياض ّية يف كلّ ّ
هكذا فقط ميكن لنا أن نغيرّ واقعنا الثّقا ّيف يف العمق،
بترشيك كافّة املثقّفني يف التّص ّور والتّخطيط والتّنفيذ
للسياسة الثّقافيّة للبالد .ولن يتس ّنى ذلك إالّ مببدأ ح ّريّة
ّ
التّنظّم عىل أساس االنتخاب يف كلّ الهياكل محلّ ّيا وجهويّا
ووطنيّا ،حسب روح دستور الثّورة.
والمنظمات
* عديدة هي الجمعيات
ّ
والمثقفين في
ّقافي
المهتمة ّ
ّ
ّ
بالشأن الث ّ
تونس ،ونذكر على سبيل المثال رابطة
تترأس هيئتها .لماذا،
الك ّتاب األحرار الّتي
ُ
ظل حال الك ّتاب والمبدعين في
رغم ذلكّ ،
غالبيتهم مزريا؟
رغم وجود وزارة الثّقافة منذ أوائل ستّينات القرناملايض وبقائها أفقر وزارة من حيث امليزانيّة ،فإ ّن
غياب ال ّنصوص القانون ّية الكافية والواضحة املعرتفة
بدور املثقّف يف بالدنا وحقّه يف العيش الكريم ورعايته
الص ّح ّية املضمونة اجتامع ّيا ،قد أبقى الوضع العا ّم للكتّاب
ّ
واملبدعني يف أسوأ حال .ولن يتغيرّ الوضع إالّ بتجميع
هؤالء يف هياكل أقوى وأحسن تنظيام ملواصلة التّج ّند
من أجل فرض إصدار تلك ال ّنصوص وتطويرها وخصوصا
العمل عىل تغيري ال ّنظرة االجتامع ّية للمبدع ومكانته
ودوره.
* لماذا لم تقع حسب رأيك الثّورة الثّقاف ّية
المنشودة؟
عندما وقع االلتفاف عىل مجلس حامية الثّورة منذأواسط سنة ،2011بل بعد أقلّ من ثالثة أشهر من فرار
بن عيل ،وذلك ببعث ما يس ّمى «الهيئة العليا لتحقيق
أهداف الثّورة( »..انظر كتاب شكري لطيف «مجلس
حامية الثّورة – دار سحر – ،)2014انقسم املجلس واعرتى
الفتو ُر نشاطَه وتجاهلته وسائل اإلعالم املدعومة من قُ ًوى
خفيّة ومعلومة ،داخليّة وخارجيّة ،متثّل القوى ال ّرجعيّة
وال ّرأسامل ّية املرتبطة مصالحها بالخارج ،وتساندها بخفْية
يف أ ّول األمر وعل ًنا فيام ب ْع ُد قوى التّهريب والتّه ّرب
الجبا ّيئ واإلرهاب والتّج ّمعيون ال ّدستوريون ،مبباركة من
العاملي بدعم قطر ّي تريكّ ،التقت كلّ تلك
تنظيم اإلخوان
ّ
القوى إلجهاض الثّورة وملنع الثّورة الثّقاف ّية الّتي أطلّت
برأسها وبشرّ ت بها القوى املؤمنة بالتّغيري والتّط ّور.
ولك ّن البذرة الثّوريّة الثّقاف ّية -حسب رأينا -قد زرعت
المثقف
إن ّ
* هل تشاطر ال ّرأي القائل ّ
واليساري خصوصا
مي عموما
ّ
العربي ال ّت ّ
قد ّ
ّ
عاجز عن فهم مجتمعه وعن الفعل فيه
بسبب استناده إلى نظريات ومرجعيات
مستوردة وعلى غير صلة بثقافة شعبه
ووجدانه؟
الص ّحة خصوصا
إ ّن هذا ال ّرأي فيه جانب كبري من ّيس والعر ّيب غري مدروس
إذا ما علمنا بأ ّن مجتمعنا التّون ّ
اجتامعي وباملقاربات املعلومة
بالقدر الكايف من جانب
ّ
العلم ّية العامل ّية .ونحن نعرف أ ّن أصغر األقسام يف
جامعتنا هو قسم علم االجتامع (أساتذ ًة وطالّبا) ولنا
قسم وحيد فقط يف كامل الجامعات التّونس ّية.
لهذا ،ليس غريبا أن نركن إىل تدريس تجارب غرينا من
األمم وإحصائ ّياتهم ولغاتهم وفنونهم وآدابهم وعقائدهم
ونفسياتهم وعقلياتهم باألساليب واملناهج التّي ابتدعوها
هم .فشعوبنا هي إذن كالعجني «غري املعروك وغري
املحكوك» كفاي ًة وهو أمر رضور ّي إلنتاج حلويات ممتازة.
فمجتمعاتنا بدائ ّية من ال ّناحية ال ّدراس ّية ،نجهل جوهرها
وخصوصياتها ونقائصها وممي ّيزاتها .فال تنجح فيها
استنباطاتنا يف كافّة امليادين وال مقرتحاتنا وال تص ّوراتنا
إلصالح أعطابها الكثرية .فتكون حلولنا شبه علم ّية،
مسقطة عىل واقع غري متحكّم فيه ،فال هي بالحلول
الناجعة وال هي تس ّهل عمل ّيات االنتقال من طور إىل آخر،
بل ربمّ ا تتفاقم األعطاب بسبب ذلك القصور.
ومع هذا ،فإ ّن االستنارة بتجارب غرينا من الشّ عوب
وبنتائج أبحاثها وعلومها رضوريّة لنا ألنّنا يف آخر األمر
جزء من البرشيّة ،ويكون تفتّحنا عليها أمرا حتم ّيا مبا أ ّن
مصريها هو مصرينا.
والمحقق
* ما تفسيرك وأنت الباحث
ّ
بقوة خالل العقدين
ياسي ّ
لعودة اإلسالم ّ
الس ّ
العربي؟
األخيرين في تونس وفي الوطن
ّ
باعتبارنا مثقّفني ،ال ب ّد لنا من نظرة أشمل ما ميكنيس ،وكذلك
لهذه الظّاهرة ،وهي عودة اإلسالم ّ
السيا ّ
توسيع معارفنا مبا طرأ عىل شعوب أخرى غرينا سبق أن
عاشت هذه املرحلة من تاريخها.
من ذلك ما ت ّم يف أوروبّا طيلة أكرث من قرن ،من آخر
السادس عرش مماّ س ّمي
القرن الخامس عرش حتّى القرن ّ
بالحروب ال ّدين ّية ،بني الكاثوليك والربوتستانت ...وما
شاب تاريخ بلداننا العرب ّية واإلسالم ّية وما دار من حروب
الس ّنة (يف تونس دور سيدي
دمويّة فيها بني الشّ يعة و ّ
الس ّنة
محرز بن خلف زمن ال ّدولة الفاطم ّية) وما بني ّ
والخوارج (ظهور دولة تاهرت بالجزائر ،ال ّدولة ال ّرستم ّية)
وحرب القرامطة وثورة صاحب الحامر بديارنا ض ّد ال ّدولة
الشّ يع ّية باملهديّة وحروب اإلمام ّية ال ّزيديّة باليمن ض ّد
السلطة العثامن ّية وحرب هذه ض ّد شيعة فارس...
ّ
وربمّ ا ما ت ّم يف بلداننا من محاوالت تحديث ّية ملجتمعاتنا
رسعة ،مماّ دفع بفئات
بصفة فوق ّية مسقطة وقد تكون مت ّ
السبل
انتهاج
و
العاطفي
عريضة إىل ر ّد الفعل القو ّي و
ّ
ّ
ال ّدمويّة لفرض تص ّوراتهم .كلّ هذا يدفعنا إىل االنكباب
عىل واقعنا املعقّد ج ّدا بال ّدرس والتّحليل ومحاولة ترشيك
كافّة ال ّناس يف نقد هذا الواقع وتفكيك جميع عنارصه
ومحاولة فهمه الفهم األعمق واقرتاح الحلول لدائه بصفة
جامع ّية.
السقوط يف نظريّة املؤامرات الخارج ّية،
دون
ننىس،
وال
ّ
دور القوى الخارج ّية لل ّدول الكربى وللتّ ّيارات ال ّدين ّية
العامل ّية املتط ّرفة من تصدير تص ّوراتها خدمة ملا تعتقده
«الحق املطلق» وملا تكون قد رضيت بأن تلعبه من دور
ّ
لفائدة تلك القوى ومصالحها .ومع هذا الوعي ال ّدقيق
بأخف
بكلّ هذه املامرسات ميكننا اجتياز املرحلة ال ّراهنة ّ
رسع أو تش ّنج ولكن ليس من دون
األرضار املمكنة دون ت ّ
اليقظة والحزم الضرّ وريني.
* لماذا حسب رأيك لم تنجح الالّئك ّية في
فرض نفسها في المجتمعات العرب ّية؟
حني أمضينا -ضمن ما س ّمي بهيئة 18أكتوبر (من 2005إىل )2011وك ّنا عديد الجمعيات (مبا فيها رابطة
الكتّاب األحرار) واألحزاب عىل ثالثة نصوص أساس ّية:
أ -اعتبار مجلّة األحوال الشّ خصيّة بتونس أمرا إيجابيّا
ينبغي تطويره إىل ما هو أحسن
ب – فصل ال ّدين عن ال ّدولة
ج – ح ّريّة الضّ مري واملعتقد...
مع عديد البيانات األخرى ،تراجعت حركة ال ّنهضة بعد
الثّورة عىل ما أمضت عليه باعتبار أ ّن أغلب قواعدها
غري موافقني عىل ما رضيت به القيادة تكتيكيّا يف مرحلة
الصعب .وهذا املثال دليل قاطع عىل أن
ال ّنضال املشرتك و ّ
يس الّذي تطغى فيه األ ّميّة
جزءا كبريا من املجتمع التّون ّ
الفعل ّية وشبه األ ّم ّية مل يبلغ ب ْع ُد من الوعي ما يجعله
يف ّرق بني ما هو مد ّين جمهور ّي وما هو عقائد ّي وإميا ّين.
لذلك تلزمنا مراحل أخرى طويلة حتّى تصري الالّئك ّية
مفهومة ومقبولة.
رجل
* أخيرا ،من وجهة نظرك ّ
مثق ًفا وليس َ
تحقق الثّورة ال ّتونس ّية ح ّتى
سياسة ،لماذا لم ّ
اآلن أهدافها؟
تلزمنا أعوام وأعوام من التّغلغل املعر ّيف والفكر ّيالعلمي وخصوصا األد ّيب يف ضامئر أفراد شعبنا ويف
و ّ
عقل ّيته ،بتحبيبنا إيّاه إلبداعاتنا وآدابنا (مرسح وغناء
وقصة ودراسات
ورقص وفنون تشكيليّة وموسيقى ورواية ّ
يف كافّة االختصاصات).
يس ،وهو أحسن حاال من عقول
فعقل املواطن التّون ّ
غريه من مواطني الشّ عوب العرب ّية -أو هكذا نزعم -
كاألعىش بني العميان .فهو مازال خا ًما أو يكاد ،وتربة
بالدنا مازالت بورا .وعلينا بالعمل الجا ّد واملتواصل
ألجيال وبحرث تلك الترّ بة وإعادة الحرث إىل ما ال نهاية.
..peine la de prenez ,Labourezكام يقول الشّ اعر
يس الفونتان.
الفرن ّ
7
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
محنة المثقف في عالقته
بالسلطة من خالل نماذج
عمره كام تحمله لنا كتب الرتاجم واملؤلفات التي
مليكة العمراني
ألفت يف شأنه.
إن املتأمل يف سرية أيب حيان التوحيدي خاص ًة يف
طرحت إشكالية عالقة املثقف بالسلطة يف أدبيات النقد
عالقة املثقف بالسلطة تكشف لنا جانباً من جوانب
العريب القديم والحديث عىل السواء وبشكل معمق وأثارت
محنة املثقف عرب األزمنة وسعيه إىل أن يكون
ومازالت تثري جدال كبريا يف األوساط الفكرية والثقافية قدميا
حرا ً مختلفاً يفلسف ويتفلسف ويفكر بعيدا ً عن
وحديثا.
إكراهات املجتمع والسلطة ولقد عالج إبن خلدون
إن املثقف هو ضمري أمته وهو الناطق الرسمي هذه املسألة يف مقدمته ونعني بذلك العالقة بني
باسم وعيها وكثريا ما كان املبدع واملثقف مدافعا السلطة السياسية واألدبية وقال يف هذا الصدد «اعلم
عن القضايا اإلنسانية العادلة كالحق والخري والعدل أن السيف والقلم كالهام آلة لصاحب الدولة يستعني
والحرية وعن منظومة القيم الثقافية السائدة يف بهام عىل أمره»(.)3
عرصه .وإذا كانت الصورة التي ميثلها املثقف تختلف وكثريا ً ما ارتبطت وظيفة املثقف بااللتزام بقضايا
عرب األزمان فإنه كثريا ما لعب أدوارا ووظائف متغايرة عرصه وعدم الخضوع إىل إكراهات املناصب وميكننا
ومختلفة عرب األزمان فنجد املثقف املوايل للسلطة أن نذكر عىل سبيل املثال أيضا محنة إبن رشد املفكر
ونجد املثقف املعارض لها أو املناهض ألفكارها كام والفيلسوف العريب ولد سنة 520هـ وتويف سنة 595
نجد ما يسمى اليوم باملثقف الحر من كل االلتزامات هـ وقد قامت شهرته أساسا عىل الفلسفة والفقه
الفكرية والسياسية.
وكانت مؤلفاته يف الفقه سابقة للفلسفة وتشغل حياة
يخلو
ال
منهجي
بشكل
التالية
اإلشكاليات
وسننظر يف
إبن رشد القرن الثاين عرش تقريبا وهو مرتبط مبحاولة
من الدقة العلمية ومن املوضوعية الالزمة .كثريا ما العباسيني يف الرشق العريب واألمويني من توسيع لحقل
كان املثقف فاعال منفعال شاهدا عىل عرصه ميكننا العلم والنهوض به رافدا أساسيا من روافد املعرفة
لقي إبن رشد بدوره عىل غرار أيب
أن نذكر عىل سبيل املثال تجربة أيب حيان التوحيدي والثقافة ولقد َ
هذا الذي قال عنه الدكتور عبد السالم املسدي يف حيان التوحيدي نكبات وحيفا كبريين وساهم ذلك
كتابه بني النص وصاحبه :التوحيدي -نزار قباين إنه يف شهرته الواسعة بعد وفاته وكثريا ما ارتبطت أعامل
أي «التوحيدي بسلوكه قد أضحى شخصية رصاعية ،إبن رشد فكرا وفلسفة مبظاهر النقد والرشح والنقاش
وإن التوحيدي ،بحديثه عن نفسه ،قد أمىس شخصية والتمحيص.
خالفية ،وإن التوحيدي بإرصاره عىل البوح واإلفاضة ولقد روى املؤرخون واملفكرون الذين أتوا بعده أن
قد بات شخصية إشكالية»(.)1
األندلس تحولت يف عهده إىل سوق فكرية وفلسفية
هو
الحق
املثقف
أن
وتفسري هذه املقولة مفادها
عظيمة وكان له دور بارز يف إحياء وإثراء الحياة
الذي يثري إشكاالت يف عرصه باعتباره مفكرا متميزا عن الثقافية يف تلك املرحلة من تاريخ املسلمني.
اآلخرين صاحب موقف من القضايا األدبية والثقافية وقد كان لنكبة إبن رشد أثرها يف التاريخ الفكري
يف عرصه.
والفلسفي فيذكر بعض املؤرخني أن من أسباب نكبة
إن أبا حيان التوحيدي قد تغلغل يف قضايا عرصه هذا الفيلسوف اختصاصه بأيب يحي شقيق الخليفة
االجتامعية والثقافية واملعرفية والسياسية وكان املنصور .ويرجح بعضهم أن سبب محنته هو عدم
شاهدا عىل عرصه وهو «شاهد باإليجاب عىل قدر ما مجاملته ألمري املؤمنني ومهام يكن من األمر ميكننا
هو شاهد بالسلب»(.)2
أن نستنتج من خالل اطالعنا عىل بعض مؤلفات إبن
إن أبا حيان التوحيدي قد عاش محنة املثقف واملفكر رشد يف الفقه والفلسفة أن هذه األخرية كان العامل
يف عرصه وحمل وزر املظامل اإلنسانية املرتبطة بتفكره الحقيقي ملحنته وذلك ألنها صنعت له من األعداء
ألنه كان مساجالً كثري النزاع مناقشاً ومتكلامً بارعاً لفلسفته جعلوا من فلسفته مثال إشكال وشبهة
ذائع الصيت يف عرصه عايش املفكرين والفقهاء لدى املنصور وأمر األمري يف ذلك الزمن بإرسال رسائل
واملتكلمة ورجال الدين حتى انه قيل عنه أنه عرفة إىل األقاليم املجاورة ملنع كتبه وإجراء االسرتاتجيات
بقوة النفس وازدراء أهل عرصه.
القاضية إلحراقها وإتالفها واتهم إبن رشد بالزندقة
وأما املرحلة الفارقة يف حياته والتي شكلت أسباب واإللحاد وشاعت أخباره بني خصومه وسلطت عليه
محنته أنه أقدم عىل حرق كتبه مبا تحتويه من أبشع أنواع العقاب الفكري والنفيس وميكننا أن ننكر
مخطوطات ونفائس املصنفات وهو يف التسعني من بعض املؤلفات الفكرية والفلسفية إلبن رشد منها
«تهافت التهافت» والذي ناقش ودحض به كتاب
الغزايل «تهافت الفالسفة» رسالتان يف «اتصال العقل
املفارق باإلنسان» وترجمت هذه الرسائل الالتينية
والعربية إضافة إىل مؤلفات أخرى ال تحىص وال تعد
وقد يضيق هذا املقال عن حرصها.
كام أننا قرأنا يف هذا املجال كتابا تونسيا مهام لألستاذ
مصطفى التوايت عنوانه «املثقفون والسلطة يف
الحضارة العربية (الدولة البويهية منوذجا يف جزئني
عن منشورات املعهد العايل للغات بتونس جامعة
تونس 1سنة 1999وقد ذكر املؤلف يف الصفحة
األوىل من الجزء األول ما ييل «غن فئة املثقفني هذه
كثريا ما كانت تصطدم إبان القيام بوظيفتها بفئة
أخرى هي فئة رجال السياسة مبا يحوزونه من سلطة
سياسية ويتوفرون عليه من قوة مادية ومعنوية»
وفيه عرض أشكال عالقة املثقفني بالسلطة يف الدولة
البويهية وعرض مناذج من ذلك ومن أهم الفصول
التي ميكن التعرض إليها يف هذا الكتاب هو الفصل
الثالث من الكتاب وجاء تحت عنوان «كتاب الدولة
البويهية والرصاع من أجل السلطة عبد العزيز يوسف
منوذجا» وذكر فيه أن مصائب فئة الكتاب كانت
نتيجة أساسية الشتداد املنافسة بينهم وانغامسهم يف
الحياة السياسية إضافة إىل ما كان يسود عرص الدولة
البويهية من تكالب ورصاع دموي عىل السلطة.
من بني املثقفني الغرب الذين كتبوا عن عالقة املثقف
بالسلطة ميكن أن نذكر جوليان باندا وكتابه املوسوم
ب«خيانة املثقفني» ويضع فيه املثقف يف مرتبة عليا
معتربا إياه ضمري البرشية والناطق الرسمي باسم
وعيها وشعورها.
ويعترب جوليان باندا أن املثقف قادر عىل أن يقول
كلمته وأن يرصح بكلمة الحق يف مواجهة السلطة
وأنه ال سلطة بإمكانها أن تعلو عىل سلطة املثقف
واملثقف أيضا عىل ح ّد تعبري باندا يتمتع مبوهبة خاصة
وله رسالة وجب عليه تأديتها وهو ما ميتلك موقف
مغايرا من الوجود واملثقف وحده كفيل بأن يطرح
األسئلة عىل مجتمعه ليتمكن من كرس املمنوعات
واملقدسات عىل صعيد الفكر والفلسفة وتحرضنا يف
ما ييل مقولة شهرية لجربان خليل جربان مقتطفة من
كتابه رمل وزبد وهي التالية «باألمس رأيت فالسفة
يحملون رؤوسهم يف سالل وينادون بأعىل الصوت
«الحكمة للبيع مساكني هم الفالسفة ينبعون رؤوسهم
ليطعموا قلوبهم»( )4والحقيقة أن لفظة قلوبهم هذه
يف غري محلها إذ ميكننا استبدال هذه العبارة املغرقة
يف الرومنسية بالجملة التالية «مساكني هم الفالسفة
يبيعون رؤوسهم ليطعموا بطونهم»)5(.
يف النهاية مقالنا هذا وحتى نفتح بابا للبحث واالجتهاد
ميكن أن نعود إىل املدونة الشعرية العربية والغربية
وعالقة الشعراء والكتاب (كتاب القصة والرواية
بالسلطة والسؤال الذي نطرحه هنا كيف كانت هذه
العالقة عرب العصور هل هي عالقة قطيعة أم عالقة
تواصل أم كالهام معا)؟
)1الدكتور عبد السالم املسدي بني النص وصاحبه (
التوحيدي – نزار قباين) دار قرطاج للنرش والتوزيع
الطبعة األوىل ،2002 ،ص.20
)2الدكتور عبد السالم املسدي بني النص وصاحبه (
التوحيدي – نزار قباين) دار قرطاج للنرش والتوزيع
الطبعة األوىل ،2002 ،ص.21
)3إبن خلدون :املقدمة ص .228
)4األنصاري املخطوط
)5د .مصطفى التوايت :املثقفون والسلطة يف الحضارة
العربية (الدولة البويهية منوذجا)ج1ص.7
8
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
لماذا يحقد التونسي على المثقف؟
السيد التوي
تمهيد
يتناول هذا املقال بال ّدرس موضوعا قدميا جديدا وهو نظرة املجتمع
إىل املثقف ،كام يتنزل يف إطار الجدل الذي أمىس حارضا يف املشهد
السيايس يف تونس ويف البلدان العربية عشية االنتفاضات الشعبيّة
وما آلت إليه من تغيري يف هرم السلطة ويف بعض مالمح املجتمع.
ويدور هذا الجدل حول األمنوذج املجتمعي الذي يجب أن َتكون
عليه مجتمعات االنتفاضة بعد أن تخلّصت حسب ما يعتقد البعض
من سيطرة من ك ّرسوا بالقوة ال ّنموذج القديم ،والواقع أن املوضوع
ق ْيد الدرس يقتيض تدبُّر مسألتني عىل غاية من األه ّمية :أوالهام
ٍ
تعريف لكلمة املثقف والثانية تتصل بتحديد العالقة
تتعلّق بضبط
بني املثقف واملجتمع.
إن أ ّول ما يجب االنتباه إليه يف فهم هذا املوضوع هو النظرة
الدونية التي أضحى يك ّنها املجتمع العريب للمثقف .وقد استغلت
بعض األحزاب السياسية اليمينية املتل ّبسة بال ّدين استعارة ووسيلة
ال منهجا وتصورا يف إطار حملتها التعبويّة هذه النظرة ،ألجل إقصاء
خصومها السياسيني م ّمن يدعون النضال من موقع الطبقة املسحوقة
ويف إطارها أو م ّمن يحملون مرشوعا يزعمون كونه حداث ّيا مستنريا.
عىل أ ّن اإلشكال الذي يجب ّفك جوانب التّعقيد فيه هو :هل يُعترب
وص ُف بكونه يحمل خطابا ال صلة
املثقّف الذي يشار إليه بالبنان ويُ َ
له بالجامهري مثقّفا فعال ؟ ومن هو املثقف الحقيقي ؟
تعريف المثقف
ميكن أن نعرف املثقّف ،من خالل ثالث منطلقات
أنرثوبولوجي ويرتبط رأسا بفرضية وقع
:األ ّول
ّ
االستدالل عىل ص ّحتها وهي أ ّن الثقافة نقيض
للطّبيعة ،وبالتّايل يكون كلّ إنسان مثقفا بشكل أو
بآخر ،وليس خفيّا عن ال ّدارس الحصيف ما عليه
هذا املنطلق من تعميم يتعذّر معه محارصة مفهوم
السياق الذي نتح ّدث فيه.
املثقّف يف إطار ّ
أ ّما املنطلق الثاين فيتّصل بعلم االجتامع ،ويح ّدد
أصحابه مفهوم الثّقافة باعتبارها األخذ من كلّ
يشء بطرف أي مجموع الخربات املعرفية واملهاريّة
والسلوك ّية التي تجعل اإلنسان ناجعا عىل مستوى
وجامعي ،إالّ أن هذا املنطلق عىل ما فيه من
فرد ّي
ّ
منفعي ض ّيق يجعل
ر
و
تص
رهني
يبقى
تخصيص
ّ
ّ
املثقف يتعامل مع الواقع مبا لديه من كفاءات دون
سعي إىل تغيريه.
ويصطبغ ثالث املنطلقات بالتاريخ ،وهي صبغة
متكّن من تعريف املثقف من جهة عالقته بالواقع
وفعله فيه ،فاملثقف الحقيقي هو الذي ميتلك من
األدوات ما به يفهم الواقع وبناه املختلفة ومن مث َّت
الوقوف عىل مآزقه ،ويخ ّول له هذا االقتدار االقرتاب
ويصطف
من الحلول الكفيلة بتجاوز هذه املآزق،
ّ
املثقف بهذا املعنى إىل جانب الطبقات املسحوقة
وينخرط يف النضال يف دائرتها ،ألن التاميز الطبقي
املغلف باألبعاد امليتافيزقيّة أو النظريّات الطبيعية
هو املعضلة ،بحلِّها تُ َحلّ جميع مشاكل األغلبية
املستضعفة.
ولعلّ أه ّم األدوات التي عىل املثقّف امتالكها هو
الوعي التاريخي الجديل ،ألنه السبيل األكرث نجاعة
لتفهم مأساة املقهورين واملظلومني وخط النهج
املفيض إىل تحررهم.
غري أن تعريف املثقف من هذا املنطلق ال يلغي
املنطلقات األخرى بل يحتويها ،مؤكدا عىل وعي
املثقف والتزامه ،وليس من الفائدة القليلة اإلشارة
إالّ أن هاتني الخصلتني قد تكونان يف فضاءات
متع ّددة :العلم ،الفن ،السياسة.
ومن الواضح أ ّن املرجعية التي يعكسها هذا
التعريف هي املرجعية املاركسية مبختلف تلويناتها،
وتشكّالتها .وال شك يف أن ما قدمناه من تعريفات
هو من قبيل اإلشارات التي صغناها بطريقة
تستجيب لغايتنا من هذا املقال.
التونسي على «المثقف»
حقد
ّ
قد يكون من قبيل االستعارة الحديث عن حقد
يحمله التونيس تجاه املثقف ،لكنه من الثابت
حد العنف ،إضافة إىل العنف ال ّرمزي واملا ّدي الذي
التنصيص عىل القطيعة بينهام فاملثقف يف نظر
ميارس عىل أنصار الفكر الح ّر من إقصاء دليال عىل
التونيس شخص يقول كالما بعيدا عن همومه
ما تقدم.
ومشاغله وهو إىل جانب ذلك ينتمي إىل الطبقة
والواقع أن هذا املوقف من املثقف ليس واحدا
املحظوظة ويتشدق بدفاعه عن حقوق اإلنسان
بني مختلف الرشائح
وانتصاره للكادحني ،وله صورة
وأنه قد ميارس عىل غري
أخرى ال تقلّ خطورة عماّ قبلها
التقدمني ،إضافة إىل كونه
فهو ملحد متنكر للهوية ينتهي
ال يظهر بوضوح إال يف
نضاله بخروجه من الحانة أو من
بعض الوضعيّات املشحونة
قاعة السينام أو التياترو.
بالرصاع السيايس .مثل هذا
ويتّصف املثقف يف عني التونيس
بصفات أخرى تجعله بعيدا المثقف الذي ينظر
القول يحملنا عىل اإلجابة
عن اتّخاذه قدوة فهو فاشل إليه التونسي بحقد عن السؤال الذي سبق أن
طرحناه يف ُمفتتح املقال .هل
اجتامعيا ،ال تعكس مقوالته
ليس مثقفا عضو ّيا
املثقف الذي يزدريه التونيس
املبدئية سلوكه.
إنّها صورة تدور حول محورين :إنما هو مثقف قاصر مثقف فعال؟
إذا نظرنا إىل املثقف من
أ ّولهام يقوم عىل اعتبار املثقف
وانفعاله،
فعله
في
حيث قدرته عىل قراءة
منسلخا عن الطبقات املسحوقة
الواقع وتغيريه لصالح الطبقة
من حيث الخطاب والسلوك.
أما المثقفون
الكادحة وجامهري امله ّمشني
ثانيهام ينهض
بسبب عىلكونهالنظرشخص ّيةإىل العضويون فهم
فإنّنا ال ميكن أن نص ّنف من
املثقف
ما
تفرقهم
على
يتب ّنون األطروحات الليربالية
مأزومة فاشلة اجتامعيا ال ترتقي
ومختلف التيارات اليسارية
إىل أن تكون مثاال يحتذى.
يفتكون
انفكوا
اإلصالحية مبثقفي الجامهري
وقد ألصقت باملثقفني صفات
أكرث شناعة فهو يؤمن باملثلية نظرة احترام من
الصف
ألنهم يقفون يف
ّ
املعادي لها ويسريون يف
وماسوين ،ومن أزالم ال ّنظام التونسي رغم كل
ذيل االنتهازيني وذلك رغم
السابق ،وفرنكفوين ،وقد صار
التشويه
محاوالت
املجهود التوفيقي الذي كثريا
البعض مبدعا يف نحت هذه
التهم وصارت مجاال للتنافس من القوى الرجعية .ما يعللونه مبا هو مفروض
عامليّا وقطريا ،كذلك ال ميكن
والتّباري.
أن ننعت من يتبنون الفكر اليساري الراديكايل
ولعلّ ما يبينّ حقيقة هذه النظرة ال ّدونية التي
مبثقفي الجامهري ألنهم لو كانوا كذلك لتمكنوا من
يحملها التونيس عن املثقف تشنجه يف كل مرة
إيجاد األدوات الكفيلة من االقرتاب منه ولَتَ َو ّصلُوا إىل
يحاول فيه هؤالء تقديم تص ّورهم يف مسألة من
معادلة تجمع بني األهداف التكتيكية واالسرتاتيجية
مسائل الشأن العام سياسيا أو اجتامعيا أو فنيا،
لطأمنة عموم املستضعفني أن مرشوعهم إمنا يهدف
وميكن أن نعترب ما تع ّرض إليه الكثري من السياسيني
إىل تحررهم.
التقدميني والفنانني واملفكرين من مضايقات بلغت
9
أ ّما إذا تعرضنا إىل من ينتسبون إىل الثقافة
شكال فاملسألة تصبح أكرث وضوحا ،فهل ميكن
أن نعترب كل من يهاجم الفكر الديني مثقفا
وهل نعترب كذلك من يلبس قبعة ،ويطيل
شعره ،ويرتاد الحانات ويتأبط كتابا يف كل
وقت وحني ،ويتمتم بعض الكلامت بالفرنسية،
أو من يختزل أطروحات ال يكفي العمر مهام
طال درسها يف بعض الشعارات املكرورة التي
فقدت من فرط استهالكها مضمونها.
إ ّن التونسيني مل يزدروا مثقفني عضويني
يتحركون يف صفوفهم ثابتة أقدامهم يف أرضية
نظرية صلبة .ومل ينفروا مثقفني مكنتهم
ثقافتهم من أن يكونوا دون خداع قدوة لهم.
ومل يرفضوا مثقفني يراعون ما هم عليه من
سوء فهم للدين والدنيا ،ومل ينكروا مثقفني هم
زمن األزمة أول من يتقدم وآخر من يرتاجع.
لقد لفظوا مثقفني ال يتقنون إال اتهامه بالجهل
والتخلف ،أو املزايدة عليه بالنضال.
إنّه ملن املعقول دامئا أن يدير التونيس ظهره
ملن يختزلون مبادئهم يف لباس أو سلوك معني،
ملن ينفق يف اليوم مقدار دخله الشهري
يف نزواته ثم يرفع عقريته مناديا بالعدالة
االجتامعية ،أو من يعلق شماّ عة فشله عىل ما
يحمله من مبادئ.
إالّ أ ّن ما رددناه ال يعني عدم توفّر مثقفني
يتحركون يف صلب املضطهدين ومن أجلهم
وفق تصورات ثاقبة ،إنهم متوفّرون لكنهم مل
يك ّونوا نواة قادرة عىل الفعل يف الواقع.
إنهم موزعون عىل أحزاب لو تخلّت عن
األبعاد الذاتية والتشويش النظري التي هي
عليه واتّحدت النتقلت من موقع التربير
إىل مواقع التغيري .وأقصد هنا أحزاب اليسار
الراديكايل بتفريعاته ،واتحادها ليس مجرد
مقولة مثالية تستند إىل فهم بكا ّيئ للواقع
وإمنا هو مطمح ينبني عىل قراءة نقدية
معمقة ملختلف األطروحات من منظور ثوري
يفيض إىل تصور واحد لتغيري الواقع.
هكذا نتبينّ أ ّن املثقف الذي ينظر إليه
التونيس بحقد ليس مثقفا عضويّا إمنا هو
مثقف قارص يف فعله وانفعاله ،أما املثقفون
العضويون فهم عىل تفرقهم ما انفكوا يفتكون
نظرة احرتام من التونيس رغم كل محاوالت
التشويه من القوى الرجعية.
دور القوى ال ّرجع ّية في بلورة الحقد
التونسي على المثقف
ّ
لقد ساهمت القوى الرجعية يف تونس ويف
الوطن العريب منذ االستعامر يف تشويه الفكر
الح ّر ونخص بالذكر الفكر اليساري الراديكايل
للدفاع عن مصالحها ،وتأبيد الواقع الذي
ترتضيه لنفسها ،لقد اُتِّ ِه َم أصحابه بالكفر
واملروق ،ويف أحسن الحاالت بإفساد العقيدة،
أمل تتهم فرنسا الزيتونيني املج ّددين بالبدع
مؤيدة التيار املحافظ؟ أما بورقيبة فقد حرص
الشيوعية يف اإللحاد لصالح رؤية اشرتاكية
ممسوخة ،ولقد ورث بن عىل هذه الفلسفة
وتفنن يف نحت مالمحها واختزل التيارات
اليسارية الراديكالية يف كليشيهات أبعدتهم
عن الجامهري فهم مالحدة ور ّواد صالونات
وخطابهم ملغز بل هو طلسم يصعب فك
شفرته ،ثم بعد ذلك ويف فجر االنتفاضة
الشعبية للشعب التونيس نهجت التيارات
نفسه مدعمة بإرث من
الس ْم َت َ
اإلسالمية َّ
التفكري يتخلل تكتيكها السيايس اعتمدته عرب
رصاعها الطويل مع الفكر الحر ،إننا نراها
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
اليوم تحول بكياسة عجيبة مجال الرصاع من
االقتصاد والسياسة إىل مجال العقيدة وما
يلحق بها من «دوغام» اإلقصاء والرفض .وقد
نجحت هذه التيارات نجاحا باهرا فزادت من
غربة املثقفني ،وصار النضال ض ّدها مسألة
عسرية جدا.
وقد ع ّولت مختلف الجهات املعادية للتيارات
املاركسية الثورية منذ االستعامر إىل اآلن عىل
املك ّون العاطفي للجامهري وما ينطوي عليه
من حنني إىل ماض يع ّوض انكسارات الحارض
الحس
وخيباته ،كام اتخذت من غياب
ّ
النقدي يف صفوف الكادحني لتصوغ تصورا
«ميتا -تاريخ ّيا» للترّ اث ،ومتكنت تدريجيا
من التأسيس ملجموعة من «الرباديغامت»
تستجيب ملطامحها يف احتكار حقيقة قراءة
ال ّنص وتأويله ورشعية توظيف الرتاث
واالستفادة منه ،وميثل «براديغام» ال ُهويّة
والشرّ يعة عامد هذا املسلك يف التّضليل
ومخادعة الجامهري.
ويتأكد هذا املنطق القائم عىل احتقار عموم
املستضعفني يف ظل الجهل واألمية ،وليس
ّفي أن أغلب التونسيني يعانون من هاتني
بخ ّ
اآلفتني ،وحتى املتعلم منهم هو ضحية نظام
تعليمي د ّربه عىل كلّ يشء إالّ عىل الفكر
ّ
ال ّنقدي ،ومل يعلّمه شيئا قدر تقديسه لغري
املق ّدس .لذلك الغ ْرو إن ألفيْنا رفضا للفكر
الحر يف هذه األوساط.
جملة القول إن حقد التونيس عىل املثقف
يعود إىل عوامل متنوعة لعلّها اإلرث الذي
كرسه ومازال يك ّرسه أمئة الرجعية بشقيها
الليربايل اإلسالمي والليبايل الحدا ّيث إن ص ّح
التعبري.
خاتمة
إن املثقف الذي يحقد عليه املواطن التونيس
ال يستحق هذه الصفة ألنه عىل مسافة من
الجامهري ،و ال يحسن التّواصل معها وال يتقن
ف ّنيات النضال يف صفوفها ،أما املثقف العضوي
فهو عىل ندرته يعيش مأساة تشتت الجهود
حتى أن صوته يضيع يف زحمة األصوات،
كام أنه يبذل مجهودا خرافيا لالقرتاب من
الجامهري لك ّن مجهوده يذهب أدراج الرياح
يف ظل الحمالت الدعائية املضللة .ويعود هذا
الوضع املأسوي إىل ثقافة أصلها االستعامر
ووكالؤه لرضب أعدائه.
وسعنا دائرة مفهوم املثقف العضوي
وحتى إن ّ
ليشمل كل من ينخرط يف روح العرص مؤمنا
بقيم الحداثة فإننا ال نستطيع االبتعاد كثريا
عن املنطق الذي اعتمدناه يف التحليل.
الصعوبات التي تعرتض
إالّ أ ّن كلّ هذه ّ
املثقفني وغريه من منارصي الفكر الح ّر ال
يجب أن يثنينا عىل مواصلة النضال ألن
املعركة مع الرجعية مبختلف تنويعاتها طويلة
جدا وما يبدو اليوم مفروضا وقرسيا وال مناص
منه يكون يف املستقبل سهل االستئصال ،ومن
مثت ما عىل قصريي النفس إال أن ينسحبوا.
َ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• نقصد بالتونيس كل من ينتمي طبقيّا إىل
توسعت هذه
الكادحني وامل ُفقّرين وقد ّ
الطبقة يف العرشين سنة األخرية لتشمل ما
كان يس ّمى بالطبقة الوسطى .وال يعني ذلك
أن من ال ينتمي إىل هذه الطبقة ليس تونسيا.
لقد اخرتنا هذه الكلمة عىل سبيل التعميم
بُغية اإليضاح.
اضطهاد المثقفين في
الحضارة العربية اإلسالمية
زنديق ،وقد أفسدت الناس» .لقد أصبح هذا القتل الوحيش
النوي
د.محمد ّ
حي ورميها يف النار عضوا عضوا
تقطيع أوصال رجل /مثقف ّحتى املوت -س ّن ًة متبعة .وهي طريقة يف القتل تكشف عن
لقد قامت السلطة يف الحضارة العربية اإلسالمية عىل أساس
احتفاء باضطهاد املثقفني وعن سباق بني أصحاب السلطة يف
ديني مام أدى إىل نشوء تحالف بني رجل الدين ورجل
املحمي :وضع
ابتداع أشكال من القتل عنيفة :القتل بالطست
ّ
السياسة ،أو بني أهل الشوكة وأهل الحل والعقد ،أو بني الفقيه
إناء من املاء مح ّمى عىل رأس الضحية حتى يسيخ رأسه ،القتل
والسلطان .وهو تحالف متني ذهب به الفقيه إىل أقىص مداه
بال ّنورة :وضع رأس الضحية يف جراب ميلء بالحرشات وربطه
حني ح ّرم الخروج عىل السلطان الجائر وفقا للمسلمة التي
حتى تثقب الحرشات رأسه ،القتل بالنمل :نفخ ال ّنمل يف بطن
صاغها الفقهاء«:سلطان غشوم خري من فتنة تدوم» .ورغم أن
الضحية حتى ميزق أحشاءه ،القتل بالعطش :مع الحرص عىل
بعض رجال الفقه مل يسلموا هم اآلخرون من سوط السلطان
ربط الضحية قرب املاء ،القتل بالتربيد :جلد الضحية ثم سكب
وسطوته ،فإننا نالحظ أن أغلب املشتغلني بالفكر من أهل
املاء البارد عليه ليتعفن الجلد ،الصلب ،القتل صربا بتقطيع
اإلسالم من علامء وأدباء وفالسفة ومتكلمني ومتصوفة قد
حي ،القتل ذب ًحا...قال أبو سعيد الدارمي
أوصال الضحية وهو ّ
كانوا ضحايا لسيف السلطان وفتوى الفقيه يف آن .والطريف
يف «الر ّد عىل الجهمية» عن مقتل الجعد بن درهم سنة 124
أن كثريين يتباهون اليوم مبساهامت املسلمني يف بناء رصح
هـ -والجعد من أوائل املعتزلة ممن قال بحرية االختيار
الحضارة اإلنسانية يف شتّى املجاالت فيذكرون ابن املقفع
وبتنزيه الله عن الصفات «-وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد
والجعد بن درهم وغيالن الدمشقي والجاحظ وابن الراوندي
الله القرسي فذبحه ذب ًحا بواسط يف يوم اإلضحى عىل رؤوس
والطربي والرازي والفارايب وثابت بن قرة والخوارزمي والكندي
من شهد العيد معه من املسلمني ،ال يعيبه به عائب وال يطعن
والبريوين وابن سينا وابن الهيثم والغزايل وإخوان الصفاء
عليه طاعن ،بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه من رأيه».
وابن رشد والعسقالين والحالج وابن عريب والسهروردي وابن
أما غيالن الدمشقي املعتزيل هو اآلخر فأخذه هشام بن عبد
حيان وبشار بن برد وصالح بن عبد القدوس ولسان الدين
امللك فقطّع أطرافه وتركه أياما ث ّم قطع لسانه وتركه أياما ث ّم
الخطيب وابن الفارض ورابعة العدوية واملجريطي واملعري
قتله .ويكشف مقتل الحالج ( 244هـ -309هـ) وهو متص ّوف
وابن طفيل والطويس وابن بطوطة والتوحيدي وابن خلدون...
حب الذات اإلالهية عن ذلك
وشاعر رقيق قرص شعره عىل ّ
وهم ال يعلمون أن جل هؤالء قد قتلوا ،أو ماتوا كمدا وحرسة،
التحالف املتني بني الفقيه والسلطان .فقد
أو ُه ّجروا ،أو ضُ ّيق عليهم يف معاشهم،
رمى به حامد بن العباس -وزير املقتدر
أو اضطروا إىل التقية أو إىل الرباءة من
يف السجن ملدة عرش سنوات ث ّم جمعأفكارهم ،أو منع دفنهم يف مقابر املسلمني
له الفقهاء وعىل رأسهم القايض أبو عمر
يف أحسن الحاالت مثلام هو شأن الطربي
املاليك فأفتوا بقتله .ورغم اعرتاض الحالج
رائد علم التفسري والتاريخ يف الثقافة
قائال« :ظهري حمى ودمي حرام واعتقادي
العربية اإلسالمية؟
السلطان إذا كان
اإلسالم فالله الله يف دمي» ،فإن الوزير قد
ولعل عرض بعض الصفحات من تاريخ
رضبه ألف سوط ث ّم رفعوه عىل الصليب
اضطهاد املثقفني يف حضارتنا -وهو من مح ّبي الشهرة
حي ،ث ّم
وهو
رجليه
م
ث
يديه
وقطعوا
ّ
ّ
اضطهاد يبلغ أحيانا ح ّد التفنن يف
صنوف التعذيب والقتل -يساعدنا عىل لدى الشعب دون أن ح ّزوا رأسه بالسيف ،ثم أحرقوا جثته
وألقوا برماده إىل الرياح ،أما رأسه فقد
تف ّهم أمرين يف حارضنا :أولهام شدة يهمه خير الشعب
نصب يومني عىل الجرس ببغداد ث ّم حمل
عداء السلطة والعامة عىل ح ّد سواء
للمثقفني بسبب ذلك التحالف بني رجل الحقيقي ق ّيد العلم إىل النواحي ونُود َي يف الناس أالّ تُشرتى
كتب الحالّج وال تُباع وأن تحرق .ومل
بقيود حديد
الدين ورجل السياسة ،وليست العامة
يقنع الفقهاء بهذا املصري الفاجع فألصقوا
سوى ق ِ
ُوت هذين الرجلني وق ّوتهام يف
بالحالّج بعد موته كل التّهم املمكنة حتى ال ّزىن باملحارم .نختم
آن ،وثانيهام رضورة النضال من أجل فرض حرية التفكري أمرا
مع ابن رشد ( 520هـ -595هـ) رائد العقالنية وفيلسوف قرطبة
واقعا ال كالما من ّمقا يف الدساتري والقوانني وهو نضال ال ب ّد
الذي تبنت أفكاره أوربا وجعلت من بعضها أساسا لنهضتها.
من خوضه.
لكن فقهاء قرطبة الذين جمعهم الخليفة أبو يوسف يعقوب
الصفحات ذلك املصري الفاجع للمفكر الشاب عبد
أوىل هذه ّ
املنصور أفتوا بكفره فأقيم ابن رشد يف املسجد للعامة يصفعونه
الله ابن املقفع ( 106هـ -142هـ) الذي قتل يف س ّن السادسة
ويبصقون عليه ث ّم حرم من الصالة يف املسجد ونفاه املنصور
والثالثني من عمره .كان ابن املقفع ناثرا مجيدا ومفكرا ح ّرا
إىل أليسانة (بلدة يهودية) ث ّم إىل املغرب وأحرقت كتب ابن
وفيلسوفا مصلحا مثلام تدلّ عىل ذلك آثاره :كليلة ودمنة
رشد ومنع/ح ّرم االشتغال بالفلسفة .صحيح أن ابن رشد مل يقتل
املع ّرب ،واألدب الصغري ،واألدب الكبري ،ورسالة الصحابة -
ولكنه قتل رمزيا يف حياته عرشات املرات .إ ّن تحالف السلطان
ويعني بالصحابة حاشية الحاكم -التي تعرض فيها لرضورة
مع الفقهاء قد جعل الخليفة املنصور يضحي بابن رشد وهو
إصالح مؤسسة الحكم ومؤسسة القضاء وإصالح حال الجند
من أخلص أصدقائه والسبب يف ذلك هو شدة تأثري رجال الدين
والفالحني وتص ّدى إىل فساد حاشية الحكم .وقد أدى ذلك
يف العامة ،و«السلطان إذا كان من مح ّبي الشهرة لدى الشعب
إىل قتله قتل ًة تن ّم عن الحقد والتشفي البليغ وتدعو غريه
دون أن يهمه خري الشعب الحقيقي ق ّيد العلم بقيود حديد
من املثقفني الطالئعيني إىل التزام الصمت إن رغبوا يف الحياة.
تزلفا إىل ذلك الشعب» كام يقول فرح أنطون يف مناظرته مع
استدعاه سفيان بن معاوية املهلبي وايل الخليفة املنصور عىل
ميض حوايل
محمد عبده دفاعا عن العلامنية سنة .1903وبعد ّ
البرصة و«قال له :ألدخل ّنك نار الدنيا قبل اآلخرة ،وأمر بت ّنور
ألف سنة عىل قصة ابن رشد نظ ّن أن املثقف اليوم مازال واقعا
فسجر ،ثم أمر بابن املقفع فقطعت أطرافه عضوا عضوا ،وهو
ُ
يف رشك تحالف السلطان ورجل الدين ومعهام العامة يتق ّوتان
يلقيها يف الت ّنور ،وهو ينظر ،حتى أىت عىل جميع جسده ،ثم
من جهلها ويتق ّويان بجهلها.
أطبق عليه التنور ،وقال :ليس ع ّيل يف امل ُثلة َبك حرج ،ألنك
10
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
حكومات النقد:
فساد
ِ
ُ
عبدالدائم السالمي
وع ّما ُله
علما ُء ال ّنقد ُ
توصيف املامرسة النقدية العربية املعارصة قلنا إنها مامرسة
متى ُرمنا
َ
ُسلطوية ال تنهض عىل وعي نقدي يتغيّا مجاوزة السائد من الحكومات
الذوقية لتأسيس نظام جام ّيل ُح ِّر الرؤية وذايتِّ األداة ،وإمنا هي مامرسة
توفيقية مهادنة ومنط ّية أوقعت امل ُنتَج النقدي يف مط ّبات كثرية ،وصار
فيها النقد إ ّما عملَ املتقاعدين عن العمل الذين ميلؤون به فرا َغ وقتهم
ويقتلونه ،وإ ّما عملَ ُموظَّفي املعرفة الجامعية الذين يتقاضون راتبا
شهريا أج َر ك ََسلِهم املعريف ،وأحيانا يُنجزه نف ٌر من ال ُكتّاب املشتغلني
باملنابر اإلعالمية الثقافية.
وإ ّن من أكرب َهنات النقد ثباتُه يف خانة مدرسانية
اجرتارية ومتعاملة يكتفي فيها الناقد بالظاهر من ماء
النصوص ،فإن َحفَلَ م ّر ًة بوديانه العميقة ال تراه إالّ
فاق ًدا ما يحتاجه الحف ُر من صرب ومداومة عليه كبرييْن،
وإ ْذ يفعل ذلك يتع ّنى تقدي َم إجابة عن سؤال :كيف
نصه دومنا تن ُّب ٍه منه إىل سؤال :ملاذا
كتب املبدع الفالين َّ
َ
نصه ،أي مل اختار الكتابة عن هذا
كتب ذاك املبدع َّ
املوضوع وعن هذه ال ِقيَم يف هذه اللحظة ويف هذا
نص ّما،
املكان .ذلك أ ّن غاية الناقد ،وهو ينجز قراءة ّ
أن ينترص لفكرة يف رأسه هو وليس لفكرة يف رأس
النص ،فال تراه إالّ ُمتّ ِكئًا باطمئنان عىل مقوالت نظرية
عديدة دون وعي منه بأ ّن أصحابها قاموا مبراجعات
ألغلبها ليقينهم بأنها مل تعد تفيد الفعل النقدي
عندهم .وعليه ،تراه يلوي أعناق النصوص لتُالئم
فكرته حتى يكاد يستلّ منها أنفاسها ،ويف خالل ذلك
يظلّ يحشد يف كتابته من الشواهد ما يتجاوز حجم
الشخيص ،بل تراه يستل ّذ اإلكثار من عبارة «قال
كالمه
ّ
قلت أنا؟
فالن» وأخواتها دون أن يسأل نفسه :وماذا ُ
وهو سؤال طرحه البعض من نقّادنا ويجب أن يطرحه
الكثري منهم.
ويبدو أن تلك القراءة املدرسانية منعت النقد العريب
من أن ينهض عىل مرشوع فكري واضح وجريء
وملب النتظار نصوصنا اإلبداعية املعارصة .ويف زعمنا
ٍّ
يتكئ الفعل النقدي عىل دعامة مرشوع
أنه متى مل ْ
صار فعال غري رشعي أدبيا .ومن ث َّم ،يخرج من مجال
الجام ّيل ويدخل حقل التجار ّي ،ويصري مامرسة ربحية
تحكمها قوانني العرض والطلب وتخضع إىل طوارئ
األزمات الدولية وللمواالة واملحاباة .وعليه ،مل يُفلح
النقد العريب املعارص ،عىل وفرة إصداراته ومقاالته،
يف تأصيل مامرسة نقدية مناسبة لثقافة نصوصنا
اإلبداعية .حيث ظلّ أغلب ما كُتب فيه مج ّرد
تطبيقات تجريبية ملناهج وافدة ذات َم ْيزات فكرية
وجاملية قد تتقاطع حينا مع ثقافتنا العربية ولكنها
تختلف عنها أحيانا أخرى كثرية .وهو أمر بدت فيه
الكتابة النقدية كالما عاما شبي ًها ِب ُج ّبة تصلح لكلّ
أجساد النصوص اإلبداعية امل ُن َجزة يف النرث والشعر
بقدميها وحديثها أو حتى تلك التي مل تُن َجز بع ُد .بل
إننا ال نعدم يف مد ّونة النقد العريب املعارص وجو َد
نص من
نقّاد يستجلبون املنه َج ويُط ّبقونه بأمانة عىل ّ
وعي منهم بأن لكلّ منهج قرايئ
زمن الجاهلية بال ٍ
حاضن ًة حضاري ًة هي منه ُمح ِّد ٌد من ُمح ِّددات مقوالته
الجاملية شكال ومضمونا ،ودون تبصرُّ ٍ لديهم مبا لحركة
الزمن من تأثري يف سياقات َح َد ِث الكتابة ويف رشوط
فعل التقبّل م ًعا ،ال ،وال حتى تنبّه منهم طفيف إىل
اختالف ذاكرة النصوص وتن ّوع هواجسها الثقافية يف
مسريتها الزمنية.
وطلبة املدارس .وهو أمر أدّى إىل عزلة هؤالء النقاد
ولعلّ يف هذا التوصيف ما يُجيز لنا القولَ إ ّن مامرستنا
وكساد سلعتهم القرائ ّية ،وخلَق توتّرا يف عالقتهم مع
النقدية الراهنة ال تزيد عن كونها مامرسة منط ّية
املبدعني الذين اندفع كثري منهم إىل التشفّي من
باهتة ،فال تُقبِلُ عىل النصوص إال متى وافقت هواها
غل ّو كتابات هؤالء النقاد مبنافستهم لهم يف حلبتهم
نص َّما فال تراها إالّ جالس ًة
املنهجي ،وإذا أقبلت عىل ٍّ
َّ
ٍ
و»تلميعي»
«تجمييل»
د
نق
مامرسة
عرب
النقدية،
خانات
يف
ة
و
بالق
اه
ي
إ
حارشة
معانيه،
رقاب
عىل
ّ
ّ
ّ
لنصوص زمالئهم برضبٍ من الكالم امل ّجاين الذي يت ّم
نقدية غالبا ما تُش ِّوه فيه ُصو َره الفنية وتُجربه عىل
الحق يف أغلب األحوال.
قول اعرتافات مل تخطر عىل باله أبدا ،بل ورمبا كانت
أثواب ّ
إلباس باطل النص َ
فيه ُ
وإن يف هذا ما يُنبئ بتعثرّ حركة اإلبداع يف ساحتنا
اعرتافاتُه مناقض ًة أصال لبنيته الفنية وملزاجه ال َّدال ّيل
الثقافية ،وبضآلة مستوى نتاجها الكتا ّيب ،وبعكوف
ولروحه الثقاف ّية.
النقد فيها عىل مق ّرراته النظرية املستوردة أو دخوله
وال تُخفي مالحظ ُة مشهدنا الثقايف حقيق َة أ ّن حال
يف سوق املضاربة باملعاين دومنا تن ّب ٍه منه إىل رضورة
النقد املعارص تيش بفوىض عارمة طغت فيها سلطة
مراعاة ثقافة النص العريب مراعاة النقد الغريب لثقافة
النقّاد عىل رعاياهم من الكتّاب ،وخضع أثناءها هؤالء
نصوصه .وهي أمور تتعاضد مع
الرعايا إىل وصايا حكامء النقد
ما سبق لنا أن ذكرناه يف ما م ّر
إبداعي ينجزونه،
يف كل فعل
ّ
معنا لتكشف عن غياب مرشوع
حتى صارت لنا ،مع بعض
للنقد العريب كانت مالمحه قد
التعميم املتع َّمد م ّنا ،آالف
ظهرت مع بدايات القرن الثامن
القصائد التي ال تختلف إالّ يف
امليالدي ولك ّنه توقّف عند عرص
العنوان ،وظهرت عندنا
مئات النقد العربي الراهن
االنحطاط ،ليخلفه مرشوع
الروايات التي ما إن يفكّر
آخر يك ّرس الخرافات ومييل إىل
الروا ّيئ يف كتابة واحدة منها
اليوم إلى إجراء
ّ
مدعو َ
الحشو وينبذ املعرفة.
حتى يكون مبستطاع القارئ
لحسه بأنها مراجعة ّ
الحدس بتفاصيلها ِ
حادة ومؤلمة ،ويبدو أ ّن صور ْيت الناقد املذكور ينْت
ُ
كل سابقا قد تعاضدتا لتُحيال عىل
ستُكتب وفق الخطاطة والتّيمة وإلى االنتصار إلى ّ
تح ّول املامرسة النقدية العربية
الرسديتينْ اللتينْ كُ ِتبت وفقَهام
وإنساني،
وح ٍّر
ارتضتها ذائق ُة ُحكّا ُم جدي ٍد ُ
ّ
إىل شكل من أشكال «االعرتاف»
سابقتُها و
النص إىل فضاء
النقد وحكامئه وعلامئه.
ال َك َنسيِِّ ؛ يدخل ّ
والخروج من قاعات
القراءة ،ويجلس صاغرا قبالة
وإن من أسباب فساد عالقة
الح ْشر الجامعي
َ
الناقد (له فه ٌم مجرو ٌح ملنهج
الناقد بالكاتب ما يعود إىل
ّما) ليعرت َِف له بذنوبه الفنية
أمرين :أولهام استمراء الكاتب
وبروتوكوالتها
وال ّدالليّة أمالً منه يف التط ّهر
لوقع سياط الناقد عىل كيانه
اإلبداعي وضُ عف نزوعه إىل المتعالية على معيش منها .إالّ أ ّن «طُهريّة» املناهج
ّ
الغربية ال يجب أن تُخفي ع ّنا
التح ّرر من سلطته ،وثانيهام
األفراد والنزول
ما تشهده من رصاعات بينيّة
قوة الناقد العالئقية عىل شَ كْم
ّقلم أ ّي مبدع يُبدي عصيانه إلى شوارع الكتابة
ح ّولتها إىل ما يشبه الكنائس؛
حيث يسعى كلّ منهج منها إىل
عليه .وقد ساعد هذا الوضع وميادينها الحقيقية
تفنيد وجاهة املناهج األخرى
عىل أن يحتلّ الناقد يف متخيّل
يك يُثبت وجاه َة تص ّوراته ،ويك يُشيع بني الناس أنه
أغلب الكتّاب العرب صورتينْ :صورة أوىل ظاهرة
الحق التأوي ّيل .وما عىس أن
و ُم ْصط َن َعة يتجلىّ فيها كائنا مق َّدسا بأثواب راهب أو
الوحيد الذي يهدي إىل ّ
ٍ
خطابات ٍ
ألناس
تكون املناهج يف مجال الرسد غري
بعاممة دا ٍع يعلم ما بني أيدي الكتُّاب من معنى وما
ي ّدعون قدرة الكشف عن معاين الروايات ليُخفوا بذلك
خلفهم ،ويتو ّجب أن تُق َّدم إليه الهدايا وتُكتَب فيه
عج َزهم عن كتابتها؟ أمل ينرش جريار جينيت ،وهو
املدائ ُح واألذكا ُر خوفا منه ورهبة ،ويَ ْسكت الجمي ُع
أحد منظّري السرَّ دية الحديثة ،كتابًا بعنوانٍ ف ٍّج هو
إذا تكلّم هو حتى ال تُصيبهم لعنتُه أو يلتهم قلوبَهم
« »Bardadracوناله فيها فشلٌ «حكايئ» كب ٌري ،فهل
الصغرية النيّئة ويُح ّول قصور معانيهم إىل قبور مظلمة
من القراء َمن سمع بهذا الكتاب؟ أمل يتم َّن روالن بارت
يُرشف عىل نوبات التعذيب فيها عفريت أقرع ،وفق
أن يكتب رواية بعنوان « »Vita Novaوطالت أمنيته
تخويفي عن عذاب القبور .ويف
ما يشاع من تص ُّو ٍر
ّ
ومل تُحقَّق حتى ساعة وفاته؟
الصورة الثانية ،وهي صورة خفيّة وحقيقيّة ،يظهر
علينا أن نعي بأ ّن كلّ منهج إمنا هو وليد بيئة ثقافية
الناقد دكتاتو ًرا يحكم معاين النصوص بالق ّوة ،وحني
مع ّينة ،وحينام يصل إلينا مرت َجام فإ ّن الرتجمة ال
تستعيص عليه تلك النصوص وتتم ّرد عىل سلطانه
النقد ّي بسبب ِ
تصفّيه من ثقاته ،بل هو يصل بأزمات واقعه وتاريخه
ضعف آالته القرائية تراه يستجلب لها
وأحالمه التي تختلف عن أزمات واقعنا وتاريخه
مرتزقة من املناهج الغربية ليسكت أصواتَ معانيها
وأحالمه ،ومن ث َّم فقلّام يصدق منهج يف فهم نصوصنا،
ويز ّج بها يف سجون معانيه.
وإذا افرتضنا أنه فَ ِه َمها فلن يكون فه ُمه لها إال عرب لَ ِّيه
وبنا ًء عليه ،بدا املشهد النقد ّي األد ّيب يف أزمة حبىل
ألعناق معانيها وإجبارها عىل قول ما ال تنوي قوله.
بتق ّرحات كثرية ،حيث استغلقت ألفاظ النقّاد
ولعلّ من خلوص املناهج النقدية لبيئاتها الثقافية ما
واستغربت دالالت كتاباتهم وكرثُ جفافُها حتى باتت
كان من حال املنهج الشكالين ،فهو مل يظهر بسبب
النصوص اإلبداعية بالنسبة إليهم أرضً ا للتجريب
احتياج النصوص إليه احتياجا فنيا وإمنا ظهر بسبب
واللعب عىل ذقون معانيها ،ومن ث َّم فقد النص
سياق فكري معلوم جعل نقّاد تلك النصوص األدبية
النقدي جمهوره ومل يبق له إال نفر من النخبة النقدية
يفضِّ لون البحث يف أشكال النصوص دون الحفر يف
دالالتها در ًءا منهم ملخاطر التصادم مع نظام االتحاد
السوفيايت الشمويل الذي مل يكن يرىض وقتذاك من
املعاين إال مبا يخدم أيديولوجيته.
ال يعني قولنا هذا رفضا منا للمناهج ،وإمنا هو دعوة
إىل الوعي بفلسفاتها وبحدودها اإلجرائية ،ويف زعم
الكثريين أ ّن املنهج هو الذي يعيش من النصوص ،وهو
النص اإلبداعي إىل
يحتاج إليها ل ُيثبِت ِصدقَه وال يحتاج ّ
منهج ليثبت أدبيتَه ،وهذا ما مل يأخذه الناقد العر ّيب
يف حسبان مامرسته النقدية ،حيث اختار أن يكون
ُموظ ََّف معرفة عالِمة ،بكل ما تعنيه الوظيفة من
التزام بإنجاز مها ّم معلومة ُمس ّيجة مبحاذير صارمة،
وكلّام أخلص لوظيفته وآمن بأوهام بهجتها املعرفية
ودافع عن قوانينها برشاسة امل ُؤ َّجرين كلّام نال رضا َء
مؤسسة النقد التي تؤ ِّج ُره وكُ ِتب يف سجالّتها من
ّ
الناقدين .والحر ّي بنا التذكري به يف هذا الشأن هو أننا
مل نعد نلفي يف املنجز النقدي العريب الحديث حقيقة
النصوص وما يعتمل فيها من معنى ،وإمنا رصنا نقف
فيها عىل حقيقة آراء النقاد ،وهو ما ميكن معه القول
إ ّن الكتابات النقدية ،يف أغلبها العا ّم ،ميكن أن متثّل
ع ّينات تشخيصية ألمراض النقاد النفسية والثقافية
واالجتامعية وذلك من جهة ما تكت ّظ به من نوايا
قرائية ُمسقَطة عىل النصوص سواء أكانت تروم مد َحها
أم ذ َّمها.
ويف خض ّم هذا الرصاع الحا ّد بني ما يُس ّمى ثورات تنزع
إىل تأسيس وعي حضاري جديد وما يُس ّمى ثورات
مضادّة تروم تكريس السائد وتجميله ،فإ ّن النقد
العريب الراهن مدع ّو اليو َم إىل إجراء مراجعة حادّة
ومؤملة ،وإىل االنتصار إىل كلّ جدي ٍد و ُح ٍّر وإنسا ّين،
والخروج من قاعات ال َحشرْ الجامعي وبروتوكوالتها
املتعالية عىل معيش األفراد والنزول إىل شوارع الكتابة
وميادينها الحقيقية حيث حرار ُة اإلبداع تُذيب مرارة
الواقع ،وحيث املعنى يتشكّل جميال يف الهامش
واألطراف بروح تفاؤلية مكتنزِة برغبة يف االنتصار
عىل املك َّر ِس بجميع قداساته .بل إن النقد مدع ّو إىل
محاورة مد َّونته األدبية واالنفتاح عىل جميع املناهج
وجميع الفنون والعلوم انفتاحا ُح ّرا ال يخالطه الرضوخ
إلكراهاتها وتعاليمها .ومتى فعل ذلك ،يكون مالكا
لزمام نفسه ،ولزوايا نظره ملفردات األشياء واألحياء
بكل ما فيها من معانٍ ورموز .ومن ث َّم يغادر عادة
تقويل النصوص إىل فع ِل تأويلها ،ويتح ّول من كتابة
اغتصاب ّية ومعيارية جافّة إىل كتابة إبداعية جديدة
تنهض عىل دعامة نصوص أخرى يف الشعر والرواية
والقصة وغريها وتلوذ بها سبيال إىل بناء أدبيتها ،ويصري
قادرا عىل التخ ّيل عن شغفه باستحضار مقوالت الرسد
وإسقاطها عىل النصوص ،وقادرا من ث َّم عىل إبدا ِع
معنى له جدي ٍد وبِك ٍر تكون عجينتُه معاين النصوص
التي يشتغل عليها ويكون ماؤها ثقاف ُة الناقد وخرباته
نصا إبداعيا راقيا
الحياتية ما يجعل النص النقدي ّ
نص إبداعي راقٍ .ومتى تحقّقت للنقد
مكتوبا عن ّ
هذه الثقافة وآمن بها ،أصبح جنسا مثل باقي أجناس
الكتابة األخرى ،وحاز عىل أهلية الحضور يف حقول
اإلنتاج اإلبداعي ،ولن يعود مبقدور موظَّفي املعرفة
«املنهجية» مبُتعالياتها النظريّة (أولئك الذين يحبّذون
صفة :علامء النقد ،وال ينفكّون ير ٍّوجون لِ ِملَّ ِتهم)
الخوض فيه إال َمن كان منهم مبدعا أصال ،أي ينتمي
إىل عُماّ ل النقد ال إىل علامئه وسالطينه.
11
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
كالب الحراسة المعاصرة أو الثقافة المسعورة
خالد الهداجي
تتعدد تعريفات املثقف ويلتبس املفهوم خاصة يف التاريخ املعارص حيث مل يعد
املثقف كام عرف يف العصور الوسطى بأنه موسوعة من املعارف ومصدر للحكمة
ومرجع نظر للجميع وخاصة للعامة ..نحن إزاء التغريات املعارصة ال ميكننا تحديد
تعريف للمثقف بشكل نهايئ وواضح وحتى األدوار التي ميكن أن تنسب إليه
تبقى غامضة وغري محددة متام كالتباس مفهوم الثقافة بصفة عامة .نحن يف
زمن التخصص والنسبية يف زمن التفكري وإعادة التفكري زمن التغريات املتسارعة..
ميككنا أن نالحظ أن مراكز البحث والدراسات ولجان التفكري قد عوضت املثقف
الفرد وأزاحته عن مركزيته .مل يعد للمثقف الواحد من أهمية كام كان يف املايض
اليوم نتحدث عن فرق البحث وتششت مجاالت الثقافة وتنوعها لكننا سننظر
إىل املوضوع من خالل مجاالت الثقافة التي لها عالقة بالسلطة /الدولة وبسلطة
الثقايف يف الدولة ميكننا اإلشارة هنا إىل أن الدولة أيضا فقد مركزيتها السلطوية
يف ظلّ ما يشهده العامل من انفجار الحركات االحتجاجية والرصاعات العرقية
والحروب األهلية والطائفية التي انفجرت بعد ما اصطُلح عىل تسميته بالربيع
العريب حيث ميكننا أن نرى يف الدولة الواحدة مراكز مختلفة ومتناقضة للسلطة
والسلطة املضادة حيث ال ميكننا حرص كيفية توظيف السلطة لثقافة معينة،
أي هل الثقافة املضادة لسلطة ما بريئة من أنها خاضعة إىل سلطة أخرى فمثال
يقف عديداملثقفني العرب إىل جانب الثورة السورية ضد سلطة بشار األسد
بعنوان االنتصار للشعب والثورة والحرية لك ّن هؤالء املثقفني هل هم أبرياء من
االنتامء إىل ثقافة وسلطة أخرى فبعض املراكز الثقافية والقنوات الفضائية مقراتها
ومتويلها يقع بني االمارات والسعودية وقطر وينشط فيها عديد الخرباء األمريكان
واألوروبيني ..ويف املقابل نطرح نفس السؤال/املأزق حول املثقفني الذين يقفون
إىل جانب سلطة بشار يطرح السؤال حول عالقتهم باملؤسسات االيرانية والروسية..
هذه الصورة حول الرصاع اإلقليمي والدويل يف الرشق األوسط نجد لها انعكاسها يف
رصاع املثقفني ومواقفهم وأفكارهم ..هل هي قناعات أم هم مثقفون مأجورون
يؤدون وظيفة ملصلحة أحد أطراف الرصاع ..إنه رصاع ثقايف عىل أشده إىل درجة
يفقد فيها املتقبل بوصلة الفهم ويكتفي باالستهالك فعىل سبيل املثال نجد عديد
النرشيات األدبية والثقافية الفنية الخليجية التي تجوب العامل العريب فيها عديد
اإلنتاجات لكبار األدباء واملفكرين املعارصين من العامل العريب وحتى من العامل
تقودنا إىل االنبهار فال نطرح السؤال التايل من ميول هذه اإلصدارات وملاذا خاصة
أنها تأيت إلينا بأبخس األمثان ناهيك عن التأمل يف مضامني هذه اإلصدارات
والخطاب الذي تحاول ترويجه وإليك هذا االختالف يف املصطلحات املستعملة
حول املوضوع الواحد فلو نتأمل ابلمفاهي َم التي يستعملها كتاب النرشيات التي
تصدر من قطر حول مرص لوجدنا أغلب الكتاب يستعملون مصطلح «االنقالب
العسكري يف مرص» أما ما يستعمله كتاب اإلصدارات اإلماراتية مثال أو السعودية
سنجده «الثورة الثانية» ..إنه رصاع غري مريئ بني قوى رجعية تحاول السيطرة
عىل/أو صناعة رأي عام عرب مفكّرين ومنظرين يحظون مبكانة علمية أو ثقافية
مرموقة كاملفكر كعزمي بشارة الذي يعترب رأيه معتربا لدى جمهور واسع من
االنتلجنسيا العربية ولدى فئة الشباب العريب املثقف لكن من يستطيع أن
من
يلمح إىل األجندا التي أصبح يتحرك وفقها هذا الرجل،
يستطيع أن يتشمم رائحة البرتودالر يف خطاباته ..ولنا
أن نصفّق كثريا لسالمة كيلة وهو يحارض حول تجديد
اليسار وإعادة الروح الثورية والدماء الجديدة له لينهض
اليسار من جديد ويقوم بدوره سننبهر بهذا الخطاب
الثوري ..لكن من سيعلم أن سالمة كيلة يكتب لنا من
جامعة أمريكية ومركز دراسات أمرييك بقطر وأن كل
مايصدره هذا املفكر يت ّم طبعه بآالف ال ّنسخ ويوزع يف
كامل الوطن العريب بتمويل قطري ..لقد الحظنا يف املدة
األخرية أن عديد املثقفني واملفكرين واملدونني واإلعالميني
وحتى األدباء والشعراء بدؤوا ينهضون من خمولهم
وينتجون ويتحركون بشكل مكثف وعىل عديد الواجهات.
قد نفهم أن الربيع العريب أعاد إليهم األمل وأيقظهم من
سباتهم ويأسهم فتحركوا -رمبا -يف محاولة منهم للتأثري
والقيام بأدوارهم التنويرية والتثقيفة .قد ينطبق هذا
األمر عىل البعض منهم ممن كانوا من قبل عىل نفس
املبدإ واملوقف والخطاب وهؤالء قلة تتامثل مع الصوت
األقيل للقوى االجتامعية واليسارية والقومية يف العامل
العريب التي ليست لديها ارتباطات بجهات أو
مؤسسات أو أجندات خارجية يبقى هذا
الصوت خافتا ..لكن هؤالء الذين تحولوا
فجأة إىل شعلة من النشاط
يتنقلون بني العواصم و
املطارات بشكل مكويك
اللقاء محارضات
واملشاركة يف ندوات
رخاوة السلطة وتيه المثقف
كمال عقيلي
يبدو أن التأمل يف الحالة العربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا سينتهي بنا إىل
استنتاجات ونتائج صادمة ومفزعة تستحيل معها عملية التفكري أو التحليل إىل
محاولة يائسة وخائبة تحمل بذور فنائها وانتحارها منذ البدء .والحالة العربية
املذكورة آنفا ليست معطًى معلقا يف الفضاء وخارج الزمن والتاريخ إنها شكل
من أشكال تعاطي اإلنسان العريب مع مشكالته وقضاياه وأسئلته .ومن خالل هذا
التعاطي ميكن تنزيل اإلشكالية التي نروم التصدي لها أال وهي املثقف والسلطة
والتي كانت مثا َر جدل ومشغالً من املشاغل استأثر بكتابات وتحاليل الكتاب
والباحثني العرب.
وقد تخرينا أن ننظر يف هذه اإلشكالية بطريقة مختلفة فيها قدر من املجازفة
واملخاطرة التي تقطع مع النظرة االسرتجاعية املتحصنة بالنصوص واملتون أكرث
من تسلحها باملغامرة وال َجسارة وسلك الطرق الصعبة املليئة باألشواك وعندما
أرشنا يف التمهيد إىل الحالة العربية الراهنة فإن تلك اإلشارة تأخد بعني االعتبار
«الراه َن» أو «املا-يحدثُ » أو «اآلن والهنا» ويف هذا املركح أو عىل هذا املهاد
سنقوم بترشيح إشكالية السلطة واملثقف ومقاربتها وتقليب النظر فيها أي معنى
للسلطة يف الزمن العريب والحالة العربية الراهنة؟
وإذا تساءلنا يف هذا املفصل من مفاصل هذه الورقة عن معنى السلطة فإننا
مجسدة يف مفهوم الدولة من
سنقترص عىل السلطة مبعناها السيايس أي السلطة ّ
جهة كونها الجهاز الجامع الذي تصهر بداخله كل االختالفات والتاميزات معدال
وكابحا وميزانا.
ذلك أن الدولة يف أحد أدوارها املهمة والخطرية هي الوسيط أو الباين للمشرتك
ولنقاط االلتقاء أو االئتالف بني الطوائف والفئات والجهات واألعراق واألجناس
وإذا تأملنا حالة الدولة يف هذا الزمن العريب املوحش فستستوقفنا نقاط استفهام
عديدة من خالل أمثلة عديدة لعل أبرزها (لبنان -العراق -سوريا -اليمن -
ليبيا).
وهذه األمثلة هي التي تفرض علينا أو تجربنا عىل التساؤل عن مفهوم السلطة
الذي بات مه ّددا بالتاليش والتفتت والتحلّل من خالل خلق د ّمل أو حفر يف
جسد الدولة لتستنفر قواها وجهودها لردمها ومعالجة هذه العاهات أو هذه
التشويهات املتمثلة أساسا يف الحالة الداعشية أو اإلرهاب.
ها هنا تحديدا كان عىل املثقف أو يفرتض ذلك أن يغري اسرتاتجياته ومواقعه
الدفاعية أو الناقدة للسلطة ويبدو أنه واقع يف منطقة املا-بني أو منطقة الرتدّد
واالرتباك املضني والقاتل أحيانا كثرية.
إقامة المثقف في منطقة االرتباك
يبدو أن قدر املثقف يف الوطن العريب هو اإلقامة يف مناطق رخْوة لزجة أو
السري عىل رمال متحركة فهو من جهة مل ينته ب ْع ُد من إجبار السلطة عندما
كانت سلطة عىل التصدي لألسئلة التي ظلت معلقة ومؤجلة أال وهي كيفية
التداول السلمي عىل الحكم والتوزيع العادل للرثوة وإقامة مساحات واسعة
لحرية التفكري والتعبري واإلبداع لتظهر عىل السطح مشكالت مستجدة متمثلة يف
اإلرهاب املع ْومل أو ما ُس ّم َي يف بعض األدبيات السياسية بالفوىض الخالقة هذه
الفوىض التي ق ّوضت مفهوم الدولة والسلطة معا وفتّتَتْه إىل أن أضحى عبارة عن
هباءات أو ذ ّرات تذروها الرياح.
إذ كان لزاما عىل املثقف أن يغري مت ْوقعه وطرائق نظره وتعاطيه مع السلطة ألن
الداعيش الداهم يتهدد الكيانني كيان السلطة وكيان املثقف مجتمعني
الخطر
ّ
وحينئذ تحولت السلطة واملثقف املعارض أساسا إىل حليفني اسرتاتجيني -خاصة
يف الحالة السوية -هذا التحالف حتمته العواصف التي تهدد كيان الدولة اإلطار
الحاوي والجامع لكل من السلطة واملثقف وخري مثال عىل ذلك صاحب كتاب
ودورات تكوينية وغريها من االنشطة التي لو بحثنا ع ّمن ميولها لوجدنا أن
الجهات التي متنح السالح ملا يُس ّمى بالثوار يف كل من سوريا وليبيا وراء ذلك
ليبقى نفس السؤال قامئا هل متويل الثورات بالسالح واملثقفني باألموال أمر
مجا ّين؟ هل كل هذه األموال التي ترصف حقا لتطبيق الدميقراطية يف العامل
العريب؟ يبدو هذا السؤال غاية من السذاجة والبالهة ألن من يرصفون تلك
األموال هم من أنظمة ملكية وراثية مازالت تطبق الحدود وقطع األيادي
والرجم ،فمن املضحكات أن تقرأ املركز التنموي القطري األمرييك للدميقراطية
يف العامل العريب أو أن تقرأ العاهل السعودي يعرب عن تفاؤله بنجاح االنتقال
الدميقراطي يف تونس أمر مضحك حقا لكن املهزلة األكرب أن نجد عديد املثقفني
من يشاركون يف هذه املهازل ومبثل شعارات كهذه دون أن يخجلوا من
أنفسهم .إنهم ينخرطون يف أجندا أمريكية ويقبضون من دفرت صكوك
خليجي .ولنفهم رشاسة هؤالء يف النشاط الفكري والثقايف املكثف علينا
أن ننظر إىل بطونهم التي تكرشت وإىل سياراتهم الفاخرة التي يقتنونها
وإىل أرصدتهم البنكية املتضخمة ،يف زمن النيوليربالية املتوحشة يت ّم
تسليع كل يشء حتى الخطاب الثقايف أصبح وجبة رسيعة لالستهالك..
الصحايف الفرنيس «بول نيزان»
ففي سنة 1932أصدر الفيلسوف و ّ
كتابا عنوانه «كالب الحراسة» تنديدا مبثقفي عرصه الذين كانوا حر َاس
النظام القائم تحت غطاء املوضوعية والحياد ،ففي هذا الكتاب
ح ّدد مالمح الخطاب الثقايف الثوري املناقض ألطروحات
كالب الحراسة ويف سنة 1997أصدر املفكر والناقد الفرنيس
«سريج حليمي» كتاب «كالب الحراسة الجدد» بني فيه مالمح
املثقفني الجدد يف الزمن املعارص الذين تستعملهم مؤسسات
السيطرة لبسط وترويج ثقافتها وهم «اإلعالميون والصحافيون
واملحلّلون والخرباء »...وقد ت ّم تحويل هذا الكتاب إىل فيلم وثائقي
من إخراج «جيل بالباسرت» و«يانيك كريغوت» وهام صحافيان مهتماّ ن
بنقد اإلعالم وقد بينّ الفيلم كيف تت ّم صناعة املعلومة وتسليعها
وتوزيعها لتصبح خربا .فاإلعالم مل يعد نقال لألحداث والوقائع بقدر ما
أصبح بضاع ًة تصنع يف مراكز املال والسيطرة وبتقنيات حاذقة تجعل
منها وكأنها حدث حقيقي ويتعامل معها املتلقي عىل أنها
ويقيني ،بحيث يصعب اكتشاف أنها مفربكة
حقيقي
حدث
ّ
ّ
بدقّة متناهية وحتى من يعرفون أنها كذلك يعملون عىل
ترويجها وبطريقة مسعورة تزداد رشاس ًة كلام ارتفع
األجر الذي يقبضونه!
«من الرتاث إىل الثورة» «الطيب تيزيني».
ومن هذه الزاوية عنونّا هذه الورقات برخاوة السلطة وتيه املثقف ،التيه الذي
الغصة املا-بعدية ألن املثقف يف حال ضياع الدولة
يعادل الشقاء األنطولوجي أو ّ
السلطة أو تفتتها وافتقارها إىل رقعة التسلط لن يجد م ّربرات لوجوده أو نقده أو
معارضته حينها يصبح أشبه بذلك املقاتل الروماين الذي أحرق قرطاج ث ّم رشع يف
البكاء كمن يبيك فقدا عظيام متسائال يف مرارة وماذا بعد قرطاج ؟
يبدو أن هذا السؤال ما ّ
انفك يخامر أذهان املثقفني العرب العضويني الذين
بدؤوا يف استشعار مدى خطورة ضياع الدولة وتحللها ورمبا انخرطوا يف صياغة
اسرتاتجية دفاعية مناضلة أو مقاومة مع مختلف الفاعلني السياسيني الستعادة
مفهوم الدولة السلطة وبريقه وألقه.
السلطة في الحالة التونسية:
كان الرئيس الباجي قائد السبيس يلهج يف كثري من أحاديثه وخطاباته برضورة
استعادة الدولة لهيبتها أو وجوب استعادة الشعب لرضورة احرتامه للقانون
الضامن لعدم متدد رقعة أو مساحة العنف والعبث ويبدو أن كثريا من املثقفني
تج ّوزًا سايروه يف هذا املطلب إن مل يكن ذلك ترصيحا فقد كان موافقة صامت ًة
يف ما يشبه االجامع السكويت يف الحالة الفقهية ولكن القضية املحورية يف تقديرنا
والتي كان فيها املثقفون أو املعارضون التاريخيون للسلطة إيجابيني أو غادروا
عىل األقل املنطقة السلبية واالنتظار هي كيف تكون السلطة عاملة ال جاهلة.
وكأن املثقف الناقد للسلطة يف تونس يستنهضها ويستنفر قواها يكْ تكون سلطة
جديرة بسلطتها أي عاملة ال جاهلة أو تقيم يف أزمنة فكرية تغطيها األغربة ال أن
تظلّ السلطة تتخفّى أو تتذ ّرع بتدبّر الشأن اليومي وإيجاد إجابات أو حلول
للمشكالت أو املطالب االجتامعية امللحة.
12
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
في التغيير الجامعي المنشود
في عالقته بالتغير االجتماعي الجاري
منير السعيداني
من آثار ما حدث يف تونس بعد 17ديسمرب 2010تغي ٌري يف
مواقع عديد الفاعلني االجتامعيني ويف أدوار عديد املؤسسات
االجتامعية .كان التغيري السيايس واالجتامعي والفكري
ومازال عميقا وشامال وحادا ورسيعا .ويخطئ من يعتقد
أن الحال سرتكن إىل الهدوء قريبا .نحن مازلنا نعيش أطوار
مخاض عنيف واضطراب كبري .مواقع الفاعلني السياسيني
تتغري ال فقط عىل وقع نتائج االنتخابات املتك ّررة ومتقلبة
النتائج ولكن عىل وقع انشقاقات األحزاب وانقسامات بني
كتل فئوية متشظية داخل األحزاب ،وبروز متواتر لتشكالت
سياسية غري تقليدية شبابية ومنشقة عىل الغالب .ليس هذا
مقصورا عىل حزب دون آخر بل هو عام وشامل لألحزاب
الحاكمة ولتلك التي تحتل مواقع املعارضة ،متقلبة األوضاع
هي أيضا وللتشكالت السياسية غري التقليدية .مواقع
الفاعلني الجمعياتيني تتغري هي أيضا بني منظامت حكومية
وغري حكومية وذات ارتباطات حزبية سياسية وإيديولوجية
داخلية وخارجية موزّعة بني البلدان والقارات من الخليج
العريب حتى الواليات املتحدة األمريكية مرورا برتكيا
ومختلف البلدان األوروبية ذات التأثري الوازن .وقد زادت
جائزة نوبل التي أسندت مؤخرا إىل االتحاد العام التونيس
للشغل واالتحاد التونيس للصناعة والتجارة والصناعات
التقليدية والهيئة الوطنية للمحامني التونسيني والرابطة
التونسية للدفاع عن حقوق اإلنسان من «حساسية» موقع
مثل هذه املنظامت «الوازنة» ضمن الخريطة االجتامعية
السياسية التونسية من جهة ومن قنوات اتصالها أوشبكات ارتباطها بالقوى الخارجية ذات املصلحة يف تونس،
سواء أكانت تلك القوى عبارة عن حكومات أم مؤسسات
مالية واستثامرية أم واضعة للسياسات االسرتاتيجية ،عىل
املستويات الدولية والقارية واإلقليمية.
يراجع هذا التغري ما يكاد يشمل كل ما استتب عليه أمر
الدولة ما بعد االستعامرية ،وليدة اتفاقية 1956التونسية
الفرنسية وترتيباتها ،يف تونس منذ ستني سنة حيث الميس الفاعلني ومنازلهم ومواقعهم وأدوارهم فحسب بل
وكذلك املؤسسات ،من جميع األنواع واألحجام .ولدى كل
تغيري اجتامعي مبثل العمق والح ّدة والرسعة والشمول
الذي كان يف ما شهدته تونس خالل السنوات الخمس
املاضية يكون املثقف إزاء تغيرّ يف مواقعه وأدواره ومنازله
االجتامعية املمكنة .إ ّن أمناط املثقفني التي كانت متثلها
بعض أطياف املد ّرسني الجامعيني صار بفعل التغيري الذي
كنا بصدده مدعوا إىل التنحي إزاء ترجرج ما كان يقف عليه
من أرضيات َوضُ ح أنّها مل تعد صلبة بالقدر الذي كانت
عليه .فالجامعي -املثقف املوايل للحزب -السلطة -ال ّدولة
(كان ينعت بـ«املنسجم») يجد نفسه اليوم أمام انقسامات
ال ُحكم اإليديولوجية والسياسية والحزبية واملصلحية وحتى
القبلية -العشائرية أو الجهوية .ولذلك مل يعد مبقدوره،
ملؤسسات الحكم ،أن يضطلع بنفس
إزاء التف ّجر الداخيل ّ
الدور الذي كان يضطلع به قبل ثورة 2010 17-12-
املتصلة حتى 14-01-2011وما بعده .الجامعي -املثقف
اإلسالمي املوايل اآلن للنهضة الحاكمة يبدو ،ظاهريا ،أهنأ
إزاء مسألة «االنقسامات واالنشقاقات» ولكنه يف الحقيقة،
وحتى يحوز ذلك الهناء ،يض ّحي مبا ميكن أن يكون «فكرا
حرا»ليشهد ،عاجزا أو منبهرا ،محبطا أو مستفيدا ،فعل
اآللة الحزبية الطاحنة وهي تُلزمه باالصطفاف وراء مواقف
حزبية تكتيكية فيها من املناورة السياسية أكرث مام فيها من
االستناد إىل زاوية نظر مخصوصة مبتكرة.ومام يزيد األمر
عرسا بالنسبة إىل الجامعي -املثقف اإلسالمي املوايل للنهضة
الحاكمة أ ّن سلوكها السيايس بالغ الحذر ومرتبص بأول
فرصة لقلب املوازين عن طريق ما أصبح يعرف ب«اللعبة
الدميقراطية» من دون تأكيد عىل أي مبدأ كان ،رغم ما يبدو
من «موافقات الشيخ» .ومل يكن لبعض الجامعيني -املثقفني
ممن التفوا حول املنصف املرزوقي بعد أن خرس انتخابات
2014يف تجربة «حراك شعب املواطنني» إال أن يقفوا عىل
انقسامات مريرة أسابيع قليلة بعد أن خاضوا أ ّول املناقشات
الحامسية حول «زواج ممكن بني فكر حر انشقاقي وإرادة
تغيري سيايس نزيه»كام قيل .حتى الجامعي-املثقف القديم
اآلخر الذي كان قبل الثورة « ُمعارضا للنظام» من موقع
دميقراطي أو حقوقي أو يساري ...يجد نفسه إزاء انقسامات
شبيهة مبا هو موجود يف الحكم الحايل ،مهام كان موقعه يف
شتى املعارضات متزايدة التشظي السيايس والفكري .ومن
نفض منهم يديه أو يكاد من «الفعل السيايس» املبارش ،ال
يكاد يقف عىل قرار بني االنخراط يف أو التعاون مع مراكز
و /أو مؤسسات بحثية محلية وعربية ومن بلدان أوروبية
والقبول أو طلب مساعدات مؤسسات مانحة أو ممولة
تابعة لألمم املتحدة و/أو أوروبية و /أو خليجية من جهة،
وبني إطالق مبادرات يف التعامل مع الشأن العام ينتهي
الوازن منها ،طوعا أو استيعابا ،إىل أيادي السلطان مثلام
كان عليه األمر يف «املؤمتر الوطني للمثقفني التونسيني ضد
اإلرهاب» ( 12أوت .)2014وقد ال يستثني هذا املشهد إال
ما كان من املشاريع ذات الطبيعة الفكرية من قبيل املجالت
الحامئة حول صيغة «مجلة ثقافية» («الفكر الجديد») أو
صيغة «مجلة فكرية» يضاف إليهام ،أو ال يضاف ،نعت
«مستقلة» («أفق»).
ال يتعلق بعض األمر هاهنا بطبيعة املؤسسات السياسية
املذكورة بوصفها مؤسسات للحكم أو للفعل السيايس مهام
كان موقعه من الحكم فحسب بل بالتعارض الكامن بني
طبيعة املواقع واألدوار واملنازل التي ميكن أن تسند إىل
املؤسسات وبني ما هو أقرب
املثقف ،أي مثقف ،ضمن هذه ّ
إىل طبيعة مه ّمة املثقف االجتامعية من ابتكار وتجديد
وإعادة بناء مرتاكم الجهد ومتتابع الحلقات .يف مثل هذه
األوضاع التي تعيشها تونس راهنا يكون الطلب االجتامعي
عىل األفكار املجددة البانية واملوجهة نحو املستقبل غامضا
وملتويا وغري نقي ألنه يقع بني اسرتاتيجيتني متنافرتني هام
حاجة األحزاب والجمعيات واملنظامت واملؤسسات امل ُك ّونة
للنظام السيايس إىل أقىص درجات الرسعة السطحية يف
االستتباب والسيطرة عىل التعارضات والتشققات التاريخية
االجتامعية متجددة الربوز من جهة ،وحاجة املجتمعالعميق إىل أقىص درجات الرصانة الوئيدة يف مراجعة املناويل
الفكرية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية القامئة .يتوزع
الطلب االجتامعي عىل املثقف يف سياق التحوالت الشبيهة
بالتي تعيشها تونس بني هذين االسرتاتيجيتني بحيث يكون
إيجاد مدى للمواءمة بني مواقع وأدوار ومنازل تستجيب
لكليهام يف آنٍ م ًعا مستحيال.
بقدر محدود ،أفلتت الجامعة التونسية بعد الثورة من قبضة
التحكم الدكتاتوري يف تسيريها وإدارتها وتنظيمها من جهة
ويف إنتاج املعرفة فيها والتعريف بها واستغاللها من جهة
أخرى .تعيش هي أيضا وقع هذا التغري التي كنا بصدد بعض
وجوهه .آليات التسيري الجديدة التي تعتمد عىل الغالب
عىل انتخاب املسؤولني األول عن املؤسسات اآلكادميية
والبحثية من كليات ومعاهد عليا وصوال إىل الجامعات
وهياكل البحث (التي تُتبوأ فيها املسؤوليات األوىل عن طريق
«اختيار داخيل» مييل إىل التوافق التفاويض وإن كان عسريا
أحيانا) أثبتت أن باإلمكان االستجابة إىل الطلب االجتامعي
عىل الجامعي -املثقف بطريقة فيها شوط ال يستهان به من
االستقاللية عن السلطتني السياسية واإلدارية .كان ذلك يف
مثال تكوين رؤساء الجامعات لندوة مستقلة عن السلطة
السياسية وعن السلطة اإلدارية للوزارة ،ندوة منتظمة
االجتامع تقريبا تلقائية التعهد بإصدار مواقف من الشأن
العام وحرة التدخل إىل مدى معينّ يف الفضاء العمومي
حيث نصص بيانها الصادر بتاريخ 31-01-2015عىل تفعيل
مقرتح إداث «ندوة رؤساء الجامعات» باعتبارها «هيئة
مستقلة متثل هيكال للتفكري يف وضع منظومتنا الجامعية
واستنباط الحلول املناسبة ملشاكلها والعمل عىل تنفيذها من
أجل إصالح هذه املنظومة وتطويرها» (أمىض البيان رؤساء
جامعات جندوبة ،املنستري ،سوسة ،قفصة ،قرطاج ،تونس
املنار ،القريوان ،منوبة ،تونس ،الجامعة االفرتاضية) .ولكن
رغم كل هذا الجديد يف موقع الجامعيني وصلتهم بالشأن
العام فإن البنية الكولونيالية للمعرفة هي اإلشكال الذي مل
يت ّم حتى البدء يف تصور كيفية مراجعته بل إمكانيتها.
اإلقليمي لل ّدول
مفهوم «املعرفة» الذي اعتمده املكتب
ّ
ومؤسسة مح ّمد
العرب ّية /برنامج األمم املتّحدة اإلمنا ّيئّ ،
بن راشد آل مكتوم يف تقرير املعرفة العر ّيب األ ّول للعام
« 2009نحو تواصل معر ّيف منتج» ،وتقرير املعرفة العريب
للعام « 2014الشّ باب وتوطني املعرفة») مثال يدل عىل أنها
تتك ّون من البيانات واملعلومات والباراديغامت واألفكار ،أو
ما اعتربه التقريران ‹البنى الرمزية› التي يحملها اإلنسان أو
ميتلكها املجتمع أو يقيمها ،يف سياق تاريخي مح ّدد ،بحيث
ومؤسسيا ،يف كافّة مجاالت النشاط
تُو ّجه سلوك الناس ،فرديا ّ
السلع والخدمات ،ويف نشاط املجتمع
اإلنسا ّين ،يف إنتاج ّ
الخاصة.
السياسة ويف الحياة ّ
املدين و ّ
سيايس
وحينئذ ليست بنية املعرفة نتيجة تص ّور إدار ّي
ّ
يف كيف ّية تنظيمها بقدر ما هي نتيج ٌة أكرث مبارشة لتص ّور
عالقتها باملجتمع الذي ينتجها من جه ٍة ومبا يَ ُروج من
معارف يف محيط ذلك املجتمع الجغرا ّيف والحضار ّي والثقا ّيف
والفكر ّي املبارش وغري املبارش ث ّم لعالقتها (املعرفة) بالوجهة
السياسات العموم ّية املنظِّمة
التي يت ّم فيها استخدامها يف ّ
للعيش املشرتك بني أفراد املجتمع ومجموعاته .فالنظم
التص ّورية للمعرفة واملِ ْخيَال البانيِ لعالقة الجامعة مبجتمعها
الحق يقال ،مبثل هذا
يف تونس موروث عن بنية مل تكن ،و ّ
االكتامل والوضوح زمن االستعامر الفرنيس املبارش .ولكن ما
ت ّم بناؤه خالل حكم الدولة ما بعد االستعامرية من أنظمة
معرفية باملعني املادّي للكلمة (البنية املاديّة والتّنظيم ّية
والتّسيرييّة واملُتَصرَ ِّفة يف إنتاج املعرفة وامل ُتدبِّرة لكيفيات
العلمي
ترويجها وتوزيعها واستعاملها) وباملعنى املعر ّيف -
ّ
اإلبستيمولوجي للكلمة (املخيال الباين للمبادئ التي تقوم
ّ
عليها املعرفة وال ّناظم لعالقتها بال ّنظام الثقايف الوطني) يتّسم
العاملي لسوق املعرفة .يتبني
ِب َك ْونه واق ًعا تحت أثر التّقسيم
ّ
ذلك األثر يف الهيمنة العددية للجامعات التّعليمية الناقلة
للمعرفة الجاهزة يف مك ّونات املنظومة الجامعية التونسية
عىل حساب الجامعات البحثية امل ُحدثة للمعرفة املتجددة
كام يدلّ عليه دليل مخابر البحث ووحداته الصادر يف نرشته
األوىل سنة 2015يف صيغة أ ّولية عن وزارة التعليم العايل
والبحث العلمي والذي ال يحيص (امللحق ،6صص )89-90
إال 38مركز بحث أنشئت يف ما بني 1893و .2013كام
يتبني ذات األثر يف «ميزان قوى» لغات التدريس واألفكار
واإلنتاج وبراءات االكتشاف أو االخرتاع والتنظري واملفاهيم
الساري يف مختلف
والتص ّورات .ويكفي أن نعود إىل املنطق ّ
التّصنيفات اإلقليميّة والقا ّرية والدوليّة أو العامليّة للجامعات
السوق
حتّى نرى أ ّن ما هو متوفّر من البضائع والخريات يف ّ
الكون ّية للمعرفة ُم َص ّنع ومصنوع يف مراكز إنتاجها الكربى
يف ما وراء بحارنا وأن املكافآت املادّية واملعنويّة وال ّرمزية
املسندة إىل ما ينتج هنا ،ليست إال فتاتا مماّ ميكن أن يدره
إنتاجه لو كان ت ّم هناك .ولسنا ،نحن التونسيني أو املغاربيني
أو العرب مثال ،بوحيدين يف مثل هذه الحالة الكونيّة وإن
كانت اسرتاتيج ّيات نقضها يف جنوب القا ّرة األمريكية أو
اإلقليم الهند – صيني من القا ّرة اآلسيويّة أو جنوب القا ّرة
األفريقية مثال أكرث تقدما مماّ نحن عليه من الجرأة عىل
تص ّورها وتنفيذها .قد يكون املوقع من سوق املعرفة الكو ّين
نوعا من املوروث غري القابل لل ّنقض ب ُيرس ،ولك ّن املوقع ثم
السوق من جهة وإىل
املوقف من إخضاع املعرفة إىل منطق ّ
رصف من جهة ثانية وإىل منطق التقسيم
منطق التّسيري املت ّ
العاملي ملناطق نفوذ املعارف والثقافات واللغات من جهة
أخرى يجعلنا من ّيز بني أقاليم ومناطق وأوطان وبلدان تشهد
استحكاما الستعامريّة املعرفة وإعادة إنتاج لها وأخرى تشهد
13
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
ت ََصا ُع َد الاستعامرية املعرفة ،سواء أكانت هذه الالاستعامرية
واقعا قامئا أم اسرتاتيجية متوخاة أم توقا مستقبليا.
ودون النظر إىل هذا ال ميكن أن نفكّر يف نقض حالة الطالق
املزدوج بني الجامعة واملجتمع يف تونس .لقد كان من نتيجة
إرساء نظام معريف واقع تحت أثر استعامرية املعرفة منذ بدايات
الدولة ما بعد االستعامرية يف تونس ،ذلك النظام الذي ينبني
يف كلّيته وجزئياته عىل موروث استعامري مركزي أورويب نافذ
يف لسان التدريس ومحتوياته وتص ّوراته وفلسفاته وموقفه
من التاريخ الوطني وذاكرته ومجمل األوضاع االقتصادية
واالجتامعية والثقافية ،أن استتب لعقود تجاهلٌ متبادل بني
الجامعة واملجتمع :جامعة أجربها النظام السيايس الذي أنشأها
وكذا النظام املعر ّيف الذي تب ّنته عىل تطليق مجتمع أدار لها
ظهره ومل يعد أفراده املنضوون فيها ،مع عائالتهم وجامعاتهم
االجتامعية القريبة ،يطلبون منها إال شهادات جامعية بأبخس
ما أمكن من الجهد ومل تعد مؤسساته
االقتصادية واالجتامعية وغريها تطلب
منها إال أنصاف مؤهلني لالضطالع مبهام
املؤسسات الجامعية،
التنفيذ .يف مثل هذه ّ
يبدو الجامعيون أقرب إىل أن يكونوا من
تقنيي املعرفة ومر ّوجي نسخها الدراسية
أو مردّدي ملخّصاتها املفقّرة بحيث يكونون
غري مرشّ حني إىل أن يك ّونوا منطا جديدا فريدا
من الجامعي -املثقف .وبالفعل ليس يت ّم
تخليق هذا النمط إال بإيجاد حلقات ربط
متكّن من وصل العروة ،وبأوثق ما أمكن،
بني الجامعة واملجتمع وذلك بأن يعاد
وضع مختلف مكوناتها الطالبية والبحثية
واآلكادميية والتنظيمية يف سياق ما يستجيب
لحاجة املجتمع العميق إىل أعىل تفاعالت
التداول االسرتاتيجي يف مراجعة املناويل
الفكرية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية
القامئة.
لعائداتها املمكنة وهو ما يستوجب من كلّ من يعتزم االنتظام
يف دروسها توظيف مق ّدرات معيّنة منها الزمن املستدام للرتكيم،
واملخاطرة ،واملجازفة الفردية ،وق ّوة رأس املال املعريف خاصة
والثقايف عامة وهو ما ال ميلكه املحرومون من كل ذلك .وقد
يكون هذا هو ما يفرس ميلهم ،بل إرصارهم عىل بناء اجتامعية
رصف يف املخاطر بطريقة مغايرة ملا تنشده
أخرى ،تتدبر أمرها وتت ّ
الجامعة أصال فيهجرونها أو يقلّ اعتبارهم لها أو ال يحرصون
هويّاتهم االجتامعية يف االنتظام فيها بحيث يزاولون بالتوازي مع
«زياراتهم» لها أيام االمتحانات خاصة ِم َه ًنا متقطعة وموسمية
ويتقلّبون فيها عىل وقع حاجتهم إىل املال وإىل توسيع شبكة
عالقاتهم وتركيم رؤوس أموالهم االجتامعية .من هذا املنظور
تبني مثل هذه الجامعة الفوارق االجتامعية -الثقافية وتعيد
بناءها عىل أساس هذا االفرتاق بني منطي اجتامعية مختلفني.
وعىل هذا األساس ،تبدو مثل هذه الجامعة يف جوهرها غري
دميقراطية ،باملعنى االجتامعي العميق للكلمة.
إن الربط بني «املسار االنتقايل
املجتمعي الشامل» و«التغيري
الجامعي» اللذين تشهدهام تونس
يظهر أننا يف سياق عايل املخاطر .يتعلّق
بعض تلك املخاطر مبظاهر عجز لدى
النخب السياسية الحاكمة يف إدارة
الشأن الجامعي ،ويتعلق بعضها اآلخر
بانعدام جاهزية األرسة الجامعية من
هيئة تعليمية وهيئة إدارية وطلبة
ملالقاة متطلبات جامعة تعيش هي
ذاتها تغريا حادا ورسيعا .وبالفعل،
وإزاء هذه املخاطر ال تُبدي الحركة
الطالبية مبكوناتها املختلفة إال حرصا
عىل تسجيل االنتصارات االنتخابية
رسيعة الزوال واالستفادة من املناورة
السياسية دون أي تخطيط اسرتاتيجي
يتمكن من تنزيل شعار مركزي من
قبيل «جامعة شعبية ،تعليم دميقراطي،
ثقافة وطنية» مثال إىل موضع الربمجة
العملية املمكنة أو حتى املحتملة .وإزاء
نفس املخاطر ال تبدي الحركة النقابية
ملدريس الجامعة التونسية إال حرصا عىل
إنفاذ اسرتاتيجية الترشيك أي تقاسم
األدوار بني ما تعتربه «هياكل متثيلية
بيداغوجية وعلمية وإدارية منتخبة
للجامعيني» ذات أحقي ٍة تص ّورية
وتسيريية كاملة من جهة وبني الهياكل
الوزارية املركزية واإلدارية الجهوية
(تابعة للجامعات) واملحلية (تابعة
للمؤسسات) .وإزاء نفس املخاطر ال
تبدي الهياكل الوزارية ال ّرسمية إال
حرصا متزايدا عىل التشبث بأقىص
ما أمكن من الصالحيات واملقدرات
التنفيذية ُمنفّسة عن االحتقان
الحادث ببعض إجراءات «ترشيكية»
و«تفاوضية» و«تداولية» تفضّ ل عىل
األغلب أالّ تكون ُمخرجاتها ذات صبغة
تقريرية .وليس من مكسب بعيد املدى
ممكن لتظافر هذه االسرتاتيجيات ،عىل
تعارضاتها الظرفية أحيانا ،إال توطيد
محتمل للعالقة بني الجامعة والسلط السياسية القامئة عىل
حساب توطيد مطلوب للعالقة بني الجامعة واملجتمع ،ودون
املساس مبا يتعلّق بسوق املعرفة ببنيتها التي ذكرنا وشبكة
عالقاتها التقليدية داخال وخارجا.
ال تبدي الهياكل
الوزارية ال ّرسمية
إال حرصا متزايدا
على التشبث
بأقصى ما أمكن
من الصالحيات
والمقدرات
التنفيذية
نفسة عن
ُم ّ
االحتقان الحادث
ببعض إجراءات
«تشريكية»
و«تفاوضية»
تفضل
و«تداولية» ّ
على األغلب أ ّال
تكون ُمخرجاتها
ذات صبغة
تقريرية.
لقد شهدت الحركات االجتامعية املستجدة
خالل السنوات الخمس األخرية يف تونس ويف
محيطها اإلقليمي القومي والثقايف املبارش
تجارب انتظام «للمواطنني» وللمه ّمشني
واملقصيني منهم عىل وجه الخصوص
يف أشكال تضامنية خارجة عن األشكال
الدولوية املتعارف عليها وعن النظم
البريوقراطية املعروفة حيث عملوا عىل بناء
عالقات تبادلية وتفاوضية خارجني ما أمكن
لهم ذلك عن البناء العالئقي املبني عىل
املصلحة الذاتية الفردية ،وقواعد السلوك
االجتامعي التي يضبطها القانون ويث ّبتها
ويفرض احرتامها وعن مختلف التعاقدات
«املواطنية» الواعية «املسلّم بها» .إزاء
ذلك تبدو الجامعة غري قابلة للوجود إال
وفق ما تنبني فيه من منط عيش يتطلب
أ ّوال وأساسا استطاعة التكيف مع أمناط
سلوك معيرّ ة ومق ّننة وتعاقدية من قبيل
االلتزام بالوقت واالنتظام يف املكان والتفرغ
للتحصيل الدرايس ثم للقيام بأبحاث…إلخ
وملدد طويلة ،وهو ما يبدو مكلّفا بال ّنسبة
إىل املهمشني والفقراء و«غريبا» إىل ح ّد
عماّ اعتادوه من بناء تدبّري -تلفيقي ألساليب تحصيل القوت
ومجابهة رصوف الحياة .وليس نجاح الفقراء واآلفاقيني يف زمن
الجامعة األوىل يف تونس قابال لالستعادة النتفاء رشطه التاريخي
االجتامعي الذي كان قوامه انفتاح السوق عىل منتجاتها وحاجة
املجتمع إليها واستطاعة «ال ّدولة» توظيفها وتوالد إمكانيات
«تشغيلها» .ومقابل ذلك يدفع التعامل مع األنظمة النظرية
والعملية التي تبنيها الجامعة الواقعة تحت أثر كولونيالية
املعرفة ويسعى من يقوم عليها (الجامعة) إىل تطبيقها وترويجها
يف املجتمع نحو تبني التّقليل من الكلفة وزيادة العائد وتحديث
رصف يف جميع رؤوس األموال ذات
أنظمة التدبري االجتامعي املت ّ
الصلة (املادية االقتصادية ،واالجتامعية ،والعائلية والتضامنية،
والثقافية) .وليس يتم لهم (القامئون عىل الجامعة) ذلك إال عن
طريق االستثامر املع ّمم لرؤوس األموال تلك والتثمني الشامل
ينفتح عمق مناقشة «التغيري الجامعي املنشود» يف عالقته
ب«التغري االجتامعي الجاري» يف تونس إذًا عىل مناقشة
رصف يف الشّ أن الجامعي من داخل األنظمة املعرفية
أمناط الت ّ
والسياسية القامئة أو من خارجها ،تلك األنظمة الخاضعة
الستعامرية املعرفة والسياسة وبدائلها الّتي قد تجد لها مصادر
يف مناذج تفكري أخرى من قبيل ما أسست له الدراسات ما بعد
الكولونيالية ودراسات جدل التح ّرر واالستتباع.
فتوى حول «ساطور»
ا ّتحاد الك ّتاب التونسيين..
يوسف خديم اهلل
كنت أمت ّرنُ ،هذه األيّام ،عىل مغالبة كسيل الهيكيل ،الذّهني أيضا ،صادفتني هذه الوثيقة.
[ ...فيام ُ
ِ
اسالت
ر
م
إحدى
عىل
ل
ج
املتع
ي
د
ر
يبدو،
هي ،عىل ما
الصحاف ّيات -ال فرقَ -الذي
أو
حافيني
الص
أحد
1
ّ
ّ
ّ
ّ
دعاين إىل تعقيبٍ فور ّي -كام فهمت ،اآلن تحديدا -عىل بيان اتّحاد الكتّاب بشأن التّهديد «اإلرهايب»
الذي طال أحد أعالمِ األدب والثقافة التونسيني ،الشاعر منصف الوهايبي .الحقيقة ،لست متأكّدا إن
أرسلت ر ّدي هذا إىل من يه ّمه األمر ،يف أوانه.
كنت
ُ
ريب فيه هو املفارقة التالية:
ما ال َ
الصحفيّات يف الشّ أن العام متاما مثل
الصحافيون و ّ
كاتب كب ٌري ،يستفتيني ّ
- 1أنا أيضا ،والعياذ ّ
بالربٌ ،
املنجم الشّ هري حسن الشارين أو ف ّنان األجيال كافون أو نجالء التونس ّية أو أي مف ٍْت يف الرياضةأو فنون
التّجميل والطّبخ ،ال ّراقيني.
- 2غري أنني كسولٌ أك ُرب ،متكبرّ ٌُ ،م ّدعٍ ،و َجحو ٌد ال ُ
أعرف كيف أق ّد ُر نضال «زمالء» الكلمة الرشيفة -يف
اللّحظات الحرجة -فأسعى بني أيديهم وأرجلهم أدحر ُج معاملي ومعاريف ليفتحوا يل بابًا مفتوحا ،أغلق ُه
ٍ
بحامقات بائد ٍة أنا ،يف ال ّنهاية ،س ّي ُدها وعبدها ،ال غري.
ِ
رش هذه الوثيقة ،بال أج ٍر أو ثوابٍ ،طبعا]..
وعليه،
لتدارك قامتي ومقامي ،املهدو َرين ،أن ُ
***
للسفر إىل الفيتنام
برسع ِة شاع ٍر أو كاتبٍ من أعيان «اتّحاد كتّاب بعض التّونسيني» ،يستع ُّد لت ّوه ّ
الصني ،لتأم ِني الغطاء الثّقايف ،الرضور ّي إلنقاذ مسا ِر «الثّورة» ،االنتقايل امل ُعطّل ..أس ّجلُ فقط،
أو ّ
«الحقائق» -حقائقي ال ّنسبيّة التّالية:
- 1املنظومات ال ّدين ّية ،التّوحيديّة عموما ،هي نُظُ ٌم مغلق ٌة النغال ِقها عىل( الـ)حقيق ِة (الـ) ُمطلق ِة التي
تقتيض اإلميا َن والتسلي َم ،ال غري.
كالسياسة مثال ،باعتبارها فعال ّية للممكن ،اصطدمت
النسبي،
ز
ي
ح
يف
هي منظوماتٌ ،كلّام أُقحمت
ّ
ّ
توس ِ
بتوسطات الق ّوة ،وبالتايل العنف.
طات العقل ،فتحلّ تناقضاتها ّ
بحدودها ،تلك التّي ال تقبَلُ ّ
وأفق كلّ منظوم ٍة دين ّي ٍة ُمس َّيسة ،باعتبارها قامئة عىل محاولة ِ
فرض املق ّدس
- 2العنف إذن هو واق ُع ُ
(الشرّ ع اإللهي) ،عىل املدنّس( ،القانون الوضعي املدين).
العنف مو ّج ٌه أساسا ض ّد ال ّنخبِ املدن ّية يف املجتمع ،الثّقافية والعلم ّية تحديدا..
ُ -3
الساسة عموما ..ألنها
خب» تلك ،هي ،بال ّنسبة إىل «املتط ّرفني» ،أخط ُر من خصو ِمهم املبارشينّ ،
«ال ّن ُ
هي املؤمتنة عىل إنتاج وإعادة إنتاج منظوم ِة الح ّريات الفرديّة والعا ّمة ،التي دونها ال ُمواطن وال دولة
الخصويص..
مدنية وال انخراط فعيل يف الفضاء العام ،مجالها الحيو ّي،
ِّ
- 4آل ّية اإلرهاب املعنوي واملادي هي ذاتها تقري ًبا ،وقد أثبت التاريخ القريب جدا ذلك (يف الجزائر
ُ
وتستهدف من بني ال ّنخب تلك ،الكتّاب واألدباء والف ّنانني ملج ّرد أنّهم كذلك ال غري ،أل ّن م ّربر
مثال.)..
ِ
قناعات ُدعاة الحياة املؤ ّجلة
يتعارض مع
وجودهم بوصفهم ص ّنا َع خيا ٍل وحيا ٍة ممكنينْ ،يف ال ّدنيا،
ُ
بوصفها آخرةً..
ِ
ٍ
انكامش أو
بالعنف هم اآلن ،ومنذ بوادرِه األوىل العديدة ،يف حال ِة
- 5لألسف ،امله ّددون األساس
انتظار أو بهتة..
هم يف كلّ الحاالت ،سلب ّيون ،يفت ُحون الطّريق -حسب منطق «الوفاق» املزعوم -لـ«ترشيعٍ ناعمٍ »
ِ
للعنف ،يف ال ّدستور ،ولـ«تدبريه» يف الشّ ارع:
ومؤ ّج ٍل
ٍ
ٍ
َ
غياب أو تر ّهلَ أو
يعني
ما
بداياته،
منذ
العنف
ة
موج
افق
ر
ت
ة
فاعل
ة
ي
جامع
ة
بادر
أي
لهؤالء
نسمع
مل
َ
ّ
الحس املدين لديهم..
متيّع ّ
ترب
الذي
تحديدا
اب
ت
الك
ّحاد
ت
ا
ة،
ي
مثيل
ت
ال
ّمتهم
ظ
من
تاريخ
هو
ٌ،
خ
تاري
له
هذا
املدين
الحس
ّ
ىّ
ُ -6
غياب ّ
ّ ّ
ورب نسلَ ُه عىل استهجان «أخالق العالِم» األصيلة والرتويج الضّ مني «ألخالق التّاجر» الهابطة..
ىّ
أتذكّر أ ّن مبارش ًة بعد «الثورة» تلك ،الحوار الوحيد الذي تر ّدد بني أهله من دا ِخله ومن خارجِه ،تعلّق
بجدارة زيد أو عمر يف االستفادة من فضائ ِل االتّحاد املنحرصة يف «متثيل األدب التونيس يف الخارج»،
السف ِر وعوائد ِه التي نعرف وال نعرف ،وهو ما أثبتت ُه الوقائع اليوم ..أي أ ّن املا َء
أي مج ّرد االنتفا ِع مبزايا ّ
ترب عليه اتّحاد الكتاب التونسيني وبعض أهله من ال ّنافذين والطّيعني الطّامعني مازال
االنتهازي الذي ىّ
يفعل فعلَ ُه إىل اآلن..
عجب إذن يف أن يتعاطى هؤالء ،وآخرون خار َجه ،مع خط ِر اإلرهابِ املع ّمم الذّي يدقّ األبواب
- 7ال َ
السذاجة وقصرَ ِ ال ّنظرٍ ..
تهافت قد يعطي ل ُدعاة املوت ُحججا إضافية
و
و
هافت
ت
ال
بهذا
منذ م ّدة،
الحمقِ
ّ
ّ
يس ّوقونها للعا ّمة لترشيعِ ما يفعلون وما سيفعلون ،بهم أ ّوال ،وبالجميع أخريا..
- 8وعليه ،فإن اتّحاد الكتّاب ،وأولئك ،ال ي ِزنُون شيئا يف قض ّية الحال..
وتنظيامتُ املجتمع املدين التّي مت ّرست مبقاومة القمعِ سابقا ،والتي ب َدا عليها الفتو ُر هذه األيّام ،هي
يجب أن تح ّرك الجميع من ورائها ..قبل فوات األوان..
القاطر ُة التّي ُ
أ ّما منصف الوهايبي ،فشاع ٌر ومثقّف يقوم بواجبه يف غري ثرثرة ،أحيّيه ..هو غري مه ّد ٍد يف ِ
شخصه ،بل
رصا عىل غري هذا ،فليحملْ ساطو ًرا «مق ّدسا» ب َدل
نح ُن جميعا مه ّددون فيه ويف غريه ..أ ّما من بقي ُم ّ
قلمٍ ...قلمٍ قد ُر ُه أن يكون:
«مدنّسا»( ،و) دامئًا..
14
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
سياسة الكالم
عبد الفتاح بن حمودة (ايكاروس).
تبدو إشكالية عالقة السلطة باملثقف إشكالية مستهلكة ،لكنها جديرة بالطرح والنقاش ووضعها
موضع الدّرس والترشيح لكن بشكل آخ َر ،بعيدًا عن االبتسار واالجتزاء.
بالسطح والقشور أن السلطة هي املامرسة
يذهب ،يف ذهن البعض م ّمن احرتفوا االنبها َر ّ
السياسية يف ُمطلقها ،غري أن هذا ال ّرأي ثبت تهافُته من جهة أخرى فليس كل سلطة سياسة وليس
كل سياسة سلطة ،فالسياسية لها مجال واسع أبعد من السلطة ،فكم من مشتغل بالسياسة هو
أبعد عن السلطة ألنّه مل ميارسها يو ًما وكم من مامرس سلطة هو غري منتم حزب ّيا أو متخندق
وراء السياسة.
ابتسام خليل
1
الت ّنين
مىش يف الشارع مزه ّوا ،ينطق الفرح من أعطافه،
شباله الصغريان :أح ُدهام عىل كتفيه ،واآلخر
يريد أن يتأرج َح بني صدره وأعىل بنطلونه
األنيق ...تتباطأ خطواته ،يزداد ضحك الشقيَّني
وأبوهام يبحث عن حامل املفاتيح يف قميصه ث ّم
يف جيب رسواله ،دون أن يض َع أياّ من الولدين
امل ُه ّر َجني عىل األرض ،يأخذ املفاتي َح ويصعد
املرقاة ذاتَ الدرجات األربع ،يدير املفتاح يف
قفل الباب ،إنّه يدخل بيته ناطحا الباب املفتو َح
برؤوسه الثالثة ،رأسه الكبرية ورأيس ول َديه...
نحيب
يُنزلهام مرحا ،يُزع ُجه أن تلتق َط أذناه َ
املذياع يُؤبّن قت َىل ُج ُد ًدا ،يُسكت صوتَ املذياع،
ومي ّرر يد ُه ُمتَ َن ّعامً َمل َم َس لحيته السوداء امل ُرسلَة
إىل ُمنتَ َصف رقبته.
2
الوي اخر
َج َب ّ
عبَ ُدو ُه ،تَ َق ّربوا إليه بأرانب ب ّرية وحماَ م وإ َوزّ،
َرقَصوا ليُزيّ َن سام َءهم ،مل تمَ ََّس يدا َ اإلله
الشفاّفتان َ
تلك القراب َني ،أصابت ُه الوحش ُة من
دماء ُسفكت من أجله.
عند َجبل َحزيز نا َم وحيدا بال أنبياء وال مؤمن َني.
------------
إ ّن أجمل وأبلغ التعريفات التي قرأتها :أ ّن السياسة عندما تتعلق باللغة أو الكالم ـ هي جوهر
عمل ّية اللّغة سواء كانت منطوقة شفاه ًة أو مكتوب ًة وفق نظام لغو ّي ما مرتبط بالتلّفظ فالسياسة
فساس الكالم أي قاد ُه عىل نحو مخصوص
هي الرتتيب من جهة أن سياسة الكالم هي قيادته َ
وبهذا املعنى تكون سياسة الكالم إبدا ًعا م ْحضً ا.
فسوسوا الكالم أيها املبدعون ..و ُقودوه قياد ًة مجنونة ضاربة
فكثرية هي سياسة املبدعني هناُ ..
النص لتفوزوا بل ّذة السياسة ..بعيدا عن الكرايس املنذورة لل ّزوال ..فالكرايس
يف الرفّض ومت ّردوا يف ّ
كاذبة عابرة ونصوصكم باقية.
محمد العربي
لمن هذه الوردة؟
قلت إنني مل أقطف ورودا من حدائق
كذبت حني ُ
لقد ُ
الجريان ألهديها ألول عابرة طريق ،رغم أن ِّك مل تكوين عابرة
طريق بل كنت الطريق الذي أسلكه كل صباح ،املعلّم
والدرس ،الطاولة والكريس والحديقة والصباحات الطريّة
وسط الشتاءات القاسية.
كانت املدرسة بعيدة عن بيتنا،يف قرية تس ّمى الداموس،
مل يكن أهايل تلك القرية من سكان األنفاق وال الكهوف
،وليسوا حرشات وال ثعابني .فقط كانت اسمها الداموس.
هذا ما عرفته عىل األقلّ .نعم ويشء آخر أيضا كان سخيّا
ح ّد القرف هي تلك األمطار التي مل تكن تتوقف.
ست سنوات يف اتجاه داموسك امليضء ،يف اتجاه عينيك الخجولتني .عيناك هام
مثانية كيلومرتات من امليش كل يوم نحوك واليكّ .
اليشء الوحيد الذي مل يكن يسمح يل بالتكاسل.
أذكر االن جيّدا ذلك اليوم ،تلك املرة األوىل واألخرية التي قفزت فيها فوق سور حديقة يف بيت رشطي .كنا يف طريق العودة من
املدرسة ،يومها كدت انتهي فريسة لكلبه الربجي الضخم.
_ برجي ...برجي ...هكذا رصخ صديقي الذي كان يرفعني عىل ظهره يك أصل إىل حافة السور.ردد تلك الكلامت املتقطعة وانطلق
هاربا مع أول نبحة.
فهمت بعد ذلك أن الربجي هو نوع من أنواع كالب الحراسة الخطرية.لكن ما كان يعنيني يف تلك اللحظة هو أن أقطف لك وردة.
وقطفت ِ
لك وردة حمراء.خدشني ذلك الكلب يف يدي ،وخلف يل جروحا -ظلت تلك الجروح تتسع إىل اآلن وتزداد عمقا –.
كنت كمن يقطف قبلة من شفاه أمرية يف حفلة ملكية مل يكن مدع ّوا اليها ،ثم يطري بحصانه فيام تنهال عليه السهام وتالحقه فرسان
القرص.
الحقني الرشطي بعد ان تعرثت مرارا وانزلقت من فوق السور.رحت أركض ...أركض ...أركض ...أركض ....أركض....أركض .....أركض.....
شفتي.
أركض الوردة تتعرق ،متتزج بالدم الذي يترسب من يدي والقبلة أخريا بني ّ
خبأت الوردة يف حقيبتي كمن يخبئ جوهرة عن لصوص،حرستها ليلة كاملة ألسلمها يف الصباح إىل أناملك.
صباحا ،كان ع ّيل ككل اللصوص واملجرمني أن أغيرّ الطريق إىل املدرسة،بعيدا عن رجل الرشطة وكلبه الضخم.
وصلت أخريا ،الهثا ،بني يدي الوردة املمزوجة بدمي ويف فمي اسمك.
وصلت وحني نادى املعلم باسمك ،ردد التالميذ :
-لقد انقطعت عن الدراسة سيدي.
15
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
فاطمة بن فضيلة
منى الرزقي:
تح ّرش
الحكاء األعمى
ّ
---------------احي
َحل ُ
َّقت عاليًا َحا ِملاً بُذو َر فَنائيِ بَينْ َ َج َن َّ
أنا الحكّا ُء األ ْع َمى يا إ ْخوتيِ ..
بعصا مبْتو َر ٍة بَ ْحثًا َع ْن َصعي ٍد َها ِدئٍ
عبرَ ْتُ العاملَ ً
أُحبُّكُم فَ ْوقَ أ ِدمي ِه
وبني ُج ْدران فُوهة الربكان يف أَسا ِف ِل ه ِذه البيئ ِة امل ُ ْؤذية
ألسفارِي..
َوضَ َعت الفرئَا ُن ح ًّدا ْ
أنا طائ ُر الرباكني الحزين،
َز َماين ف ْوضو ٌّي َوأ ْحالمي غابَ ٌة َم َداري ٌة
تَ ُع ُّج بمِ َ ْخلوقات ُمخيف ٍة ُمذهلة
أنا آ ِخ ُر الذّاهب َني إلىَ َحتْفهم
الناعم
أُم ِّر ُغ منقاري يف تُراب الرباكني ِ
السحيق
َوأُشيِّ ُع َصا ِمتًا َم ْج َد ُساللَ ِتي ّ
السقُوط امل ُ َد ِّوي لِ ُص ُخور املا ْغماَ
عىل وقْعِ ّ
عند َما يَحلُّ اللّيلُ يف جزيرة «موريشيوس»
يَتَدلىَّ حبْلُ َخسا َرتِكُم ِمن أمامي
أو ِق ُد نا َر َم َحبَّ ِتكُم يف ُحطام سفين ٍة
قَ َذفَها ال ُهدا ُم إىل ساحيل امل َ ْهجور
َوبيْ َنام ك ْن ُت أُربيِّ ُخ َّدا ًما َسامويّ َني ألَ ْسامئِكُم
كُنتُم تَصوغو َن املَراثيِ ضَ ا ِحكني
ُوجو ُهكُم ضَ ْو ٌء بَعي ٌد
أصواتُكُم فقاقي ُع َهواء..
َريق طَويلٌ
الط ُ
َوأَنَا تَ ِعبْ ُت ِم َن ال َحكيْ ِ يَا إ ْخ َوتيِ الشُ عراء..
كوثر الدوزي
مطر
كنت أقرأ قصائد لشاعر ٍة ميت ٍة،
سمعت خرير املياه
وقطرات مطر تدقّ الطّبول
أرسعت إىل نافذة غرفتي املغلقة
فتحتها
رفعت يد ّي إىل السامء
مل ألتقط شيئًا
يف حفل زواج املطر.
ديمة محمود (مصر)
رسالة إلى سيلفر
تلتف ساقي بالجبرية
غدا ً عندما ُّ
سيقولون كانت شجاع ًة مبا يكفي لتعود
وبعد عامني عندما ينخلع حويض وتتعطلّ فخذي من األعىل عن
الحركة مبرونة وترافقني السيقان الخشبية
سأطلُّ من عليايئ يف العرش ألقول
كنت وحش ّي ًة مبا يكفي ألُجاب َه هذا العامل املتغ ّول
ُ
سوا ًء شُ في مفصيل أو تعاىف نسبياً وآنستني سيقان الخشب
سأكاىف ُء نفيس برقصة زوربا كلَّ يوم
ساقي
وسأظلُّ
ُ
أداعب الجربوت وأنا أمل ّ ُع ّ
ُهفهف ساقاي كاملرمر بني الخشبتني
ألرتد َي التنور َة القصرية وت َ
وأنا يف الهواء الطلق
سأظلُّ أرد ُّد خمسة عرش رجالً ماتوا من أجل صندوق
ويف ليل ٍة يص ُري فيها القمر بدرا ً
لك ّنني لن أموتَ مثلهم يا سيلفر من أجل الكنز
الفرق بيني وبينهم أن كنز َي الذي أجاب ُه من أجله هو ذايت
خفي ال يدركُه إالّي يَ ْصالين يف كل رضّ ة
مثة وقو ٌد ٌّ
ــش ذاتـي يف خابية التمرد
يُـنـ ِت ُ
لن أسق َط ولو رصتُ صلعاء وبال أنف!
امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر
تحتسيان كو ْيب عصري
فالجعة شأن رجا ّيل
عاطفي
والقهوة شأن
ّ
وهام امرأتان
مج ّرد امرأتني
«ما من نهر يف الناحية»
لكنهام كانتا تجلسان يف مقهى عىل النهر
تحتسيان كوبيَ ْ عصري بارد
وتتجاذبان أطر َاف الذكريات
عن رجل أح ّبتاه معا
وهجرتاه معا
يف الركن اآلخر من املقهى
يف الركن املطلّ عىل النهر
فتًى يبسط قوارير الجعة
واألوراق البيضاء عىل ظهر الطاولة
ال يرشب شيئا
وال يكتب شيئا
امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر
«لعلّ النهر اندلع خارج الصورة يف قصيدة أخرى»
تحتسيان العصري البارد
وتتح ّرشان بالفتى الجالس يف الركن املطلّ عىل
النهر
وهو يض ّم رجليه يف حركة ال إراديّة
وينأى ببرصه عنهام
امرأتان تجلسان يف مقهى عىل النهر
«والنهر الزمة القصيدة»
تتح ّرشان بقوارير الجعة امللقاة عىل الطاولة
والفتى يض ّم قواريره
وينأى بظلّه عنهام
امرأتان تجلسان يف مقهى يف النهر
تحتسيان الجعة الباردة
وتتح ّرشان بأوراق الفتى النامئة عىل الطاولة
فيحمل أوراقه
ويغادر بخطى مرتبكة
مل تنتبها وهام تحتسيان حرب الفتى املسكوب يف
األوراق
أ ّن نهرا اندلع بينهام
وأنّهام أنجبتا قصيدة عابثة تتح ّرش بالعابرين يف
الطرقات
16
الخميس 2جوان - 2016املوافق لـ 27شعبان - 1437العدد 49
قراءات لنصوص صديقة
سفيان رجب
كتب .هي إذن نصوص صديقة تتقاسم معها الفكرة والدمعة والضحكة ،وال تتح ّرج أبدا من إبراز عيوبها «إن
ممتع أن تكتب عن نصوص قرأتها في عيون أصحابها قبل أن تقرأها في ٍ
السماء :نصوص ألنور اليزيدي وصبري
والطفولة والزّرقة ّ
بالصراخ ّ
ُوجدت» في ما ّ
تظن صادقا أ ّنه يخدمها ف ّن ّيا ،هي نصوص حمراء مملوءة ّ
والضوء والجاز ...نصوص تح ّرض على ال ّنظر إلى ّ
ال ّرحموني وعبد الفتاح بن حمودة ورضا العبيدي ومحمد العربي وأشرف القرقني ومنصف الخالدي وزياد عبد القادر وخالد الهداجي والناصر المولهي وعبد العزيز الهاشمي ونزار الحميدي
غداس ووليد تليلي وشاكر السياري...
وصالح بن عياد وأمامة الزاير وصابر العبسي وجميل عمامي ووئام ّ
وهذا األمر في ال ّنهاية ليس انتصارا أعمى لهذا الجيل ،بقدر ما هو انتصار للشعر ولل ّنص المختلف والمنفلت.
سنبدأ في هذه القراءات األولى ،بثالث مجموعات ،وهي «حتى ال يجرحك العطر» لمحمد العربي المنشورة عن بيت الشعر التونسي ،ومجموعة «مجرد رائحة ال غير» لخالد الهداجي والمنشورة
كل شيء تنتهي» لمحمد ال ّناصر المولهي ،والمنشورة عن بيت الشعر.
عن دار زينب ،ومجموعة «مثل ّ
السامء
املطر الذي يبني عشّ ه خلف ّ
املطر ال ّرابض خلف الربق
سيؤ ّجل اللّيلة رغبته يف البكاء.
اختار محمد العريب مع أغلب شعراء
األلفية الثّالثة قصيدة ال ّنرث نهجا جامل ّيا
لبناء عوامله الشّ عريّة ،هو يكتب
ببساطة وعفويّة بعيدا عن ال ّتكلّف
والتنميق اللّغوي ،فقط يختار ما يخدم
رؤيته الشّ عرية ال غري:
1
العودة إلى الينابيع األولى
في مجموعة «ح ّتى ال يجرحك
العطر»
يف مجموعته األوىل «حتى ال يجرحك
العطر» يسبح «محمد العريب» بأسلوب
السلمون عائدا إىل عوامل
سمكة ّ
الطّفولة مبا تحمله من دهشة وبراءة:
أيّها الطّفل ال تحدّ ق يف الربق طويال...
ال تحدّ ق يف الغيم
ال ّراكض
فوق
املاء
كغزال أبيض
الشوارع أُطفئ لهيبها
الشهداء يف املقابر
القتل إشاعة مل يرتكبها أحد
الثورة يف بطون السامرسة
الثوريون ميوتون بطلقة يف الرأس
أعداء الحياة يدخلون الجنة
الجنة بيد الله دامئا
كل تلك الجرائم.
«باسم الله» تُقرتف ّ
يكتب الشّ اعر عن ال ّتفاصيل الهامشية
التي ال يعريها أحد اهتامما (املسامري،
أكياس البالستيك ،األعشاب النامئة
تحت األقدام ،الخمور املغشوشة)...
يكتب عن الهامشيني والشوارع
كل ما يؤثث حياة الشاعر
والشعراءّ ..
ينقله إىل النص.
يعتمد الشاعر كذلك عىل ال ّنصوص
املوازية :اإلهداءات وال ّتصديرات
خاصة ،فالشّ اعر يعي متاما أنّ ال ّنص
الحديث هو آلة هضم معريف باألساس:
األرقام لعنة من أضاعوا أسامءهم
«وادي خضرة»..
حسني عبد الرحيم
النص الذي مثلته فرقة القرصين عىل مرسح الريو خالل ثالث سهرات من
نص «جدانويف» فكل ما يتعلق بالرصاع
تأليف «وائل حجي» و«عيل عامري» ّ
الطبقي والسيايس موجودا وال يخلو العرض من قصة غرامية مناضلة.
«وادي خرضة» مثل عديد املناطق امله ّمشة بها معمل لالسمنت وكذلك
طاحونة ومركز للبوليس ومعتمدية وحوانيت ومركز للبوليس وكذلك ناس
معذبون.
يعمل يف «طاحونة املستقبل «خدامة» يقومون بكل األعامل الصعبة يف
ظروف غري إنسانية ..ذات صباح يُفاجؤون بانتحار زميل لهم «صابر» الذي
كان كام يقول صاحب الطاحونة «لسود» عامال مثاليا.
يدخل «الخدّامة» يف اعتصام مفتوح وتأيت «منجية» والدة الفقيد يك تدفن
جثة إبنها ويقنعها زمالؤه بالبقاء يف االعتصام حتى حضور البوليس وإجراء
تحقيق يعمل املوىل عىل فض اإلرضاب وإقناع األم بأن تحريض النقابيني
فاسد ويحاول إقناع الشيخ «بأن يفتي بأن االنتحار مخالف للرشع وأن
كدت أن تكون واحدا منهم
انتبه إىل ما كتب عىل الباب قبل أن
تخرج
«الغرفة داخلك اآلن...
وحدك متلك مفاتيحها».
النص املهدى إىل الشاعر
يف هذا ّ
«صربي الرحموين» شأنه شأن بقية
النصوص املهداة إىل شعراء يقاسمهم
الشاعر اإلقامة داخل ال ّنص وخارجه
مثل «عبد الفتاح بن حمودة» و«صابر
العبيس» ...يؤكّد الشاعر عىل ما تقاطع
من األفكار واألحالم التي تجمع هذا
الجيل من الشّ عراء الذي ميثل حركة
شعرية لها ما مي ّيزها عامّ سبقها من
الحركات الشعرية التي عرفها الشعر
العريب.
2
االحتجاج على نظام العالم
الجديد بنصوص من أزهار
ومطر
قراءة في مجموعة «مج ّرد
رائحة ال غير»
ال شك يف أنّ «خالد الهداجي» ميلك
أصابع خرضا َء ،إذا أشار بها إىل الخريف
َ
يجعله بيتا للخطاطيف واألمطار
وأوراق ال ّتوت ...هذا ما تقوله
مجموعته األوىل هذه «مجرد رائحة
ال غري»:
ستظل أصابع الوردة تكتب طوال اللّيل
ّ
سرية من سقطوا ـ هناك ـ يف القمم
العالية.
بناي مازالت عالقة عليه أنفاس لوركا
ومحمد املاغوط ..يعزف لنا الهداجي
موسيقى قمرية يف ليايل الضباب،
يشعل شموعا زرقاء يف أركان اللّيل،
وميأل العزلة بالقطط والحامم وال ّنساء:
بسهولة تجد األشياء أسامءها.
بتلقائ ّية تجد األشياء أمكنتها.
األشياء التي تستق ّر يف ال ّذاكرة،
حيث تنمو مثل أعشاب تتسلّق
الجدران.
مثل أشجار وارفة
حيث يبني الحامم أعشاشه.
مثة قمم بلغها الشّ اعر يف مجموعته
األوىل ،هناك حيث تلتهب شعلة
الشعر ،حيث الطّائر الذي خرج لل ّتو
من بيضة الحكمة ،حيث الخيط
الشفيف الذي يفصل بني الجميل
والجليل ،والذي يتقاطع بدوره مع
خيط شفيف آخر يفصل بني الغموض
والوضوح لينسج قصيدة مدهشة مثل
ضوء خافت ينبعث من نافذة عالية:
يف الضّ فة األخرى من الشّ ارع املظلم،
ضوء خافت ينبعث من نافذة عالية.
عىل ال ّنافذة مزهريّتان،
يف املزهريتني بنفسجتان.
وراء ال ّنافذة عيون تتش ّهى شيئا ما
نهدان يطالّن عىل الشارع
شفاه تحرتق ببطء.
كل هذا الليل إذن،
مثّة ما ينري ّ
الرجل قتل نفسه وهذا حرام.
املناضل النقايب «رفيق» مع حبيبته «حياة» يحرضون عىل اإلرضاب بينام
يستجوب البوليس حياة ويهرب رفيق من املتابعة ويهدّد املفتش حياة
بكشف تصاوير حميمة لهام..
يف املستشفى يقوم الطبيب بكشف الحالة الصحية املرتدية للسكان وانعدام
الرعاية بينام يقوم املدرس املوجود بكشف الحالة املرتدّية للمدارس.
يعمل رفيق وحياة عىل إقناع «الخدامة» بعدم القيام بانتحار جامعي وينتهي
العرص دون مخرج مناسب أو واضح..
النص كام أسلفنا هو عرض ملجمل الرصاع االجتامعي لكن الدراما املرسحية
مجال آخر غري الخطاب السيايس املبارش حتى لدى مرسح «بريخت»
التعليمي.
ال يخلو هذا النص من عنارص إيجابية فالديكور الذي يتكون من لوحات
متحركة عىل محور يغري وبرسعة محتوى الركح وكذلك املوسيقى التي
وضعتها املبدعة امللتزمة «آمنة معرف» ويتكون من عزف منفرد عىل
العود يتواكب مع التغريات الدرامية من حزن وفرح وحداد ورصاع وحتى
مثة فراشة تراود الضّ وء،
وتسقط مع الفجر.
ما هذه القراءة املوجزة ملجموعة
الشاعر «خالد الهداجي» مجرد
رائحة ال غري ،سوى بلل خفيف من
أثر أمطارها الدّ افئة ،مجموعة تشري
بأصابعها إىل السامء ،وتث ّبت قدميها يف
األرض ،وهي تحرض عىل إدمان الورود
الحمراء واألجنحة واألشجار:
الوردة الحمراء التي سقطت عىل رأس
لوركا
جعلته يكتشف جاذبية الشعر ورائحة
أشجار الزيتون
يف صباحات األندلس الرطبة برائحة
غجريّة.
استخدامها ملوسيقى عاملية معروفة جاء مناسبا..
املمثلون برز منهم «حمدان» يف دور الشيخ ث ّم املعلم وكذلك الطبيب
«سيف» وهدى التي مثلت دور حياة بشكل ووسام يف دور «رفيق».