p01hab04 .pdf
À propos / Télécharger Aperçu
Ce document au format PDF 1.4 a été généré par Adobe InDesign CS5 (7.0) / Adobe PDF Library 9.9, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 13/08/2016 à 19:42, depuis l'adresse IP 197.1.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 290 fois.
Taille du document: 11.6 Mo (16 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
اإلعالمي الحبيب بلعيد لـ «منارات»
إن الدولة لن تنجح باحللول األمنية واالقتصادية
ّ
والسياسية فقط وإنام احلاجة األكيدة اآلن هي حاجة
إىل تغيري يف العقلية واكتساب ثقافة جديدة
الملحق الثقافي لجريدة الشعب
ص 6_5
تقريبي في ا ّتجاه ْين:
فتقد
ُم ٌ
ّ
ٌ
ثقافة بال إعالم
وإعالم بال ثقافة!
ٌ
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
في جينيالوجيا الثقافة
وأركيولوجيا الجدود
محمد الجاب ّلّي
الصحافة
نفوذ ّ
*
بقلم بيار بورديو
تعريب المنتصر الحملي
2
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
في جينيالوجيا الثقافة
وأركيولوجيا الجدود
محمد الجاب ّلّي
يف ذكرى تأسيس رابطة الكتاب
األحرار الخامسة عرشة تساءل
بعض الحارضين -ضمنيا -
عن النص املنظم لقانون جائزة
نص
الرابطة وكيف تسند إىل ّ
«فرحات حشاد املقاالت» وهو
نص توثيقي ال عالقة له باألدب والنقد وقضايا اإلبداع وهو
ّ
تساؤل مرشوع يف العام الثقايف لكنه ال يجد سندا بالنطر يف
خصوصية رابطة الكتاب األحرار وتاريخها الطويل ومبادئها
املضمنة يف بياناتها ووثائق تأسيسها ...رابطة نضال ض ّد القمع
والتهميش ،ولها بوشائج النضال الوطني صلة ولها رؤية توجه
مسريتها ضمن أولويات فيها نصيب من الفن والجامل والخيال
ونصيب من الوعي الوطني مبق ّومات ذات أولوية يف مجمل
محطاتنا التاريخية...
أولويات عرب عنها األستاذ جلول عزونة بإيجاز حكيم عندما
ذكر مبسألة البحث عن الجدود يف إشارة إىل ما راج مؤخرا من
جدل فيه تنافس بني الدستوريني واإلسالميني بعضهم انتسب اىل
بورقيبة وبعضهم انتسب اىل الثعالبي ...وأشار إىل أن جدودنا
مختلفة عن جدودهم...
نعم جدودنا مختلفة يف جينالوجيا الثقافة والفكر والوعي نحن
ننتسب إىل جذور معلومة ،تبدأ من الطاهر الحداد ومحمد عيل
الحامي وفرحات حشاد يف قوادح النقد والنضال والتأسيس لتمر
بأيب القاسم الشايب وعىل الدوعاجي والبشري خريف ومحمود
املسعدي يف أسئلة الفن واالبداع ...ولنا جدود أقدم يف عمق
الحضارة العربية أولئك الذين حملوا لواء الفكر املستنري منذ
قرون عدة وهم كرثة منهم الجاحظ والتوحيدي واملعري وبن
رشد وبن خلدون...
واالختالف ثراء وتنويع يف مناخ دميقراطي واملحك الحقيقي
املتجدد هو الوطنية ،ومدى استيعاب الذوات لرشط الحقيقة
بنسبيتها ومدى استعدادها لبناء مستقبل جامع يحرتم الطاقات
ويستوعب املايض ويتطلع اىل املمكنات...
ومن جينالوجيا الثقافة تذكري بتمفصالت حصلت وتحصل يف
كل آن ،متيز حتام بني مثقف البالط يف كل زمان ومثقف الحرية
مبمكناتها التي ال تح ّد بح ّد ،وما الكتابة إال وجه من وجوه
ذلك التميز ،فالنص الذي سيكتب له الخلود بف ّنه ومضمونه،
هو النص املتبرص الجريء ،وما النصوص املائعة «املحايدة»
«املزوقة» إال تعبريا عن رعونة أصحابها وعن انتكاس اللحظة...
لذلك نذكر الكتاب واملبدعني بأن مسرية الفن هي مسرية مت ّرد
أزيل ،هي مسرية الحرية واالغرتاب وآفاق التأمل يف لحظات
التاريخ البرشي يبدأ من االنخراط الواعي يف النقائض ويف الرصاع
النص الجيد إال بيان من أجل الحرية
من أجل حياة أفضل ،وما ّ
ومغامرة يف آفاقها...
فرحات حشاد
المقاالت
«»1947/ 1938
د .األسعد الواعر
جهد بحثي توثيقي ،فيه جمع وتعريب لنصوص
ومقاالت وخطب الزعيم فرحات حشاد يف اكرث من
خمس مائة صفحة ت ّم تتويجه «مناصفة» بجائزة
رابطة الكتاب األحرار للنصوص التونسية ،فيه حفط
وترميم للذاكرة الوطنية -وعىل وجه الخصوص منها -
الذاكرة النضالية النقابية ...تكونت لجنة التحكيم من األساتذة :جليلة طريطر وفتحي النرصي ومحمد
الجابليّ .
ورد يف تعريف الكتاب :املقوالت هو عنوان اخرتناه لنضع تحته أكرث من مائتني وثالثني مقاال ،أغلبها مجهول إىل اليوم كتبها
الزعيم النقايب التونيس فرحات حشاد بالعربية والفرنسية وأمضاها إما باسمه الشخيص أو بصفته النقابية ونرشها بني سنتي
1938/1947يف عدة صحف مثل الزهرة والنهضة والبراس .جمعنا هذه املقاالت بعد ان ظلت اىل اليوم مشتتة يف أماكن عديدة
وبالتايل معرضة اىل كل اخرتاقات الزمن ،أضفنا اىل خطب كتابات حشاد خطبه الشفوية التي نقلتها عنه صحف تلك الفرتة
وذيّلنا كل ذلك بقسم خاص مبالحق هي نصوص منشورة بدورها يف نفس تلك الفرتة يف الصحافة ،كتبها زعامء تونس التاريخيون
حول «االتحاد العام التونيس للشغل» مثل محمد الفاضل بن عاشور وحسن السعداوي وصالح بن يوسف والحبيب بورقيبة،
وتخللت هذه املالحق وثائق رسية للمخابرات الفرنسية ،أردنا لهذه النصوص امللحقة ان تكون حافة بالكتابات الحشادية
لتصبح هذه األخرية أكرث قابلية للفهم واالدراك وحتى يكون منطقها الداخيل أكرث قابلية للرصد.
محور العدد القادم
مواقـــع التواصــــل االفتـــــراضي
• انفتاح إجتماعي أم انغالق فردي
• امتالء ثقافي أم تسطيح وادعاء؟
البريد االلكتروني manaratculturel@gmail.com :
المدير المسؤول
حسين العباسي
المدير
أسرة التحرير
سامي الطاهري
منتصر الحملي -رشيدة الشارني -حسني عبد الرحيم -سعدية بن سالم
إشراف وتنسيق :محمد الجابلي
المراجعة اللغوية :عبد الفتاح حمودة -اإلخراج الفني :محمد كريم السعدي
السحب :مطبعة دار األنوار -الرشقية -تونس
املقر 41 :شارع عيل درغوث -تونس - 1001الهاتف / 71 330 291 - 71 255 020 :الفاكس - 71 355 139 :
العنوان االلكرتوين - manaratculturel@gmail.com :الحساب الجاري بالربيد 300 - 51 :
3
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
رابطة الكتاب األحرار
لوحات هدية من الرسام
العراقي المقيم في هوالندا
مهدي النفري لمنارات
متابعات ثقافية
متاهة الحكاية في رواية « أوالد خالتي زعرة» لرضا البركاتي
بقلم :سعدية بن سالم
رواية "أوالد خالتي زعرة" لرضا الربكايت ،رواية يف مئة وإحدى عرشة صفحة
طبعت يف نسختها األوىل( )2016يف رشكة املطبعة الثقافيّة.
عىل عتبة العنوان يحشد رضا الربكايت الدالالت املتعلّقة بالوحدات املعجم ّية
يف تفاعلها ،فنقرأ الحميميّة يف لفظ خالتي امل ُوهم باأللفة والتعاقب ونقرأ
استمرار األجيال يف لفظ األوالد ونقرأ التجذّر يف اسم "زعرة" ،اسم من عبق
املايض يتض ّوع برائحة األرض واألصالة ويجعل لألوالد منبتا يجمعهم وإن
ط ّوحت بهم الحياة.
ث ّم ...تتد ّرج الحكاية إىل فاجعتها ليّنة مخاتلة ،يف متاهة حكايات فرعيّة
تفيض إحداها إىل األخرى ،ويقف ال ّزمن هناك ال يربح ،منتظرا األحداث التي
خلّفها أن تلحق به ليكمل املسري ،هو يوم ..وبه بدأت رواية "أوالد خالتي
زعرة" لرضا الربكايت ،وهو يوم كان "طقسه حارا وكان الهواء أثقل من ال ّرصاص
يلف الحبل الرس ّي حول رقبة الجنني الخارج إىل النور"،
وكان الج ّو خانقا كام ّ
السارد يف بدء الحكاية ،يوم ينذر منذ الصباح وقد بدأ مكفه ّرا
هكذا ع ّرفه ّ
غاضبا تر ّن الهواتف فيه نجدة.
ا ُفتُتح السرّ د مثريا لل ّدهشة مقحام املتلقي يف خض ّم ال يدري كنهه ،راسام
فحي يصل إليه العابر
كونا من املكان والشخصيات ّ
خاصني به ،فأ ّما املكان ّ
حي ملقى هناك يف ركن
رة.
ج
مح
اب
و
ور
جرداء
عن طريق حزام ّية بني حقول
ّ
ّ
قيص عىل تخوم املدينة مبلّطُه رقيق القرشة قد م ّزقته سيول األمطار وحفّرته
ّ
الشّ احنات ،تناثرت فيه نواة ملنطقة صناع ّية مل تكتمل وتنازعت الفضالت
حي محارص
بطحاءه يف أكداس يركض بينها األطفالّ .
بـ"الباقة" طوال الوقت ،وأ ّما أسامء الشخص ّيات فمنها ما تبدو
حميمية مبا يسبقها من صفات يف األسامء مثل "خايل عامر،
وخالتي زعرة ،وع ّمي عيل "..ومنها ما يجلب الوقار مبا فيها
الصادق ومنها ما يخرب
من كرس للسني مثل يس محمود ويس ّ
عن جيل جديد بتناقضاته وتو ّجهاته األيديولوجية والسلوكية
املختلفة مثل "نجيب" وزياد وسفيان ومروى وحمزة ،منها ما
تبدو متحفّزة ،متوتّرة ،خلقت لنفسها ،أو خلق لها املجتمع،
الحي الشّ عبي الذي
مسميات أخرى تعرف بها فتكمل صورة ّ
تنتمي إليه ،فهذا بالفر وذاك بونتة واآلخر الشعشعاين .فإذا
تجاوزنا األسامء فإذا هي شخصيّات مسحوقة يف تن ّوعها تكابد
الصدامي وبينها االنتهازي
لتعيش وهي شخصيات بينها ّ
وبينها متواطئ عميل.
السارد
ّفها
ث
يك
حني
مخاتلة
نة
ي
ل
فاجعتها
تتد ّرج الحكاية إىل
ّ
ّ
وال يبوح ،وحني يحشد الر ّواة الستعادة أحداث اليوم وحني يع ّدد األصوات
ويفسح "لكلّ يحيك كيف م ّر به ذلك اليوم ال ّرهيب ،ذلك اليوم الشّ نيع،
الصباح إىل أن بلغه العائط ،أين كان وكيف علم بالخرب ومن أعلمه".
من ّ
الحي وحكايات الوطن
حكايات
إىل
ة
ي
األصل
الحكاية
ع
ر
تتف
صوت
كلّ
ومع
ّ
ّ
ّ
املصلوب عىل خشبة الفساد واملفسدين ،يتف ّرع إىل قضايا العماّ ل املحارصين
يف قوت يومهم املستنزفني ح ّد املوت ،إىل الخوصصة وتخيل الدولة عن دورها
ومواطنيها بكلّ أجيالهم بدءا باألطفال حني ق ّررت التخيل عن روضة "البلدية"
للخواص وصوال بعامل معمل النسيج الذين مل
يجدهم اعتصامهم ألشهر رفضا لخوصصة مصنع
أفنوا العمر يف تطويره فخرجوا منه فرادى مطأطئي
الرؤوس ،إىل املقايضات والبيع والرشاء إىل البطالة
التعسف ،إىل الظلم والعنف القاتل
والتهميش و ّ
الذي تحتكره السلطة وتستعذب استعراضه .عنف
ينتهي إىل فاجعة ال تأكل إالّ أصحابها وال تطحن
إالّ امله ّمشني وال تدري نفس بأ ّي ذنب ع ّنفت
وسحلت حتى املوت.
ُ
تتد ّرج الحكاية إىل فاجعتها مكثّفة أسباب
الفاجعة ،قاصدة إليها دون غريها وإن أوهمت
بالفرح يف بعض جزئياته ،فهو فرح محارص قبل
بدئه ،محارص بقوات النظام العام ومحارص
بترشيد عامالت مصنع النسيج ومحارص بالطبيعة
ومحارص بالعالقات املتوتّرة ،ولكنه يجاهد ليتحقق ويجاهد ليكتمل بناء عىل
وص ّية الخالة زعرة ،فرح محكوم بالخوف ،فام الح فرح إالّ أخفى قطار حزن
خلفه ،هكذا دأب املسحوقون يف األحياء الخلفية ،يغمس فرحهم بالفجيعة
لذلك ر ّددت أ ّم العروس طوال اليوم "ربيّ يتمم فرح بن ّيتي عىل خري" ..أمنية
رص أن يكون قربانه
مل يشفع لها ذبيحة العرس وال وليمة الكسكيس وفرح أ ّ
"نجيب" بل أنجب أبناء الحي .وللحديث يف ال ّرواية بق ّية.
4
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
اإلعالمي الحبيب بلعيد لـ «منارات»
إن الدولة لن تنجح بالحلول األمنية واالقتصادية
ّ
والسياسية فقط وإنما الحاجة األكيدة اآلن هي حاجة
إلى تغيير في العقلية واكتساب ثقافة جديدة
حاورته سعدية بن سالم
تو ّلى ضيف هذا العدد من المنارات إدارة إذاعة الشباب ثم انسحب ألنه أصر على استقاللية القناة وتولى بعد الثورة اإلدارة العامة لإلذاعة التونسية ،لمدة وجيزة وهو اآلن
بخطه الملتزم سواء في اختيار المواضيع التي يطرحها في برامجه أو في
عضو في الهيأة التعديلية لإلعالم «الهايكا» وخاض مسيرة إذاعية طويلة بدأت سنة ،1973عرف ّ
اختياراته الموسيقية أو في انتقاء الضيوف الذين يدعوهم إلى برامجه ،الحبيب بلعيد من المنشطين الذين خطوا لهم مسيرة مختلفة م ّيزتهم عن غيرهم ،وهو فضال عن ذلك
ليحدثنا عن مسيرته اإلعالمية بمحطاتها
الرقي اإلنساني والعمق المعرفي تجعل االستماع إليه متعة إضافتها مضمونة ،نلتقيه في هذا الحوار ّ
مثقف على درجة رفيعة من ّ
افتكه اإلعالم.
المختلفة وعن حاضر اإلعالم في تونس بعد 14جانفي وعن تدخل السلطة والمال في المشهد وتهديد الدكتاتورية المقنعة لهامش الحر ّية الذي ّ
• مسيرة طويلة مع المصدح عرف فيها الحبيب بلعيد
بالتزامه وبرامجه الثقافية ،فكيف استطعت أن توازن بين
العامة
االلتزام الفكري وبين ضغوطات السلطة والتوجهات ّ
لإلعالم؟
التوجه نحو االلتزام بقضايا اإلنسان والتح ّرر وما يرتتب عنه من اختياراتيف املوسيقى والضيوف واملواضيع املطروحة بدأ عمليا سنة ،1978بعد أن
قضيت أربع أو خمس سنوات بني العمل يف التعليم والتنشيط يف إذاعة تونس
الدول ّية ،كنت أتعلم التنشيط اإلذاعي حينها ،أو هكذا أعترب نفيس ،قبلها،
وددت أن أعيش تجربة جديدة فسافرت إىل فرنسا ،وهناك التقيت بفنانني
وكتاب ومفكرين مثل «رميون ديفوس »Raymond devosوجاك شنسال
»Jacques Chancelالذي تعلمت عنه تقنيات الحوار فقد كان إعالميا عىل
درجة عالية من الحرف ّية وكانت إذاعة تونس الدولية تقدم برنامجه «راديو
سكويب « ..»Radioscopieو سجلت يف فرنسا لقاءات إذاعية عديدة مع
مثقفني يشهد لهم باملكانة وعدت بها ليكون يل برنامجا ثقافيا مختلفا يف
حصة اسمها au hasard des rencontresدعوت فيها مفكرين ومثقفني
تونسيني وأجانب ودامت الحصة أكرث من خمس عرشة سنة ومتتد الحصة
الواحد ساعة ونصف ترتاوح بني الحوار مع الضيف وتقديم موسيقى من
العامل تنسجم مع املوضوع املتحدّث فيه .وقبل عوديت إىل تونس وكنت قد
قمت بجولة يف دور اإلنتاج املوسيقي boites de productionيف باريس
بحثا عن اسطوانات جديدة ومن جملة األشياء الجديدة التي وجدتها يف رشكة
أناشيد العامل chant du mondeوهي املتخصصة يف املوسيقى غري التجارية
واألغاين امللتزمة بقضايا اإلنسان أي األغاين املناضلة ،وأثرت يف تو ّجهي بعد
ذلك األسطوانة األوىل ملرسال خليفة «وعود من العاصفة» واسطوانة «الهادي
قلة» «بابور» و»مليون ال» و»إىل طغاة العامل» وأسطوانة الشيخ إمام «عيون
الكالم «فضال عن مغنني من العراق وسوريا مثل فوزي العايدي..ولكن تلك
االسطوانات الثالث كانت مهمة يف حيايت ونشأت منها قصة حب وسفرة
طويلة مع هذا النوع من املوسيقى والشعر .اكتشفت «الهادي قلة» وتأسفت
أين مل أحرض سهرته األوىل يف مهرجان قرطاج سنة ،1977ولكني حرضت سهرته
بعدها بسنوات مع أنور ابراهم يف أول ظهور له ،صعد أنور ابراهم يف البداية
وكان الهادي قلة نجم السهرة .تلك املوسيقى فتحت بصرييت عىل قضايا الحرية
واالنعتاق والنضال إجامال ،والنضال يف الحقيقة مسرية مستمرة ولكل زمن
قضاياه فاآلن توجد قضايا من نوع محاربة الفساد والح ّد من تدخل املال يف
توجيه الرأي العام وغلبته عىل القيم ،وهي قضايا تستدعي التج ّند لها..
تمكنت من تجاوز طوق الرقابة مقارنة بزمالئي؟
• كيف
ُ
يف الحقيقة أعترب نفيس محظوظا أين أعمل يف اإلذاعة الدولية مقارنةبزماليئ يف الوطنية واإلذاعات الجهوية ،ذلك أين أتكلم لسانا مختلفا واللغة
حاملة ثقافة وفكر وبيئة وطريقة تفكري وما هو مسموح به بالفرنسية غري
مسموح به بالعربية .ويف ذهن السلطة أ ّن هامشا من الحرية يف اإلذاعة
الدولية لن يرض السلطة ،ذلك أن الجمهور املستهدف باالستامع ليس جمهور
اإلذاعة الوطنية ،فعادة ال يواظب عىل اإلذاعة الدولية إالّ فئة مخصوصة من
املثقفني ومل يحدث أن قام املثقف بثورة وحده .فالثورة يتقدّم يف صفوفها
األمامية الطبقات الفقرية التي ال تجد قوت يومها والتي ليس لها ما تخرسه
من خروجها إىل الشارع لذلك كانت السلطة تفرض رقابة أكرب عىل اإلذاعة
الوطنية واإلذاعات الجهوية الناطقة بالعرب ّية ألنّها تصل إىل الجميع وتحظى
السلطة.
مبتابعة من املواطن العادي الذي ميكن أن ميثل خطرا حقيقيا عىل ّ
ث ّم إ ّن ذلك الهامش من الحريّة ميكن أن يستثمر خارجيا وداخليا حني االدعاء
أ ّن السلطة تش ّجع حريّة اإلعالم والدليل ما يبث من مواضيع ومن موسيقى يف
اإلذاعة الدوليّة بل كثريا ما سمعنا من هرم السلطة سابقا يف االجتامعات العامة
دعوة لإلعالميني بالتح ّرر بدعوى أ ّن الرقابة الذاتية هي ما يكبّلهم ال السلطة
يف ذاتها وهي أقوال مجانبة للصواب متاما .ومن الحوادث التي أذكرها يف هذا
الصدد ،إبّان حرب الخليج األوىل ،إذ د ّعمت تونس يف مرحلة أوىل اجتياح
ّ
الثقافة هي مغ ّيرة
الشعوب وهي التي
تحملها إلى الغد ودونها
سنبقى في رحاب
الفوضى والدكتاتورية
المقنعة بأقنعة عديدة
ليس أقلها السلطة حينا
والمال حينا آخر
العراق للكويت فدعاين املسؤول عىل اإلذاعة الدولية وطلب مني أن أكثف من
مترير األغاين امللتزمة التي ُعرفت بها أل ّن الحال حال حرب ،وبعد مدّة دعاين
الشخص ذاته إىل مكتبه يعيب ع ّيل مترير هذه األغاين ويدعوين إىل التخليّ عنها
فالسلطة تريد دوما وضع
أل ّن املوقف التونيس من اجتياح الكويت قد تغيرّ ّ .
اليد عىل اإلعالم لتمرير ما يخدم مصالحها وتو ّجهاتها العامة متخذة يف ذلك
شعار»استهلك وال تفكّر».
نتحدث عن رفع يد عن المسألة الثقافية من
• أال يمكن أن ّ
الدولة ومؤسساتها؟ وهل هو عفوي أم توجه اختياري عام؟
كانت دور الثقافة واملعاهد تقوم بدور توعوي تثقيفي كبري وأذكر يففرتة تلمذيت أن هناك عىل األقل موعد أسبوعي مع السينام إذ نخرج يف إطار
املدرسة لحضور رشيط سناميئ ضمن ما يعرف بسينام الشباب ينشطه أستاذ
مختص ..كان اإلنسان ينشأ عىل القيم التي توفرها السينام األمريكية واإليطالية
ممثلة يف «سكوال» مثال وتستغلها املدرسة يف تكوين الناشئة .الثقافة مسؤولية
مشرتكة بني الجميع وبني مختلف املؤسسات والهياكل بدءا باألرسة فالرتبية
والتعليم فالثقافة فاإلعالم .هذه املادة الثقافية كانت تحمي شبابنا من التطرف
واملغاالة والتعصب للرأي الواحد لعمقها اإلنساين وأبعادها الرتبوية والقيم ّية.
وأعتقد أنّه يف وقت ما كان الشعار السيايس املركزي «استهلك وال تفكّر»
وطبق ذلك بإلهاء الناس باختيارات فنية معيّنة غايتها مخاطبة الغرائز واللهو
وبتوجيه الرأي العام نحو ال ّرياضة وخاصة كرة القدم .بقية القضايا األساسية ال
عالقة للناس بها فهناك من يفكر ويضع االسرتاتيجيات ااملناسبة ،دور املواطن
استهاليك بحت أما عقله ففي سبات ال إمكان للنهوض منه .وهو ما خلق
نوعا من التص ّحر الثقايف .هذا التص ّحر جعل الثقافة حكرا عىل مجموعة ضيّقة
وعزل بقية طبقات املجتمع عن املبدعني واملثقفنب إجامال ومل تكن املهرجانات
الكربى من قبيل أيّام قرطاج السينامئ ّية إالّ جرعة اكسيجان يأخذها املبدع
والشارع عىل ح ّد سواء لفرتة محدودة ث ّم يعود كل إىل عامله الخاص .وال ينفي
هذا الوضع وجود مبدعني قاوموا هذا التصحر الفكري والثقايف وخاصة يف
املرسح والسينام ،وميكن أن نتحدّث عن أعامل توفيق الجبايل وجليلة بكار
وفاضل الجعايبي وع ّز الدّين قنون ومحمد إدريس وغريهم «من الكريطة إىل
آخر أعامل جليلة وفاضل’عنف» وقاوم غريهم باألغنية امللتزمة ..ومتثّل دور
اإلعالمي ،يف مناخ يفتقر إىل الحرية ،يف مترير أصوات أولئك املناضلني ،برمجة
لقاءات معهم وبرمجة أغانيهم وتلك وظيفة اإلعالمي ،أن يكون حامال لرسالة،
رسالة بناء الوعي والذات اإلنسانية .وهو نوع من املقاومة يقي اإلعالمي من
االنخراط يف السائد املبتذل.
• كيف يبدو لك الوضع الثقافي واإلعالمي اليوم بعد 14
جانفي؟
الواقع معقد نوعا ما وال ميكن الجزم ،لقد أحدثت الثورة رجة أفقدتناالتوازن ،أخذنا عىل حني غ ّرة ورغم توقع ما حدث وانتظاره ،إالّ أ ّن الثورة
فاجأت الجميع..املفكر ال ميكن أن يأخذ موقفا برسعة قبل أن يفهم الوضع وما
يدور حوله .اإلعالم كان مكبال وحني الثورة وقع انفجار وسوء فهم للحرية..
الحرية مرشوعة ولكن لها قواعد صحيح أننا مل نكن نجرؤ عىل الحديث عن
الفساد وعن الخور املوجود يف السلطة فلم يكن أمام اإلعالمي إالّ أحد أمرين
إ ّما مسايرة النظام والتسويق له وإما الصمت واالهتامم بالف ّن البعيد عن
التسييس .الحرية بعد 14جانفي أصبحت رديفة التج ّني والتحريض عىل
العنف أي أنها تفتقر إىل الحرفية ،فالحرية يف معناها السامي مطمح ولكن
كيف منارس هذه الحرية؟ هذا أمر يتطلب تكوينا عميقا لإلعالميني.
5
اإلعالم تأثر بثقافة االستهالك واالستسهال دون تفكري يف املستوى الفكري
واألخالقي والقيمي خاصة فنجد انتهاكا لألعراض وتشهريا بالناس وتحريضا عىل
العنف يكاد يطغى عىل املشهد العام.
• هل من دور لإلعالمي في تشكيل الوعي؟ وهل اإلعالمي
تدخل السياسي واالقتصادي
اليوم مؤهل للقيام بذلك في ظل ّ
في المشهد؟
املسؤولية يف الحقيقة كبرية جدّا ،تأثري اإلعالم هام .وأتساءل هل أ ّن املشتغلنيباإلعالم مهيؤون لنرش الوعي؟ هل لهم من الزاد الثقايف ما يخول لهم االستناد إىل
مراجع وثوابت؟ ليس سهال أن تعمل يف جهاز إعالمي ،فإعداد برنامج يستدعي
رشوطا متعددة ،منها تكوين اإلعالمي وخلفيته الفكرية وأهدافه من الحصة وتحديد
دوره يف الحصة ،هل هو صاحب رأي أم وسيط بني املتلقي والضيف ،وأرى أنّه عىل
اإلعالمي أالّ يسمح لنفسه بفرض رأيه عىل ضيوفه .يجب أن ميلك اإلعالمي فكرا
نقديّا ميكنه من تنسيب األفكار .عىل اإلعالمي أن يكون متواضعا ويؤمن أنّه مهام
اكتسب من معرفة ومعلومات فهو يتعلّم يوميا .عليه أن يدرك أنه يخاطب الجميع
لذلك عليه أن يتجرد من الذاتية .وظيفة اإلعالمي أن يخلق حوار ،أن يوجه ضيوفه
بأسئلة عميقة ،اإلعالمي يجب أن يكون عارفا ولكن دون أن يتعمد استعراض
معارفه وفرضها عىل ضيوفه أو عىل متلقيه ،بإمكانه أن يحقق الهدف الذي عقد
برنامجه عليه بحسن اختيار الضيوف املناسبني للموضوع وبحسن طرح األسئلة
واإلملام باملوضوع وبحسن اختيار موسيقاه ،كلها وسائل مساعدة تجعل اإلعالمي
يحقق أهدافه ويعبرّ عن أفكاره دون تب ّجح ودون ادّعاء ،فهو يف احرتامه لضيفه
يحرتم مستمعيه ومتابعيه ويحرتم الفكرة التي يريد إبالغها .اإلعالم يحتاج كام هائال
من الذكاء ومن التكوين املعريف والفكري والقيمي كام يحتاج كثريا من التواضع
واالستعداد الدّائم للتعلّم.
هل اإلعالميون املوجودون مؤهلون للقيام باألدوار التي يقومون بها اآلن؟ هل
لهم الوعي الكايف مبا يقومون به؟ ّ
أشك كثريا يف عدد كبري من املنشطني الذين يسعون
فقط لإلثارة وتحقيق نسبة متابعة عالية دون اهتامم بتبعات برامجهم .ويف املقابل
وخاصة يف الربامج الثقافية الخالصة التي
فخور بعدد كبري من املنشطني الجادّين ّ
تتطلب زادا فكريا ومعرفيّا بالرضورة مثل منشطي إذاعة تونس الثقافية عىل سبيل
الذّكر ال الحرص وعدد من منشطي الربامج الثقافية يف القنوات التلفزية.
• هل انتهى اليوم دور اإلعالمي المثقف وكيف تق ّيم ما نراه في
القنوات من تهريج في أغلب األحيان؟
اإلعالمي الذي ليس له مرشوع ثقايف ومجتمعي وفكري ليس إعالميّا ،ميكنأن يكون منشط حفالت أو أعراس ولكنه ليس إعالم ّيا .أل ّن اإلعالم يحمل رسالة
ثقافية وتربويّة ولألسف تخىل الجميع واستقالوا من البعد الرتبوي ،فلم يعد األغلب
يدقق يف اختياراته اللفظية واملوسيقية ،ليس معنى ذلك أنيّ مع إقصاء أ ّي نوع
من التعبريات الفنية ولك ّني ض ّد اختيار ال ّرداءة وتغليب تعبريات تفتقر إىل الجامل
وتشوه الذوق.
أحيانا يكون اإلعالمي غري واع بالدور الخطري الذي يقوم به ،فخلفيته املعرفية
وحضوره الذهني قارصان عن إدراك ما وراء الربنامج الذي يقدّمه والتأثرات السلبيّة
التي ميكن أن يحدثها واألخطر من ذلك أن هناك من يستغلّ قصوره املعريف ذاك
السمج
ونزعته الستسهال املصدح وتوجهه نحو برامج استهالكية ال تتجاوز التهريج ّ
والسخرية من الناس وافتعال اإلثارة ،اإلشكال يكمن يف من منحه الفرصة وفتح له
املجال لتقديم ذلك الربنامج فهو الذي يعرف ماذا يفعل ،هو الذي يسعى إىل الربح
بغض النظر عن األخالق وعن القيم الجاملية والفكرية ،هذا النوع من
الرسيع ّ
الربامج غايته الخفية إلهاء الناس عن األوضاع يف البالد ومتييع القضايا أي بلغة أخرى
إنتاج دكتاتورية جديدة واستعامر للعقل وعودة إىل املربع األول بوسائل جديدة
«استهلك وال تفكّر».
سابقا كان الدكتاتور واضحا وهو السلطة وكان بعض اإلعالميني يجدون السيل
ملخاتلة الطوق بطرقهم الخاصة فيمررون أفكارهم ويكرسون الحصار وتصل الرسالة.
فيلمحون ويدعون إىل القراءة بني السطور .حني كانت الحرية غائبة وجد بعض
اإلعالميني السبيل .والغريب أنه يف زمن حريّة ال ّرأي فقدنا الحرية املسؤولة وحل
املال الفاسد ليسيطر عىل املشهد ويفرض نوع الربامج ونوع الضيوف حتى أنّنا نجد
الضيف نفسه يف أكرث من وسيلة إعالم يف املدة ذاتها ونجد املوضوع ذاته تتخاطفه
املؤسسات اإلعالمية املختلفة دون أن يكون لذاك املوضوع من األهمية ما ي ّربر
تداوله بتلك الكثافة وكأننا باإلعالم خرج من دكتاتورية السلطة املعلنة إىل دكتاتورية
املال والسلطة الخفيّة .إنّه االستعامل املغلف بوهم الحرية.
الربامج الرتفيهية ذاتها كانت برامج هادفة وذات بعد فكري تثقيفي ،وكان الربح
املادي ربحا رمزيا فالغاية مل تكن الربح يف ذاته ،اآلن انتقلنا إىل مرحلة الربح الكثري
السهل دون بذل
وأحيانا باإلجابة عن أسئلة تافهة وال قيمة لها وهو ما يعلّم الربح ّ
مجهود ودون االستفادة.
كل ما يحدث؟
أي دور لإلعالم العمومي في ّ
• ّ
أؤمن باإلعالم العمومي الذي هو حق لكل الناس الذين يدفعون اآلداءات،ويجب أن تتوفر املصداقية التي وإن فقدت فيجب أن تعود ،ألن اإلعالم الخاص ال
ميكن أن يكون حامال لهموم الناس أمام سعيه إىل الربح الرسيع .اإلعالم العمومي
إعالم غري ربحي أل ّن الدولة مت ّوله من دافعي الرضائب أي أ ّن مصدر متويله قار
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
حق الجميع أن يجدوا فيه ما يفيدهم ويعبرّ عنهم،
ومشرتك بني الجميع ومن ّ
واإلعالم العمومي هو األوىل باالستقالليّة ،استقاللية عن السلطة واستقاللية
عن لوبيات الضغط أيّا كانت ،وباالستقالل ّية تتحقّق املصداق ّية وتتحقّق
الجودة .أنا مدين لإلعالم العمومي وأرجو أن أكون قد أوصلت أصوات
بعض الناس ،فانا حني قدّمت الصغري أوالد أحمد كنت سعيدا أل ّن الصغري
عبقري وألنه يختزل املعنى يف أسطر قليلة وهو ضمري املجتمع .فالشاعر
الصادق هو ضمري املجتمع .كذا الشأن مع محمود درويش وغريه من
املبدعني.
ظل سطوة المال
• هذا يج ّرنا إلى حال اإلعالم اآلن في ّ
أي استقالل ّية؟
وأصحاب النفوذّ ،
دور اإلعالمي هو التثقيف بطريقة غري مبارشة وخلق حوار مخصبومتن ّوع ،يف العامل هناك موسيقى رائعة يف كل مكان وحني منرر موسيقى
«الهادي قلة» من تونس و»الشيخ إمام» من مرص و»مرسال خليفة» من
لبنان و»جاك برال »jacques Brelو» ليو فريي »Léo ferréو»جون فريا Jean
نوسع اآلفاق الذهن ّية
»Ferratمن فرنسا و»بوب ديالن « Bob Dylanمن أمريكا ّ
ونفتحها عىل عوامل مختلفة وندرك التن ّوع يف العامل .اختيار املوسيقات مينح اإلنسان
الحلم ويقدره عىل تقبل اآلخر وهذا دور اإلعالمي.
أنا معجب باألغنية الفرنسية ألنّها تتناول كل املعاين اإلنسان ّية ومعجب باملغني
برنار الفيليي Bernard Lavilliersالذي يقول «ال تنتمِ أبدا إىل أحد n’appartiens
،»jamais a personneوهذا جوهر اإلعالمي أي ال ينتمي إىل أ ّي كان وال يجب أن
ديني
يكون أداة لحزب أو شخصية سياسية أو مالية أو تو ّجه سيايس أو ّ
أو مذهبي أو غريه ..فاإلعالمي غري املستقل هو أداة يف يد
صاحب املصلحة يقيض به شؤونه ويستبدله إذا انتهى
دوره ،وقد يك ّرس اإلعالمي غري املستقل وقته
وحصصه لخدمة طرف ألنّه يف موضع
قوة فإذا تهاوت منزلته غري اإلعالمي
من انتامئه وارمتى يف أحضان
األقوى ..ويف أمثال هؤالء يقول
الشيخ إمام «حالويال يا حولله يا
خسارة يا حالوالّ ..يتمسلم بعض
األيام ويتمركس بعض األيام
ويصاحب كل الحكام يا خسارة
يا حولله « ..وهذا الصنف ال
إعالمي
ميكن أن نقول إنه
ّ
حقيقي فام هو إالّ انتهاز ّي
ّ
ينتهي إىل الفشل ال محالة.
وحني دعيت لتويل إدارة اإلذاعة بعد الثورة مل يكن ذلك إالّ
ألنيّ مستقل ال أنتمي إالّ ّإىل رسالتي اإلعالم ّية.
• ما الذي ينقص البرامج الثقاف ّية لتسترعي
اهتمام الناس؟
أ ّوال :اإلميان بدور الثقافة يف تغيري العقليات نحواألفضل ،واإلميان أ ّن الحريّة واالزدهار هام فعل ثقايف أ ّوال
وأخريا ،ث ّم الربمجة ،إذ نالحظ يف أغلب القنوات تغييبا
للربامج الثقافيّة وغيابا لرؤية حول مرشوع ثقايف حقيقي،
لذلك نجد الربامج الثقافية إذا وجدت تقدّم آخر السهرة
بعد أن يخلد الجميع إىل النوم فال يتابعها إالّ ذاك الذي
حرض يف الربنامج أو بعض أصدقائه وأحيانا بعض أعدائه
ملهاجمته فيام بعد.
ثانيا :لغة الخطاب التي تقدّم بها الربامج الثقافية
والحلّة التي تظهر فيها ،فهي برامج ثقيلة عىل املشاهد
يف لغتها ويف طريقة عرضها ويف إخراجها ويف كل ما يتعلّق
بها ،واأل ْوىل أن تكون الربامج الثقافية قريبة من املواطن
البسيط قريبة من التلميذ ومن الطالب ومن العامل
ومن كل فئات املجتمع ألنّها مدعوة للتأثري يف هؤالء
قبل اآلخرين ،الربامج الثقافية يف حاجة إىل إعادة هيكلة
وتبسيط للخطاب وطرافة يف التناول وإىل تقييم للتجارب السابقة والتجارب العاملية
يف التنشيط الثقايف واالستئناس بأصحاب الخربة ومن أفنوا أعامرهم يف املجال الثقايف
وعملوا زمن كانت الثقافة محارصة حتى نستفيد ونعيد ترتيب املشهد .أل ّن الثقافة
هي مغيرّ ة الشعوب وهي التي تحملها إىل الغد ودونها سنبقى يف رحاب الفوىض
والدكتاتورية املقنعة بأقنعة عديدة ليس أقلها السلطة حينا واملال حينا آخر .وأرى
أ ّن الدولة لن تنجح ،إذا أرادت أن تنجح ،بالحلول األمنية واالقتصادية والسياسية
فقط وإمنا الحاجة األكيدة اآلن هي حاجة إىل تغيري يف العقلية واكتساب ثقافة
جديدة حتى ال تعود الدكتاتورية من أبواب مختلفة.
عشت أخاتل
الرقابة في
سبيل الحرية،
وحين جاءت
الحر ّية أدركت
مرحلة التقاعد.
حل يراه الحبيب بلعيد في زمن تسعى فيه السلطة حينا
أي ّ
• ّ
السيطرة على العقول؟
إلى
أحيانا
والمال
ّ
إ ّن الله ال يغري ما بقوم حتى يغريوا ما بأنفسهم»،الحلّ يبدأ بالوعي الفردي برضورة بناء مجتمع متوازن،
أؤمن بالحريات والحريات الفردية واألمور الشخصية
ته ّم صاحبها وال تعني غريه وهي ليست موضوعا للعرض
والنقاش .ويف الحقيقة ال نجد من يحمل مرشوعا وميكن
أن نعتربه قدوة اآلن .أؤمن باملبادرات الفردية وهي التي
تخلق الرتاكم حني يؤثر البعض يف البعض اآلخر ،يجب
أن يتوفر طول ال ّنفس واإلميان باملرشوع .وأؤمن بالعمل
املدين ودور الجمعيات يف تغيري الوعي الجامعي وتربية
النفس عىل أن تكون هذه الجمعيات مستقلة عن كل ما
هو سيايس أو ديني أو خضوع ألصحاب املال .نحتاج إىل
توازن وأذكر عىل سبيل املثال الحركات التي ظهرت يف
الستينات وتتجه إىل ضامئر البرش وتخلق مناخا جديدا
وحركة وأتباعا.
• كيف يق ّيم الحبيب بلعيد تجربة الهايكا؟
تجربة ثرية ورؤية جديدة للعمل اإلعالمي وقدتح ّرر من سياسة التعليامت التي عانينا منها طويال ذلك
أنها كانت توجد دامئا قامئة يف املمنوعات ويف املثقفني
املمنوعني من االستضافة يف اإلذاعة مثال ،هو نوع جديد
من التعديل الذايت الذي تتحكم فيه أخالقيات املهنة ال
غري واملبادئ العامة املتفق عليها يف كراس الرشوط .يف غياب املمنوعات تصبح
املسؤولية أكرب وتوخّي الحرف ّية يف العمل أوكد .من املفارقات بالنسبة إىل تجربتي
أنيّ عشت هذه الفرتة من العمل أخاتل الرقابة يف سبيل الحرية ،وحني جاءت الحريّة
أدركت مرحلة التقاعد.
• هل التقاعد الوظيفي نهاية؟ أال يمكن أن يكون بداية
بطريقة أكثر حر ّية؟
أنا ال أستطيع العمل يف القنوات الخاصة ألن لها طقوسها ولها خطّها الذييغلب عليه التّجاري واالستهاليك ،ال أتصور نفيس أعمل يف غري املرفق العمومي ،وقد
أعود توفرت الفرصة ،من باب اإلنتاج ألعيش مرحلة الحريّة املعلنة بعد أن عشت
مرحلة الحرية املخاتلة.
6
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
تقريبي في ا ّتجاه ْين:
فتقد
ُم ٌ
ّ
ٌ
وإعالم بال ثقافة!
ثقافة بال إعالم
ٌ
مصطفى الكيالني
ب ْد ًءا.
عند توصيف كُلّ ظاهرة وبيان امللتبِس منها ،عىل وجه الخصوص ،تكمن
ِسلْسلة من الظواهرالخف ّية واألسباب املُحايِثة ،كام يختفي الحلّ لينكشف
التوصل إىل تحليل دقيق لتلك الظاهرة.
يف األثناء لحظة ّ
فاإلعالم الثقايفّ يف تونس اليوم ظاهرة ذات اتّصال وثيق بظواهر أخرى،
كاالس ِت ْسهالل واالرتجال واالعتباط واالجتزاء
وهي تفعل فيها وتنفعل بهاْ ،
تخص الظاهرة
واالبتسار واإلرصار عىل تكرار األخطاء وإرجاء الحلول ّ
اإلعالم ّية عموما .و ُمراجعة اإلعالم الثقايفّ لن تكون ُمنفصلة عن مراجعة
اإلعالم العا ّم .ومراجعة هذا اإلعالم تندرج هي األخرى ضمن عالقة
الثقافة باإلعالم واإلعالم بالثقافة ،والثقافة باملجتمع واملجتمع بالدولة،
والدولة باملجتمع ،واملجتمع بالفرد ،والفرد باملواطنة :سلسلة من الظواهر
والعالقات يف منظومة تفكري تستلزم «ال ّتشْ ميل» والتخصيص تحاشيا
السطحي.
لالجتزاء املُخلّ واإلطالق
ّ
إ ّن اإلعالم هو موضوع الساعة يف تونس :فكيف كان؟ وكيف أصبح؟ وما
الّذي تغيرّ فيه وبه؟ وما الّذي استم ّر من نقائص وسلب ّيات إىل اليوم؟
خصصناها باإلعالم الثقايفّ :كيف كان؟ وهل تغيرّ ؟ هل
كذا هذه األسئلة إ ْن ّ
مبزيد السلب أم اإليجاب؟ وكيف الخروج من مآزقه السالفة والحادثة إ ْن
أثْبتنا ُوجودها وأسبابها؟
تعددا.
اإلعالم
الثقافي ً
واحدا ُم ّ
ّ
يستدعي الحديث عن اإلعالم الثقا ّيف يف تونس محاولة
توصيفه ابتدا ًء بالنظر إليه لكونه واح ًدا متع ّد ًدا :واح ًدا
خصصناه مبختلف
يف التسمية الجامعة ومتع ّد ًدا إ ْن ّ
السمعي والبرص ّي:
وسائل االتّصال
ّ
اإلعالم املكتوب.
اإلعالم املسموع.
ج -اإلعالم البرص ّي.
فام الّذي يصل ويُفارق بني مختلف هذه "اإلعالمات"؟
وكيف نُح ّدد ُمجمل اإلعالم الثقا ّيف ونُع ّينه باملنجز لثقا ّيف
يس؟ وهل يُواكب حقّا هذا امل ُنجز أم هو أداء جز ّيئ
التون ّ
غري ُمنظّم يغلب عليه االرتجال ويكتفي بتت ُّبع املعلن
السهل منه وال يسعى إىل اإلملام مبا ال يتيسرّ ظهوره
ب ُحكم امل َ ْوقع أي املكان من مركز (العاصمة) وجهات
أو محالّ (مدن وقُرى) وحداثة عهد التجربة وعدم
توفّر وسائل اإلعالم األ ّو ّيل للوصول إىل ذلك املن َجز
الثقا ّيف الحادث عىل تخوم املركز/املراكز يف حينه؟ وهل
مختصون ومتت ّبعون
القامئون عىل الشأن
اإلعالمي الثقا ّيف ّ
ّ
حقيقيّون له باالهتامم والفهم واالقتدار عىل التغطية
والتحليل والنقد؟
فتتف ّرع السيميولوجيا اإلعالم ّية العا ّمة إىل سيميولوج ّيات
خاصة بالكلمة والصوت والصورة الضوئ ّية التلفازيّة
ّ
والرقميّة.
املكتوب يظهر يف عدد من الجرائد اليوم ّية واملجالّت
األدب ّية والثقاف ّية التونس ّية .وإ ْن مثّل اإلعالم الثقا ّيف
جز ًءا محدو ًدا من مجال اإلعالم بالصحف اليوم ّية،
كالبادي صفْح ًة أو ب ْعضا من صفحة يف الغالب أو أكرث
من صفحة أسبوع ّيا ،كاملالحق الثقاف ّية ،فهو ثانو ّي
يعرِض أغلفة ال ُكتُب عادة ومخترصها باالعتامد عىل
رسعة للعروض املرسح ّية
الفهارس ويق ّدم ُملخّصات مت ّ
والسينامئيّة واملوسيقيّة والتشكيليّة وغريها ،فال بحث يف
القيمة الجامل ّية وال نفاذ إىل املحتوى إالّ ناد ًرا ،وال نقد
وال تعريف لفرادة التجربة إ ْن تأكّد وجودها وال ُمقارنة
وصال
بني هذه التجربة وغريها من التجارب تزامنا أو ْ
بني سابق والحق.
كذا واقع اإلعالم الثقا ّيف املكتوب يف الغالب هو التعميم
التنصل من أ ّي التزام يك يظلّ
امل ُتع َّمد املقصود بُغية ّ
ختص وغري قادر عىل النفاذ
خطابه ملتبسا بني باثّ غري ُم ّ
اإلبداعي والنظر يف دقائقه وإمكان
إىل تفاصيل العمل
ّ
االستنتاج يف الحكم له أو عل ْيه باختصار الرأي ُمكثّفا وبني
متق ّبل غري ُمح ّدد بصفات لغياب التحفيز عىل االستقبال
وتذكية الرغبة فيه .والنتيج ُة أ ّن هذا الخطاب يظلّ ،كام
اإلعالمي الّذي ال يُرا ُد به إالّ
أسلفنا ،ملتبسا ،بالتعميم
ّ
ظاهر اإلعالم العارض سرُ عان ما يُصاغ ويُتق ّبل فال تأثري
وال تفا ُعل.
ِ
وبعض أدلّتنا عىل هذا الخلل املستفحل يف األداء عدد
من ِ
الصحاف ّيني الّذين ال يقرؤون الكتب ،بل يكتفون
بتصفّحها ،وال يحرضون الندوات إالّ ما ندر ،ونراهم
مع ذلك يكتفون باألغلفة والفهارس وبرامج الندوات
وعناوين املداخالت وأسامء أصحابها يعتمدونها وسائل
مرجع ّية لإلعالم الّذي يبدو شكل ّيا باهتا ،إ ْذ ال ُمتابعة
ؤسس
حقيق ّية وال نظر يف الخفايا والطوايا وال نقد يُ ّ
للجديد امل ُختلف ،وإنمّ ا هو التقديس أو الت ْبخيس مبا
يُطلق أحيانا من أحكام ِجزاف.
ومن األمثلة األخرى ال ّدالّة عىل سطح ّية اإلعالم املكتوب
بعض ال ِحوارات تُجرى مع مفكّرين و ُمبدعني يف مختلف
الفنون دون اطّالع دقيق عميق عىل خصوص ّية التجارب
ليكتيس الحوار عادة بصبغة املونولوغ ،إ ْن صيغت
األسئلة واإلجابات من طرف واحد هو امل ُست ْج َوب يُغالط
ذاته والقارئ َم ًعا أو السطح ّية املبالَغ فيها وال حوار أيضا،
إ ْن تولىّ ِ
الصحا ّيف مه ّمة السؤال وعمل املتحا َور معه عىل
اإلجابة .وك ْم من حوارات تظلّ مرجعيّة مل ُ ّدة أعوام يف
اإلعالم الغر ّيب مقابل "حوارات" ُمؤقّتة عارضة متع ّجلة
ميتلئ بها عدد من الصفحات بجرائدها ومجالّتنا ،وليس
لها يف الالّحق أ ّي قيمة توثيق ّية ومرجع ّية تُذكر.
السمعي يتح ّدد وجوده مبُختلف قنوات البثّ
اإلذاعي،
ّ
ّ
كأن تُق ّدم الكتُب بصفة شكل ّية ،كعرض األعامل الفن ّية
األخرى من مرسح ّية وسينامئ ّية وموسيق ّية وتشكيل ّية
رسع املبالغ فيه أحيانا كثرية .و ُجلّ اإلذاعات متيل
بالت ّ
عاد ًة إىل الربامج الخفيفة واألغاين الطربيّة ب ُح ّجة أ ّن
اإلقبال عىل الربامج الثقاف ّية اإلذاع ّية ينحرص يف القلّة
الّتي تهت ّم بالثقافة وأخبارها وضمن استامع مؤقّت
عارض داخل الس ّيارات يف الطريق أو الفضاءات
العموميّة ،كاملقاهي وغريها...
أ ّما األحاديث اللّيل ّية املس َّجلة واملبارشة الّتي تُدار بني
امل ُذيعني وعدد من ال ُكتّاب واملرسح ّيني والسينامئ ّيني
وغريهم فهي أحاديث من اتّجاه واحد يف الغالب لعدم
اختصاص املذيعني أيضا ومعرفتهم املحدودة لتجارب
املبدعني.
والنتيجة أ ّن اإلعالم املسموع ال يختلف يف املاه ّية واألداء
عن اإلعالم املكتوب التّصافهام معا باالرتجال والخفّة
والسطحيّة وانتفاء الجدوى إالّ ناد ًرا.
ج -البرص ّي الّذي تراجع أداؤه مماّ كان عليه قبل 14
املخصصة للسياسة وما
جانفي 2011لكرثة الربامج ّ
اتّصفت بها من حوارات ساخنة وتجاذُبات حزب ّية،
وعقب ذلك ،كالعمل به يف الشهور األخرية ،فائض الربامج
الرتفيه ّية الّتي ال تذهب إىل الرفع من ُمستوى الوعي
والذوق للفرد واملجموعة الوطن ّية .فنسبة اإلعالم الثقا ّيف
بوسائل االتّصال البرص ّي ازدادت تضاؤال عماّ كانت عليه
يف السابق ،كأن تظهر فقرات يف أوقات وجيزة بالربامج
الرتفيه ّية الرديئة الّتي شاع ظهورها يف قنوات البثّ
العمومي
الخاصة يف حني يهت ّم اإلعالم البرص ّي
التلفز ّي ّ
ّ
خصص لها بعض الربامج ،وإ ْن كان
ي
و
قليال بالثقافة ُ ّ
ذلك بنسبة ضئيلة مقارن ًة بالربامج األخرى من سياس ّية
واجتامع ّية وغريها...
االجتامعي
التواصل
أ ّما اإلعالم الثقا ّيف
الرقمي بشبكة ُ
ّ
ّ
باملؤسسات الثقاف ّية واألشخاص فهي
ة
الخاص
واملد ّونات ّ
ّ
تُع ِّرف يف الغالب بظاهر األعامل ،وقلّام تنظر يف املحتوى
والقيمة الجامل ّية.
ِ
كذا اإلعالم الثقا ّيف يف تونس مبختلف وسائله االتّصاليّة
يش أو ُمه ّمش يف مرحلة استثنائية ن ّزلت
هو إعالم هام ّ
يس يف مق ّدمة االهتاممات وربطت بينه
املشغل السيا ّ
وبني اإلعالم امل ُتجاذَب اليوم بني دعم االحزاب ونقدها
بل انتقادها أحيانا باندفاع ناتج عن ركود وتهميش داما
عقودا يف ال ِحقبتينْ البورقيب ّية والنوفمربيّة.
ونتيج َة ضمور الدور الّذي يلعبه اإلعالم الثقا ّيف أو شبه
الوظيفي الفاعل وعدم مراهنة األحزاب السياس ّية
غيابه
ّ
يف الغالب عىل الثقافة واملثقّفني وارتباك اإلعالم عا ّم ًة
مبختلف وسائله االتّصال ّية تعيش تونس اليوم وضعا
ؤسساتها و َهنا شدي ًدا
ّ
خاصا ،إذ شهدت الدولة ُمبختلِف ُم ّ
مرجعي بعد أن تقادم األمنوذج التنمو ّي
أمنوذج
لغياب
ّ
السابق واهرتأ .لذا نحيا يف الراهن وضعا إشكاليّا بني آثار
مرحلة من الحكم الرئاسو ّي والفساد اإلدار ّي وغريه وبني
مرحلة جديدة ووقائع حادثة مل تُفض بعد إىل حا ٍل من
االستقرار لرسعة األحداث وكرثة التقلّبات.
فهذا الزمن الّذي نعيش اآلن هو زمن الالّنظام ،إ ْذ
كُلّام قاربت التجربة السياس ّية الجديدة بتونس بعضا
من االستقرار ه ّبت ريح عاصفة أخرى أربكت املشهد
وبعرثت األوراق ل ُيعاد تنظيمها من غري الوصول إىل
حلول ُمجدية تُنهي األزمة االقتصاديّة واالجتامعيّة الّتي
تزداد تفاقُماً مبرور األيّام.
7
إعالم ثقا ّيف اليوم يف حاجة إىل ثقافة جديدة.
تستحق
فكيف النهوض باإلعالم الثقا ّيف من غري نهوض بالثقافة وإيالئها املكانة الّتي
ّ
يف مرحلة تأسيس لحياة سياسيّة واقتصاديّة واجتامعيّة جديدة؟
فيستلزم تغيري واقعنا اليوم ثقافة جديدة تُراهن عىل اإلبداع فك ًرا وف ّنا (بتع ّدد
الفنون) .وال بُ ّد لتجسيد هذا القصد من:
اتيجي عا ّم يسعى إىل امل ُؤالفة بني الخصوص ّية
مراجعة منظومة القيم ضمن متثّل اسرت ّ
والشموليّة ،بني الهويّة الوطنيّة والكونيّة بوعي التح ّدي ملا تتع ّرض له األوطان
والهويّات عا ّم ًة من أخطار يف زمن الع ْوملة وأحكام السوق االستهالك ّية العامل ّية.
ؤسسات العمل الثقا ّيف وتطوير وسائله وضبط مقاصده الكربى يف
إعادة هيكلة ُم ّ
يس.
النهوض العا ّم
االجتامعي واالقتصاد ّي والسيا ّ
ّ
ذلك أ ّن تغيري الوقائع يستدعي فك ًرا مختلفا عن سابقه .وهذا التغيري هو اآلخر ،إ ْن
املؤسسات واملجتمع
تحقّق ،يُسفر عن أفكار جديدة تنهض بالوعي الثقا ّيف لألفراد و ّ
بأكمله.
فام حدث اليوم بتونس هو رصاع أفكار تزا ُمنا مع ظهور وقائع جديدة يف حني أ ّن
الحسم مل يت ّم بعد لصالح األفكار الجديدة الّتي هي اآلن بصدد التشكّل إ ْذ نراها
بعض من
تندفع أحيانا لرتت ّد أمام سيادة القديم من أفكار و ِقيم .وما اإلعالم الثقا ّيف إالّ ٌ
هذا الكُلّ اإلشكا ّيل ،كام ْأسلفْنا.
لقد اعتدنا طيل َة الحقبتينْ البورقيب ّية والنوفمربيّة عىل ثقافة الدعاية للزعيم األوحد
(زعيم األ ّمة) ث ّم القائد األوحد ( ُمنقذ األ ّمة) ،عىل ثقافة الواجهة ،ثقافة املناسبات
االحتفال ّية باستثناء حركات ونواد ثقاف ّية كانت تنشط يف ظروف صعبة من املُراقبة
والحصار والتهميش ،وغالبا ما تتوقّف أنشطتها لصعوبة التمويل وتدخّل األجهزة
القامعة.
اتيجي ،شعا ًرا فضفاضا شبه ُمنفصل عن
فظلّت الثقافة الوطنيّة ،باملنظور العا ّم االسرت ّ
القطاعي من كتاب وفكر وأدب ومرسح وسينام ورسم وموسيقى...
الثقافة مبدلولها
ّ
حرصا عىل أن تظلّ األنشطة الثقاف ّية القطاع ّية فئويّة عاجزة عن االنفتاح عىل العموم
الّذي عادة ما يُو َّجه إىل ثقافة االستسهال ،إىل الحفالت الغنائ ّية وتجييش األحاسيس
يف املال ِعب وغريها...
والنتيجة بعد كُلّ الّذي خطّط له الساهرون عىل هذه السياسة الثقاف ّية واإلعالم ّية
ونفّذوه :تعليم بال ثقافة ،وحياة سياس ّية ومدن ّية بال ثقافة أيضا ،ووسائل إعالم مختلفة
وخف من الثقافة ،وإعالم ثقا ّيف باهت شحيح...
تشتغل مبا قلّ ّ
نظ ٌر يف إمكان الحلول.
الخاصة باإلعالم عا ّمةً،
املذكورة
الوقائع
من
املوصوف
خالل
من
يَعرض إمكان الحلول
ّ
واإلعالم الثقا ّيف تحدي ًدا.
وتندرج الحلول املمكنة ضمن سياقات ثالثة مختلفة ُمتعالقة كاآليت:
القيم املرجعيّة.
إ ّن االكتفاء بذكر ع َدد من القيم الثقاف ّية املرجع ّية بصفة شعارات ّية ال يفي بالحاجة
إىل النهوض بالثقافة واإلعالم الثقا ّيف واإلعالم عا ّمة ،بل ال بُ ّد من تحويل هذه القيم
اتيجي فع ّيل يشمل كُلّ القطاعات بتثقيف
من عناوين فضفاضة إىل اختيار اسرت ّ
الثقافة ذاتها (العمل الثقا ّيف عا َّمةً) وتثقيف السياسة بإيالئها االهتامم الالّزم داخل
األحزاب وتثقيف االقتصاد مبراجعة نظام االستهالك وترشيده وإعادة النظر يف ما هو
يس حيو ّي وكام ّيل ،وتثقيف الفرد ،عىل وجه الخصوص ،بتنمية وعي املواطَ َنة الح ّرة
أسا ّ
املسؤولة لديه ،إذ املقصود بالثقافة ،هنا ،ليس قطاعات الثقافة فحسب ،بل ثقافة
املجتمع بأكمله.
ثقافة التع ّدد واالختالف.
ويستدعي كُلٌّ من التع ّدد واالختالف يف تحديد الثقافة املنشودة تحويل الدميوقراط ّية
الحق
من مج ّرد ظاهرة "انتخابويّة" إىل مامرسة يوم ّية بالتفكري والنقد وتع ّدد اآلراء و ّ
يف االختالف.
فاإلعالم الثقا ّيف الّذي ينحرص يف قطاع واحد ويتغافل عن القطاعات األخرى وينترص
لجهة أو فرد عىل جهات أو أفراد آخرين هو إعالم محدود القيمة إ ْن مل نقل عديم
الجدوى ،وهو استمرار يف اإلعالم القديم ،إعالم الواجهة وثقافة الواجهة أيضا.
مختصني يف مختلف القطاعات للنهوض باإلعالم الثقا ّيف واح ًدا
فال بُ ّد من ترشيك ّ
متع ّد ًدا.
إعالمي متع ّدد.
ج -أداء ّ
تتأكّد الحاجة إىل إعالم ثقا ّيف شامل ال يقترص عىل العاصمة واملدن الكربى ،وال يخضع
إىل توجيه أطراف متنفّذة وتأثري أحزاب بعينها ،إعالم ُح ّر ينترص للمصلحة الوطنيّة
عىل كُلّ املصالح األخرى الض ّيقة.
بهذه العنارص الثالثة نتمثّل مستقبال إلعالم ثقا ّيف بديل عن اإلعالم الثقا ّيف السائد
منذ عقود.
فكيف االبتداء تحدي ًدا؟ ومتى؟
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
أفول اإلبداع :
نحو استنطاق اإلعالم الثقافي
وتشغيل خفاياه
حاتم التليلي محمودي
مل يعد بإمكاننا اآلن التحدث عن اإلعالم الثقايف بوصفه منعدما بسبب القمع
السيايس أو الرقابة الثقافية ،فام حصل نتيجة االنفجارات الثورية سمح مبولد عدد
مهول من وسائل اإلعالم التي نستطيع من خاللها الرتويج ألي عمل ثقايف ما ،مهام
كانت منطلقاته الفكرية أو الجاملية ،ولكن يصبح باإلمكان النظر إليه من وجهة
نظر نقدية تتطلب رصامة أحيانا ،فهامش الحريات ،وحتى ال ننكر ،مل يفتح املجال
أمام األعامل الثقافية الف ّنية املقموعة يك نر ّوجها للق ّراء والجامهري فحسب ،وإمنا
أعطى الفرصة لتكون مثّة شهرة عالية متعلّقة ببعض تلك األعامل والحال أنّها ال
متتّ إىل اإلبداع بأي صلة ،إذ صار من حقّ أي كان الرتويج لليشء الذي يريده.
إزاء هذا األمر ،ال ميكننا تشغيل أسئلتنا دون اإلشارة إىل مفهوم الثقافة
ذاتها ،كام ال ميكن النظر إليه معزوال عن سياقاته ،إذ مث ّة اآلن ثقافات وما
كلّ ثقافة تتن ّزل رضورة ضمن املعرفة اإلنسانية بوصفها مهت ّمة مبا هو
جميل وإنسا ّين ،وبوصفها جرسا للعبور إىل املستقبل من بوابة اإلبداع.
فبينام نعتقد ذلك تنشأ يف املقابل ثقافة جديدة ،زمن ّيا ،قدمية من حيث
إعادة تشغيلها إرثا من الظالم ،وهي التي سنطلق عليها ثقافة املوت
مبا هو يلوح لنا اآلن من خالل نزعة عدم ّية تجد خيامها يف ال ّراهن من
القتل واألصولية وفصل ال ّرؤوس ،وال يخفى علينا ،أن مثل هذه الثقافة
تجد رواجا كبريا وإقباال متزايدا ،كام لو أنّها بضاعة يف األسواق ،فلها
جمهورها ومريدوها ومتابعوها ،ساهم اإلعالم يف إيصالها إليهم ،كام
ساهمت بدورها يف ض ّخ أموال طائلة له ،وهذا ما ميكن أن نصطلح عليه
باملنعطف اإلعالمي وصناعة الثقافة كام لو أنّها مستعدّة لتصبح أسلحة
إيديولوجي/سيايس يح ّركها ويح ّرك املصنع الدعايئ.
بقرار
ّ
السائد من جديد ثقافة املوت ،مبا يحمله من إرث الهويتّ
مكّن هذا ّ
وأرطال من الدعم املادّي خ ّول له صناعة مؤسسته الدعائية الخاصة به،
خصيها خارج نسقها اإلنساين ،فح ّول
القدرة عىل تدجني العقول وإعادة ْ
منها إىل أسلحة معدّة للفتك بأن أطلق سمومها يف املجتمعات ،مماّ أنتج
عطبا وأرضا يبابا يف الثقافة اإلنسانية/التقدّمية (من باب التوصيف)
بر ّمتها ،اصطلح عليه أنطونيو نيغري «بالقحط األنطولوجي) ،ذلك أ ّن
الرصاع صار هو املحدّد عوض التفاعل ،مبا يعنيه األمر من هيمنة السلوك
القائم عىل التضا ّد البافلو ّيف بني ثقافات تدّعي الحياة ،والحال أ ّن أغلبها
نزعة عدميّة أوتاد خيامها من عظام البرش املتطايرة رؤوسهم نتيجة
السيايس أو لعبة محافل الدم واالنفجارات.
القمع
ّ
وبدلَ بناء املستقبل من حيث مراكمة السيل املعريف والعلمي والحضاري
والف ّني ،تجد اآلن الثقافة/الثوريّة (كام تزعم) نفسها مجبولة عىل
االنخراط يف حقول معادلة الثقافة األوىل ،إذ غادرت صالونات الفعل
اإلبداعي لتجد نفسها مضط ّرة إىل اإلقامة يف حلبة التصادم ،زعام منها أنها
تدحض وتقوض األصوليات ،مماّ جعلها تكون رهينة الدائرة ،سب ّية هي
األخرى يف حرب التصادم اإليديولوجي والفكري ،تبحث لها عن مصنعها
املرسحي
اإلعالمي ،ولك ّنه مصنع ال يقيم لإلبداع األديب والسينام ّيئ و
ّ
العلمي وزنا ،بقدر ما يعنيه تشغيلها وفق منطق ال ّربح ،فالجامهري
و ّ
اآلن أشبه بطرائد سهلة وفرائس مع ّرضة لسهام الدّجل الخرايف والسيايس،
لذلك فإ ّن عمل ّية ترويضها ،ثقاف ّيا ،تتطلّب أ ّوال من املؤسسة اإلعالمية أن
املنصة أو ال ّركح الذي يع ّزز دمويّة القربان.
تكون بدورها ّ
يبدو أ ّن معظم وسائل اإلعالم ،من جهة اهتاممها مبا هو ثقا ّيف ،مل تعد
تنقل إلينا غري هذا الصدى من التصادم ،سواء كانت مرئية أم مسموعة
أم ورق ّية ،مماّ يجعلنا نع ّزز التساؤل عماّ إذا كانت مث ّة هناك ثقافة ما
خارج هذا املحور من الرعب ،ومبا أن «الوحش» اإلعالمي مل يعد يعنيه
أن يتح ّرك إال بأرجل من فوالذ القتل ،وبأصابع من االنتامء اإليديولوجي،
وبعيون ترقب أسواق البضائع الثقافية من حيث الربح والخسارة ،فإ ّن
إمكان ّية تحقّق ثقافة مغايرة ،تسعى إىل إحداث جراحات يف قميص
الظالم وتسعى إىل الصعود من ذلك الحضيض إىل ما تحتاجه إنسانيتنا،
سيجعلنا نبحث عن مصريها بإعادة تشغيل السؤال القائل هل مث ّة إعالم
قد يجعلها تجربة ال ميكن طمسها يف ظل تغييبها أو تهميشها نتيجة ذلك
نجسمه ألصبح مبثابة «بوب دينار» ،ذلك
التطاحن من ثقافات إعالم لو ّ
القاتل املأجور.
ال ّ
السيايس
القمع
فقتل
ة،
ي
السيزيف
املقاومة
من
رضب
أمام
شك يف أنّنا
ّ
ّ
مكّن اإلعالمي من تعريفنا عىل جلّ التجارب الف ّنية املقموعة ،كام مكّننا
من معرفة تجارب عامل ّية مغايرة ومختلفة ،ولكن مبا أ ّن ذلك القتل مل
يكتمل نتيجة اإلخفاق الثور ّي ،جعل من اإلعالم ذاته ينخرط يف قمع
مضاعف إذ تح ّول بدوره إىل قاتل ميدح أو يهجو ،ذلك أنّه ظلّ خاضعا
إىل منطق املواجهة السياس ّية مبا لها ثقافات متصادمة ،ومثال تشغيل
املعركة بني ثقافة يحملها التقدميون وأخرى يحملها األصوليون وإشعالها
إعالميّا مل تولّد لنا أعامال ف ّنية راقية ومبدعة بل أنتجت سرية ثقافية
تتغ ّنى ببعض الشهداء والقتىل.
نفهم من خالل هذا الحقل من د ّوامة التصادم ،أن الجسد املصطلحي
لإلعالم الثقايف كانت مدلوالته تقول بأن مساراته الوظيف ّية معدّة سلفا،
وهذا مينع نشأة ثقافة مغايرة تلك غري املنخرطة يف محفل الهجاء أو
السيايساملديح ،ونقصد بها التي تخ ّون السيايس وال تخ ّون الثورة ،فهو
ّ
يح ّبذ ثقافة االنتامء فيج ّند لها ترسانة إعالم ّية ويزكّيها بالدّعم املادّي،وربمّ ا يصنع مثقّفني هم يف نهاية املطاف ح ّراس لهذا السلوك ،بينام الثورة
تبحث يف ثقافتها عماّ يغذّي االنفالت عن الحصار ،ونتذكّر -من باب
التوضيح ال املزايدة املعرف ّية -بتجربة الشاعر الرويس «ماياكوفسيك»
إذ بلغت الدعاية ضدّه شوطا كبريا إىل ح ّد منع نرش كتبه ،بينام اتجهت
إىل متجيد الشاعر «فيدين» ،إذ الثاين يف نظر السلطة السياسية واإلعالم ّية
أكرث فاعليّة إلنجاح التجربة السوفييتية ،بينام نحن اآلن نقرأ ملاياكوفسيك
وننىس فيدين.
استنادا إىل هذا املثال ،تكون الثقافة التي تعيل من شأنها وسائل
اإلعالم ،ثقافة آن ّية ،زمنها ال يتعدّى حدود املعركة السياسية والفكرية
واإليديولوجية ،إذ متوت مبج ّرد نهاية هذه املعركة يف ح ّد ذاتها ،وميكننا
املحصلة الف ّنية يف السلّة
أن نستدلّ عىل ذلك باتخاذ أمنوذج نلتقطه من ّ
الثقاف ّية من راهننا هذه السنوات ،فمعظم األعامل املرسح ّية التي
لقيت رواجا مكثّفا وإقباال جامهرييا كبريا ،هي تلك التي تناولت ظاهرة
وخاصة بعد اغتيال الشهيدين مح ّمد الرباهمي وشكري بلعيد،
اإلرهابّ ،
فنجحت إعالم ّيا بشكل ال ميكن ألحد أن يعرتض عليه ،ولك ّن منها بعض
أعامل ارتكبت جرمية جامل ّية ،إذ خلت مماّ هو إبداعي وتح ّولت إىل
محض سباب وشعارات سياس ّية.
مل يكن ذلك يف عامل املرسح وحده ،إنمّ ا نجد له صدى كبريا يف مختلف
الحقول الثقاف ّية األخرى ،كالشعر والقصة والرواية والسينام ،مماّ مكّن
عديد الفنانني واملبدعني من الظهور اإلعالمي والنجاح يف تحقيق شهرة
واسعة ،ولكن ما يفوت املهت ّمني بهذه املسألة عجزهم أو تجاهلهم تلك
الفاصلة التي تجعلنا نف ّرق بني املبدع الحقيقي وبني تاجر الف ّن ،األ ّول
أدرك أن اللعبة اإلعالمية خاضعة إىل منطق االنتامء ،أو منطق السوق ،مبا
يعنيه االنخراط يف س ّجالت تبع ّية ما ،مادّية أو إيديولوجية ،فنجح إبداع ّيا
بينام هو رهني التهميش إذ ال أحد يعرفه غري أوساط قليلة من املهت ّمني
باملسألة الجامليّة يف ما هو ف ّني ،أ ّما الثاين فيخون املستقبل /اإلبداع
فيحقّق نجاحا إعالم ّيا غري مسبوق ،ورشيحة واسعة من املعجبني ،بينام
يدرك يف قرارة نفسه أنّه مث ّة نكسة إبداع ّية يف أعامله.
معضلة إعالم ّية أخرى ،بقدر ما لها من حلول تقدمها لنا يك نتع ّرف عىل
أعامل جادة ،فإنّها تجعلنا يف حالة ريب إزاءها ،وقد وجدت منبتها يف
أن كثري من الباحثني والكتاب والشعراء أمام انسداد سبل النرش أمامهم،
نتيجة عجزهم عن أداء صكوك االعرتاف بهم مبدع َني ،مال ّيا أو نتيجة
االجتامعي،
تبع ّية ما ،مل يتو ّرعوا يف نرش ما لديهم يف مواقع التواصل
ّ
ائس سهلة من قبل كتّاب آخرين فانتحلوا أعاملهم
ولك ّنهم صاروا فر َ
ونرشوها .وهكذا تكون الوسائل اإلعالم ّية قد بلغت الدرجة القصوى
من القتل ،إذ متتنع أ ّول األمر عن ترويج أعامل البعض ،وفيام بعد تسمح
ملن ر ّوجت لهم بالرسقات.
ختام املقام ،نستطيع القول إ ّن مواجهة خطر مثل هذا ال ميكن أن مي ّر إال
/اإلعالمي
بإعادة تشغيل مكانة ال ّناقد ،فليس مث ّة ما يجعلنا نهب الصحا ّيف
ّ
الدور األ ّول يف التعريف باألعامل األدب ّية واملرسح ّية والشعريّة والروائ ّية.
وإضافة إىل ذلك نشري إىل أنّه ليس مث ّة أيضا من سلطة مرعبة حتّى يلقى
السيايس أو ينصبّه قاضيا عىل اهتاممته
املبدع حتفه بأن يلعب دور
ّ
الفكرية واإلبداعية ،مقابل أن يهبه مساحة إعالمية من خاللها تعرف
أعامله .وختاما نلفت االنتباه أيضا إىل أنّه مث ّة فرق بني ثقافة املواجهة
وثقافة ال تعرتف بغري اإلبداع خصوصية لها ،األوىل قامئة عىل القتل وتجد
لها متجيدا من السلطة ووسائلها الدعائيّة ،أ ّما الثانيّة حتّى إن ه ّمشت
فإنّها وحدها التي تستنطق املستقبل كام ذكرنا سلفا عن تجربة الشاعر
ماياكوفسيك.
8
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
تحقيق منارات حول أنماط التعبيرات الثقافية
أهل القطاع يشخصون علل اإلعالم الثقافي
في تونس ويطلقون صيحة فزع
إعداد رشيدة الشارني ومنتصر الحملي
ما كان أحد يقدّر حجم األعطاب الفكرية والسلوكات الهمجية التي كشفت عنها
الثورة وما ك ّنا نظ ّن أننا ننام منذ قرون طويلة عىل هذا القدر الهائل من الجهل
والغطرسة والجنون ...أصوات كثرية تتعاىل منادية بأهمية الثقافة يف وسائل اإلعالم
باعتبارها طريقة ف ّعالة للنهوض بالوعي ونرش قيم املح ّبة والتسامح بني األديان ولكن
مساحة الثقافة الجادّة ظلّت محدودة عموما يف وسائل اإلعالم املسموعة واتّسمت
بالنخبوية يف اإلذاعة الثقافية وعديد الربامج يف اإلذاعات الجهوية أ ّما اإلعالم املريئ
(الوطنيتان 1و ) 2فيشهد خواء ثقافيا رهيبا مقارنة بجميع الفرتات السابقة مام جعله
يسقط يف اجرتار املايض واملستهلك والرديء ...وألسباب قد ال تخفى عىل أحد يعمد
إىل تغ ّيب املثقفني واإلعالميني الجادين القادرين عىل التأثري ويعمل عىل إقصائهم...
حول إشكالية اإلعالم الثقايف يف تونس استجابت مشكورة مجموعة متم ّيزة من
املثقفني واإلعالميني إىل أسئلة منارات الذين شخصوا بدقّة املشهد وطرحوا بجرأة أه ّم
الصعوبات وسبل خلق إعالم ثقايف مبستوى الحراك املرعب الذي تشهده املرحلة .
حسين راشد :إعالمي
شهدت تونس بعد 14جانفي تح ّوال جذريّا يف أداء
وسائل اإلعالم لكنه مازال بعيدا عن طموحات ال ّناس
حيث بدا غري متفائل مع نبض الشارع مفتقرا إىل
املهنية والحياد يف نقل الخرب وواقعا تحت سيطرة
الخاصة.
لوب ّيات ال ه ّم لها إالّ خدمة أجندتها ّ
كانت االنتظارات كبرية ليكون اإلعالم الثقايف القاطرة
التي تدفع عجلة التنمية مبفهومها الشامل وترعى
التح ّول الدميقراطي لك ّن هيمنة السيايس غيّبت أو
تكاد املسألة الثقافية وبالتايل فإ ّن تأثريه مل يعد كبريا
واكتفى باجرتار أساليب العادة منترصا للمركز عىل الجهات.
ال ّ
التحسن ..والنهوض
بعض
شك يف أن قطاع اإلعالم مازال يبحث عن نفسه رغم
ّ
به يتطلّب جهدا مضاعفا من املنتسبني إليه يجعله أقرب إىل التفاعل مع مشاغل
الفكر والثقافة واألدب ،علينا أن نؤمن بأ ّن االستثامر الحقيقي هو استثامر يف
الفعل الثقايف بتوفري اآلليات املناسبة لكلّ املتدخّلني فيه وذلك لنرش الوعي وقيم
الحريّة والدميقراطية ملا فيه خري بلدنا وأ ّمتنا.
المؤدب :كاتب وإعالمي
محمد عيسى ّ
ّ
ّ
الحق أن اإلعالم الثقايف بعد 14جانفي حاول أن يتغيرّ
وأن يخرج عن سطحيته نتيجة ظهور وجوه إعالمية
ثقافية جديدة و ظهور أعامل أدبية فرضت أشكالها
ومضامينها عىل وسائل اإلعالم ولكن منذ سنة 2012
بدأت ماكينة تهميش الثقافة يف وسائل اإلعالم تتح ّرك
وتفاقمت يف سنة 2013وهناك ق ّوة غريبة فعال داخل
الخاصة مه ّمتها إقصاء
كلّ وسائل اإلعالم الحكومية و ّ
صوت املثقّف وتهميشه وتسطيح أعامله ويف املقابل
فإن هذه املاكينة املتغ ّولة حرصت عىل متجيد األعامل
حس ف ّني وإبداعي أو وطني
التافهة والخالية من كلّ ّ
أو إنساين ،وهي أعامل أقلّ ما يقال عنها إنّها مهازل لكنهم يباركونها ومي ّررونها يف
أوقات الذروة .األخطر من ذلك أن اإلعالميني الذين كانوا يحتفون باملشهد الثقايف
العام يف عمقه وحركيته هاجروا إىل السياسة ،باإلضافة إىل حذف الربامج الثقافية
أو تقليصها وبرمجتها يف أوقات م ّيتة وتغييب الكتاب يف أغلب وسائل اإلعالم
رسع ،الكتاب اليوم لألسف
وإن ذكر فعىل الهامش وبشكل سطحي وركيك ومت ّ
أصبح تهمة وأضحوكة وليس لغة العرص ،هكذا يقول كثري من املسؤولني يف وسائل
اإلعالم الوطنية باإلضافة طبعا إىل تهميش الرموز الثقافية والفكرية والوطنية
وتشويهها مثلام جرى مع الدكتور يوسف الص ّديق والدكتور مح ّمد الطالبي.
كلّنا متو ّرطون ومسؤولون عن هذا الحضيض الذي وصل إليه الكتاب وآلت إليه
الثقافة التونسية وأعني املبدعني يف جميع املجاالت واتحاد الكتّاب الذي فقد كلّ
صالحيّاته وكل املنظامت والجمعيّات ذات الصلة بالشأن الثقايف .هناك أصوات،
هناك مقاومة ولكن ضئيلة ويائسة زادتها وسائل اإلعالم االفرتاضية وخاصة
الفايس بوك بؤسا عىل بؤس .وإن رمنا أن نحلم بإعالم ثقايف مؤثّر فال ب ّد أن يكون
ذلك قرارا بأيدي املبدعني ال بأيدي املسؤولني ،ال ب ّد من قوانني جديدة تح ّدد نسبة
محرتمة لحضور الربامج الثقافية يف كلّ وسائل اإلعالم 25باملائة مثال .هم يعلنون
يوميّا أنّهم يجابهون اإلرهاب ويف املقابل يقصون الثقافة ويجرجرونها إىل الجهل
والتخلّف .إنّها رصخة أخرى إضافية ال ب ّد أن يعي بها كلّ مثقّف ح ّر و مسؤول،
آن األوان ليك ننهض ونتح ّرك ونقتحم األماكن التي نهبت م ّنا باسم مسايرة لغة
العرص وهي دون ّ
شك لغة اإلفالس واالغرتاب واإلرهاب.
د.عبد القادر عليمي (ناقد وكاتب تونسي)
استبرشنا بعد ثورة الرابع عرش من جانفي
إحدى عرش وألفني بربيع ثقايف يواكب ما
شهدته البالد من تح ّوالت سياسية جذريّة،
فقد كان يف الحسبان أ ّن «املشهد» سيتط ّور
ال محالة ،وأ ّن اإلعالم الثقايف سيخرج من
«حالة السبات» والتسطيح التي كان عليها
يف ما يتّصل باعتنائه باإلضافات اإلبداعية
والتنويعات الثقافية الجادّة .ولكن الحقيقة
والواقع كانا -لألسف -خالف ذلك ،فاملتتبع
لهذا اإلعالم يالحظ أ ّن التفاعل مع مستج ّدات الساحة الثقافية ظلّ سطح ّيا يف
الغالب األع ّم ،وأ ّن الكثري من املبدعني الذين وقع تهميشهم وإقصاؤهم يف عهد
ما قبل الثورة قد وقع تجاهلهم بعدها أيضا ،ولعلّ يف معرض الكتاب التونيس يف
أغلب دوراته التي أقيمت منذ سنة 2011خري دليل عىل ذلك .أ ّما عن الربامج
الثقافية املك ّرسة لجديد الثقافة رصدا وتفاعال ،فدار لقامن ظلّت عىل حالها إالّ
يف ما يتّصل باستثناءات قليلة ميكن أن منثّل لها بربنامج «بيت الخيال» الذي
يبثّ عىل الوطنية األوىل ويق ّدمه الروايئ كامل الرياحي ،وقد مثّل متنفّسا حقيقيا
للمبدعني واملهتمني بالشأنني الفكري والثقايف عموما ،وكذلك ما تجتهد اإلذاعة
الثقافية يف تأثيثه من برامج وتقدميه إىل املستمعني من خالل ثلّة من الشعراء
والكتّاب والجامعيني والصحافيني املختصني مبتابعة الشأن الثقايف عىل غرار
القاص عمر السعيدي وغريهم...
األساتذة سامح قصد الله ومحمد آيت ميهوب و ّ
ولكن رغم ذلك يبقى اإلعالم الثقايف محدود الفاعلية ،باإلضافة إىل ظاهرة أخرى
الفتة وقع تكريسها يف أحيان كثرية وهي االهتامم املبالغ فيه بجملة من األعامل
التي ي ّدعي أصحابها أنّها «إبداعية» وهي دون ذلك بكثري ...ورغم كلّ يشء،
فإ ّن فاعلية اإلعالم الثقايف لن تظلّ محدودة إىل زمن طويل واعتقادنا أ ّن القادم
سيكون أفضل.
عبد القادر اللّطيفي :روائي
رأيي أن التغيري السيايس الذي وقع بعد 14
جانفي 2011قد فتح اآلفاق واسعة أمام
جميع الحريّات مبا يف ذلك حريّة اإلعالم
الثقايف ومن املؤكّد أن املشهد قد كشف عن
أعامل إبداعية كثرية وأسامء أدبية كانت من
قبل منبوذة أو بعيدة أو محتشمة ولعلّنا
نتذكّر موجة الروايات التي استعادت تجربة
السجن لكثري ممن تع ّرضوا لالعتقال السيايس
سواء من اليمني أو من اليسار ،إذن مل تعد
املشكلة مشكلة حريّات بقدر ما هي مشكلة انتظارات وطموح وآمال لرشيحة
من املثقفني وغري املثقفني الذين رمبا كانوا يتوقّعون آفاقا أوسع بكثري من
إمكانيات البالد والوطن ،لقد ظلّ الجامعيون بطريقة أو بأخرى عىل منح الصكوك
الخاصة ببعض األعامل دون غريها خاصة يف مناسبات منح الجوائز األدبية وظلّت
الخاصة هي التي تق ّدم هذا وذاك إىل املشهد
الصحافة التي تحكمها العالقات ّ
دون متحيص كبري ودون فرز الغثّ من السمني وظلّ املكان أيضا متحكّام مبركزيته
ونعني به العاصمة يف صنع مشهد ثقايف مح ّدد كثريا ما يتقاطع مع التجاري
والسيايس وعموما رغم إيجابيات الثورة فإ ّن املشهد
الثقايف التونيس ومن ورائه اإلعالم الثقايف مازال مشدودا إىل الوراء ،أستثني بعض
األسامء التي تحاول أن تق ّدم مادّة نافعة سواء يف اإلذاعة الثقافية أو القناة األوىل
أو يف بعض املالحق القليلة يف بعض جرائدنا ،أميل أن يتط ّور إعالمنا إىل ما هو
أفضل بكثري.
عامر بوعزّة :شاعر وإعالمي
مل يطرأ بعد الثورة تغيري يذكر عىل اإلعالم
الثقايف مبختلف أجنحته بل ظلّ محافظا عىل
نفس التو ّجه رغم تع ّدد العناوين الصحفية
وتط ّور وضع الحريّات العا ّمة ،هذا يرتبط
بالوضع العام للثقافة يف تونس وهو وضع
ثابت مل تق ّوض أسسه املتغيرّ ات السياسية،
بالسوق من جهة وباملؤسسة
وضع يرتبط ّ
الرسمية من جهة ثانية فال حديث عندئذ عن
الثقافة إالّ مبا هي عروض فرجويّة يف مختلف
الفنون ودعم حكومي ملشاريع فن ّية واإلعالم ينقل هذا الوضع يف تعابري صحافية
يومية ال غري مقارنة بفرتات ماضية كان الشأن الثقايف فيها أحد مك ّونات السيادة
الوطنية وعنرصا أساسيا يف حقل التنمية البرشية ،ميكن القول بأننا منذ بدايات
األلفية الجديدة دخلنا النفق املظلم ونزلنا إىل أسفل درجات الدرك فقد كنت
تجد يف الصفحات الثقافية لكربيات الجرائد اليومية واألسبوعية ومنها الحزبية
املتخصصة
فضاءات لل ّنقاش والرأي كان لها دور يف تغيري الواقع كام كانت املجالّت ّ
عىل غرار «الفكر» و»قصص» تلعب دورا مهماّ يف تشكيل الحركة اإلبداعية
وقيادتها ويف التسعينات كان من حظّنا أن عشنا تجربة ملتقى أدب التسعينات
التي تتن ّزل يف هذا السياق ،تط ّور اإلعالم الثقايف مرتبط بتط ّور التص ّورات الثقافية
ونحن نفتقد اليوم إىل رؤية اسرتاتيجية واضحة تح ّرر الثقافة من بعدها القيمي
االستهاليك ومتنحها من جديد وظيفة القيادة يف مجتمع يتطلّع إىل األفضل.
حفيظة قاره بيبان _بنت البحر _ (روائية تونسية)
تعترب الثقافة منارة الشعوب وعنوان التحرض.
وهذا ما تدركه جيدا القوى الكربى فتغزونا من
خاللها ،موظفة كل الوسائل وأخطرها اإلعالم
الذي أصبح -ال قوة رابعة -بل قوة أوىل.
ولكن ،لألسف ،رغم تحرر الكلمة مع الثورة
وتحرراإلعالم ،مل يع من اعتلوا كرايس الحكم
هذه الحقيقة أو شغلتهم عنها رصاعاتهم
السياسية ،فظلت الثقافة دوما مهمشة رغم
حركية املشهد اإلبداعي ورغم استقاللية اإلعالم
يف الظاهر -فإنه ظل يدور يف فلك الرصاعات السياسية والحزبية ،تاركا للثقافةالحوايش الصغرية ،إن وجدت.
فمع اندثار املالحق الثقافية وتقلص عديد الصفحات الثقافية ،يواصل اإلعالم
املريئ الطاغي تركيزه غالبا ،عىل ثقافة الرتفيه والتخدير التي ورثها عن النظام
املنهار والتي خلفت جيال هشا ضائعا يتلقفه التطرف ميينا ويسارا.
ألهمية املوضوع ،نظمنا السنة املاضية يف فرع رابطة الكتاب األحرار ببنزرت
ندوة «اإلعالم والثقافة» ودعونا اإلعالميني واملسؤولني للحوار ..ولكن ،حرضت
قامات إعالمية معروفة كمحمد بن رجب ،الهاشمي السنويس (عن الهايكا)،
آمال الشاهد ،مراد البجاوي ،إضافة إىل الكاتبني املناضلني د.جلول عزونة ومحمد
الجابيل ...حرض اإلعالميون والكتاب وتغيب املسؤولون عن التلفزة الوطنية الذين
دعوناهم ،مام يثري أكرث من سؤال.
نقطة االستفهام الكربى كانت بعد قيام التلفزيون الفلسطيني بتسجيل أكرث من
10حلقات من برنامج ثقايف خاص باملبدعني التونسيني ،بعنوان «أوراق خرضاء»
تم تسجيله يف تونس باالشرتاك مع التلفزة التونسية ،ليقدم يف نفس الوقت يف
تونس وفلسطني .أعدت الربنامج وقدمته اإلعالمية والشاعرة كوثر الزين ،يف مدن
تونسية مختلفة ،فحاورت لطفي بوشناق ،صابر الرباعي ،فاضل الجعايبي ،محمد
الصغريأوالد أحمد ،عادل بوعالق ،حفيظة قاره بيبان ...ولكن ،قدم التلفزيون
الفلسطيني الربنامج عن املبدعني التونسيني وأسقطته التلفزة التونسية من
برامجها رغم مشاركتها التقنية فيه .السؤال الكبري والخطري يظل قامئا ،ملاذا؟
«أوراق خرضاء» موجود عىل اليوتوب ملن يريد االطالع عليه.
*************************
9
لعل أهم أسباب هذا ا لتهميش اإلعالمي للثقافة هو:
- 1غياب إرادة سياسية حقيقية إليالء الثقافة مكانتها باعتبارها أولوية وطنية،
تعمق وعي املواطن وتحصن الشباب وتحميه من املخاطر.
- 2ضيق الرؤية لدى أغلب املسؤولني عن اإلعالم -املريئ يصفة خاصة -والسعي
وراء املصالح اآلنية الطاغية والربح الرخيص.
- 3انعدام مرشوع ثقايف واضح يسعى الجميع إىل تحقيقه ألجل مصلحة الوطن.
- 4إقصاء وتهميش اإلعالميني الوطنيني أصحاب املشاريع.
قد نتجاوز هذا الواقع لوأجبنا عىل هذه األسئلة
- 1متى تصبح الثقافةأولوية وطنية ،لها مكانتها يف كل الوزارات ،فتن ّمي وعي
املواطن وتحصن الشباب من السقوط يف مهاوي التطرف ،وتتجند لها الكفاءات
الوطنية من اإلعالميني أصحاب املشاريع لتصبح حاجة وغذاء روحيا وعقليا يحقق
توازن الفرد ويرتقي بإنسانيته؟
- 2متى يتخلص عديد املشتغلني باإلعالم الثقايف من بعض غرور أو كسل أو
ارتباطات إخوانية مصلحية أحيانا ،للبحث والسعي النبيل إىل تقديم الجديد
واملفيد املبتكر يف املشهد الثقايف وعدم السقوط يف املجرت واملكرس؟
- 3متى تتعمق الرؤية وتتسع لدى املسؤولني عن القطاع اإلعالمي املريئ خاصة
فيخف سعي الكثري منهم ،خلف الربح الرخيص
(لخطورته وتأثريه الواسع) ّ
وتشجيعهم للسقوط األخالقي العام؟
- 4ما الذي مينع وزارة الثقافة من أنتاج برنامج ثقايف قصري ومميز يقدم يوميا
أوقات الذروة يف القناة الوطنية لتقديم كتاب بطريقة مبتكرة خفيفة ،كام فعلت
وزيرة الثقافة األردنية؟ وما الذي مينع تلفزاتنا من تقديم فقرة يومية يف نرشة
األخبار تعرف بكتاب جديد يف دقائق كام تفعل بعض التلفزات األجنبية؟
- 5متى تصبح الصلة وطيدة بني الثقايف والرتبوي واإلعالمي ،ومتى يعي اإلعالم
مبسؤوليته الخطرية -ال يف نرش املعلومة فقط -بل يف تغيري العقليات وتأسيس
وعي جديد والرقي باإلنسان لصالح هذا الوطن.
ابتسام خليل (كاتبة وناقدة تونسية)
للثقافة تجلّياتٌ وتعبرياتٌ إبداع ّي ٌة مختلفة
يف الكتابة واملرسح والسينام واألغنية وفنون
الشارع إىل غري ذلك .وال يختلف إثنان يف
مسؤولية اإلعالم الثقا ّيف التي ازدادت بعد الرابع
عرش من جانفي .إذ عليه أن ي ُوصل أصوات
املثقّفني يف البالد التونسية ورؤاهم ومشاغلهم
االجتامعي أو
يس و
رغم ُعلُ ّو موجة الشأن السيا ّ
ّ
االقتصاد ّي .يبذلُ مق ّدمو الربامج الثقافيّة يف
اإلذاعة جهدا مضاعفا لتقديم تجارب إبداعية
معيّنة أو ملواكبة فعاليات يف جهة من الجهات،
فكان جزا ُء بعضهم «جزا ُء سنامر» ،أش ُري مؤ ّخرا اىل التخ ّيل عن «مراد البجاوي»
اإلعالمي املميّز ،وهو يف أوج عطائه .وقبله ُهرسلَت سيّدة املصدح «علياء
املبدع
ّ
رحيم» من إذاعة املنستري ،واغتيل صوتُها وهو صوتُ كثري من املبدعني والجهات
يف البالد من رشقها اىل غربها ومن شاملها إىل جنوبها.
الوج ُه اآلخ ُر لهامش ّية املثقف التونيس وتهميشه هو وج ُه الفُرصة إلخراج أكرث من
ُمنتَج ثقا ّيف ُمميَّز يرغ ُم ال َعمى التلفز ّي مثالً عىل التنقّل عىل عني املكان لإلحاطة
بتفاصيله حدثا ثقافياّ عظيام حقاّ .إنّها فرص ُة الكتّاب أيضا أن ال يكونوا ظالال لذلك
اإلعالمي أو لتلك اإلعالميّة ،وأن ي َدع ُوا أعاملهم تدافع عنهم ال أن يتح ّول الكثري
ّ
مناّ ،لألسف ،إىل َس َد نة لقامات زائفة.
الصحافة ويتعاون في إنتاج
الشيحاوي،
كمال ّ
صحافي بجريدة ّ
ّ
برامج في اإلذاعة الثّقاف ّية
بيشء من االختزال ميكن القول إن اإلعالم الثقايف
قد تأثّر يف مضامينه باالستحقاقات والرهانات
السياسية واالجتامعية التي فرضتها ثورة
14جانفي وبكلّ أطوار االنتقال الدميقراطي
التي عرفتها بالدنا ومازالت .ومن مظاهر هذا
التأثر يف السنوات األوىل مشاركته يف الجدل
اإليديولوجي والفكري حول قضايا الهوية
ومدنية الدولة واشكاليات تضمني الرشيعة
ومبادئ حقوق اإلنسان العاملية يف دستور
الجمهورية الثانية لتونس .هذا باإلضافة إىل ما
طرحته عديد املنابر الثقافية من أسئلة حول واقع اإلنتاج الثقايف وفلسفة السياسة
الثقافية يف تونس ملا بعد 14جانفي يف ما يتّصل بآليات الدعم العمومي للمرسح
والسينام والكتاب وتنظيم امللتقات واملهرجانات وغريها وما ظهر من تح ّمس
عدد من الفنانني الذين صاروا «ناطقني باسم الثورة» إىل معاقبة عدد من الفنانني
املحسوبني عىل النظام السابق مبنعهم من صعود عدد من املهرجانات الدولية
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
وحرمانهم من آلية الدعم العمومي .وقد عرفت الساحة الثقافية والفكرية خاصة
بروز عدد من املثقفني الذين كان صوتهم عاليا يف مواجهة مشاريع وأفكار ما
عرف باإلسالم السيايس مبختلف تعبرياته .ومن بينهم «يوسف الصديق» و«رجاء
بن سالمة» و«محمد الطالبي» عىل سبيل املثال ال الحرص .واتضح خالل السنوات
األوىل التي تلت الثورة حجم تأثري التلفزة بوصفها أحد املحامل األكرث تأثريا يف
مجال اإلعالم عموما واإلعالم الثقايف خصوصا .وبرزت يف هذا اإلطار قنوات تلفزية
خاصة حقّقت نسب مشاهدة عالية من خالل نوعية من الربامج الثقافية التي
تعتمد صيغ املن ّوعات والحوارات و«التولك شاو» التي يتداخل فيها التعليق
بالسخرية واملواقف الكوميدية وطرحت أسئلة حول خطورة البحث عن اإلثارة
و»البوز» بطرق يت ّم فيها أحيانا التضحية بالقيمة الثقافية للضيف .واإلعالم الثقايف
يف مجال عميل األسايس بجريدة الصحافة التونسية يستم ّر عىل نفس الوترية
ومشاكله هي من جوهر مشاكل اإلعالم املكتوب يف املجال العمومي .ومماّ أس ّجله
يف هذا املجال أ ّن معظم الصحف التونسية باتت تقترص عىل الصفحات الثقافة
والفنية اليومية مع فتور الحامس إن مل أقل انعدامه يف ما يتصل بتخصيص مالحق
مختصة أو منابر للجامعيني واملثقفني .ويرجع األمر إىل سببني أساسيني يف تقديري:
املشكل املادي والعجز عن دفع أجور املتعاونني يف هذا املجال والذين يجدون يف
الصحف واملجالت الخليجية وغريها من يكافأ أعاملهم ماديا عىل نحو أفضل بكثري.
وثانيا الوعي غري املعلن أحيانا بأن صيغ املالحق والصفحات املختصة يف الصحف
اليومية ربمّ ا بات شيئا من املايض .وأحسب أن رشوط النهوض باإلعالم الثقايف
ليست مفصولة عن رشوط النهوض باإلعالم عموما وخصوصا يف مجال الصحافة
املكتوبة التي تعاين من أزمة مستفحلة تضاعفت يف السنوات األخرية .ومن الحلول
املقرتحة يف هذا املجال أن تقف الدولة بالدعم إىل جانب الصحف التونسية
وتضاعف من مساعداتها .وأن يفتح نقاش واسع للتفكري يف الصيغ والطرق األكرث
نجاعة يف مجال اإلعالم الثقايف عىل مختلف املحامل اإلعالمية (صحافة مكتوبة،
إذاعة ،تلفزة ،أنرتنات) .ث ّم أن يتم الفصل تدريجيا بني الصحافة املختصة يف مجال
اإلعالم الثقايف والصحافة الجامعة مع مضاعفة فرص الرتبّص والتكوين للصحافيني
الشبّان بحيث يتاح لهم الحصول عىل تكوين أفضل يف مجاالت النقد السيناميئ
واملرسحي واألديب واملوسيقي بحضور مك ّونني وجامعيني مختصني.
ثريا رمضان( :سكريتيرة تحرير وكالة أخبار المرأة وشاعرة).
* ما هو تشخيصك لواقع اإلعالم الثقايف يف بالدنا بعد 14جانفي؟
تعرف الثقافة يف تونس يف فرتة ما بعد 14جانفي نوعا من التهميش ،مع بروز السيايس
عىل الواجهة واهتامم الشارع ببالتوهات
التحليل الدائم لألحداث السياسية ،ال سيّام
وأن الشعب مازال يتل ّمس طريقه إىل حرية
الرأي ،بعد قمع مورس عليه عقودا ،وهذا
ما جعل من الثقافة آخر اهتامماته ،وما زاد
الطني بلّة األحداث الدموية املتتالية التي
عرفتها البالد ،وجعلت اإلعالم يتّجه بنظره
إىل التحاليل الدورية وبشكل مكثف .ورغم أن البعض يرى أن املثقف استعاد
اعتباره عىل الساحة مع قدرته عىل التعبري بحرية أكرب ،إال أين أعتقد أن اإلعالم مل
يعطه حقه بالقدر الكايف ،خصوصا أننا نفتقر إىل برامج ثقافية تلفزية مع إلغاء
العديد منها وعدم تعويضها بغريها .وأيأ كانت أسباب هذا اإللغاء يتوجب عىل
املؤسسات اإلعالمية الكربى توفري التعويض.
* ما هي الصعوبات والعراقيل التي تعرتض اإلعالم الثقايف يف مجال عملك؟
بالنسبة إيل ،ال أجد صعوبات أو عراقيل بشكل كبري وال أرى أنها قد تنغّصالعمل الصحايف يف املجال الثقايف ،ذلك أن القنوات صارت مفتوحة بشكل أكرب
منذ 14جانفي لتمدنا باملعلومة ،كام أن استعادة املثقف كام قلت سابقا لحرية
التعبري س ّهلت مه ّمة الصحايف .لكن امللفات الثقافية الكربى تبقى يف معظمها
تعرف ضبابية ،ذلك أن اإلدارة بهيكلتها الكالسيكية مل تتغري ،فالبريوقراطية كعادتها
يف بطئها واملحسوبيات يف السبق ،وحتى يف توزيع املهام الصحفية خالل املناسبات
الكربى كاملهرجانات .املشكلة أيضا مرتبطة باملؤسسات اإلعالمية التي سقطت
يف ف ّخ االبتذال مام جعل املجتمع يسقط يف ه ّوة املبتذل ،وهو ما يجعلني أرى
عىل البعد الطويل محاوالت لتدمري الثقافة يف تونس ،من خالل إعالم يتعامل مع
املبتذل والهابط والسكوب والفضائح.
* ما هي حسب رأيك الحلول الكفيلة بدفع اإلعالم الثقايف والنهوض به؟
نحتاج إىل برامج ثقافية تلفزية دسمة ترفع من مستوى املشاهد ،وتش ّجع املبدعالتونيس عىل العمل أكرث للدفع بعجلة الثقافة وإعادة هيبتها من جديد ،ومن هذا
املنطلق يجب عىل املؤسسات اإلعالمية عىل مختلف أشكالها وتوجهاتها أن تعيد
رضت بالجيل الجديد.
النظر يف ما تبثه وما تنرشه من تفاهات أ ّ
الشارني
كمال ّ
الشروق ومحلّل ومح ّرر باإلذاعة الثّقاف ّية)
(صحافي بجريدة ّ
ّ
تشخييص لواقع اإلعالم الثقايف:باءت أحالمنا بواقع إعالمي أكرث حرفية ونزاهة
وجدية ومصداقية واختصاصا بالفشل ،أصبح
اإلعالم الثقايف أكرث سطحية ،فريسة لالنتهازيني
وغري املختصني وممن فشلوا يف مهنهم األصلية
فأصبحوا بفعل كساد مهنة الثقافة صحافيني،
كيف ميكن أن نتحدث عن إعالم ثقايف يف ظل
انخفاض اإلنتاج الثقايف نفسه ،كم من كتاب
ننرش سنويا؟ كم من فيلم وكم من مرسحية
ومن أغنية ؟
مازالت العالقة بني املبدع أو املنتج الفني والصحايف غري سليمة ،األول يروج
أنه ميكن رشاء صحايف بربع دجاج (تهافت املحسوبني عىل الصحافة الثقافية
وانتشار الدخالء) ،والصحايف يشكو من خواء اإلنتاج وميل املنتجني واملحسوبني
عىل اإلبداع إىل اجتذاب صحافيني أنصار ،قاوقجية للرتويج ،مل يتحول الصحايف
الثقايف إىل سلطة نقدية كام هو حر ّي به ،طريق الخروج يجب أن يكون هناك
إعالم وطني أوال ،ثم يجب أن يكون هناك صحافيون مختصون ثانيا ،وأن يتواضع
السادة أصحاب املؤسسات اإلعالمية إلعطاء الثقافة حقها ،والتوقف عن تكليف
شذاذ اآلفاق بالكتابة عن الفعل الثقايف.
آمال الشاهد (صحافية وإعالمية)
من الصعب القيام بتشخيص وضع أو واقع
االعالم الثقايف يف تونس خالل السنوات االخرية
بصورة مجردة ومن الصعب أكرث الحديث
عن االعالم الثقايف مبعزل عن واقع اإلعالم
عموما يف ح ّد ذاته ومبعزل عن واقع الثقافة
نفسها لقد ساهمنا جميعا يف تهميش الثقافة
الحقة ويف وضعها يف الصفوف االخرية من
دائرة اهتامماتنا وحديثنا .مل تكن الثقافة قبل
السنوات الست االخرية اختيارا محوريا واضحا
ومكتمل املعاين ،كانت هنالك محاوالت فردية «تخطى وتصيب» ولكن ال ميكن
الحديث عن اختيارات جوهرية عميقة ومدروسة يف مجال السياسة الثقافية
وهذا االمر تواصل بل قل استفحل خالل سنوات الثورة بسبب انكباب الجميع
عىل الشان السيايس اليومي يف معناه السطحي وبسبب عدم وجود رؤية واحدة
واضحة لدى من ميارسون السياسة ويتقلدون الحكم للشأن الثقايف ،وبالتايل بقي
الشأن الثقايف يف تصوره اقرب إىل الفولكلور أو للتظاهر الجامعي الذي يعول عىل
الك ّم وعىل حشد الجامهري دون موقف نقدي ودون فهم الغايات املطلوبة أو
النتائج املامول تحقيقها ،وبالتايل يف هذا الوضع من التخبط والسطحية واالرتجال
ماللذي ميكن أن نطلبه من اإلعالم الثقايف؟
لن نجد إجامال ويف غالبية االحوال دون السقوط يف التعميم إال نتيجة واحدة :
«هذه بضاعتكم ردت إليكم.»...
ميكنني ذكر بعض االمور التي تؤخر أداء االعالم الثقايف خصوصا يف ظل املشهد
االعالمي الحايل املكتوب منه والسمعي والبرصي ،االعالم العمومي بعيد جدا
عن األدوار التي من املفروض أن يؤديها وبالتايل هو ال يخدم الثقافة الوطنية
وال الثقافة االنسانية باألداء املطلوب وبالحجم والنوعية الالزمني ،ولنقل إنه آن
األوان حتى يستفيق من سباته ومن استقالته ،حتى يتمكن من دور القاطرة التي
تؤسس وتدافع عن مبادئ اإلعالم املهني وااليجايب وحتى يضطلع مبهامه الرئيسية
الثالث املتعارف عليها كونيا وهي اإلخبار والتثقيف والرتفيه (يف معناه السامي
والنبيل) أما اإلعالم الخاص فهو أبعد ما يكون يف شكله الحايل ويف خطه التحريري
الطاغي اليوم ،عن الوعي بأهمية الثقافة والعلم والعمل واملعرفة وبالتايل فإنه
يختار يف غالبيته ثقافة اإلثارة واالستفزاز واللهث وراء الفضائح ،إن صح التعبري
يف تسمية هذه املامرسات «ثقافة» ،وأظن أنني لست يف حاجة إىل الحديث عن
وضع الصحف املكتوبة التي تتكبد مشاقا يف مواصلة الصدور والتي يعمد جزء
منها بني الفينة و االخرى اىل الطرد الجامعي للصحافيني العاملني فيها بتعلة
الصعوبات االقتصادية ،فعن اي ثقافة وعن أي سياسة تحريرية ثقافية ستتحدث
مع املرشفني عليها؟ السؤال الثالث لن أطيل عليك وأكتفي بقول واحد :عىل هذا
البلد ومؤسساته واملسؤولني عن سياسته وعىل شعبه أن يطرحوا عىل أنفسهم
سؤاال جوهريا ،ماذا نريد وما هي الغايات التي نريد الوصول إليها وتحقيقها،
عند اإلجابة عن هذا السؤال سوف تتوضح حينها عالقتنا بالفعل الثقايف يف معناه
العميق ،وعندها سنفهم مدى حاجتنا إىل الثقافة واملعرفة و إىل حرية الفكر
والخلق حتى نصل اىل تلك االهداف والغايات بعد ذلك سيبدو الطريق لنا واضحا
وسيكون منهج الوصول سهال جدا.
10
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
موجز لتاريخ االعالم ال ّثقافي في تونس
من خالل المج ّالت والمالحق ال ّثقاف ّية.
*عاطف رجب
باحث في ال ّتاريخ
عتبة :
مصطلح الثقافة الذي يشري إىل ّكل ما أنتجه البرش من أفكار وتصورات وعادات ونظم
اجتامعية وسياسية ومدلوالت اقتصادية وفعاليات أدبية فنية ،هو يف الواقع وثيق الصلة
بفعل التواصل بني األفراد وبني الجامعات املختلفة وبني األمم والحضارات .يف عرصنا هذا
يتجسد يف االعالم الذي ليس أداة لل ّتواصل االجتامعي والترّ ويج االخباري
فإ ّن فعل ال ّتواصل ّ
فحسب ،بل هو رشيك حقيقي يف تكوين األدوات الفكرية واملفاهيم واملنظومات والقيم
الفاعلة يف الثقافة وانتشارها ،كام أ ّن اإلعالم كان مساهام فاعال يف توليد الثقافة وجعلها
ضمن آليات الوعي الفردي والجمعي من أجل التغيري والتقدّم الحضاري.
ميكن الحديث اذن عن عالقة بني االعالم والثّقافة تصل إىل ح ّد الرتابط الوثيق وال ّتداخل
املستم ّر ،فاالعالم مطالب بتقديم الدّعم للمنتوج الثّقايف والترّ ويج له وخلق جسور ال ّتواصل
بني املبدع واملتلقّي ّ
وبث االفكار الثّقاف ّية ،وهنا نتحدّث عن االعالم الثّقايف أي االعالم الذي
يعالج األحداث والظّواهر والتط ّورات التي تعيشها الحياة الثّقافية ،اذ أنّه باألساس يتو ّجه
لتحريك وتوجيه الوعي االنساين ،ومن هذا املنطلق أردنا هذه القراءة املوجزة يف تاريخ
االعالم الثّقايف يف تونس من خالل االعالم املكتوب (الصحف واملجالت) بوصفه يحمل تقاليدا
عريقة يف تونس انطلقت منذ 1860مع جريدة ال ّرائد التونيس.
*المجالّت األدبية والفكر ّية:
تظلّ مجلّة الفكر التي صدرت بني 1955و 1986لصاحبها «محمد مزايل» إحدى
أبرز املجالّت الثّقافيّة نظرا إىل اهتاممها مبشاغل املثقّف التّونيس والتّعريف
خاصة للشباب من الكتّاب والشّ عراء التّونسيني مثل جامعة
باملنجز اإلبداعي ّ
الطّليعة ،لكن حسب تقديرنا كان يعوزها الحياد والعمل مبقتىض حريّة الفكر
الصحافة حيث كانت حكرا عىل مريدي الفكر البورقيبي رغم ادّعاء مرشفيها
و ّ
أنّها مفتوحة ملختلف التّيارات الفكريّة.
تخصصت يف الثّقافة وهي مجلّة الحياة الثّقافيّة التي ّأسسها الراحل
مجلّة أخرى ّ
محمود املسعدي سنة ،1971والتي بذلت جهدا يف ترويج الثّقافة التّونس ّية
والعمل من أجل املثقّف التّونيس ،وهي مجلّة رسم ّية صادرة عن وزارة الثّقافة.
مجلّة قصصّ :أسسها األديب محمد العرويس املطوي سنة 1966تصدر كل ثالثة
الصدور
أشهر عن ال ّنادي الثقايف «أبو القاسم الشّ ايب» بالوردية وهي متواصلة ّ
مختصة يف
إىل اليوم رغم ما تجده من صعوبات .هذه املجلّة هي أقدم مجلّة ّ
القصة القصرية وفصوال من ال ّروايات
القصة يف العامل العريب تنرش مناذج من ّ
ّ
للقصة
ودراسات تنظرييّة يف مجال الكتابة القصصيّة وال ّدراسات التّقليديّة ّ
القصرية وال ّرواية.
إضافة إىل املجالّت املذكورة هنالك مجالت عديدة أخرى كان لها دور هام يف
خدمة املثقّف التّونيس مثل مجلّة االتحاف ،مرآة الوسط ،واملسار وهي مجلّة
اتّحاد الكتاب التّونسيني...
اختصت يف الثّقافة والعلوم االنسان ّية عىل
الب ّد من االشارة أيضا إىل نرشيّات ّ
غرار «ايبال» والتي تصدر من تونس منذ عام 1937عن معهد اآلداب العربية
الجميلة ،وتعنى باآلداب العربيّة ،كذلك نرشيّة مركز البحوث حول املغرب
تأسس سنة 1993بتونس ،باإلضافة إىل فصلية حديثة ال ّنشأة وهي
املعارص الذي ّ
مجلّة الفكر الجديد التي صدر العدد األ ّول منها يف مارس 2015وهي مجلّة
ثقاف ّية جامعة تصدر عن جامعة منوبة ،ومجلّة الكاتب الح ّر وهي املجلّة التي
تصدرها رابطة الكتاب األحرار.
*المالحق الثّقاف ّية:
للصحف سواء ال ّناطقة باللّغة العرب ّية أو باللّغة الفرنس ّية
كان ّ
صفحات أو مالحق تعنى بالشّ أن الثّقايف سواء يف شكل
خاصة يف
صفحات أو مالحق مستقلّة وقد كان لها دور كبري ّ
مساعدة األقالم الشّ ابّة عىل الظّهور ،وكانت همزة وصلت
بني املهت ّمني بالشّ أن األديب ،ومن أبرز املالحق الثّقافية
ملحق العمل التّونيس :العمل التّونيس هي الجريدة
ال ّناطقة باسم الحزب الح ّر الدّستوري التّونيس ،تح ّولت
صفحاتها الثّقاف ّية إىل ملحق ثقايف مستقلّ منذ سنة1968
بإرشاف األديب ع ّز الدين املدين ،احتضن هذا امللحق
رموز حركة الطّليعة األدبيّة وحركة الشّ عر املنجمي،
الساحة الثّقافيّة ،انبثقت
كام مثّل امللحق باباً لدخول ّ
منه أسامء عديدة مثل محمد صالح بن عمر ،الطاهر
الهاممي ،نافلة ذهب ...وغريهم من الكتاب التّونسيني ،وتواصل هذا امللحق يف
الصدور بعد 1987وتح ّول من جريدة العمل إىل جريدة الحرية.
ّ
ملحق جريدة الشعب :جريدة الشعب هي ال ّناطقة باسم االتّحاد العام التّونيس
للشغل ،بعد أحداث 1978وصدام الحزب الحاكم واالتّحاد ،برز ملحق جريدة
الشعب الثّقايف بإرشاف «أحمد حاذق العرف» ،وأصبح امللحق محلّ تنافس بني
األقالم امله ّمة ،ومن أهم األسامء التي نرشت يف هذا امللحق أوالد أحمد ومنصف
املزغ ّني ومحمد الغ ّزي وغريهم.
الصدور أواخ َر الثّامنينات ،لينبثق من جديد سنة 2012
انقطع امللحق عن ّ
الشعب الثقايف وسنة
2004إىل سنة2007
منارات 45عددا ويف سنة 2016
باسم «منارات» كذلك يف تجربتها الثانية.
الصحافة ،بدأ صدوره منذ 1993واكتسب
ورقات ثقافيّة :امللحق الثّقايف لجريدة ّ
رسيعا إشعاعاً مهماّ فقد كان منربا ً للكتّاب املجدّدين ،نرشت فيه الكثري من
ال ّنصوص الشعرية وال ّنرثيّة املجدّدة إضافة إىل ورقات نقديّة ذات قيمة ،قبل أن
الصدور يف .2009
يتوقّف هذا امللحق عن ّ
جريدة الصباح كان لها أيضا ملحقها الثّقايف الذي مثّل فضاء للتعريف بالكتّاب
الشّ بان ،صحف أخرى لها صفحات ومالحق ثقاف ّية مه ّمة مثل الرأي العام
الشرّ وق واملغرب...
الصحف ثقافيّة باألساس تعمل عىل تقديم مادّة ثقافيّة
يف مهدها كانت كلّ ّ
مه ّمة وتضاهي الكتب واملجالّت األدبية لكن
انخراطها يف منظومة الدّعاية واإلشهار كان عىل
الصفحات الثّقاف ّية مماّ أدّى إىل اندثار أغلب
حساب ّ
املالحق الثقافيّة تقريبا.
مث ّة بعض األسباب األخرى املساهمة حسب تقديرنا
يف تراجع دور املالحق الثقاف ّية واملجالّت األدبية ومنها
رسعة
دخول الشعوب العربية يف عرص العوملة بصفة مت ّ
الصورة
وبالتايل م ّرت من الثّقافة الشفهيّة إىل استهالك ّ
الصحف واملجالّت.
دون أن تكتسب عادة استهالك ّ
الصحف التّونسية وإن اهت ّمت
السبب اآلخر هو أ ّن ّ
بالثّقافة فإنّها مل تنج ْح إىل ح ّد ما يف إخراج الثّقافة من
ميس الفكر والفلسفة
رشنقة األدب إىل أفق ثقايف أرحب ّ
والعلوم اإلنسانيّة األخرى..
عتبة الخروج:
نخْلص إىل أ ّن املجالت واملالحق الثّقافية لعبت دورا مهماّ يف الثّقافة التّونسيّة،
يك تجد كُوى أخرى من خالل شبكات األنرتنيت
وهي وإن اندثرت ورقيّا ف ْ
ومواقع التّواصل االجتامعي تطلّ منها عىل قارئ مختلف ومتجدّد ،ونجحت إىل
ح ّد ما يف تبديل خالياها امل ّيتة.
*أردنا لهذه القراءة أن تتجاوز املنطق العلمي للتّاريخ لتأخذ طابعا تقييميّا
لوضع اإلعالم الثّقايف املكتوب دون أن نُغفل الجانب التّاريخي الذي رسم هيكل
هذه القراءة.
تعوض الحيطان الفايسبوك ّية «المالحق اإلبداعية»
هل ّ
صالح بن عياد
كاتب ومترجم تونسي
ال ّ
يكف عن التغيرّ شكال ومعنى .تغيرّ يف معامل الكتابة ابتداء من
شك يف أ ّن مفهوم الكتابة ال ّ
أدواتها وصوال إىل عمقها إذ نستطيع أن نلمح انقراضا شبه كليّ للشكل الكالسييك للكتابة
ورقي لتتضح معامل أخرى لكتابة باتت تع ّرف ب»الكتابة
اليدوية بواسطة قلم عىل محمل ّ
ال ّرقميّة» والتي لها خصائصها كام كانت للكتابة القدمية خصائصها ،ال شطب يف الكتابة
فالنص يتشكّل عىل الشّ اشة بإيعاز وإعانة أوتوماتك ّية يف إصالح األخطاء ،إلخ...
ال ّرقم ّية مثالّ ،
النص شكال ومعنى ،فنحن أمام معايري جديدة ومغايرة
عىل
تأثري
العوامل
سيكون لهذه
ّ
للمعايري الكالسيكية املعروفة مام يستوجب حتام قراءة جديدة مبعايري جديدة وربمّ ا نقدا
جديدا .سنالحظ مثال أ ّن الخطأ اللغو ّي مل يعد ليثري نفس ردة الفعل أو الريبة التي تصل إىل
النص يف زمن ليس بالبعيد .لقد تناقص ثقل الخطأ اللغوي متجهني ربمّ ا
«الفضائحي» يف تق ّبل ّ
إىل املعنى أكرث منه إىل املبنى ،ومع دخول ع ّدة رموز من نوع آخر واختالط اللغات ببعضها
البعض تصل إىل ح ّد كتابة العربيّة بالحروف الالتينية.
بعد الصحف والجرائد واملجالت ثم التدوين ،مثّل الفيس بوك واجهة
زجاجية لعرض اإلبداع األديب خاصة من ِقبَ ِل ما نصطلح عليه ب"املبدع
كل ناقد محبط .مع أننا قد نالحظ يف هذا املجال أن اعتباطا ما قد
الشاب" ،فيها ينرش ويطلع ويتطلّع ويناقش .حرك ّية ستتعارض عن ّ
نكف عن الرت ّدد .يحكم املكتوب يف عالقته باملرفق من صورة وغريه ،كأن نجد يف أكرث من
مع إعالنات محبطة ملوت األدب بأنواعه التي ال ّ
إعالنات ملوت رسير ّي لنوع من الكتابة األدبية تطلع علينا من حني مثال مشهدا طبيعيّا جميال موضوعا مع جملة تتحدث عن األحاسيس
إىل آخر من نقّاد وشعراء يف حني أننا نستطيع االدعاء أن األدب ميارس الشخص ّية لصاحب الحائط وغريها من الثغرات التي ميكن الوقوف
عندها .ستكون جدية التعامل مع الفيس بوك
حياته بكل ألقها يف مستوى آخر أكرث تفاعال ربمّ ا مماّ
بوصفه موقعا اجتامعيا هي الفيصل ،إنك لتطرب
يتوقعه البعض ممن هم داخل املؤسسة بكل سيقانها
الحقيقي هنا وهناك من تلك
أحيانا وتلمس األدب
األخطبوطية.
ّ
الستاتوات اللماّ حة واملثقلة املعاين والجامل ّيات .كام
عىل الفايسبوك وبنرش مبارش فور ّي سهل دون
أ ّن الكاتب الحقيقي ودون أدىن ّ
شك يكون ج ّديا عىل
إيداع قانو ّين يرمي املبدع مبنتجه ليُشفع عىل الفور
على الفايسبوك
الورق أو املوقع االجتامعي أو املد ّونة أو حتّى يف
بالتعاليق والتفاعالت ،طريقة قد تؤث ّر عىل املا ّدة
حواراته بأحد املقاهي.
فوري
املكتوبة وحتى كاتبها .أ ّما إمكانية أن نرفق ما نكتب وبنشر مباشر ّ
هل من املمكن أن نسلّم أن أدبا ما بصدد التشكّل أو
بصورة أو فيديو أو مقطوعة موسيقية نخالها يف صالح
سهل دون إيداع
خاصة
نصنا مل نخيرّ إيراده أو هو من قبيل
قانوني يرمي المبدع تشكّلت مالمح له عىل حيطان 'الفيس بوك'؟ ّ
النص أو نصا عىل ّ
ّ
ّ
لكل
بعد أن أصبح هذا املوقع االجتامعي جامعا ّ
عىل
قامئا
ا
ز
ي
ومت
ا
ري
تأث
منتجنا
ستزيد
التي
االستعارة
ّ
بمنتجه ل ُيشفع على
الرشائح البرشيّة عىل اختالفاتها ،الكتاب والشعراء
هنا
وها
نهاية،
مصاحبة السمعي للبرصي للمكتوب
الفور بالتعاليق
وغريهم من مامريس مهنة الكتابة
تتسع الكتابة األدبيّة لتتزاوج مع الفنون األخرى بعيدا
والتفاعالت
11
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
الصحافة
نفوذ ّ
*
تعريب المنتصر الحملي
الصحافة
الصحافيني» -وليس كذلك ّ
ليس املوضوع هنا «سلطة ّ
باعتبارها «سلطة رابعة» -بل هو ال ّنفوذ الّذي متارسه آليات حقل
السوق (سوق الق ّراء واإلعالنيني)
صحايفّ ما انفكّ يخضع إىل متطلّبات ّ
الصحافيني) ومن ث َّم ،وجزئ ّيا من
الصحافيني أ ّوال (واملثقّفني ّ -
عىل ّ
خاللهم ،عىل مختلف حقول اإلنتاج الثّقايفّ ،كالحقل القانو ّين والحقل
العلمي .املسألة إذن هي فحص كيف
األد ّيب والحقل الف ّن ّي والحقل
ّ
أ ّن اإلكراه الهيك ّيل الّذي ميارسه هذا الحقل ،الخاضع هو نفسه إىل
السوق ،يغيرّ جوهريّا بهذه الدّرجة أو تلك موازين القوى يف
إكراهات ّ
داخل مختلف الحقول ،مؤثّرا بذلك يف ما يُف َعل وما يُن َتج فيها وتاركا
أثرا شبيها جدّا يف جميع تلك العوامل املتباينة جدّا ظاهريّا .سنفحص
هذا دون أن نقع يف أحد الخطأين املتقابلني ال ّتاليني ،وهْم ال ّنفي
املطلق ووهْم ال ّتأكيد الدّائم.
منطق
الصحا ّيف ومن خالله ُ
إ ّن ال ّنفوذ الّذي ميارسه الحقل ّ
السوق يف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف ،حتّى األكرث استقالل ّية منها،
ّ
ليس باألمر الجديد متاما :بإمكاننا دون عرس مستعينني
بنصوص لكتاب من القرن املنرصم ،أن نرسم جدوال واقعيّا
متاما للتّأثريات األكرث عموم ّية الّتي ينتجها داخل هذه العوامل
املحم ّية .لك ّننا يجب ألاّ نتجاهل خصوص ّية الواقع ال ّراهن
الّذي ،من وراء االتّفاقات ال ّناجمة عن تأثري التّامثالت،
خاصيات غري مسبوقة نسبيّا :فالتأثريات الّتي يصنعها
يعرض ّ
الصحا ّيف ،ومن خالله ،يف بق ّية حقول
تط ّور التّلفاز يف الحقل ّ
اإلنتاج الثّقا ّيف جميعها ،هي أه ّم كثافة وانتشارا مبا ال يُقاس
ناعي مع ظهور
من تلك الّتي أفرزها ظهور األدب ّ
الص ّ
الطّباعة الكربى والورق املق ّوى ،ما أدّى إىل شعور الكتّاب
باإلهانة أو بالغضب الّذي انبثقت منه ،حسب راميون
ويليامز ،التّعريفات الحديثة لـ»الثّقافة».
الصحا ّيف عىل مختلف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف
ميارس الحقل ّ
مجموعة من التّأثريات املرتبطة ،يف شكلها وفعاليتها،
الصحافيني
الصحف و ّ
الخاصة ،أي بتوزيع مختلف ّ
ببنيته ّ
وفقا الستقالليتهم إزاء القوى الخارج ّية ،ونعني قوى سوق
الق ّراء وسوق اإلعالنيني .ودون ّ
شك ،تُقاس درجة استقاللية
وسيلة إخباريّة ّما بنصيبها من العائدات املاليّة املتأتّية من
اإلشهار ومن معونة الدّولة (يف شكل إشهار أو تعويض)
وكذلك بدرجة متركز اإلعالنيني .أ ّما عن درجة استقالل ّية
الصحافة (الّذي
الصحا ّيف الفرد فمرتبطة أ ّوال بدرجة متركز ّ
ّ
بتقليصه من عدد املشغّلني املحتملني يضاعف من هشاشة
الصحف،
الشّ غل) ،ومرتبطة ثانيا مبوقع صحيفته يف فضاء ّ
أي مبدى اقرتابه من القطب «الفكر ّي» أو من القطب
«التّجار ّي» ،وثالثا مبوقعه داخل الجريدة أو وسيلة اإلعالم
(مرتسم ،مص ّحح ،إلخ )..الّذي يحدّد مختلف الضّ امنات
ّ
املهن ّية (املرتبطة بالشّ هرة خصوصا) الّتي يحصل عليها
وأجرته كذلك (وهو عامل قو ّي للوقوع تحت تأثري األشكال
ال ّناعمة للعالقات العا ّمة وللتّبعيّة إزاء املنتجات الغذائيّة
أو التّجاريّة الّتي ميا َرس من خاللها تأثري الوصيني ،وهي
مرتبطة أخريا بقدرته عىل اإلنتاج املستقلّ للمعلومة
املبسطني للعلوم أو
(كام هو حال بعض ّ
الصحافيني مثل ّ
الصحافيني االقتصاديني) .من الواضح فعال أ ّن مختلف
ّ
رصف ليس فقط عرب
ّ
السلطات ،الحكوميّة منها خصوصا ،تت ّ
اإلكراهات االقتصاديّة الّتي هي قادرة عىل مامرستها بل
كذلك عرب كلّ الضّ غوط الّتي يسمح بها احتكار املعلومة
ونخص بالذّكر منها املتأتّية من املصادر ال ّرسميّة،-
القانو ّين ّ -
للسلطات الحكوميّة أ ّوال ولإلدارة أيضا
فهذا االحتكار يعطي ّ
للسلطات القضائ ّية والعلم ّية ،إلخ،
(الشرّ طة مثال) وكذلك ّ
الصحافيني وتحاول فيه
مع
يضعها
أسلحة يف الصرّ اع الّذي
ّ
التّحكّم يف املعلومات أو يف األعوان املكلّفني بنقلها .يف حني
الصحافة من جهتها أن تتحكّم يف املاسكني باملعلومة
تحاول ّ
رصف الحرص ّي فيها.
ت
ال
حق
وضامن
عليها
الحصول
سعيا إىل
ّ
ّ
ّ
السلطة ال ّرمزيّة االستثنائ ّية الّتي متنحها
ننىس
أن
دون
هذا
ّ
إىل سلطات الدّولة القدرة ،عن طريق أفعالها وقراراتها
الصحا ّيف ،عىل تحديد جدول أعامل
وتدخّالتها يف الحقل ّ
بقلم بيار بورديو
الصحف.
األحداث وسلّم أولوياتها الّتي تفرض عىل ّ
حافي:
بعض خصائص الحقل ّ
الص ّ
الصحا ّيف يف تعزيز ما هو
لنفهم كيف يساهم الحقل ّ
ٍ
«صاف» ،واملنتجني األكرث
«تجار ّي» عىل حساب ما هو َ
السياسيّة
السلطات االقتصاديّة و ّ
قابليّة للوقوع يف إغواء ّ
متسكا بالدّفاع عن مبادئ املهنة
عىل حساب املنتجني األكرث ّ
وقيمها يف صلب جميع الحقول ،ينبغي يف نفس الوقت أن
ندرك أنّه ينتظم وفق بنية مامثلة لبنية بقيّة الحقول وأ ّن
وزن «التّجار ّي» فيها أكرب بكثري.
الصحا ّيف كام هو يف القرن التّاسع عرش حول
تشكّل الحقل ّ
املعارضة بني الجرائد الّتي تقدّم قبل كلّ يشء «أخبارا»،
ستحسن أن تكون مثرية واألفضل «مؤثّرة» ،والجرائد الّتي
يُ َ
ومتمسكة بأن تظهر متيّزها عن
تقرتح تحاليل و»تعاليق»
ّ
األوىل من خالل التّأكيد بوضوح عىل قيم «املوضوع ّية».
كان الصرّ اع مجاال للتّعارض بني منطقني ومبدأين للشرّ ع ّية:
التّحقّق من خالل القيمة األسمى ،املمنوحة إىل أولئك
الذين يق ّرون بشكل كامل بالـ»قيم» أو املبادئ الدّاخليّة،
والتّحقّق من خالل العدد األكرب من الق ّراء أو املستمعني
أو املشاهدين ،إذن من خالل أرقام املبيعات (األكرث مبيعا
)best-sellersوالربح املا ّيل..
الصحا ّيف إذن ،مثله مثل الحقل األد ّيب والحقل
الحقل ّ
الف ّن ّي ،هو مجال ملنطق مخصوص ،وتحديدا ثقا ّيف ،يفرض
الصحافيني من
نفسه عىل ّ
خالل الضّ غوط واملراقبة
املتقاطعة الّتي ميارسها البعض
منهم عىل البعض اآلخر ،منطق
ميثّل احرتامه (املوصوف أحيانا
ديونطولوجي) أساسا
بأنّه
ّ
لسمعة الكرامة املهنيّة.
الصحا ّيف ،مثله
لكن الحقل ّ
يس والحقل
مثل الحقل ّ
السيا ّ
االقتصاد ّي ،وأكرث من الحقل
العلمي أو الف ّن ّي أو األد ّيب أو
ّ
حتّى القانو ّين ،خاضع باستمرار
السوق ،من
إىل امتحان أحكام ّ
خالل املعاقبة املبارشة من
ال ّزبائن أو غري املبارشة من
نسبة املشاهدين أو املستمعني
(حتّى وإن كانت معونة الدّولة
تضمن استقالليّة محدّدة إزاء
السوق املبارشة) .كام
إكراهات ّ
الصحافيني هم دون ّ
شك
أ ّن ّ
أكرث نزوعا إىل تب ّني «مقياس
نسبة املشاهدة» يف اإلنتاج («أنجز ببساطة»« ،أنجز دون
إطالة» ،إلخ) أو يف تقويم املنتوج وحتّى املنتجني (مقبول
تلفزيون ّيا ،يباع ج ّيدا ،الخ) عندما يكونون يف مناصب أرقى
(مدير قناة ،رئيس تحرير ،إلخ) يف جهاز مرتبط بشكل مبارش
بالسوق (قناة تلفزيّة تجاريّة مقابل قناة ثقافيّة ،إلخ)،
أكرث ّ
الصحافيني األكرث حداثة واألقلّ استقرارا يف املهنة
عكس ّ
الّذين عىل العكس منهم ينزعون إىل جعل مبادئ املهنة
وقيمها يف مواجهة املتطلّبات ،األكرث واقع ّية أو األكرث بذاءة،
لـ»السابقني» عليهم.
ّ
يف إطار املنطق املخصوص لحقل مو ّجه نحو إنتاج هذا
الخري الفاين الّذي هو الخرب ،ينزع التّنافس عىل ال ّزبائن
إىل أن يتّخذ شكل التّنافس عىل األولويّة ،أي عىل األخبار
(السكوب) - ،وهذا طبعا بقدر االقرتاب أكرث
األكرث جدّة ّ
السوق ال ميا َرس إالّ بواسطة
من القطب التّجار ّي .إ ّن إكراه ّ
السكوبات املبحوث
تأثري الحقل :بالفعل ،إ ّن عددا من هذه ّ
عنها واملعتبرَ ة ورقات رابحة لغزو ال ّزبائن محكوم عليها بأن
تظلّ غري معلومة من الق ّراء أو من املشاهدين وبأالّ يراها
الصحافيني هم وحدهم من يقرؤون
إالّ املتنافسون (ذلك أ ّن ّ
الصحف .)...إ ّن التّنافس عىل األولويّة ،املرسوم يف
مجمل ّ
بنية الحقل ويف آلياته ،يستدعي ويش ّجع األعوان الحائزين
الصحا ّيف
عىل التّدابري املهن ّية املتّجهة نحو وضع كلّ ال ّنشاط ّ
رسع) والتّجديد املستم ّر .إنّها تدابري
يف إطار السرّ عة (أو التّ ّ
الصحافيّة نفسها الّتي،
تع ّززها باستمرار زمنيّة املامرسة ّ
بإجبارها الق ّراء عىل العيش والتّفكري كلّ يوم ليومه وعىل
تقويم معلومة ّما حسب راهن ّيتها (إنّه شغف األخبار
التّلفزيّة باألخبار) ،تش ّجع عىل وجود نوع من فقدان
لبي الستعراض
الذّاكرة الدّائم الّذي هو الوجه اآلخر ّ
الس ّ
الجديد وأيضا عىل امليل إىل الحكم عىل املنتجني واملنتوج
حسب التّعارض بني «الجديد» و»القديم».
لهذا الحقل تأثري آخر ،متناقض متاما ،وغري مساعد عىل
تأكيد االستقالليّة الجامعيّة أو الفرديّة :هو أ ّن التّنافس يدفع
جسس
إىل مامرسة رقابة دامئة (ميكن أن تصل إىل ح ّد التّ ّ
املتبادل) عىل أنشطة املتنافسني ،من أجل االستفادة من
إخفاقاتهم بتفادي أخطائهم ،والتّصدّي لنجاحاتهم مبحاولة
استعارة وسائل نجاحهم املفرتَضة ،مثال محاور األعداد
الخاصة الّتي يشعرون برغبة يف إعادتها ،والكتب الّتي
ّ
عدّدها غريهم «وال ميكن عدم الحديث عنها» ،واملدعوون
الّذين من الضرّ ور ّي مشاهدتهم ،واملواضيع الّتي ال ب ّد من
الصحافيون
«تغطيتها» أل ّن آخرين اكتشفوها بل وحتّى ّ
الّذين يتنافسون عىل جلْبهم ليس فقط بسبب ال ّرغبة
يف حيازتهم بل كذلك من أجل إبعادهم عن منافسيهم.
هكذا ينزع التّنافس يف أغلب
األحيان ،يف هذا الحقل كام يف
غريه ،ودون أن يكون مولّدا آليّا
لألصالة وللتّن ّوع ،إىل تشجيع
التّامثل يف العرض ،هذا ما ميكننا
بسهولة االقتناع بوجوده من
خالل مقارنة مضامني الجرائد
األسبوع ّية الكربى أو القنوات
اإلذاع ّية أو التّلفزيّة ذات نسبة
املشاهدة العالية.
دخل:
تأثيرات ال ّت ّ
الصحا ّيف
ينزع نفوذ الحقل ّ
إىل أن يق ّوي يف كلّ حقل من
املؤسسات
الحقول األعوان و ّ
القريبة من القطب األكرث
السوق.
خضوعا لتأثري العدد و ّ
وتكون ق ّوة هذا التّأثري بقدر
ما تكون الحقول الّتي تعاين
منه هي نفسها خاضعة بنيويّا
بشكل دقيق إىل هذا املنطق،
وكذلك بقدر ما يكون الحقل
الصحا ّيف هو نفسه أكرث خضوعا ،حسب الظّروف ،إىل
ّ
اإلكراهات الخارجيّة الّتي ،تؤثّر فيه بنيويّا أكرث من غريه
من حقول اإلنتاج الثّقا ّيف .غري أنّنا نالحظ اليوم عىل سبيل
املثال أ ّن العقوبات الدّاخل ّية متيل إىل فقدان ق ّوتها ال ّرمزيّة
الصحف «الجدّيني» يفقدون إشعاعهم
الصحافيني و ّ
وأ ّن ّ
ويضط ّرون هم أيضا إىل القيام بتنازالت لفائدة منطق
السوق والتّسويق ،الّذي جاء به التّلفاز التّجار ّي ،ولفائدة
ّ
هذا املبدأ الجديد للشرّ ع ّية الّذي هو نيل االعرتاف من خالل
العدد و»قابليّة املشاهدة اإلعالميّة» .منطق ومبدأ قادران
السياسيّة)
عىل أن يوكال إىل بعض املنتجات (الثّقافيّة وحتّى ّ
اطي ظاهريّا
أو إىل بعض «املنتجني» مه ّمة البديل الدّميقر ّ
املختصة .إ ّن
عن العقوبات املخصوصة الّتي تفرضها الحقول
ّ
الصحافيني،
بعض «التّحاليل» يف التّلفاز مدينة بنجاحها لدى ّ
خصوصا منهم األكرث تأثّرا بفعل نسبة املشاهدة ،إىل أنّها
تضفي نوعا من الشرّ ع ّية الدّميقراط ّية عىل املنطق التّجار ّي
السياسة ،وبالتّايل بلغة
وذلك باكتفائها بالتّعبري بلغة ّ
االستفتاء ،عن مشكل اإلنتاج والبثّ الثّقافيني.
الصحا ّيف الّذي يخضع
هكذا ،ينزع تعزيز نفوذ الحقل ّ
بدوره أكرث فأكرث إىل الهيمنة املبارشة أو غري املبارشة للمنطق
التّجار ّي إىل تهديد استقالليّة مختلف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف
األخرى وذلك بتقويته يف صلب كلّ حقل منها مكانة األعوان
املؤسسات املع ّرضة أكرث من غريها إىل االستسالم إلغراءات
و ّ
«الخارجي» ،ألنّها أقلّ غنى يف رأس املال املخصوص
ال ّربح
ّ
(العلمي أو األد ّيب إلخ) وأقلّ ضامنا للمرابيح املخصوصة
ّ
الّتي يضمنها لها الحقل فوريّا أو عىل املدى البعيد نسب ّيا.
الصحا ّيف نفوذه عىل بق ّية حقول اإلنتاج
ميارس الحقل ّ
الثّقا ّيف (يف مجال الفلسفة والعلوم االجتامعيّة بالخصوص)
أساسا من خالل تدخّل املنتجني الثّقافيني املوجودين يف
املختصة
الصحا ّيف والحقول
ّ
مكان غري ثابت بني الحقل ّ
الصحافيون»
ّفون
ق
«املث
(أدب ّيا كان أو فلسف ّيا إلخ) .هؤالء
ّ
الذين يستخدمون انتامءهم املزدوج لالنفالت من متطلّبات
السلطات الّتي
العاملني املخصوصة وليحملوا إىل كلّ منهام ّ
اكتسبها العامل اآلخر ،هم قادرون عىل مامرسة تأثريين
كبريين :من ناحية أوىل إدخال أشكال جديدة لإلنتاج
الثّقا ّيف توجد يف منطقة بينيّة غري محدّدة بدقّة بني التّخفّي
الصحا ّيف ،ومن ناحية ّأخرى ،خصوصا
الجامعي والتّجليّ ّ
ّ
من خالل أحكامهم ال ّنقديّة ،فرض مبادئ تقويم املنتجات
السوق يف
الثّقافية التّي تنزع ،مبوافقتها عىل ظهور عقوبات ّ
السلطة الفكريّة وبتعزيزها الستسالم بعض أصناف
مظهر ّ
املستهلكني العفوي إىل الوعي املقلوب باألدوار ،Allodoxia
إىل تعزيز تأثري نسب املشاهدة أو قامئة األعىل مبيعا يف
تق ّبل املنتجات الثّقاف ّية وكذلك بشكل غري مبارش يف اإلنتاج
من خالل توجيه االختيارات (اختيارات ال ّنارشين مثال) نحو
منتجات أقلّ رصامة وأكرث مبيعا.
هكذا ميكن أن تصبح عدّة مكاسب تحقّقت بفضل
استقالل ّية الحقل وبفضل قدرته عىل مقاومة الطّلبات
املرتفة ،الّتي يرمز إليها اليوم مقياس نسب املشاهدة
وقصدها كتّاب القرن املنرصم حني انتفضوا ض ّد فكرة أ ّن
َ
الف ّن (ميكن قول نفس الشيّ ء بخصوص العلم) يجب أن
عبي .إزاء هذا الخطر ،توجد
يخضع إىل حكم االستفتاء الشّ ّ
اسرتاتيجيتان ممكنتان تتواتران نسبيّا حسب الحقول
ودرجة استقالليتها :إ ّما وضع حدود صارمة للحقل ومحاولة
إعادة رسم الحدود املهدّدة بتطفّل منط التّفكري والفعل
العاجي (وفق الطّريقة
الصحافيني عليه ،أو مغادرة برجه
ّ
ّ
الّتي دشّ نها زوال) لفرض القيم ال ّنابعة من القبوع يف الربج
املختصة
العاجي ،واستخدام كلّ الطّرق املتاحة يف الحقول
ّ
ّ
الصحا ّيف نفسه ملحاولة
أو يف خارجها وكذلك يف صلب الحقل ّ
أن يفرض عىل الخارج املكاسب والفتوحات الّتي صارت
ممكنة بفضل االستقالليّة.
علمي
توجد رشوط اقتصاديّة وثقافيّة للوصول إىل حكم ّ
عبي (أو من
مستنري وال ميكن أن نطلب من االستفتاء الشّ ّ
سرب اآلراء) أن يحسم مشكالت العلم (رغم أنّنا نفعل ذلك
أحيانا بطريقة غري مبارشة ودون أن نعي ذلك) دون أن
العلمي نفسها ،أي
يقيض يف نفس الوقت عىل رشوط اإلنتاج
ّ
عىل حاجز الدّخول الّذي يحمي املدينة العلم ّية (أو الف ّن ّية)
من االقتحام املد ّمر ملبادئ اإلنتاج والتّقويم الخارج ّية،
وبالتّايل غري ال ّنظيفة وغري املالمئة .ولك ّننا ال يجب أن نستنتج
من هذا أ ّن الحاجز ال ميكن اجتيازه يف االتّجاه اآلخر وأنّه
من املستحيل العمل عىل إعادة توزيع دميقراط ّية للمكاسب
الّتي صارت بفضل االستقالل ّية ممكنة .وهذا برشط أن ندرك
بوضوح أ ّن أ ّي عمل يرمي إىل إشاعة املكتسبات األكرث
العلمي أو الف ّن ّي األكرث تقدّما يفرتض مراجعة
ندرة للبحث
ّ
احتكار وسائل إذاعة هذه املعلومة (العلم ّية أو الف ّن ّية) الّتي
الصحا ّيف فعل ّيا ،وأيضا نقد تقديم انتظارات
ميتلكها الحقل ّ
أكرث ال ّناس الّتي تصنعها الدّمياغوجيا التّجاريّة ألولئك الّذين
وسط بني املنتجني الثّقافيني وال ّنسبة
لهم اإلمكانيات للتّ ّ
الكبرية من املستهلكني.
* ،»»l’emprise du journalismeهو ملحق كتاب:
« ،»Sur la télévisionلبيار بورديو ،منشورات
«« Raisons D’agirالطّبعة . 2006 ،31
12
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
قافي في تونس
اإلعالم ال ّث ّ
الخشبي اله ّزاز ،واالسم الخاسر
الحصان
ّ
شفيق طارقي
شاعر وروائي من تونس
عندما جاءت الثّورة ،صدّقناها ،ح ّتى أنّنا مل نجد حرجا ،ونحن نفتح
لحرضتها باب البيت أن نستقبلها يف بيجاما ال ّنوم وأعددنا لها من
عبق الشّ هداء عشاء دسام وجعلنا لها من أحالمنا مرشوبا ،قبل
مغادرة البيت لشأن ،منحناها مفاتيحه ،وب ّجلنا مقامها ،واستأم ّناها
عىل مدّخراتنا وعىل زوجاتنا واألطفال ،مل نبطئ ،ولكن فاجأنا ونحن
نحاول طرق الباب ،أن ال باب لنطرقه ،دلفنا فوجدنا غرباء يف البيت،
وزوجات أنكرننا ،وأطفاال قد أهملوا واجبهم وركبوا فيام ركبوا حصانا
ه ّزازا ،مزدحمني عىل صهوته لرياهنوا عىل اسم خارس.
ونيس أ ّن زائرته الّتي طاملا
لقد حسب املثقّف التّ ّ
انتظرها ،وكثريا ما صاغها قصائد مل يقرأها إلاّ امللعونون،
وأغا َين مل يحفظها إلاّ القلّة ،ورسوما موغلة يف التّجريد،
وأفالما مل تعرض ،حسب أنّها لن تخلف عهدا ،وأ ّن
السمسمة الواقعة
تحقّقها حدثا جعل من تونس تلك ّ
بالحق،
محب للح ّريّة ،كلف ّ
جنوب ّ
املتوسط ،غاية ّكل ّ
ستتبعه حلقات وشموس مرشقة قدرها أن ال تغرب ،لقد
حسب الكاتب أ ّن نصوصه ستصبح خبزا يوم ّيا ،وخال
امللتزم أ ّن أغانيه سريدّدها العماّ ل ،وتتب ّناها جمعيّات
بدب البندا ،وظ ّن ال ّر ّسام أ ّن ألوانه ستحيد قليال
ال ّرفق ّ
عن ظلمتها ،وتو ّهم أهل املرسح واملشتغلون بالف ّن
الساعة قد حانت ،ليكون التّمثيل رشيكا يف
السابع أ ّن ّ
ّ
إمناء الوعي وش ّد عضده ،ولكن هيهات ...أما ّين بحجم
الكون عقدت يف الثّورة ،وعقدت أكرث يف دعمها من قبل
اإلعالمي ،أمال يف أن يتوضّ أ عن سوءات سابقة
اإلعالم
ّ
بدماء الشّ هداء ،ليكون جديرا باملرحلة ،وأمال يف أن يقلع
عن "لوك" الواقع ويتجاوز عن هفوات ونقائص أ ّولناها
قدميا بحذاء الحاكم ،ووجدنا لها عذرا يف نكد ال ّدنيا،
نطل عىل
اليومي ،وحليب األطفال ،ظللنا ّ
يف متطلّبها
ّ
املشهد من ثقب يف الباب ،حني واربناه وتركنا مفاتيح
البيت لدى زائرة ،استأم ّناها عىل ما يف البيت وعىل من
فيه ،فجازت تلك الثّقة باستدعاء الغرباء.
قصة
لقد ّ
ظل املثقّف شأنه يف ذلك شأن "بول" بطل ّ
الخشبي اله ّزاز واالسم الفائز"،
"الحصان
لورنس،
د.ه.
ّ
الحي من امل ّيت ويعيد
يراهن عىل إعالم ثقا ّيف يخرج ّ
إىل املكتوب بهاء حروفه ،وإىل املسموع جالل أثريه،
الصورة ،ويزيح غبارا ،طاملا أغىش
وإىل املر ّيئ وضوح ّ
األبصا َر وأضَ َّل عقوال ،ولكن يبدو أ ّن قدر األشياء اآلن
وهنا ،يف تونس ،أن ال تتغيرّ ،بل إ ّن قدرها أن ترتاجع،
رص عىل ما كان ،وأن تنترص لألردأ ،فلقد هام اإلعالم
وت ّ
وفرسانه ،يف وديان ليس بها من زرع ،ليكون املشهد فيام
للساسة،
نقرأ وفيام نسمع وفيام تبرص أعيننا ،مشاعا ّ
يخْتصمون عىل اللاّ يشء ،ومشاعا لقضايا واهية ،تجاوزها
العقل البرش ّي ،ولتفاهات ال تغني وال تسمن شعبا من
وليظل الوعي
جوع ،وامت ّد الوهن ،لتكون الفرقة ديدنناّ ،
الجمعي مرتهنا بسخافات ،ومشغوال عماّ يحيطه من
ّ
أخطار ،بتطاحن أحزاب ،وبفتاوى قروسط ّية.
لقد غفلت وسائل اإلعالم جميعها ،عن الثّقا ّيف وأحالته
إىل ما يشبه التّقاعد املبكّر ،يف الوقت الّذي ك ّنا ننتظر
يحتل الفعل الثّقا ّيف من املشهد أكرثه ،وأن
فيه أن ّ
نبي املرحلة ،ومرتجمها إىل أعامل
يف
ّقا
ث
ال
يكون الفاعل
ّ ّ
إبداعيّة ،تستكمل الشرّ ط الثّور ّي وتع ّززه برؤى جدد
وبأبعاد متيض به صعدا يف آفاق متغايرة ،فاملثقّف
الصحا ّيف ،وكذلك صوته ،وأ ّما صورته
عبء عن حرب ّ
فيبغضها "الكامريامان" ،وإذا صادف أن ريض القوم عىل
سيّدهم ،فإ ّن إحضاره كثريا ما يرادف تغييبه ،يحرض يف
صفحات ثقاف ّية حضورا محتشام يف مساحات ض ّيقة
ملؤلّف جديد ،أو لتظاهرة ،ويف برامج مسموعة تنقل
غصته ،ومتى استثنينا يف التّلفاز برامج
صمته ،وتواري ّ
ُمر َجأة إىل سا ّعات من اللّيل متأخّرة ،فإ ّن حضوره فيها
جل
يظل دون املأمول ،بل إ ّن برامج وهي األشهر يف ّ
ّ
القنوات واألكرث بلغة اإلحصائيّات متابعة تق ّدمه يف
وضع كاريكاتور ّي ،ال يخلو من بؤس ،وتسطّح عمقه،
وتش ّوه فكره ،غايتها من ذلك وغاية أصحابها تهميش
املثقّف وتقدميه يف صورة املغ ّرد خارج السرّ ب ،وج ّره من
خالل أسئلة مو ّجهة إىل أن يكون مثريا ،حتّى يطاله تهكّم
العا ّمة وازدراؤهم لواسع علمه بضيق آفاقهم الفكريّة،
وبضحل ما استق ّر لديهم من ثوابت.
الصحافة املكتوبة منيّز يف تونس مجلّة
عىل مستوى ّ
ثقاف ّية وحيدة يسعى القامئون عليها إىل تجويدها ،مبا
ال ينكر ،وهي مجلّة الحياة الثّقاف ّية ،ولك ّن حضورها
يظل غري كفيل بتطلّعات املثقّف ،ودون أمانيه،
اليتيم ّ
متى قارنّاها مبجلاّ ت أُخرى يف العامل العر ّيب ،وأ ّما املالحق
تخصصها بعض الجرائد ملا هو ثقا ّيف ففي انحدار
الّتي ّ
لعدم ج ّديّة املنكبّني عليها ،ولعدم إميانهم يف الغالب مبا
الصحافة املسموعة ،فنم ّيز
يفعلون ،وأ ّما عىل مستوى ّ
ال ّدور الّذي تقوم به إذاعة تونس الثّقاف ّية ،وهو محمود
يف ح ّد ذاته ،فقد استطاعت وسط هذه العتمة أن تكون
اإلرشاقة ،وأن تكاشف حقيقة الوضع الثّقا ّيف مكاشفة
محمود ًة يف جميع مجاالته ،وأن تطلع ال ّناس عىل أسامء
مغمورة ،وأن تن ّبه إىل طاقات مبدعة يكاد يتغ ّمدها
اإلحباط ،وأ ّما عىل املستوى املر ّيئ ،فإ ّن بيت الخيال،
يظل املنارة الوحيدة يف تلفزاتنا ،وقد استطاع
فيام نعتقد ّ
ونيس بال ّنخبة وأن
ت
ال
صلة
ّد
ط
يو
أن
قضايا
مبا أثاره من
ّ ّ
يق ّربه من إشكاالت هو أبعد ما يكون عنها.
يايس،
الس
عىل
ونيس بعد الثّورة مبراهنته
ّ
ّ
إ ّن اإلعالم التّ ّ
يكون قد راهن عىل الحصان الخارس ،فقد تح ّول من
ميثّلها من رؤساء أحزاب أو قياديّني فيها ،ومن ن ّواب
"حطّبت لهم رياح ال ّدميقراطيّة" ،إىل نجوم مل تزد ليل
تونس إلاّ كدرا ،ومل تنتج يف نفس املتلقّي إلاّ وثوقا
بإفالس الجامعة ،وبوهن برامجهم ،وبخل ّو الوفاض إلاّ
من وعود لن تتحقّق ،وإىل جانب هذا الحصان الخارس،
أمالت وسائل اإلعالم عنايتها إىل حفظة يلوكون املرو َّي،
ويثريون إشكاالت أقىص ما ميكن أن تُوصف به أنّها
مضحكة يف زمن ي ْنحو منحى ما بعد حداثته ،فرتى
الجاهل منهم واملطم ّنئ إىل ما س ّجلت ذاكرته يف زمن
األقراص املضغوطة ،يجادل أهل العلم وسدنة املنهج،
ويناظرهم ،يحدث هذا يف الوقت الّذي تزخر فيه بالدنا
بأسامء دالّة يف حقول ثقافيّة متع ّددة ،أثبتت يف زمن
والعاملي ،فجاءت
الخسائر نجاحاتها عىل املستوى العر ّيب
ّ
باالعرتاف من خارج أسوار الوطن ،يف الشّ عر ويف ال ّرواية
مؤسساته مل يلتفت
السينام ،ولك ّن اإلعالم رغم تع ّدد ّ
ويف ّ
إىل هذا التّتويج وإىل أصحابه إلاّ قليال ،بل إ ّن البعض قد
طاله التّجاهل ،وكأ ّن األمر يدور يف كوكب آخر ،واإلعالم
املؤسسات الحاضنة للفعل الثّقا ّيف
شأنه يف ذلك شأن ّ
وعىل رأسها الوزارة الّتي مل تكلّف نفسها عناء تكريم
وفاة عالم وأكاديمي عظيم!!
السوسيولوجيا واالقتصاد السيايس والنقد االديب والتاريخ والجغرافيا موضوعات
دراسية وبحثية قدمية نسبيا يف العامل ويف العربية كذلك «علم النفس» هو متأخر
نسبيا يف الظهور ويرجع إىل الثورة الفرويدية الفضل يف تدشينه علام حديثا له
قواعد وأسس نظرية بعد فرويد تفرقت السبل فكان اتجاه مثله يونج وآخرون
واستمرت التقاليد الفرويدية وتطورت يف ما يسمى الالكانية.
يف املنطقة العربية كان االنطالق يف مجال علم النفس يف مرص وعىل يد الثاليث
«مصطفي زيوار»-جامعة عني شمس و«مصطفي سويف» يف جامعة القاهرة
ومصطفى صفوان الذي أىت من االسكندرية واستقر يف باريس ليقود الالكانية
عمل مصطفى صفوان عىل االنتهاء من الرتجمة العربية لتفسري األحالم
لسيجموند فرويد والذي راجعه مصطفى زيوار وعمل طوال الوقت يف التحليل
النفىس َوقّاد املدرسة الالكانية للتحليل النفيس.
بينام عمل سويف عىل سيكولوجيا اإلبداع وهو ما أسهم فيه بعدد من
األعامل امله ّمة وتتلمذ عىل يديه العديد وكان آخر أعامله املحارصة االحتفالية
سيكولوجيا الحكمة والتي خرصها الكثري من زبدة املثقفني يف جامعة القاهرة
وكانت موضوع ملناقشات فكرية مه ّمة.
تلقينا مبزيد من الحزن واألمل نبأ رحيل العامل الفذ «دكتور مصطفى
سويف» وهو أحد ثالثة مؤسسني لعلم النفس يف البالد العربية مع
«د .مصطفى زيوار» ومع «د.مصطفى صفوان» بينام قام سويف
بتأسيس قسم علم النفس بجامعة القاهرة قام «زيوار» بتأسيس
القسم يف جامعة «عني شمس» بينام أصبح صفوان رائد للتحليل
النفيس يف فرنسا وهو الذي قام برتجمة «تفسري األحالم» لفرويد
للغة العربية مبراجعة «زيور» وهي ترجمة ترتقي إىل العمل
اإلبداعي الكبري مع هوامش ومالحظات لعامل وفيلسوف كبري كان
هو من قام بإدارة جمعية التحليل النفيس يف فرنسا بعد «الكان» وقام بإجراء
التحليل النفيس ل «الكان» نفسه.
اتجه «سويف» اتجاه آخر إذ انرصف للتحليل النفيس لعملية اإلبداع نفسها فقد
كان أديبا يف مطلع شبابه ومؤلفاته يف هذا املجال رائدة ورمبا كانت متفردة يف
اللغة العربية وتض ّم عرشات املؤلفات وهو مؤسس أكادميية الفنون يف القاهرة
وأول عميد لها ،وقام بالتدريس يف جامعة القاهرة وجامعة لندن.كانت رفيقة
دربة الدكتورة «فاطمة موىس» أستاذة األدب االنجليزي بجامعة القاهرة وهي
من رفع اسم تونس ،وال ّ
سمي من
شك يف أ ّن املوقف ال ّر ّ
املثقّف مؤث ّر يف مدى عناية اإلعالم ووسائله بإنجازاته،
الصدد أن ّوه
ويف إرساء ال ّنكران عروة ُوثقى ،ويف هذا ّ
بالتّكريم الّذي نال املبدعني املت ّوجني يف عرشيّة اإلذاعة
املؤسسة الّتي متثّل استثناء ما ّ
انفك
الثّقافيّة ،هذه ّ
يكشف عن نفسه يف أكرث من مناسبة.
إ ّن ما مي ّيز اإلعالم الثّقا ّيف من ضعف عىل مستوى الك ّم،
كام الكيف ،عائد إىل أسباب من بينها يف تقديري ،عدم
مختصني يتملّكون آليّات اإلعالم الثّقا ّيف ،وإن
وجود
ّ
وجدوا فإ ّن عدم إميان أعرافهم بالثّقافة ،بل وازدراء
بعضهم لها ،يثنيهم عن توظيف خرباتهم فيستكينون
إىل الجاهز ،وينساقون يف جوقة ما يطلبه ال ّناس ق ّرا ًء
أو مستمعني أو مشاهدين ،ومن األسباب الكامنة وراء
يايس
الخيبة ،انشغال وسائل اإلعالم بعد الثّورة ّ
بالس ّ
يني وطرحهام بطريقة سطحيّة املقصد منها
وبال ّد ّ
اإلثارة ،وتحقيق نسب قراءة أو استامع أو مشاهدة
أوسع ،واعتبار الخرب الثّقا ّيف حصانا خارسا ،ومن األسباب
أ ّن الثّقا ّيف وكذلك املثقّف هو آخر ما ميكن أن ميثّل مدارا
اهتامم الجهات ال ّرسميّة ،ألنّه يف تقدير من ميثّلها ال يع ّد
سيايس تتحكّم به التّجاذبات،
فاعال وال مؤثّرا ،يف واقع
ّ
ويسيطر عليه منطق الوالئم والغنائم .ومن األسباب أ ّن
يجسد بها املثقّف قامئة
ّ
الصورة الّتي يحرص اإلعالم أن ّ
الحق ،وإدراك ال ّناقص
عىل حرمان الفاضل من املبدعني ّ
من الّذين أقحموا أنفسهم يف عوامل الثّقافة ،وهي
الصورة نفسها الّتي طاملا آملتنا قبل الثّورة ،وتح ّولت
ّ
اليوم إىل ورم مستفحل.
ليس يأسا من املشاريع التّونس ّية مثلام رصخ الشّ ابيّ
ذات يوم ،ولك ّنها الحرية ،حريتنا إزاء واقع كاألكذوبة،
السياسيّني
وإزاء ثورة رسقت ،وارتفعت بها حسابات ّ
البنك ّية وأفرغت بسببها حسابات املبدعني حتّى من
رصيدها املعنو ّي ،ولست أدري أمازال من حقّنا أن
أجمل،
نحلم ،وأن ن ّدعي ولو مجازا أ ّن القادم سيكون َ
الصمت هو املقاربة الوحيدة لواقع
أم أ ّن الصرّ اخ ،ح ّد ّ
أكف عن ه ّز حصاين ،وسأنتظر
إعالمي ثقا ّيف .شخص ّيا لن ّ
ّ
الحصان الفائز ...ذاك الّذي لن يأيت.
ناقدة ومرتجمة وأستاذة مربزة ولها عديد
الرتجامت للكالسيكيات للعربية ورمبا كان
آخر إنتاجها ترجمتها لرائعة ابنتها «أهداف»
من االنجليزية «خريطة الحب» وهي الرواية
الحاصلة عىل جائزة البوكر العاملية عام .1999
ملصطفى سويف أرسة من املربزين يف مجالت
مختلفة فابنته «د.ليىل سويف» أستاذة
الرياضيات يف جامعة القاهرة وجامعات فرنسا
والناشطة الحقوقية التي ال تكلّ وال متل وابنته «د.اهداف سويف» وهي روائية
ذات سمعة عاملية ولها عديد الروايات املعروفه باالنجليزية والعربية وأستاذة
لألدب يف «انجلرتا» وكاتبة مرموقة يف «الجارديان» ويف عديد الصحف العربية
و«م .عالء سويف» مهندس ونارش طليعي.
يرحل سويف بينام اثنان من أحفاده قيد االعتقال وهام «عالء عبدالفتاح»
و«سناء سيف» وهام من قيادات حركة الشبيبة الثورية الجديدة يف مرص.
حسني عبد الرحيم
13
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
قافي في تونس:
ث
ال
اإلعالم
ّ
ّ
يكاد يكون موجودا ببوصلة معطوبة
ُ
أشرف القرقني
شاعر ومترجم تونسي
يف مق ّدمتها لكتاب «الغرفة ال ّرماديّة :نظريّة جديدة لإلعالم األملا ّين» ،تشري إيفا هورن
إىل أ ّن اإلجابة التي تجمع بني املساهمني يف الكتاب عىل سؤال «ما اإلعالم؟»تتمثّل
السؤال هو أحد أكرث األسئلة
فيام ييل« :ليس هناك إعالم» .كام أنّها تعترب أ ّن هذا ّ
إثارة لنقاشات ساخنة وخالفات عديدةّ .
املؤسسايتّ
قني و ّ
فبغض ال ّنظر عن املستوى التّ ّ
السياق« :يج ُد
لإلعالم ،يظلّ هذا املفهوم يف عمقه غامئا وضبابيّا .تقول هورن يف نفس ّ
ال ّدارسون اليوم أنفسهم أمام استحالة العثور عىل أرضيّة مشرتكة ملا يعنونه من خالل
عبارة»اإلعالم».
إ ّن غياب مفهوم عا ّم ملصطلح اإلعالم يكون دقيقا وجل ّيا يف آنٍ ،هو
السبب حسب رأي الباحثة يف مأسسة ال ّدراسات اإلعالم ّية مماّ أ ّدى
ّ
إىل ضبط تعريفات ما قبل ّية مح ّددة بدقّة من أجل أن تخدم مطالب
مع ّينة للتوظيف العم ّيل لإلعالم.
باعتبارنا نق ّدم رأيا فيام يُس ّمى اإلعالم الثّقا ّيف ،فنحن نتح ّرك خارج
الجامعي يف هذا املجال .لك ّننا نق ّدم
السلطة التي مينحها االختصاص
ّ
ّ
مالحظات تلتقطها ع ُني شاعر يتح ّرك يف هذا املجال املس ّمى إعالما
ثقاف ّيا تح ّركا يجمع بني ال ّداخل والخارج.
ليست وسائلُ اإلعالم مج ّرد املجموع العا ّم للظّروف املتاحة إلمكان
وقوع حدث ّما -من خالل نقل رسالة أو موضوع برص ّي طارئ أو
إعادة تقديم أشياء حدثت -وإنمّ ا هي أحداث يف ح ّد ذاتها لها آثارها
فكيف ميك ُن أن يصري اإلعال ُم حدثا
عىل املتعاملني معها صناعة وتق ّبالَ .
السياق؟ ما هي تأثرياته عىل املتلقّي (يف تونس عىل
(ثقاف ّيا) يف هذا ّ
باأليديولوجي واالقتصاد ّي؟
وجه التّخصيص)؟ ما صلة هذه الوسائل
ّ
كالصناعات األخرى؟
وكيف ميك ُن ضبط صناعة ليست ّ
يظلّ اإلعالم ثقاف ّيا كان أم خالفه مشكّال لنظام رمز ّي مهام اختلفت
تعريفاته واملفهومات ال ّنظريّة التي تق ّدم له عىل طبق رأس املال .هذا
أساسا.
ال ّنظام ال ّرمز ّي مثل أ ّي نظام رمز ّي آخر هو أثر برش ّي يُنحت ً
وعمل ّية صناعته مو ّجهة نحو أهداف مرج ّوة .ولعلّ أبرز ما يق ّدمه
هذا ال ّنظام هو السرّ ديّات املنسوجة من خالل ال ّرموز إ ْذ ترتاوح هذه
السرّ ديّات بني ما هو متخ ّيلٌ وما هو ُمنتقى بعناية.
تُبتدع السرّ ديّات لتنقل معنى مع ّينا حول أحداث منتقاة .وهي
توهمنا باعتبارنا متلقّني لها أنّها بصدد كشف األمور كام هي .وإن
كان االنتقاء مؤ ّديا إىل خلق بنية جديدة مغايرة ال ّداللة .ومع ذلك،
خاصة إىل
توصلت وسائل اإلعالم عا ّمة واإلعالم الثّقا ّيف ّ
فحتّى إن ّ
كشف األمور كام هي يف"الواقع" ،فإنّها نادرا ج ّدا ما تساهم يف بيان
كيف ّية حدوثها وعلّة ذلك.
ال يشء يقوم عىل االختيار واملخ ّيلة دون أن يحمل هدفا أو وظيفة.
ولكن ما هو هذا الهدف؟ هل هو مج ّرد نقل حدث ثقا ّيف إىل جمهور
ال ّناس مهام كان هذا الحدث ومهام اختلفت رؤيته ورسالته؟ أم هو
وطني أم مج ّرد
املساهمة يف صنع الحدث الثّقا ّيف تأسيسا ملرشوع ّ
مسايرة ذائقة عا ّمة تحقيقا لل ّربح املحض؟ أم أ ّن مسألة الذّائقة نفسها
ليست سوى ا ّدعاء صار ركيكا يف إطار نحت هذه الذّائقة يف اتّجاه
مح ّدد؟ هل ينتمي اإلعالم الثّقا ّيف حقّا إىل مقوالت اإلعالم الكربى
الصناعات األخرى أم أ ّن
باعتباره صناعة ثقاف ّية ليست مثل جميع ّ
تلك الشّ عارات ليست سوى أدو ِات عمل ناجعة؟
فلْنرضب مثل التّلفاز إذن باعتباره سارد الحكايات الكو ّين واأل ّول يف
املجتمع الحديث ،عىل ح ّد عبارة جورج غربرن ،الباحث يف جامعة
بنسيلفانيا .يرى غربرن أ ّن التّلفاز هو فضاء رمز ّي أكرث من كونه وسيطا
تقليديّا .وفيام مل يولد ال ّناس بالفطرة لعامل التّلفزيون ،فإ ّن عمل ّية
اختيارهم أو خلقهم تكون من أجل هدف مح ّدد .وهذا ُ
الهدف هو
املؤسسات املنتجة
مدى صالح ّيتهم لتشكيل العامل ال ّرمز ّي الذي ترى ّ
وأعرافها وع ّرابوها أنّه قادر عىل خدمة أهدافهم .هذه األهداف التي
يس.
يتشابك فيها ما هو اقتصاد ّي مبا هو
ايديولوجي وسيا ّ
ّ
وأبس ُط مثال عىل ذلك أ ّن املجموعات االجتامع ّية املهيمنة تنزع إىل
متثيل نفسها بشكل مهيمن أيضا يف وسائل اإلعالم .فلننظر مثال إىل
حضور ال ّرجل يف وسائل اإلعالم مقابل حضور املرأة (يف املجتمعات
الذّكوريّة أساسا وحتّى تلك 'املتق ّدمة') .ولننظر أيضا إىل حضور
السياق تجدر
الطّبقات الفقرية يف اإلعالم ومدى متثيلها .ويف هذا ّ
اإلشارة إىل أ ّن اطّراد حضور هذه الطّبقات الفقرية بعد 14جانفي يف
يس ليس مو ّجها يف األغلب إالّ إىل غاية تحويل دموعهم
اإلعالم التّون ّ
السياق
مع
متناسقة
صورة
اكتساب
و
بح
ر
لل
مصدر
وآالمهم إىل
ّ
ّ
"الثّوري" املحقّق لل ّربح أيضا.
يقول كريون ألنتيغون بعد مقتل أخيها" :بعد ثورة فاشلة ،هناك عمل
كثري .أؤكّد لك هذا".
تصطف معظم وسائل اإلعالم الثّقا ّيف واإلعالم عا ّمة يف تونس
لألسف ّ
اإلبداعي
إىل جانب كريون .عملٌ كث ٌري يقوم عىل انتقاء شديد لألثر
ّ
والثقا ّيف املق ّدم .وهذا االنتقاء يو ّجه عادة إىل منتوجات استهالك ّية
تنخرط متاما يف سياق الطّلب والعرض .ولك ّن الطّلب ال يأيت بشكل
مبارش من الجمهور كام يحاول البعض إقناعنا متح ّججني بأ ّن املا ّدة
الثّقاف ّية التي تق ّدمها وسائلهم هي ما يريده الجمهور .إنّها مغالطة
الحقيقي للبضاعة ...ع ّرابها
ّلب يأيت من املنتج
اطّرد سامعها .الط ُ
ّ
السياس ّيني األكرب وملقّنهم دروسهم يف
وصاحب أموالها ...شقيق ّ
ٌ
املؤسسة
بني
وتبنى
ُنحت
ت
ة
مسأل
وفكره
األوملب .إ ّن ذائقة شعبٍ ّما
ُ
ّ
التّعليم ّية والثّقاف ّية واإلعالم ّية وغري ذلك .واألمر نفسه ينطبق عىل
عب يري ُد ما ينخر ُط يف نفس ال ّدائرة
ملكته يف التّفكري والتّحليل .الشّ ُ
ترب يف خض ّمها وتشكّلت ذائقته وملكاته الفكريّة يف محيطها.
التي ىّ
ولذلك يشب ُه األمر رجال يصنع آلة يربمجها بدقّة .ث ّم يقول اآللة تريدين
أن أربح أمواال بال عدد وأن أق ّدم خطابا ثقاف ّيا سطح ّيا يخدم أهداف
سياس ّيني سيجعلونني بدورهم أربح أمواال بال عدد ،أدعمهم ببعضها
يف سياق انتخا ّيب ّما حتّى أربح فيام بع ُد أمواال أخرى بال عدد .ال دخل
يل يف هذا .اآللة تري ُده.
هت إليه .وال متيز خبيثا من ط ّيب .ربمّ ا ال
نعم اآللة تريده ألنّها و ّج ْ
حاجة إىل أمثلة كثرية عماّ أقول .فيكفي أن ننظر إىل وسائل اإلعالم
البرصيّة باقتصارها عىل برنامج ثقا ّيف جا ّد وحيد تقريبا هو برنامج
ياحي" ،بيت الخيال" وهو يف اختالفه ذاك يعتمد عىل
ال ّروا ّيئ كامل ال ّر ّ
مجهودات فرديّة أكرث من أ ّي يشء آخر .بال ّنسبة إىل اإلذاعات ،لعلّ
اإلذاعة الثّقاف ّية مازالت يف بعض برامجها تحاول نحت زهرة يف حقل
املؤسسات اإلعالم ّية
من الشّ وك( .نالح ُظ أ ّن أكرث املوا ّد الجا ّدة تأيت من ّ
بحق
املطالبة
ين
العموم ّية ،ربمّ ا الستطاعة املثقّفني واإلعالم ّيني الجا ّد
ّ
شعبٍ يف أمواله ،إىل ح ّد ّما طبعا).
بالصحافة املكتوبة فيمكننا أن نقول دون مبالغة أنّه
أ ّما فيام يتعلّق ّ
باستثناء هذا املنرب "منارات ثقافية" ،يكا ُد ال يوج ُد أ ّي إعالم ثقا ّيف
الصفحات الثّقاف ّية يف الجرائد الوطن ّية عىل نرش بعض
جا ّد .إذ تقترص ّ
املواعيد الثّقاف ّية ويف أحسن الحاالت تتض ّمن تغطية رسيعة ومقتضبة
لنشاط ثقا ّيف ّما مماّ يستطيع الجمهور أن يلقي عليه نظرة.
الصحف عن املالحق الثّقاف ّية .ال أحد يري ُد أن يدفع ماال
تخلّت جميع ّ
اإلعالمي الثّقا ّيف أو غريه
العمل
ه
ز
نن
ال
نحن
عقال.
يوقظ
من أجل أن
ّ
ّ
ايديولوجي باملعنى العميق للكمة أي مبعنى أ ّن كلّ ما يخدم
عماّ هو
ّ
ايديولوجي عىل ح ّد
فعل
هو
مصلحتها
إىل
ه
ج
مو
أو
ا
م
ة
ي
اجتامع
فئة
ّ ّ
ّ
ّ
عبارة الشّ اعر والباحث العراقي فاضل العزاوي.
ايديولوجي مبعنى
فعل
بل إ ّن مامرسة اللغة يف ح ّد ذاتها هي
ّ
أنّها تحمل رؤية وموقفا .لك ّننا نتح ّدث هنا عن االيدولوجيا ض ّيق ًة
وموصول ًة مبصالح رأس مال ال ميكن أن يكون غري موصول بالخارج
طبعا.
من يستفي ُد من شعبٍ ال ُ
يعرف تاريخه؟ ال يقرأ شعرا يف صحفه،
ال يشاه ُد نقاشات مفكّرين عىل شاشات التّلفاز .إنّه مد ّجج فقط
سطحي ورسيع
بالسرّ ديّات الكربى تلك التي تحاول بشكل
ّ
أن تق ّدم تفسريا مطمئ ّنا ونهائ ّيا لألحداث الكربى يكون يسري
التّصديق ورسيع االنتقال وال ّرسوخ .بلغة أخرى متنح وسائلنا
اإلعالم ّية الوهم الذي مت ّوله أعرافها وتحتاجه الحشود لتطم ّنئ
طأمنينة زائفة ،سوف تُتع ّهد بالعناية والتّحيني
حتّى تظلّ راسخة.
متارس وسائل اإلعالم انتقاء مو ّجها
بشكل حا ّد يف البالد التّونس ّية :هناك
خطابات ّما لن تسمعها يف إذاعة
أو تشاهدها عىل شاشات التّلفاز.
وبالطّبع يكفي أن تعرف أهلها
حتّى تق ّدم لهم سلفا بطاقة غيابهم عن وسائل
اإلعالم .ميكنك أن تطلب رؤية الخيول ذات األجنحة الطّويلة
البيضاء بدل أن تأمل يف مشاهدة مرسح ّية عىل شاشة التّلفاز أو
فيلم لتاركوفسيك أو بريغامن أو توين غاتليف أو إمري كوستاريكا أو
موش أو غريهم.
دجيمجا ْر ْ
مختلف.
أ ّما بال ّنسبة إىل الحوارات الفكريّة والفلسف ّية .فاألمر
ٌ
سلفي
سوف تج ُد الكثري منها يديرها سم ٌري ّما رفقة شيخ ّ
محاوريْن مح ّمد الطّالبي أو ماسخني لصورته .وميكنك أيضا
أن تتف ّرج يف األدعياء يق َّدمون لك باعتبارهم سدنة هيكل
الفكر والفلسفة والثّقافة.
متأل وسائل اإلعالم عا ّمة حياة ال ّناس بكالم كثري .لك ّن كْ ِريُو ْن
ملك طيبة ذلك ُ
امللك الذي حاول قتل الثّورة ض ّده يحمل
اإلجابة التي ألقاها عىل مسامع أنتيغون" :وحده الكالم الذي ال
نقوله صحيح .ستتعلّمني ذلك أنت أيضا ولكن بعد فوات األوان".
يف دراسة قامت بها منظّمة اليونسكو حملت عنوان" :الربامج
خصصت
الثّقاف ّية عىل القنوات العموم ّية للتّلفزات األوروب ّية" ّ
اللّجنة ال ّدارسة قسام من عملها لتقديم توجيهات تتعلّق بضبط
هذا املجال وهو مجال اإلعالم الثّقا ّيف انطالقا من حكم يعتربه
يس.
صناعة مختلفة عن بق ّية ّ
وطني أسا ّ
الصناعات وحماّ لة لدور ّ
تعترب اللّجنة أ ّن حضور ال ّدولة باعتبارها مساهام يف متويل املنابر
الخاصة يع ّد أمرا رضوريّا ال مناص منه .وعىل هذا
اإلعالم ّية ّ
ال ّنحو ميكنها أن تتدخّل يف طبيعة الربمجة وشبكاتها تدخّال فاعال
وإيجاب ّيا ومو ّجها ،حتّى تقوم بواجبها يف تثقيف مواطنيها ناشئة
وكهوال وعجائ َز .وتق ّدم لهم ما ّدة ثقاف ّية تجمع بني التّوعية وتحفيز
القيم العا ّمة التي تتب ّناها ال ّدولة .باإلضافة إىل تحفيز ملكة ال ّنقد
والتّفكري والتّحليل .كام أ ّن لل ّدولة أن تقيم فروقا واضحة يف مسألة
التّمويل هذه استنادا إىل املعايري الثّقاف ّية والترّ بويّة
واللّسان ّية.
يف خامتة هذا القسم تشري اللّجنة" :يجب أالّ
الصناعات اإلعالم ّية
يغيب عن الوعي العا ّم أ ّن ّ
(السمع ّية البرصيّة) باعتبارها قسام من
ّ
الصناعات.
من
كغريها
ليست
ة
ي
ّقاف
ث
ال
ناعات
الص
ّ
ّ
ّ
يجب أن تُدار من قبل أجهزة تضع يف
وعليه ُ
حسبانها هذه الخصوص ّية .وهذا من بني أوكد
رهانات مستقبلها".
ميكن لل ّدارسني إذن أن يبحثوا كيفام أرادو سبل
ِ
الخاص مبصطلح اإلعالم .وأن يعملوا يف
نحت املفهوم ّ
مجال بحثهم الذي يعترب مهماّ ومركزيّا .فنحن ال نقلّل من
أه ّم ّية جهودهم .ولكن قبل كلّ يشء ،علينا أن نح ّدد
معا :ما هي األهداف التي نريد رسمها إلعالمنا الثّقا ّيف؟
وطني
كيف ميكنه أن يحقّق دوره يف التّأسيس ملرشوع ّ
منفتح ذي آفاق؟
وليح ّدد كلّ طرف بوصلته استنادا إىل ذلك.
14
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
اإلعالم المكتوب وسياسة االغتيال الثقافي
عبد الفتاح بن حمودة (ايكاروس).
يبدو املشهد اإلعالمي املكتوب يف تونس أشبه بحاضنة بيوض ميتة ألنّه ال يعري انتباها إىل الثقافة ،فمن الوهم
الصحف السيارة أنّها تساهم يف خلق ثقافة بديلة وفاعلة من خالل إفراد صفحة أو صفْحتني لألخبار
حقّا أن تعتقد ّ
الثقافية الرسيعة مثل برامج املهرجانات الفنية أو نقل أخبار األمسيات األدبية أو الجوائز األدبية أو حتى لنرش
بعض النصوص أو الكتابات من هنا وهناك بدعوى التشجيع علی اإلبداع ...إنّها صفحات ثقافية مزيّفة ال عالقة لها
باألدب أو الثقافة وزيفها ج ّيل دوما فام قيمة ما ينرش اليوم يف الصحف اليومية أو األسبوعية غري الهراء والهذيان؟
ويعود هذا الهزال التونيس يف الحقيقة إىل أسباب كثرية منها:
ـ عقلية احتقار األدب والثقافة التي ميارسها املديرون ورؤساء التحرير ورؤساء التحرير ورؤساء األقسام يف نظرتهم
البائسة والسطحية وعدائهم الدفني لكل ما هو ثقافة جادّة أصيلة وذلك لجهلهم بقيمة اإلبداع.
ـ عقلية الربح والتجارة املسيطرة عىل وسائل اإلعالم والبحث عن اإلثارة من خالل تركيزهم عىل ما هو سيايس
وإشهاري واقتصادي وريايض عىل حساب الثقايف واإلبداعي.
فقليال حقا ما أفردت الصحف التونسية بعد الثورة مالحق ثقافية جادة وظلّت عىل حالها أو ساء حالها بإفراد صفحات
ثقافية باهتة ال طعم وال لون لها إالّ ما ندر يف قراءات جادّة لنصوص أدبية أو حوارات مع ثلّة من املبدعني لكن هذه
خطك رديء
ّ
الصفحات الثقافية مل تصمد طويال بعد الثورة فأصابها الخمول والهزال نظرا إىل طغيان املشهد السيايس وتسلسل
األحداث السياسية واالقتصادية.
من هنا ارتأت أرسة جريدة الشعب وعىل رأسها االخ سامي الطاهري األمني العام املساعد املسؤول عن النرش واإلعالم
إيجاد ثقافة بديلة وطنية جادّة من خالل إعادة تجربة جادة وعريقة مع ملحق منارات ثقافية ( )2007/2004بعد
تجربة أوىل مع ملحق الشعب الثقايف ( )2002بعد بلوغ رصختي بنرش مقايل :للصحافة الثقافية يف تونس الواقع
واآلفاق (الشعب عدد 629ص 19بتاريخ 3نوفمرب )2001الذي كشفت فيه الخلل الثقايف العام يف بالدنا بحثا عن
البدائل ،فجريدة الشعب كانت رائدة يف خلق البديل للمرة الثلثة وها هي تعيد التجربة األصيلة للمرة الثالثة (مرتان
قبل لثورة ومرة بعد الثورة) إميانا من االتحاد العام التونيس للشغل بأ ّن الثقافة الجادة دعامة أساسية لكل إعالم
وبأن الثقافة هي الوحيدة التي تبني وطنا جميال شعبنا جدير به وذلك من خالل افتتاح مركز ثقايف ومكتبة للباحثني
لكل قلم ح ّر
والدارسني والقراء وإذاعة وطنية وملحق ثقايف هو اآلن رائد وال نظري له يف تونس بعد الثورة إنه ملحق ّ
وجا ّد يف الفن واألدب والثقافة ...فقط من أجل وطن أجمل بأكرث من جناح.
اسمع يا اهلل
رضا العبيدي (شاعر تونسي مقيم في فرنسا)
كاظم خنجر (شاعر عراقي)
خطّك رديء أ ّيها الشّ اعر ّ
كخط الفقر متاما
وصوتك موجات راديو هرم كلّها زجر بال م ّد
املنفي يف داخيل
ال رغبة يل يف قراءتك أو سامعك أ ّيها الشّ اعر ّ
ال أريد أن أمتادى يف ال ّتحديق ح ّتى ال أرى شي ًئا ...
أريد بعيدا عن أوهامك
أن أقرأ بلزاك
وحني أحيص أصابعي
أريد أن أجد عرشة ال ألفا
ال أريد أن أصبح ملكا وال مالكا
الساموات
بخزائن مثقلة بال ّذهب وصكوك الغفران و ّ
وبجيوب أنف ّية مملوءة بالحدائق املهندسة
الصباح
يكفي حني أصحو كام يف هذا ّ
بكسل شجرة عقيمة يف باحة الحوش
أن أعرث عىل كرة صوف مهملة
قضت ليلها يف برد الخارج
ألتقطها وأالعب بها كلب البيت
السياج
أن أطعم األرانب خلف ّ
أكنس األغربة التي راكمها هواء البارحة
َ
أتحسس شوكة صغرية يف كفّي
ّ
أتف ّوه بكلمة خشنة بصوت خافت جدّا
وتن ّبهني بحركة خف ّية
الجار ُة القادمة للت ّو لرؤية أ ّمي
إىل قفل يف صدر قمييص
نسي ُته مفتو ًحا.
أيب /أمي يتشاجران منذ 3ساعات .ال أعتقد أنه سيقتلها
كام يهدد؛ ألن حديقة البيت صغرية وال تكفي لجثة.
نرشوا صورة جثته عىل ال«فيسبوك» ،أخي األصغر،
وبعدما عجزنا عن العثور عليها ،قمنا بطباعة الصورة،
تغسيلها ،تكفينها ،ودفْنها يف مقربة العائلة.
أن تسحب جثة من تحت حصري من الذباب.
ما معنى ذلك؟!
وبكل تأكيد القتىل ال يتحركون؛
ألنهم ينامون عىل بكائهم.
الله أضحوكة؟أم رشطي؟
أم سكِّني؟
الرايات كراهيتنا التي ترفرف
الرايات سكاكني من قامش.
نضع امليت يف تابوت من خشب
لنوهم األرض بأننا جئنا لزراعة شجرة
يف املحطة
منذ « 2قواطي» ويسيك وأنا أحاول الكتابة عن:
أم تحاول أن تطفئ ابنها املحروق بذراعيها
املقصوصتني
أب يحاول إعادة رأس ابنه املقطوع إىل عنقه النازف.
اسمع أيها «الله»
إما أن تخلق الرأس منفصال عن الجسد
أو تنفي فكرة «الحور العني».
ومضات بال
الرأس
سعد شفان
(شاعر عراقي)
يف املقابر التي زرعوها لنا
رفضتْ الجثة أن تغني
ورفض اللهُ أن يستمع
َ
*********
شنقاً ..حرقاً ..رمياً بالرصاص
بأي طريقة تريد أن متوت أيها الشنكايل؟
*******
عرشون جثة من العظام يف كيس واحد
يكفي أن َ
نقول مجزرة
عرس يف القرية
أو رمبا إلقامة ٍ
******
تركض ٍ
بجثث إىل املزار
املركباتُ ُ
ال أحد يبيك
أين الغرابة يف أن ميوت ألفا شنكايل ؟
*******
أحدهم أراد أن ميوت
حضن أمه
يف ِ
رفضوا حتى حرية املوت
*****
تعبتُ مبا يكفي
يك أترك رأيس وأرحل
15
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
شنكال
سرمد سليم
(شاعر عراقي)
يوميات
صالح
فائق
صالح فائق
(شاعر عراقي مقيم في الفيليبين)
أنا مدم ٌن عىل ملذ ٍ
ّات قليلة
ٍ
تتناقض ،أمراضاً
ومشاحنات يف
أتفادى بها آرا ًء
ُ
داخيل،
أزقّة ،كام إين مول ٌع بهذه األرض،
وقدريت عىل االحتفاء بها بقصائد وأشعا ٍر
أتحدثُ ،بطالقة ،يف مؤمترات الصيادلة
ِ
الجواميس خار َج مدنٍ وقرى
وباعة
أغني ،بصويت الجميل ،مقاطع ماجنة أواخر الليل
أرشب نبيذا ً بطاس ٍة من نحاس ورثتها عن ج ّدي.
وأنا ُ
صباحاً أمس ُح أطرايف بالزيت
مثل إفريقي وأنحني ،يف مستشفى ،عىل آخر مولو ٍد،
يرفس الهواء بقدمٍ واحدة.
فأرا ُه يغم ُز يل وهو ُ
خالصة هذه القصيدة :
أنا مدم ٌن عىل هذه امللذّات وغريها
أو أتوه ُم ذلك ،وال أج ُد بينهام أي فرق
*
أب ّد ُد وقتاً ،كل مرة ،يف مقهى ،حانة
مع مه ّريب مخدرات ،قراصنة ،وصيادين
وحتى ساع ٍة متأخر ٍة
أعو ُد اىل البيت ،كلبي نائ ٌم،
أشاه ُد يف التلفزيون تفجريات جديدة وقتىل يف
بلدانٍ
اجلس هناك
أذهب اىل الخارجُ ،
ُ
أخنق دجاجة أحد جرياين..
ر
القم
غياب
ويف
ِ ُ
لي ِح َّص ُة
َهـواء
عبد اللطيف الوراري
(شاعر وناقد مغربي)
مل أشأْ أن أقول شَ ْيئًا،
فَالْ َهوا ُء املالِ ُح َو ْحد ُه
عىل األَ ْرصفة وأَ ْسامء ال ِفراق
يَ ْروي يل مع ُغ َرباء ِمثْيل
عن ُسيو ٍل جرف َِت الربيق من العيون،
جانب ال ِق َّصة
ور َم ْت بِاألَ ْحجار َ
إليهام َم ْن يف مثل َخطْوي بمِ ا َح َدث.
أُكِ ُّب عىل َو ْجهي
ُم ْهتديًا ِب َن ْجم ٍة مثل قصيدة طَ َرفة.
كأ َّن يب َم ًّسا
َ
ِم ْن َه ْو ِل ما أ َرى من األسباب ال َرثَّة
يف عرض طريقٍ إىل املنحدر،
أدوس نمَ ْل ًة أو ِظلَّ َغ ْيمة،
أَخْىش أن َ
وأَ ْرف َع َرأْيس إىل نوافذ تتصاي ُح ِم ْن بَ ْرد الْ َم ِ
فاصل،
وأَثِ َق يف ي ٍد َج ْرباء من َسدى السيلوفان.
نُود َي ب ِْاسمي َم َّر ٍات،
فَلَ ْم أَ ْعبأْ بِالحنني،
لأِ َّن ِحذايئ األُولَ ْمب
َولىَّ ِقناعي شَ طْ َر الكُوميديا.
كان يكفي بَالُونات َهواء
أنو ُء بها تحت أَ ْساميل
ألَ ْسمع كلَّ أَ ْصوات العرص.
كان يكفيها أ ْن تط َري يب
وتصري قَ ْوس قُ َزح بِال تُ ْهمة ال َّدم،
فَالْ َعصا -وهي أَ ْعىل الظِّالل
ِحصة الْ َمالك.
َوشْ وشَ ْت يل ب َّ
تلك
الغرفة
البعيدة
ميالد فايزة
(شاعر ومترجم تونسي مقيم أمريكا)
ملْ أن ْم ليل َة البارحة.
ٍ
لساعات
ْملت يف الفراش
متل ُ
ُمف ِّكرا يف غرفتي البعيدة،
غرفتي املوصدة منذ خمسة عرش عاما.
ملْ أفت ْح باب الغرف ِة
ل ِئالّ أزْع َج العناكب املنهمكة يف بناء جرس جديد
أو الزهرة الذابلة.
ملْ أنفض الغبار عن كتاب «األم» لغوريك.
ملْ أغيرّ بقلم الرصاص ترسيحة شعر ر ْمبو التي
رسمتها
حني كنت طفال حاملا بالرشق
وتجارة ال ُجنب واألسلحة.
ملْ ْ
أدرك ساعتها أ ّن ذئباً أمريكيًّا ي ْعوي يف دمي
وي ْحتمي بالثلج من شمويس الحارقة
وأ ّن امرأ ًة تتأملُ ُع ْريَها عىل سواحل كاليفورنيا يف
لغتي
وتصليّ يف كنيسة قدمية ّ
ليفك اإلله رساحي
ملْ أن ْم ليل َة البارحة.
ست املفتا َح بيد وجِلة
تحس ُ
ّ
ْفت ُهنيه ًة أمام الباب،
و َوق ُ
َفي يَ ْخ ُر ُج من الخزانة.
ْأسرتقُ السم َع ألنني خ ّ
ملْ ت ْق َو أصابعي عىل الحركة
َوسق َط املفتا ُح من يدي.
بعد أن نعود إىل شنكال
سأقوم بأشيا َء كثرية:
سأبحث عن منزل صغري جدا
ويف املنزل عن جدار
يحتفظ بصورة جامعية لعائلة صغرية
ويف الصورة عن األحياء
وبني األحياء عني
يف غرفة النوم
سأبحث بني الكتب املنترشة يف األرجاء
عن ديوان «كاظم خنجر»
ويف الديوان عن السكاكني
السكاكني التي ذبحت العراقيني فقط
سأضع رقبتي عىل حد سكني قاتل طيب
وسأقول له أنا عراقي
يا ابن الكلب
حرك يدك جيدا
ألوان
مازن معموري
(شاعر عراقي)
تض ُع زوجتي راي ًة خرضا َء عىل ِ
رأس بابِ البيت ،دليالً عىل
شيع ّيتها
حليق الوج ِه مبالبس شبابية ،دليالً عىل علامنيتي
وأنا أبدو َ
يحلق السني شاربه ويطيلُ لحيته وكذلك الشيعي
ُ
كالهام يلبسان األسود ويقتلُ بعضهام اآلخر
لن تنتهي الحرب
العالمات تتجدد
وتستم ُّر يف كتاب ِة كراهي ِة البياض
كلُّ يش ٍء جمي ٍل أبيض
وكلُّ قبي ٍح أسود
ِ
باألثاث ،وأحياناً
رصتُ أل ّون االشياء بدءا
أسكب ألوا َن الرسمِ
ُ
متعمدا ً عىل كلّ يش ٍء أبيض أو أسود
لك ّنها مرارا ً متس ُحها بقطع ٍة بيضاء أو سوداء لتؤك َد يل إنها غريب ٌة
عني
َ
وتقولُ يلَ :
إنك رجلٌ ملونٌَ ..
أغسلك ذاتَ يوم
وسوف
16
الخميس 4أوت - 2016املوافق لـ 30شوال - 1437العدد 51
ركن إصدارات
قراءة في رواية «بيبوالر» ألمين الحسيني
عمر حفيظ
مستهل
ّ
السارد يف الفصل األ ّول وعىل امتداد ثالث صفحات كاملة يف
يتك ّتم ّ
ال ّرواية عىل اسم البطلة ،ضمري الغائب املؤنّث (هي) هو الضّ مري املهيمن .ولك ّن
الالّفت هو أنّ هذه البطلة ال ّنكرة بغياب االسم ال تحملنا عىل أنّ ال ّتسمية ال
تعني شيئا .فالهويّة بال ّتسمية هويّة تشابه ومتاثل بل هي مج ّرد عالمات لتمييز
الكائنات من بعضها .أ ّما الهويّة الحقيق ّية فهي كيف ّية مثولنا يف العامل.
الصفحات الثالث التي أرشنا إليها وقبل ظهور اسم البطلة يهيمن الوصف
يف ّ
مبا فيه من طاقة عىل تحويل األشياء العاديّة إىل لوحات ال تخلو من رسيال ّية
الصفحة األوىل
يئ أن يضعها يف ّ
أش ّعت من لوحة سلفادور دايل التي اختار ال ّروا ّ
من الغالف :فال ّريح عواء ذئب جريح ،،ولل ّذاكرة عني وأنف ولسان ،،واللّيل
يكف عن رثاء ذاته عند رأس جثّة الوقت العفنة،،
كاألساطري ،،واإلنسان ال
ّ
والحياة صدَ فة يف قعر محيط...
السجن .فهي
للسائد ّ -
أ ّما هي ويف هذا الفصل تحديدا فقد بدت هويّة اخرتاق ّ
كل
كل يشء ومن ّ
تدخّن وترشب وتغ ّني ،بل إنّها بدت أبيقوريّة تنشد الل ّذة يف ّ
الحب الهادئة يف حانة
يشء( التقت بـ"فرنسوا" الذي كان رقيقا ّ
ككل معزوفات ّ
ثم افرتقا صباحا كام التقيا يف الحانة مج ّرد غريبني).
يف باريس ،ناما يف العراء ّ
يف بداية الفصل الثّاين نعرف أنّ اسمها هو سا ّرة ونعرف عنها أكرث من اسمها
عندما تدخل عيادة طبيب نفسا ّين .فهي سا ّرة وعمرها تسع وعرشون سنة وهي
البنت الوحيدة وليس لها إخوة وتعيش وحيدة بعيدة عن والديها وهي كاتبة
مرسح ّية .ولك ّن الالّفت أنّها مل تأت لتعرض نفسها عىل الطّبيب ،وإنمّ ا جاءت
لتعرض عليه فكرة أن تكتب سيناريو مرسح ّية حول شخص ّية مضطربة نفس ّيا.
ويفاجئها الطّبيب بأن يَطلب منها أن تنتحل هي شخص ّية البيبوالر ،Bipolaire
الصفة عىل صلة برسيال ّية ف ّن دايل املشبع بالفرويد ّية والعبث ّية
ونحسب أنّ هذه ّ
والهذيان ومتظهرات الجسد يف حاالته الالّنهائ ّية.
ثم تعود إليه عىل غري موعد وتدخل وترشع
تغادر سا ّرة حجرة الطّبيب يومها ّ
يف تعليق نسخة عن لوحة "فتنة القدّ يس آنطوين" لسلفادور دايل .وما يعنيها
من اللّوحة ليس تأويلها وإنمّ ا وظيفتها ووظيفة الف ّن عا ّمة .فهي تراه رصخة
اإلنسان الوحيدة يف وجه مجتمع البؤس .وها هنا ينشأ بينها وبني الطّبيب حوار
حول اإلنسان واملجتمع والفنّ .فالف ّن بال ّنسبة إليها هو عشبة الخلود ،وهو
املدخل الوحيد إىل إنسان ّية اإلنسان وسط هذا الخراب املع ّمم.
وتأسيسا عىل ما تقدّ م فإنّ سا ّرة تتح ّول إىل سؤال من أسئلة الوجود ،سؤال
ينفتح عىل إيقاع ال ّذات وهي تبحث عن ذاتها :كلّهم أتوا بال موعد هذا املساء:
السوداء /هكذا يرتائ لها اآلن /ال ّنادل الذي
البوليس /فصل الشّ تاء /العناكب ّ
ثم ابتسم /مكاملة مالك املنزل الذي تس ّوغته
أعطاها زجاجة "برية" مجانا ّ
السابعة صباحا( /ص)35
حديثا /قطار ّ
ّ
الساعة :إنّها ال ّتاسعة مساء /تفكّر يف الكتابة /تعدل /تضحك تبتهل كصويفّ/
تدق ّ
تبيك /تقول :أح ّبك /تشعل سيجارة /تقول :أكرهك /تثمل دون نبيذ( /ص)35
ربمّ ا ...
تحتل ال ّنهايات مكان البدايات...
ّ
وتُزهر الشّ مس أغنيات...
وتنضب ال ّنار من وقودها...
ربمّ ا...
يتض ّوع اللّيل بوحا وتنكرس الحكايا قبل الوصول إىل الشّ فتني...
كل القصائد...
وتنتحر ّ
ربمّ ا...
تعود...
أو ال تعود...
من يكرتث (ص)36
حرصنا عىل أن ننقل الشّ واهد كام وردت يف ال ّرواية لنشري من خاللهام إىل
يئ يحرصان عىل الوفاء لطبيعة الشّ خص ّية وهويّتها
السارد ومن ورائه ال ّروا ّ
أنّ ّ
والسواد والفصل بني
السرّ ديّة التي نحتاها لها .وليس هذا ال ّتوقيع بالبياض ّ
الجمل ّ
بخط مائل والكتابة عموديّا والجمع بني املعاجم املختلفة إالّ محاولة
لرتسم حاالت ال ّذات املتح ّولة باستمرار.
ّ
السؤال عن
تعود سا ّرة اىل الطّبيب بعد ثالثة أشهر ويجري بينهام حوار يع ّمق ّ
أي معنى لهذا الكائن الذي هو نحن؟
املعنىّ ،
األمني يف اليمن والبحرين وسوريا
والوضع
ياسة
الس
أحاديث
مللت
لقدّ
ّ
والحالة الصح ّية لالجئي مخ ّيم الريموك
هل تعرفني ألبري كامو ملاذا كلّام اعرتضتني مفردة موت إالّ وربطتها بفكرة البطولة ،ترى ألنّ مج ّردبقائنا عىل قيد الحياة دليل عىل كوننا مشرتكني يف الجرائم التي ترتكبها البرشيّة
كل لحظة؟ ألهذا الحدّ أضحت حياتنا خيانة للموت؟ (صص )44-45-46
يف ّ
بسارة والطبيب كذلك فقد انتقلت إليه
إنّ سؤال املعنى هو الذي يستبدّ اآلن ّ
عدوى البحث والقلق والخوف ومتجيد املوت :يومها حملوه عىل األعناق (
تعني والدها) وحني أدخلوه إىل قربه شعرت بحسد تجاهه ،فكيف ال أحسده
وهو الذي تح ّرر أخريا من سجن الجسد (ص)50
والواقع أنّ غياب األب قد غيرّ رؤية سا ّرة إىل الوجود :أيب مل أعد تلك الطّفلة...
رصت كائنا آخر نصفي رجل ونصفي اآلخر أنثى مقهورة وأنا أمت ّزق بينهام ،مل
يعد يل حنني إىل يشء فقد رصت شيئا أعمق بكثري من اإلنسان ()52
وبرضب من ال ّتداعي
والعدوى يعود الطبيب
الذي احتضن سا ّرة وهي
تبيك إىل موت زوجته ،وقد
خال أنّه نسيها .وبالعودة
إىل املايض تتكاثف األسئلة
ويصبح الحديث عن
والحب
الحياة واملوت
ّ
موسعة عندما
استعارة ّ
كان وسا ّرة يف مطعم يف
املدينة:
لكل ما يدور حولنا يف "نوتة"
رس الحياة يكمن يف ترجمتنا ّ
ّثم سألها :ونحن عازفوها؟
عندئذ اعتدل ّ
هذرت سا ّرة قائلة :نحن املستمعون ،فقط حني نُج ّن نصري لها عازفني(صص)61-62
ويف سياق الجنون تتذكّر سا ّرة أنّ ح ّبها لحبيبها الذي كان كاتبا مرسح ّيا وممثّال
كان عنيفا ،ولك ّنه كان ح ّبا لعنة ,ولك ّن الطّريف هو أنّها لعنة تكرس رتابة
الوجود وتخرتقه بالجنون والالّمعنى وال ّتفكري يف الفراق والغياب واملوت
والحرب والدّ فن...
يتح ّول السرّ د يف لقاء الطّبيب بسا ّرة إىل رضب من ال ّتداعي كام سبقت اإلشارة
إىل ذلك وتتداخل األزمنة فيعود بها الحديث إىل والدها الذي فارقها وإىل
صغرها ،وفجأة تعلن أنّها ق ّررت أن ال تُنجب ،لن تشارك يف إضافة أرقام
بيولوج ّية جديدة لهذا الكون البغيض.
تنتهي ال ّرواية بهبوط الطّائرة يف تركيا واالتّجاه إىل مخ ّيم الريموك يف سوريا
ويعود السرّ د من جديد إىل لعبة املوت والحياة والعبث واملعنى والالّمعنى.
وما من شكّ يف أنّ الجمع بني بني مخ ّيم الريموك – أيقونة من أيقونات الالّجئني
الفلسطين ّيني الكثرية وسوريا التي تُعترب اآلن أكرب ومخ َتبرَ لإلجابة عن سؤال
العبثي ،إنمّ ا هو جمع مقصود يروم الغوص عىل معنى الحياة واإلنسان
املوت
ّ
بيبوالري كذلك.
يف آن معا ويف عامل
ّ
السمة األجىل يف
وإذا كان سمة
ّ
البيبوالري هي التعدّ د والتوتّر ،فإنّ ال ّتوتر هو ّ
ِ
َ
العيص عىل األجوبة الجاهزة أو
ق
ل
ق
ال
ؤال
الس
جليه
ي
ّر
ت
تو
كذلك،
هذه ال ّرواية
ُ
ُ
ّ
ّ
املبني باملتعدّ د من خطابات أخرى ،وهو ما جعل ال ّرواية
والخطاب
املألوفة.
ّ
كتابة فسيفسائ ّية تُرهق العني -الفكر ولك ّنها تُحقّق ل ّذة البحث عن معنى لهذا
الكائن الذي هو نحن؟
«كأن أمضي خلف جثتي» لعيسى جابلي
محاولة في قراءة العتبات واستدراج القارئ
بقلم/محمد العربي
بصفتي قارئا وكاتبا تونسيا أتابع بجدية ولهفة املشهد األديب التونيس املعارص
وأتصور أنني قرأت نصوصا شعرية وقصصية وروائية جادة ومثرية للجدل
واالهتامم رغم أن أغلب أصحابها مغمورون ألسباب عديدة أهمها أن املشهد
الثقايف واإلبداعي يف تونس تتصدره أسامء مكرسة ومهيمنة رغم ضعف منجزها
وضحالة ما تقدمه .فنحن نفتقر اليوم إىل حركة نقدية تواكب ما يصدر من
نصوص أدبية وتشتغل عليها.
واألهم من كل ذلك أن أصحاب املشاريع األدبية الحقيقية – وأغلبهم من
الشباب _ يعملون يف صمت منكبني عىل أعاملهم مكتوين بها وحريصني أن
ال يخوضوا يف معارك واهية ومزيفة مقتنعني أن الحرب الحقيقية هي حرب
النص وأن أسئلتهم األساسية هي أسئلة الكتابة بحثا عن االختالف والتجديد.
قرأت نصوصا قصصية مدهشة ومختلفة تنبئ بأن النرث بخري ويف أفضل حاالته
وتابعت نصوصا ألسامء كثرية أذكر منها السيد التوي ،وليد سليامن ،عبد
الرزاق املسعودي ،نجيب الربكايت ،عيىس جابيل ،محمد فطومي ،فائقة قنفايل،
نجيبة الهاممي ،جابر السالمي ،عفاف الشتيوي ،هدى بن عيل ،سهى بختة،
صفاء متاع الله ...وغريهم من األسامء التي تبرش بكل خري.
نصوص ملتصقة بواقعها تحاول أن تلتقط منه ما يصلح به وأن تعالج أمراضه
وعقده .نصوص لها الشجاعة الكاملة يف أن تتقدم وسط كل هذا الرعب الذي
نعيشه.
ومن هذه األعامل القصيية التي أتناولها اليوم بالدرس املجموعة القصصية
الثانية للقاص عيىس جابيل.
من واقع تونيس مرعب ،من ذات مهشمة ومسحوقة ،من تناقضات مجتمع ال
يأبه ملاضيه وال يعنيه الحارض وال املستقبل .ال رموز يحفظها وال غد يؤسس له.
من النفيس واالجتامعي والسيايس التونيس واإلنساين .من املوت هادم اللذات
والعد ّو األول للبرشية التي تتخبط يف معاناة وجودها الثقيل .من املوت الذي
يعيش فينا وداخلنا وبنا .من اإلحباط الذي صار يسكننا ويعصف بنا كل لحظة،
تأيت رائعة عيىس جابيل «كأن أميض خلف جثتي» الصادرة عن دار زينب للنرش
والتوزيع تونس .2016والحائزة عىل جائزة القصة مبعرض الكتاب هذه السنة.
تضم 13قصة بإمكان أي قارئ أن يتبني
مجموعة قصصية متوسطة الحجم ّ
مالمحها األوىل وعواملها من خالل عنوانها «كأن أميض خلف جثتي».
· العنوان
منذ العتبة األوىل وهي عنوان املجموعة»كأن أميش خلف جثتي» بإمكانك أن
تتحسس العامل الجنائزي والغر ائبي الذي سيقودك إليه الكاتب.
كيف سيميض خلف جثته من هو ميت أصال؟ وهل هو ميت حقا أم نحن هم
املوىت؟ كيف سنتبع ميتا يتبع جثته؟
أسئلة كثرية وجدت نفيس غارقا فيها وأنا أتصفح الكتاب ألول مرة .وقد ورطني
الكاتب يف عوامله املرعبة أميش خلف جثته .ستجد أيها القارئ يف هذا الكتاب
أنّ حدسك مل يخنك حقا.
أما عناوين النصوص والتي جاءت عن النحو التايل :
«زكريا تامر يف اليوم
السابع»« ،بروكوست
يف املدينة»« ،مدّ اد
يده»« ،أبقار عن غري
قصد»« ،أنك حامل»،
«كأشباح املوىت أو
أدىن قليال»« ،املوت
«متاريس
خلسة»،
العتمة»»،ميتة تلقائية»« ،خذين معك»،
«درس ختامي»« ،املسدس األسود والشالل»« ،عراجني املوت».
عناوين تؤكد املنحى الذي ذهب إليه الكاتب عيىس جابيل يف هذه املجموعة
التي ال تكاد قصة واحدة تخلو من الغرائبي والجنائزي .بل هي تنقسم إىل
حقلني دالليني وهام املوت والغرابة.
يحرض املوت يف 6عناوين تقريبا وبالتايل يف 6نصوص قصصية .وتحرض الغرابة
يف 7نصوص الباقية ولكنك حني تتوغل يف املجموعة تجد نفسك داخل الحقل
نفسه .إذ يتداخل املوت والغرابة مع الطقوس الجنائزية املرعبة والعوامل
السوريالية حيث تربز قدرة القاص العجيبة ومهارته يف تحويل اليومي والعادي
والهاميش يف حياتنا إىل أفكار خارقة وعجيبة يصوغها عيىس جابيل بلغة شعرية
سلسة ال زوائد أو شوائب فيها .إنه ال يكتب بل يفكر يف األشياء والعامل .يف ذاته
التي تربز أحيانا عىل شاكلة منلة وتتجىل أحيانا كإله.