p01hab04 .pdf


À propos / Télécharger Aperçu
Nom original: p01hab04.pdf

Ce document au format PDF 1.4 a été généré par Adobe InDesign CS5 (7.0) / Adobe PDF Library 9.9, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 13/08/2016 à 19:42, depuis l'adresse IP 197.1.x.x. La présente page de téléchargement du fichier a été vue 290 fois.
Taille du document: 11.6 Mo (16 pages).
Confidentialité: fichier public


Aperçu du document


‫اإلعالمي الحبيب بلعيد لـ «منارات»‬

‫إن الدولة لن تنجح باحللول األمنية واالقتصادية‬
‫ّ‬
‫والسياسية فقط وإنام احلاجة األكيدة اآلن هي حاجة‬
‫إىل تغيري يف العقلية واكتساب ثقافة جديدة‬

‫الملحق الثقافي لجريدة الشعب‬

‫ص ‪6_5‬‬

‫تقريبي في ا ّتجاه ْين‪:‬‬
‫فتقد‬
‫ُم ٌ‬
‫ّ‬

‫ٌ‬
‫ثقافة بال إعالم‬
‫وإعالم بال ثقافة!‬
‫ٌ‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫في جينيالوجيا الثقافة‬
‫وأركيولوجيا الجدود‬
‫محمد الجاب ّلّي‬

‫الصحافة‬
‫نفوذ ّ‬

‫*‬

‫بقلم بيار بورديو‬

‫تعريب المنتصر الحملي‬

‫‪2‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫في جينيالوجيا الثقافة‬
‫وأركيولوجيا الجدود‬
‫محمد الجاب ّلّي‬

‫يف ذكرى تأسيس رابطة الكتاب‬
‫األحرار الخامسة عرشة تساءل‬
‫بعض الحارضين ‪ -‬ضمنيا ‪-‬‬
‫عن النص املنظم لقانون جائزة‬
‫نص‬
‫الرابطة وكيف تسند إىل ّ‬
‫«فرحات حشاد املقاالت» وهو‬
‫نص توثيقي ال عالقة له باألدب والنقد وقضايا اإلبداع وهو‬
‫ّ‬
‫تساؤل مرشوع يف العام الثقايف لكنه ال يجد سندا بالنطر يف‬
‫خصوصية رابطة الكتاب األحرار وتاريخها الطويل ومبادئها‬
‫املضمنة يف بياناتها ووثائق تأسيسها‪ ...‬رابطة نضال ض ّد القمع‬
‫والتهميش‪ ،‬ولها بوشائج النضال الوطني صلة ولها رؤية توجه‬
‫مسريتها ضمن أولويات فيها نصيب من الفن والجامل والخيال‬
‫ونصيب من الوعي الوطني مبق ّومات ذات أولوية يف مجمل‬
‫محطاتنا التاريخية‪...‬‬
‫أولويات عرب عنها األستاذ جلول عزونة بإيجاز حكيم عندما‬
‫ذكر مبسألة البحث عن الجدود يف إشارة إىل ما راج مؤخرا من‬
‫جدل فيه تنافس بني الدستوريني واإلسالميني بعضهم انتسب اىل‬
‫بورقيبة وبعضهم انتسب اىل الثعالبي‪ ...‬وأشار إىل أن جدودنا‬
‫مختلفة عن جدودهم‪...‬‬
‫نعم جدودنا مختلفة يف جينالوجيا الثقافة والفكر والوعي نحن‬
‫ننتسب إىل جذور معلومة‪ ،‬تبدأ من الطاهر الحداد ومحمد عيل‬
‫الحامي وفرحات حشاد يف قوادح النقد والنضال والتأسيس لتمر‬
‫بأيب القاسم الشايب وعىل الدوعاجي والبشري خريف ومحمود‬
‫املسعدي يف أسئلة الفن واالبداع‪ ...‬ولنا جدود أقدم يف عمق‬
‫الحضارة العربية أولئك الذين حملوا لواء الفكر املستنري منذ‬
‫قرون عدة وهم كرثة منهم الجاحظ والتوحيدي واملعري وبن‬
‫رشد وبن خلدون‪...‬‬
‫واالختالف ثراء وتنويع يف مناخ دميقراطي واملحك الحقيقي‬
‫املتجدد هو الوطنية‪ ،‬ومدى استيعاب الذوات لرشط الحقيقة‬
‫بنسبيتها ومدى استعدادها لبناء مستقبل جامع يحرتم الطاقات‬
‫ويستوعب املايض ويتطلع اىل املمكنات‪...‬‬
‫ومن جينالوجيا الثقافة تذكري بتمفصالت حصلت وتحصل يف‬
‫كل آن‪ ،‬متيز حتام بني مثقف البالط يف كل زمان ومثقف الحرية‬
‫مبمكناتها التي ال تح ّد بح ّد‪ ،‬وما الكتابة إال وجه من وجوه‬
‫ذلك التميز‪ ،‬فالنص الذي سيكتب له الخلود بف ّنه ومضمونه‪،‬‬
‫هو النص املتبرص الجريء‪ ،‬وما النصوص املائعة «املحايدة»‬
‫«املزوقة» إال تعبريا عن رعونة أصحابها وعن انتكاس اللحظة‪...‬‬
‫لذلك نذكر الكتاب واملبدعني بأن مسرية الفن هي مسرية مت ّرد‬
‫أزيل‪ ،‬هي مسرية الحرية واالغرتاب وآفاق التأمل يف لحظات‬
‫التاريخ البرشي يبدأ من االنخراط الواعي يف النقائض ويف الرصاع‬
‫النص الجيد إال بيان من أجل الحرية‬
‫من أجل حياة أفضل‪ ،‬وما ّ‬
‫ومغامرة يف آفاقها‪...‬‬

‫فرحات حشاد‬
‫المقاالت‬
‫«‪»1947/ 1938‬‬
‫د‪ .‬األسعد الواعر‬
‫جهد بحثي توثيقي‪ ،‬فيه جمع وتعريب لنصوص‬
‫ومقاالت وخطب الزعيم فرحات حشاد يف اكرث من‬
‫خمس مائة صفحة ت ّم تتويجه «مناصفة» بجائزة‬
‫رابطة الكتاب األحرار للنصوص التونسية‪ ،‬فيه حفط‬
‫وترميم للذاكرة الوطنية ‪ -‬وعىل وجه الخصوص منها ‪-‬‬
‫الذاكرة النضالية النقابية‪ ...‬تكونت لجنة التحكيم من األساتذة‪ :‬جليلة طريطر وفتحي النرصي ومحمد‬
‫الجابليّ ‪.‬‬
‫ورد يف تعريف الكتاب‪ :‬املقوالت هو عنوان اخرتناه لنضع تحته أكرث من مائتني وثالثني مقاال‪ ،‬أغلبها مجهول إىل اليوم كتبها‬
‫الزعيم النقايب التونيس فرحات حشاد بالعربية والفرنسية وأمضاها إما باسمه الشخيص أو بصفته النقابية ونرشها بني سنتي‬
‫‪ 1938/1947‬يف عدة صحف مثل الزهرة والنهضة والبراس‪ .‬جمعنا هذه املقاالت بعد ان ظلت اىل اليوم مشتتة يف أماكن عديدة‬
‫وبالتايل معرضة اىل كل اخرتاقات الزمن‪ ،‬أضفنا اىل خطب كتابات حشاد خطبه الشفوية التي نقلتها عنه صحف تلك الفرتة‬
‫وذيّلنا كل ذلك بقسم خاص مبالحق هي نصوص منشورة بدورها يف نفس تلك الفرتة يف الصحافة‪ ،‬كتبها زعامء تونس التاريخيون‬
‫حول «االتحاد العام التونيس للشغل» مثل محمد الفاضل بن عاشور وحسن السعداوي وصالح بن يوسف والحبيب بورقيبة‪،‬‬
‫وتخللت هذه املالحق وثائق رسية للمخابرات الفرنسية‪ ،‬أردنا لهذه النصوص امللحقة ان تكون حافة بالكتابات الحشادية‬
‫لتصبح هذه األخرية أكرث قابلية للفهم واالدراك وحتى يكون منطقها الداخيل أكرث قابلية للرصد‪.‬‬

‫محور العدد القادم‬

‫مواقـــع التواصــــل االفتـــــراضي‬
‫• انفتاح إجتماعي أم انغالق فردي‬
‫• امتالء ثقافي أم تسطيح وادعاء؟‬
‫البريد االلكتروني ‪manaratculturel@gmail.com :‬‬

‫المدير المسؤول‬

‫حسين العباسي‬

‫المدير‬

‫أسرة التحرير‬

‫سامي الطاهري‬

‫منتصر الحملي ‪ -‬رشيدة الشارني ‪ -‬حسني عبد الرحيم ‪ -‬سعدية بن سالم‬
‫إشراف وتنسيق ‪ :‬محمد الجابلي‬
‫المراجعة اللغوية ‪ :‬عبد الفتاح حمودة ‪ -‬اإلخراج الفني ‪ :‬محمد كريم السعدي‬
‫السحب ‪ :‬مطبعة دار األنوار ‪ -‬الرشقية ‪ -‬تونس‬

‫املقر ‪ 41 :‬شارع عيل درغوث ‪ -‬تونس ‪ - 1001‬الهاتف ‪ / 71 330 291 - 71 255 020 :‬الفاكس ‪- 71 355 139 :‬‬
‫العنوان االلكرتوين ‪ - manaratculturel@gmail.com :‬الحساب الجاري بالربيد ‪300 - 51 :‬‬

‫‪3‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫رابطة الكتاب األحرار‬

‫لوحات هدية من الرسام‬
‫العراقي المقيم في هوالندا‬
‫مهدي النفري لمنارات‬

‫متابعات ثقافية‬

‫متاهة الحكاية في رواية « أوالد خالتي زعرة» لرضا البركاتي‬
‫بقلم‪ :‬سعدية بن سالم‬
‫رواية "أوالد خالتي زعرة" لرضا الربكايت‪ ،‬رواية يف مئة وإحدى عرشة صفحة‬
‫طبعت يف نسختها األوىل(‪ )2016‬يف رشكة املطبعة الثقافيّة‪.‬‬
‫عىل عتبة العنوان يحشد رضا الربكايت الدالالت املتعلّقة بالوحدات املعجم ّية‬
‫يف تفاعلها‪ ،‬فنقرأ الحميميّة يف لفظ خالتي امل ُوهم باأللفة والتعاقب ونقرأ‬
‫استمرار األجيال يف لفظ األوالد ونقرأ التجذّر يف اسم "زعرة" ‪ ،‬اسم من عبق‬
‫املايض يتض ّوع برائحة األرض واألصالة ويجعل لألوالد منبتا يجمعهم وإن‬
‫ط ّوحت بهم الحياة‪.‬‬
‫ث ّم‪ ...‬تتد ّرج الحكاية إىل فاجعتها ليّنة مخاتلة‪ ،‬يف متاهة حكايات فرعيّة‬
‫تفيض إحداها إىل األخرى‪ ،‬ويقف ال ّزمن هناك ال يربح‪ ،‬منتظرا األحداث التي‬
‫خلّفها أن تلحق به ليكمل املسري‪ ،‬هو يوم‪ ..‬وبه بدأت رواية "أوالد خالتي‬
‫زعرة" لرضا الربكايت‪ ،‬وهو يوم كان "طقسه حارا وكان الهواء أثقل من ال ّرصاص‬
‫يلف الحبل الرس ّي حول رقبة الجنني الخارج إىل النور"‪،‬‬
‫وكان الج ّو خانقا كام ّ‬
‫السارد يف بدء الحكاية‪ ،‬يوم ينذر منذ الصباح وقد بدأ مكفه ّرا‬
‫هكذا ع ّرفه ّ‬
‫غاضبا تر ّن الهواتف فيه نجدة‪.‬‬
‫ا ُفتُتح السرّ د مثريا لل ّدهشة مقحام املتلقي يف خض ّم ال يدري كنهه‪ ،‬راسام‬
‫فحي يصل إليه العابر‬
‫كونا من املكان والشخصيات ّ‬
‫خاصني به‪ ،‬فأ ّما املكان ّ‬
‫حي ملقى هناك يف ركن‬
‫رة‪.‬‬
‫ج‬
‫مح‬
‫اب‬
‫و‬
‫ور‬
‫جرداء‬
‫عن طريق حزام ّية بني حقول‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫قيص عىل تخوم املدينة مبلّطُه رقيق القرشة قد م ّزقته سيول األمطار وحفّرته‬
‫ّ‬
‫الشّ احنات‪ ،‬تناثرت فيه نواة ملنطقة صناع ّية مل تكتمل وتنازعت الفضالت‬

‫حي محارص‬
‫بطحاءه يف أكداس يركض بينها األطفال‪ّ .‬‬
‫بـ"الباقة" طوال الوقت‪ ،‬وأ ّما أسامء الشخص ّيات فمنها ما تبدو‬
‫حميمية مبا يسبقها من صفات يف األسامء مثل "خايل عامر‪،‬‬
‫وخالتي زعرة‪ ،‬وع ّمي عيل‪ "..‬ومنها ما يجلب الوقار مبا فيها‬
‫الصادق ومنها ما يخرب‬
‫من كرس للسني مثل يس محمود ويس ّ‬
‫عن جيل جديد بتناقضاته وتو ّجهاته األيديولوجية والسلوكية‬
‫املختلفة مثل "نجيب" وزياد وسفيان ومروى وحمزة‪ ،‬منها ما‬
‫تبدو متحفّزة‪ ،‬متوتّرة‪ ،‬خلقت لنفسها‪ ،‬أو خلق لها املجتمع‪،‬‬
‫الحي الشّ عبي الذي‬
‫مسميات أخرى تعرف بها فتكمل صورة ّ‬
‫تنتمي إليه‪ ،‬فهذا بالفر وذاك بونتة واآلخر الشعشعاين‪ .‬فإذا‬
‫تجاوزنا األسامء فإذا هي شخصيّات مسحوقة يف تن ّوعها تكابد‬
‫الصدامي وبينها االنتهازي‬
‫لتعيش وهي شخصيات بينها ّ‬
‫وبينها متواطئ عميل‪.‬‬
‫السارد‬
‫ّفها‬
‫ث‬
‫يك‬
‫حني‬
‫مخاتلة‬
‫نة‬
‫ي‬
‫ل‬
‫فاجعتها‬
‫تتد ّرج الحكاية إىل‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وال يبوح‪ ،‬وحني يحشد الر ّواة الستعادة أحداث اليوم وحني يع ّدد األصوات‬
‫ويفسح "لكلّ يحيك كيف م ّر به ذلك اليوم ال ّرهيب‪ ،‬ذلك اليوم الشّ نيع‪،‬‬
‫الصباح إىل أن بلغه العائط‪ ،‬أين كان وكيف علم بالخرب ومن أعلمه‪".‬‬
‫من ّ‬
‫الحي وحكايات الوطن‬
‫حكايات‬
‫إىل‬
‫ة‬
‫ي‬
‫األصل‬
‫الحكاية‬
‫ع‬
‫ر‬
‫تتف‬
‫صوت‬
‫كلّ‬
‫ومع‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫املصلوب عىل خشبة الفساد واملفسدين‪ ،‬يتف ّرع إىل قضايا العماّ ل املحارصين‬
‫يف قوت يومهم املستنزفني ح ّد املوت‪ ،‬إىل الخوصصة وتخيل الدولة عن دورها‬
‫ومواطنيها بكلّ أجيالهم بدءا باألطفال حني ق ّررت التخيل عن روضة "البلدية"‬

‫للخواص وصوال بعامل معمل النسيج الذين مل‬
‫يجدهم اعتصامهم ألشهر رفضا لخوصصة مصنع‬
‫أفنوا العمر يف تطويره فخرجوا منه فرادى مطأطئي‬
‫الرؤوس‪ ،‬إىل املقايضات والبيع والرشاء إىل البطالة‬
‫التعسف‪ ،‬إىل الظلم والعنف القاتل‬
‫والتهميش و ّ‬
‫الذي تحتكره السلطة وتستعذب استعراضه‪ .‬عنف‬
‫ينتهي إىل فاجعة ال تأكل إالّ أصحابها وال تطحن‬
‫إالّ امله ّمشني وال تدري نفس بأ ّي ذنب ع ّنفت‬
‫وسحلت حتى املوت‪.‬‬
‫ُ‬
‫تتد ّرج الحكاية إىل فاجعتها مكثّفة أسباب‬
‫الفاجعة‪ ،‬قاصدة إليها دون غريها وإن أوهمت‬
‫بالفرح يف بعض جزئياته‪ ،‬فهو فرح محارص قبل‬
‫بدئه‪ ،‬محارص بقوات النظام العام ومحارص‬
‫بترشيد عامالت مصنع النسيج ومحارص بالطبيعة‬
‫ومحارص بالعالقات املتوتّرة‪ ،‬ولكنه يجاهد ليتحقق ويجاهد ليكتمل بناء عىل‬
‫وص ّية الخالة زعرة‪ ،‬فرح محكوم بالخوف‪ ،‬فام الح فرح إالّ أخفى قطار حزن‬
‫خلفه‪ ،‬هكذا دأب املسحوقون يف األحياء الخلفية‪ ،‬يغمس فرحهم بالفجيعة‬
‫لذلك ر ّددت أ ّم العروس طوال اليوم "ربيّ يتمم فرح بن ّيتي عىل خري"‪ ..‬أمنية‬
‫رص أن يكون قربانه‬
‫مل يشفع لها ذبيحة العرس وال وليمة الكسكيس وفرح أ ّ‬
‫"نجيب" بل أنجب أبناء الحي‪ .‬وللحديث يف ال ّرواية بق ّية‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫اإلعالمي الحبيب بلعيد لـ «منارات»‬

‫إن الدولة لن تنجح بالحلول األمنية واالقتصادية‬
‫ّ‬
‫والسياسية فقط وإنما الحاجة األكيدة اآلن هي حاجة‬
‫إلى تغيير في العقلية واكتساب ثقافة جديدة‬
‫حاورته سعدية بن سالم‬

‫تو ّلى ضيف هذا العدد من المنارات إدارة إذاعة الشباب ثم انسحب ألنه أصر على استقاللية القناة وتولى بعد الثورة اإلدارة العامة لإلذاعة التونسية‪ ،‬لمدة وجيزة وهو اآلن‬
‫بخطه الملتزم سواء في اختيار المواضيع التي يطرحها في برامجه أو في‬
‫عضو في الهيأة التعديلية لإلعالم «الهايكا» وخاض مسيرة إذاعية طويلة بدأت سنة ‪ ،1973‬عرف ّ‬
‫اختياراته الموسيقية أو في انتقاء الضيوف الذين يدعوهم إلى برامجه‪ ،‬الحبيب بلعيد من المنشطين الذين خطوا لهم مسيرة مختلفة م ّيزتهم عن غيرهم‪ ،‬وهو فضال عن ذلك‬
‫ليحدثنا عن مسيرته اإلعالمية بمحطاتها‬
‫الرقي اإلنساني والعمق المعرفي تجعل االستماع إليه متعة إضافتها مضمونة‪ ،‬نلتقيه في هذا الحوار ّ‬
‫مثقف على درجة رفيعة من ّ‬
‫افتكه اإلعالم‪.‬‬
‫المختلفة وعن حاضر اإلعالم في تونس بعد ‪ 14‬جانفي وعن تدخل السلطة والمال في المشهد وتهديد الدكتاتورية المقنعة لهامش الحر ّية الذي ّ‬
‫• مسيرة طويلة مع المصدح عرف فيها الحبيب بلعيد‬
‫بالتزامه وبرامجه الثقافية‪ ،‬فكيف استطعت أن توازن بين‬
‫العامة‬
‫االلتزام الفكري وبين ضغوطات السلطة والتوجهات ّ‬
‫لإلعالم؟‬
‫ التوجه نحو االلتزام بقضايا اإلنسان والتح ّرر وما يرتتب عنه من اختيارات‬‫يف املوسيقى والضيوف واملواضيع املطروحة بدأ عمليا سنة ‪ ،1978‬بعد أن‬
‫قضيت أربع أو خمس سنوات بني العمل يف التعليم والتنشيط يف إذاعة تونس‬
‫الدول ّية‪ ،‬كنت أتعلم التنشيط اإلذاعي حينها‪ ،‬أو هكذا أعترب نفيس‪ ،‬قبلها‪،‬‬
‫وددت أن أعيش تجربة جديدة فسافرت إىل فرنسا‪ ،‬وهناك التقيت بفنانني‬
‫وكتاب ومفكرين مثل «رميون ديفوس ‪ »Raymond devos‬وجاك شنسال‬
‫‪ »Jacques Chancel‬الذي تعلمت عنه تقنيات الحوار فقد كان إعالميا عىل‬
‫درجة عالية من الحرف ّية وكانت إذاعة تونس الدولية تقدم برنامجه «راديو‬
‫سكويب «‪ ..»Radioscopie‬و سجلت يف فرنسا لقاءات إذاعية عديدة مع‬
‫مثقفني يشهد لهم باملكانة وعدت بها ليكون يل برنامجا ثقافيا مختلفا يف‬
‫حصة اسمها ‪ au hasard des rencontres‬دعوت فيها مفكرين ومثقفني‬
‫تونسيني وأجانب ودامت الحصة أكرث من خمس عرشة سنة ومتتد الحصة‬
‫الواحد ساعة ونصف ترتاوح بني الحوار مع الضيف وتقديم موسيقى من‬
‫العامل تنسجم مع املوضوع املتحدّث فيه‪ .‬وقبل عوديت إىل تونس وكنت قد‬
‫قمت بجولة يف دور اإلنتاج املوسيقي ‪ boites de production‬يف باريس‬
‫بحثا عن اسطوانات جديدة ومن جملة األشياء الجديدة التي وجدتها يف رشكة‬
‫أناشيد العامل ‪ chant du monde‬وهي املتخصصة يف املوسيقى غري التجارية‬
‫واألغاين امللتزمة بقضايا اإلنسان أي األغاين املناضلة‪ ،‬وأثرت يف تو ّجهي بعد‬
‫ذلك األسطوانة األوىل ملرسال خليفة «وعود من العاصفة» واسطوانة «الهادي‬
‫قلة» «بابور» و»مليون ال» و»إىل طغاة العامل» وأسطوانة الشيخ إمام «عيون‬
‫الكالم «فضال عن مغنني من العراق وسوريا مثل فوزي العايدي‪..‬ولكن تلك ‪ ‬‬
‫االسطوانات الثالث كانت مهمة يف حيايت ونشأت منها قصة حب وسفرة‬
‫طويلة مع هذا النوع من املوسيقى والشعر‪ .‬اكتشفت «الهادي قلة» وتأسفت‬
‫أين مل أحرض سهرته األوىل يف مهرجان قرطاج سنة ‪ ،1977‬ولكني حرضت سهرته‬
‫بعدها بسنوات مع أنور ابراهم يف أول ظهور له‪ ،‬صعد أنور ابراهم يف البداية‬
‫وكان الهادي قلة نجم السهرة‪ .‬تلك املوسيقى فتحت بصرييت عىل قضايا الحرية‬
‫واالنعتاق والنضال إجامال‪ ،‬والنضال يف الحقيقة مسرية مستمرة ولكل زمن‬
‫قضاياه فاآلن توجد قضايا من نوع محاربة الفساد والح ّد من تدخل املال يف‬
‫توجيه الرأي العام وغلبته عىل القيم‪ ،‬وهي قضايا تستدعي التج ّند لها‪..‬‬
‫تمكنت من تجاوز طوق الرقابة مقارنة بزمالئي؟‬
‫• كيف‬
‫ُ‬
‫ يف الحقيقة أعترب نفيس محظوظا أين أعمل يف اإلذاعة الدولية مقارنة‬‫بزماليئ يف الوطنية واإلذاعات الجهوية‪ ،‬ذلك أين أتكلم لسانا مختلفا واللغة‬
‫حاملة ثقافة وفكر وبيئة وطريقة تفكري وما هو مسموح به بالفرنسية غري‬
‫مسموح به بالعربية‪ .‬ويف ذهن السلطة أ ّن هامشا من الحرية يف اإلذاعة‬
‫الدولية لن يرض السلطة‪ ،‬ذلك أن الجمهور املستهدف باالستامع ليس جمهور‬
‫اإلذاعة الوطنية‪ ،‬فعادة ال يواظب عىل اإلذاعة الدولية إالّ فئة مخصوصة من‬
‫املثقفني ومل يحدث أن قام املثقف بثورة وحده‪ .‬فالثورة يتقدّم يف صفوفها‬
‫األمامية الطبقات الفقرية التي ال تجد قوت يومها والتي ليس لها ما تخرسه‬
‫من خروجها إىل الشارع لذلك كانت السلطة تفرض رقابة أكرب عىل اإلذاعة‬
‫الوطنية واإلذاعات الجهوية الناطقة بالعرب ّية ألنّها تصل إىل الجميع وتحظى‬
‫السلطة‪.‬‬
‫مبتابعة من املواطن العادي الذي ميكن أن ميثل خطرا حقيقيا عىل ّ‬
‫ث ّم إ ّن ذلك الهامش من الحريّة ميكن أن يستثمر خارجيا وداخليا حني االدعاء‬

‫أ ّن السلطة تش ّجع حريّة اإلعالم والدليل ما يبث من مواضيع ومن موسيقى يف‬
‫اإلذاعة الدوليّة بل كثريا ما سمعنا من هرم السلطة سابقا يف االجتامعات العامة‬
‫دعوة لإلعالميني بالتح ّرر بدعوى أ ّن الرقابة الذاتية هي ما يكبّلهم ال السلطة‬
‫يف ذاتها وهي أقوال مجانبة للصواب متاما‪ .‬ومن الحوادث التي أذكرها يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬إبّان حرب الخليج األوىل‪ ،‬إذ د ّعمت تونس يف مرحلة أوىل اجتياح‬
‫ّ‬

‫الثقافة هي مغ ّيرة‬
‫الشعوب وهي التي‬
‫تحملها إلى الغد ودونها‬
‫سنبقى في رحاب‬
‫الفوضى والدكتاتورية‬
‫المقنعة بأقنعة عديدة‬
‫ليس أقلها السلطة حينا‬
‫والمال حينا آخر‬

‫العراق للكويت فدعاين املسؤول عىل اإلذاعة الدولية وطلب مني أن أكثف من‬
‫مترير األغاين امللتزمة التي ُعرفت بها أل ّن الحال حال حرب‪ ،‬وبعد مدّة دعاين‬
‫الشخص ذاته إىل مكتبه يعيب ع ّيل مترير هذه األغاين ويدعوين إىل التخليّ عنها‬
‫فالسلطة تريد دوما وضع‬
‫أل ّن املوقف التونيس من اجتياح الكويت قد تغيرّ ‪ّ .‬‬
‫اليد عىل اإلعالم لتمرير ما يخدم مصالحها وتو ّجهاتها العامة متخذة يف ذلك‬
‫شعار»استهلك وال تفكّر»‪.‬‬
‫نتحدث عن رفع يد عن المسألة الثقافية من‬
‫• أال يمكن أن ّ‬
‫الدولة ومؤسساتها؟ وهل هو عفوي أم توجه اختياري عام؟‬
‫ كانت دور الثقافة واملعاهد تقوم بدور توعوي تثقيفي كبري وأذكر يف‬‫فرتة تلمذيت أن هناك عىل األقل موعد أسبوعي مع السينام إذ نخرج يف إطار‬
‫املدرسة لحضور رشيط سناميئ ضمن ما يعرف بسينام الشباب ينشطه أستاذ‬
‫مختص‪ ..‬كان اإلنسان ينشأ عىل القيم التي توفرها السينام األمريكية واإليطالية‬
‫ممثلة يف «سكوال» مثال وتستغلها املدرسة يف تكوين الناشئة‪ .‬الثقافة مسؤولية‬
‫مشرتكة بني الجميع وبني مختلف املؤسسات والهياكل بدءا باألرسة فالرتبية‬
‫والتعليم فالثقافة فاإلعالم‪ .‬هذه املادة الثقافية كانت تحمي شبابنا من التطرف‬
‫واملغاالة والتعصب للرأي الواحد لعمقها اإلنساين وأبعادها الرتبوية والقيم ّية‪.‬‬
‫وأعتقد أنّه يف وقت ما كان الشعار السيايس املركزي «استهلك وال تفكّر»‬
‫وطبق ذلك بإلهاء الناس باختيارات فنية معيّنة غايتها مخاطبة الغرائز واللهو‬
‫وبتوجيه الرأي العام نحو ال ّرياضة وخاصة كرة القدم‪ .‬بقية القضايا األساسية ال‬
‫عالقة للناس بها فهناك من يفكر ويضع االسرتاتيجيات ااملناسبة‪ ،‬دور املواطن‬
‫استهاليك بحت أما عقله ففي سبات ال إمكان للنهوض منه‪ .‬وهو ما خلق‬
‫نوعا من التص ّحر الثقايف‪ .‬هذا التص ّحر جعل الثقافة حكرا عىل مجموعة ضيّقة‬
‫وعزل بقية طبقات املجتمع عن املبدعني واملثقفنب إجامال ومل تكن املهرجانات‬
‫الكربى من قبيل أيّام قرطاج السينامئ ّية إالّ جرعة اكسيجان يأخذها املبدع‬
‫والشارع عىل ح ّد سواء لفرتة محدودة ث ّم يعود كل إىل عامله الخاص‪ .‬وال ينفي‬
‫هذا الوضع وجود مبدعني قاوموا هذا التصحر الفكري والثقايف وخاصة يف‬
‫املرسح والسينام‪ ،‬وميكن أن نتحدّث عن أعامل توفيق الجبايل وجليلة بكار‬
‫وفاضل الجعايبي وع ّز الدّين قنون ومحمد إدريس وغريهم «من الكريطة إىل‬
‫آخر أعامل جليلة وفاضل’عنف» وقاوم غريهم باألغنية امللتزمة‪ ..‬ومتثّل دور‬
‫اإلعالمي‪ ،‬يف مناخ يفتقر إىل الحرية‪ ،‬يف مترير أصوات أولئك املناضلني‪ ،‬برمجة‬
‫لقاءات معهم وبرمجة أغانيهم وتلك وظيفة اإلعالمي‪ ،‬أن يكون حامال لرسالة‪،‬‬
‫رسالة بناء الوعي والذات اإلنسانية‪ .‬وهو نوع من املقاومة يقي اإلعالمي من‬
‫االنخراط يف السائد املبتذل‪.‬‬
‫• كيف يبدو لك الوضع الثقافي واإلعالمي اليوم بعد ‪14‬‬
‫جانفي؟‬
‫ الواقع معقد نوعا ما وال ميكن الجزم‪ ،‬لقد أحدثت الثورة رجة أفقدتنا‬‫التوازن‪ ،‬أخذنا عىل حني غ ّرة ورغم توقع ما حدث وانتظاره ‪،‬إالّ أ ّن الثورة‬
‫فاجأت الجميع‪..‬املفكر ال ميكن أن يأخذ موقفا برسعة قبل أن يفهم الوضع وما‬
‫يدور حوله‪ .‬اإلعالم كان مكبال وحني الثورة وقع انفجار وسوء فهم للحرية‪..‬‬
‫الحرية مرشوعة ولكن لها قواعد صحيح أننا مل نكن نجرؤ عىل الحديث عن‬
‫الفساد وعن الخور املوجود يف السلطة فلم يكن أمام اإلعالمي إالّ أحد أمرين‬
‫إ ّما مسايرة النظام والتسويق له وإما الصمت واالهتامم بالف ّن البعيد عن‬
‫التسييس‪ .‬الحرية بعد ‪ 14‬جانفي أصبحت رديفة التج ّني والتحريض عىل‬
‫العنف أي أنها تفتقر إىل الحرفية‪ ،‬فالحرية يف معناها السامي مطمح ولكن‬
‫كيف منارس هذه الحرية؟ هذا أمر يتطلب تكوينا عميقا لإلعالميني‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫اإلعالم تأثر بثقافة االستهالك واالستسهال دون تفكري يف املستوى الفكري‬
‫واألخالقي والقيمي خاصة فنجد انتهاكا لألعراض وتشهريا بالناس وتحريضا عىل‬
‫العنف يكاد يطغى عىل املشهد العام‪.‬‬
‫• هل من دور لإلعالمي في تشكيل الوعي؟ وهل اإلعالمي‬
‫تدخل السياسي واالقتصادي‬
‫اليوم مؤهل للقيام بذلك في ظل ّ‬
‫في المشهد؟‬
‫ املسؤولية يف الحقيقة كبرية جدّا‪ ،‬تأثري اإلعالم هام‪ .‬وأتساءل هل أ ّن املشتغلني‬‫باإلعالم مهيؤون لنرش الوعي؟ هل لهم من الزاد الثقايف ما يخول لهم االستناد إىل‬
‫مراجع وثوابت؟ ليس سهال أن تعمل يف جهاز إعالمي‪ ،‬فإعداد برنامج يستدعي‬
‫رشوطا متعددة‪ ،‬منها تكوين اإلعالمي وخلفيته الفكرية وأهدافه من الحصة وتحديد‬
‫دوره يف الحصة‪ ،‬هل هو صاحب رأي أم وسيط بني املتلقي والضيف‪ ،‬وأرى أنّه عىل‬
‫اإلعالمي أالّ يسمح لنفسه بفرض رأيه عىل ضيوفه‪ .‬يجب أن ميلك اإلعالمي فكرا‬
‫نقديّا ميكنه من تنسيب األفكار‪ .‬عىل اإلعالمي أن يكون متواضعا ويؤمن أنّه مهام‬
‫اكتسب من معرفة ومعلومات فهو يتعلّم يوميا‪ .‬عليه أن يدرك أنه يخاطب الجميع‬
‫لذلك عليه أن يتجرد من الذاتية‪ .‬وظيفة اإلعالمي أن يخلق حوار‪ ،‬أن يوجه ضيوفه‬
‫بأسئلة عميقة‪ ،‬اإلعالمي يجب أن يكون عارفا ولكن دون أن يتعمد استعراض‬
‫معارفه وفرضها عىل ضيوفه أو عىل متلقيه‪ ،‬بإمكانه أن يحقق الهدف الذي عقد‬
‫برنامجه عليه بحسن اختيار الضيوف املناسبني للموضوع وبحسن طرح األسئلة‬
‫واإلملام باملوضوع وبحسن اختيار موسيقاه‪ ،‬كلها وسائل مساعدة تجعل اإلعالمي‬
‫يحقق أهدافه ويعبرّ عن أفكاره دون تب ّجح ودون ادّعاء‪ ،‬فهو يف احرتامه لضيفه‬
‫يحرتم مستمعيه ومتابعيه ويحرتم الفكرة التي يريد إبالغها‪ .‬اإلعالم يحتاج كام هائال‬
‫من الذكاء ومن التكوين املعريف والفكري والقيمي كام يحتاج كثريا من التواضع‬
‫واالستعداد الدّائم للتعلّم‪.‬‬
‫هل اإلعالميون املوجودون مؤهلون للقيام باألدوار التي يقومون بها اآلن؟ هل‬
‫لهم الوعي الكايف مبا يقومون به؟ ّ‬
‫أشك كثريا يف عدد كبري من املنشطني الذين يسعون‬
‫فقط لإلثارة وتحقيق نسبة متابعة عالية دون اهتامم بتبعات برامجهم‪ .‬ويف املقابل‬
‫وخاصة يف الربامج الثقافية الخالصة التي‬
‫فخور بعدد كبري من املنشطني الجادّين ّ‬
‫تتطلب زادا فكريا ومعرفيّا بالرضورة مثل منشطي إذاعة تونس الثقافية عىل سبيل‬
‫الذّكر ال الحرص وعدد من منشطي الربامج الثقافية يف القنوات التلفزية‪.‬‬
‫• هل انتهى اليوم دور اإلعالمي المثقف وكيف تق ّيم ما نراه في‬
‫القنوات من تهريج في أغلب األحيان؟‬
‫ اإلعالمي الذي ليس له مرشوع ثقايف ومجتمعي وفكري ليس إعالميّا‪ ،‬ميكن‬‫أن يكون منشط حفالت أو أعراس ولكنه ليس إعالم ّيا‪ .‬أل ّن اإلعالم يحمل رسالة‬
‫ثقافية وتربويّة ولألسف تخىل الجميع واستقالوا من البعد الرتبوي‪ ،‬فلم يعد األغلب‬
‫يدقق يف اختياراته اللفظية واملوسيقية‪ ،‬ليس معنى ذلك أنيّ مع إقصاء أ ّي نوع‬
‫من التعبريات الفنية ولك ّني ض ّد اختيار ال ّرداءة وتغليب تعبريات تفتقر إىل الجامل‬
‫وتشوه الذوق‪.‬‬
‫أحيانا يكون اإلعالمي غري واع بالدور الخطري الذي يقوم به‪ ،‬فخلفيته املعرفية‬
‫وحضوره الذهني قارصان عن إدراك ما وراء الربنامج الذي يقدّمه والتأثرات السلبيّة‬
‫التي ميكن أن يحدثها واألخطر من ذلك أن هناك من يستغلّ قصوره املعريف ذاك‬
‫السمج‬
‫ونزعته الستسهال املصدح وتوجهه نحو برامج استهالكية ال تتجاوز التهريج ّ‬
‫والسخرية من الناس وافتعال اإلثارة‪ ،‬اإلشكال يكمن يف من منحه الفرصة وفتح له‬
‫املجال لتقديم ذلك الربنامج فهو الذي يعرف ماذا يفعل‪ ،‬هو الذي يسعى إىل الربح‬
‫بغض النظر عن األخالق وعن القيم الجاملية والفكرية‪ ،‬هذا النوع من‬
‫الرسيع ّ‬
‫الربامج غايته الخفية إلهاء الناس عن األوضاع يف البالد ومتييع القضايا أي بلغة أخرى‬
‫إنتاج دكتاتورية جديدة واستعامر للعقل وعودة إىل املربع األول بوسائل جديدة‬
‫«استهلك وال تفكّر»‪.‬‬
‫سابقا كان الدكتاتور واضحا وهو السلطة وكان بعض اإلعالميني يجدون السيل‬
‫ملخاتلة الطوق بطرقهم الخاصة فيمررون أفكارهم ويكرسون الحصار وتصل الرسالة‪.‬‬
‫فيلمحون ويدعون إىل القراءة بني السطور‪ .‬حني كانت الحرية غائبة وجد بعض‬
‫اإلعالميني السبيل‪ .‬والغريب أنه يف زمن حريّة ال ّرأي فقدنا الحرية املسؤولة وحل‬
‫املال الفاسد ليسيطر عىل املشهد ويفرض نوع الربامج ونوع الضيوف حتى أنّنا نجد‬
‫الضيف نفسه يف أكرث من وسيلة إعالم يف املدة ذاتها ونجد املوضوع ذاته تتخاطفه‬
‫املؤسسات اإلعالمية املختلفة دون أن يكون لذاك املوضوع من األهمية ما ي ّربر‬
‫تداوله بتلك الكثافة وكأننا باإلعالم خرج من دكتاتورية السلطة املعلنة إىل دكتاتورية‬
‫املال والسلطة الخفيّة‪ .‬إنّه االستعامل املغلف بوهم الحرية‪.‬‬
‫الربامج الرتفيهية ذاتها كانت برامج هادفة وذات بعد فكري تثقيفي‪ ،‬وكان الربح‬
‫املادي ربحا رمزيا فالغاية مل تكن الربح يف ذاته‪ ،‬اآلن انتقلنا إىل مرحلة الربح الكثري‬
‫السهل دون بذل‬
‫وأحيانا باإلجابة عن أسئلة تافهة وال قيمة لها وهو ما يعلّم الربح ّ‬
‫مجهود ودون االستفادة‪.‬‬
‫كل ما يحدث؟‬
‫أي دور لإلعالم العمومي في ّ‬
‫• ّ‬
‫ أؤمن باإلعالم العمومي الذي هو حق لكل الناس الذين يدفعون اآلداءات‪،‬‬‫ويجب أن تتوفر املصداقية التي وإن فقدت فيجب أن تعود‪ ،‬ألن اإلعالم الخاص ال‬
‫ميكن أن يكون حامال لهموم الناس أمام سعيه إىل الربح الرسيع‪ .‬اإلعالم العمومي‬
‫إعالم غري ربحي أل ّن الدولة مت ّوله من دافعي الرضائب أي أ ّن مصدر متويله قار‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫حق الجميع أن يجدوا فيه ما يفيدهم ويعبرّ عنهم‪،‬‬
‫ومشرتك بني الجميع ومن ّ‬
‫واإلعالم العمومي هو األوىل باالستقالليّة‪ ،‬استقاللية عن السلطة واستقاللية‬
‫عن لوبيات الضغط أيّا كانت‪ ،‬وباالستقالل ّية تتحقّق املصداق ّية وتتحقّق‬
‫الجودة‪ .‬أنا مدين لإلعالم العمومي وأرجو أن أكون قد أوصلت أصوات‬
‫بعض الناس‪ ،‬فانا حني قدّمت الصغري أوالد أحمد كنت سعيدا أل ّن الصغري‬
‫عبقري وألنه يختزل املعنى يف أسطر قليلة وهو ضمري املجتمع‪ .‬فالشاعر‬
‫الصادق هو ضمري املجتمع‪ .‬كذا الشأن مع محمود درويش وغريه من‬
‫املبدعني‪.‬‬
‫ظل سطوة المال‬
‫• هذا يج ّرنا إلى حال اإلعالم اآلن في ّ‬
‫أي استقالل ّية؟‬
‫وأصحاب النفوذ‪ّ ،‬‬
‫ دور اإلعالمي هو التثقيف بطريقة غري مبارشة وخلق حوار مخصب‬‫ومتن ّوع‪ ،‬يف العامل هناك موسيقى رائعة يف كل مكان وحني منرر موسيقى‬
‫«الهادي قلة» من تونس و»الشيخ إمام» من مرص و»مرسال خليفة» من‬
‫لبنان و»جاك برال ‪ »jacques Brel‬و» ليو فريي ‪ »Léo ferré‬و»جون فريا ‪Jean‬‬
‫نوسع اآلفاق الذهن ّية‬
‫‪ »Ferrat‬من فرنسا و»بوب ديالن‪ « Bob Dylan‬من أمريكا ّ‬
‫ونفتحها عىل عوامل مختلفة وندرك التن ّوع يف العامل‪ .‬اختيار املوسيقات مينح اإلنسان‬
‫الحلم ويقدره عىل تقبل اآلخر وهذا دور اإلعالمي‪.‬‬
‫أنا معجب باألغنية الفرنسية ألنّها تتناول كل املعاين اإلنسان ّية ومعجب باملغني‬
‫برنار الفيليي ‪ Bernard Lavilliers‬الذي يقول «ال تنتمِ أبدا إىل أحد ‪n’appartiens‬‬
‫‪ ،»jamais a personne‬وهذا جوهر اإلعالمي أي ال ينتمي إىل أ ّي كان وال يجب أن‬
‫ديني‬
‫يكون أداة لحزب أو شخصية سياسية أو مالية أو تو ّجه سيايس أو ّ‬
‫أو مذهبي أو غريه‪ ..‬فاإلعالمي غري املستقل هو أداة يف يد‬
‫صاحب املصلحة يقيض به شؤونه ويستبدله إذا انتهى‬
‫دوره‪ ،‬وقد يك ّرس اإلعالمي غري املستقل وقته‬
‫وحصصه لخدمة طرف ألنّه يف موضع‬
‫قوة فإذا تهاوت منزلته غري اإلعالمي‬
‫من انتامئه وارمتى يف أحضان‬
‫األقوى‪ ..‬ويف أمثال هؤالء يقول‬
‫الشيخ إمام «حالويال يا حولله يا‬
‫خسارة يا حالوالّ‪ ..‬يتمسلم بعض‬
‫األيام ويتمركس بعض األيام‬
‫ويصاحب كل الحكام يا خسارة‬
‫يا حولله‪ « ..‬وهذا الصنف ال‬
‫إعالمي‬
‫ميكن أن نقول إنه‬
‫ّ‬
‫حقيقي فام هو إالّ انتهاز ّي‬
‫ّ‬
‫ينتهي إىل الفشل ال محالة‪.‬‬
‫وحني دعيت لتويل إدارة اإلذاعة بعد الثورة مل يكن ذلك إالّ‬
‫ألنيّ مستقل ال أنتمي إالّ ّإىل رسالتي اإلعالم ّية‪.‬‬
‫• ما الذي ينقص البرامج الثقاف ّية لتسترعي‬
‫اهتمام الناس؟‬
‫ أ ّوال‪ :‬اإلميان بدور الثقافة يف تغيري العقليات نحو‬‫األفضل‪ ،‬واإلميان أ ّن الحريّة واالزدهار هام فعل ثقايف أ ّوال‬
‫وأخريا‪ ،‬ث ّم الربمجة‪ ،‬إذ نالحظ يف أغلب القنوات تغييبا‬
‫للربامج الثقافيّة وغيابا لرؤية حول مرشوع ثقايف حقيقي‪،‬‬
‫لذلك نجد الربامج الثقافية إذا وجدت تقدّم آخر السهرة‬
‫بعد أن يخلد الجميع إىل النوم فال يتابعها إالّ ذاك الذي‬
‫حرض يف الربنامج أو بعض أصدقائه وأحيانا بعض أعدائه‬
‫ملهاجمته فيام بعد‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لغة الخطاب التي تقدّم بها الربامج الثقافية‬
‫والحلّة التي تظهر فيها‪ ،‬فهي برامج ثقيلة عىل املشاهد‬
‫يف لغتها ويف طريقة عرضها ويف إخراجها ويف كل ما يتعلّق‬
‫بها‪ ،‬واأل ْوىل أن تكون الربامج الثقافية قريبة من املواطن‬
‫البسيط قريبة من التلميذ ومن الطالب ومن العامل‬
‫ومن كل فئات املجتمع ألنّها مدعوة للتأثري يف هؤالء‬
‫قبل اآلخرين‪ ،‬الربامج الثقافية يف حاجة إىل إعادة هيكلة‬
‫وتبسيط للخطاب وطرافة يف التناول وإىل تقييم للتجارب السابقة والتجارب العاملية‬
‫يف التنشيط الثقايف واالستئناس بأصحاب الخربة ومن أفنوا أعامرهم يف املجال الثقايف‬
‫وعملوا زمن كانت الثقافة محارصة حتى نستفيد ونعيد ترتيب املشهد‪ .‬أل ّن الثقافة‬
‫هي مغيرّ ة الشعوب وهي التي تحملها إىل الغد ودونها سنبقى يف رحاب الفوىض‬
‫والدكتاتورية املقنعة بأقنعة عديدة ليس أقلها السلطة حينا واملال حينا آخر‪ .‬وأرى‬
‫أ ّن الدولة لن تنجح‪ ،‬إذا أرادت أن تنجح‪ ،‬بالحلول األمنية واالقتصادية والسياسية‬
‫فقط وإمنا الحاجة األكيدة اآلن هي حاجة إىل تغيري يف العقلية واكتساب ثقافة‬
‫جديدة حتى ال تعود الدكتاتورية من أبواب مختلفة‪.‬‬

‫عشت أخاتل‬
‫الرقابة في‬
‫سبيل الحرية‪،‬‬
‫وحين جاءت‬
‫الحر ّية أدركت‬
‫مرحلة التقاعد‪.‬‬

‫حل يراه الحبيب بلعيد في زمن تسعى فيه السلطة حينا‬
‫أي ّ‬
‫• ّ‬
‫السيطرة على العقول؟‬
‫إلى‬
‫أحيانا‬
‫والمال‬
‫ّ‬

‫ إ ّن الله ال يغري ما بقوم حتى يغريوا ما بأنفسهم»‪،‬‬‫الحلّ يبدأ بالوعي الفردي برضورة بناء مجتمع متوازن‪،‬‬
‫أؤمن بالحريات والحريات الفردية واألمور الشخصية‬
‫ته ّم صاحبها وال تعني غريه وهي ليست موضوعا للعرض‬
‫والنقاش‪ .‬ويف الحقيقة ال نجد من يحمل مرشوعا وميكن‬
‫أن نعتربه قدوة اآلن‪ .‬أؤمن باملبادرات الفردية وهي التي‬
‫تخلق الرتاكم حني يؤثر البعض يف البعض اآلخر‪ ،‬يجب‬
‫أن يتوفر طول ال ّنفس واإلميان باملرشوع‪ .‬وأؤمن بالعمل‬
‫املدين ودور الجمعيات يف تغيري الوعي الجامعي وتربية‬
‫النفس عىل أن تكون هذه الجمعيات مستقلة عن كل ما‬
‫هو سيايس أو ديني أو خضوع ألصحاب املال‪ .‬نحتاج إىل‬
‫توازن وأذكر عىل سبيل املثال الحركات التي ظهرت يف‬
‫الستينات وتتجه إىل ضامئر البرش وتخلق مناخا جديدا‬
‫وحركة وأتباعا‪.‬‬

‫• كيف يق ّيم الحبيب بلعيد تجربة الهايكا؟‬
‫ تجربة ثرية ورؤية جديدة للعمل اإلعالمي وقد‬‫تح ّرر من سياسة التعليامت التي عانينا منها طويال ذلك‬
‫أنها كانت توجد دامئا قامئة يف املمنوعات ويف املثقفني‬
‫املمنوعني من االستضافة يف اإلذاعة مثال‪ ،‬هو نوع جديد‬
‫من التعديل الذايت الذي تتحكم فيه أخالقيات املهنة ال‬
‫غري واملبادئ العامة املتفق عليها يف كراس الرشوط‪ .‬يف غياب املمنوعات تصبح‬
‫املسؤولية أكرب وتوخّي الحرف ّية يف العمل أوكد‪ .‬من املفارقات بالنسبة إىل تجربتي‬
‫أنيّ عشت هذه الفرتة من العمل أخاتل الرقابة يف سبيل الحرية‪ ،‬وحني جاءت الحريّة‬
‫أدركت مرحلة التقاعد‪.‬‬

‫• هل التقاعد الوظيفي نهاية؟ أال يمكن أن يكون بداية‬
‫بطريقة أكثر حر ّية؟‬
‫ أنا ال أستطيع العمل يف القنوات الخاصة ألن لها طقوسها ولها خطّها الذي‬‫يغلب عليه التّجاري واالستهاليك‪ ،‬ال أتصور نفيس أعمل يف غري املرفق العمومي‪ ،‬وقد‬
‫أعود توفرت الفرصة‪ ،‬من باب اإلنتاج ألعيش مرحلة الحريّة املعلنة بعد أن عشت‬
‫مرحلة الحرية املخاتلة‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫تقريبي في ا ّتجاه ْين‪:‬‬
‫فتقد‬
‫ُم ٌ‬
‫ّ‬

‫ٌ‬
‫وإعالم بال ثقافة!‬
‫ثقافة بال إعالم‬
‫ٌ‬

‫مصطفى الكيالني‬

‫ب ْد ًءا‪.‬‬
‫عند توصيف كُلّ ظاهرة وبيان امللتبِس منها‪ ،‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬تكمن‬
‫ِسلْسلة من الظواهرالخف ّية واألسباب املُحايِثة‪ ،‬كام يختفي الحلّ لينكشف‬
‫التوصل إىل تحليل دقيق لتلك الظاهرة‪.‬‬
‫يف األثناء لحظة ّ‬
‫فاإلعالم الثقايفّ يف تونس اليوم ظاهرة ذات اتّصال وثيق بظواهر أخرى‪،‬‬
‫كاالس ِت ْسهالل واالرتجال واالعتباط واالجتزاء‬
‫وهي تفعل فيها وتنفعل بها‪ْ ،‬‬
‫تخص الظاهرة‬
‫واالبتسار واإلرصار عىل تكرار األخطاء وإرجاء الحلول ّ‬
‫اإلعالم ّية عموما‪ .‬و ُمراجعة اإلعالم الثقايفّ لن تكون ُمنفصلة عن مراجعة‬
‫اإلعالم العا ّم‪ .‬ومراجعة هذا اإلعالم تندرج هي األخرى ضمن عالقة‬
‫الثقافة باإلعالم واإلعالم بالثقافة‪ ،‬والثقافة باملجتمع واملجتمع بالدولة‪،‬‬
‫والدولة باملجتمع‪ ،‬واملجتمع بالفرد‪ ،‬والفرد باملواطنة‪ :‬سلسلة من الظواهر‬
‫والعالقات يف منظومة تفكري تستلزم «ال ّتشْ ميل» والتخصيص تحاشيا‬
‫السطحي‪.‬‬
‫لالجتزاء املُخلّ واإلطالق‬
‫ّ‬
‫إ ّن اإلعالم هو موضوع الساعة يف تونس‪ :‬فكيف كان؟ وكيف أصبح؟ وما‬
‫الّذي تغيرّ فيه وبه؟ وما الّذي استم ّر من نقائص وسلب ّيات إىل اليوم؟‬
‫خصصناها باإلعالم الثقايفّ‪ :‬كيف كان؟ وهل تغيرّ ؟ هل‬
‫كذا هذه األسئلة إ ْن ّ‬
‫مبزيد السلب أم اإليجاب؟ وكيف الخروج من مآزقه السالفة والحادثة إ ْن‬
‫أثْبتنا ُوجودها وأسبابها؟‬
‫تعددا‪.‬‬
‫اإلعالم‬
‫الثقافي ً‬
‫واحدا ُم ّ‬
‫ّ‬
‫يستدعي الحديث عن اإلعالم الثقا ّيف يف تونس محاولة‬
‫توصيفه ابتدا ًء بالنظر إليه لكونه واح ًدا متع ّد ًدا‪ :‬واح ًدا‬
‫خصصناه مبختلف‬
‫يف التسمية الجامعة ومتع ّد ًدا إ ْن ّ‬
‫السمعي والبرص ّي‪:‬‬
‫وسائل االتّصال‬
‫ّ‬
‫اإلعالم املكتوب‪.‬‬
‫اإلعالم املسموع‪.‬‬
‫ج‪ -‬اإلعالم البرص ّي‪.‬‬
‫فام الّذي يصل ويُفارق بني مختلف هذه "اإلعالمات"؟‬
‫وكيف نُح ّدد ُمجمل اإلعالم الثقا ّيف ونُع ّينه باملنجز لثقا ّيف‬
‫يس؟ وهل يُواكب حقّا هذا امل ُنجز أم هو أداء جز ّيئ‬
‫التون ّ‬
‫غري ُمنظّم يغلب عليه االرتجال ويكتفي بتت ُّبع املعلن‬
‫السهل منه وال يسعى إىل اإلملام مبا ال يتيسرّ ظهوره‬
‫ب ُحكم امل َ ْوقع أي املكان من مركز (العاصمة) وجهات‬
‫أو محالّ (مدن وقُرى) وحداثة عهد التجربة وعدم‬
‫توفّر وسائل اإلعالم األ ّو ّيل للوصول إىل ذلك املن َجز‬
‫الثقا ّيف الحادث عىل تخوم املركز‪/‬املراكز يف حينه؟ وهل‬
‫مختصون ومتت ّبعون‬
‫القامئون عىل الشأن‬
‫اإلعالمي الثقا ّيف ّ‬
‫ّ‬
‫حقيقيّون له باالهتامم والفهم واالقتدار عىل التغطية‬
‫والتحليل والنقد؟‬
‫فتتف ّرع السيميولوجيا اإلعالم ّية العا ّمة إىل سيميولوج ّيات‬
‫خاصة بالكلمة والصوت والصورة الضوئ ّية التلفازيّة‬
‫ّ‬
‫والرقميّة‪.‬‬
‫املكتوب يظهر يف عدد من الجرائد اليوم ّية واملجالّت‬
‫األدب ّية والثقاف ّية التونس ّية‪ .‬وإ ْن مثّل اإلعالم الثقا ّيف‬
‫جز ًءا محدو ًدا من مجال اإلعالم بالصحف اليوم ّية‪،‬‬
‫كالبادي صفْح ًة أو ب ْعضا من صفحة يف الغالب أو أكرث‬
‫من صفحة أسبوع ّيا‪ ،‬كاملالحق الثقاف ّية‪ ،‬فهو ثانو ّي‬
‫يعرِض أغلفة ال ُكتُب عادة ومخترصها باالعتامد عىل‬
‫رسعة للعروض املرسح ّية‬
‫الفهارس ويق ّدم ُملخّصات مت ّ‬
‫والسينامئيّة واملوسيقيّة والتشكيليّة وغريها‪ ،‬فال بحث يف‬
‫القيمة الجامل ّية وال نفاذ إىل املحتوى إالّ ناد ًرا‪ ،‬وال نقد‬

‫وال تعريف لفرادة التجربة إ ْن تأكّد وجودها وال ُمقارنة‬
‫وصال‬
‫بني هذه التجربة وغريها من التجارب تزامنا أو ْ‬
‫بني سابق والحق‪.‬‬
‫كذا واقع اإلعالم الثقا ّيف املكتوب يف الغالب هو التعميم‬
‫التنصل من أ ّي التزام يك يظلّ‬
‫امل ُتع َّمد املقصود بُغية ّ‬
‫ختص وغري قادر عىل النفاذ‬
‫خطابه ملتبسا بني باثّ غري ُم ّ‬
‫اإلبداعي والنظر يف دقائقه وإمكان‬
‫إىل تفاصيل العمل‬
‫ّ‬
‫االستنتاج يف الحكم له أو عل ْيه باختصار الرأي ُمكثّفا وبني‬
‫متق ّبل غري ُمح ّدد بصفات لغياب التحفيز عىل االستقبال‬
‫وتذكية الرغبة فيه‪ .‬والنتيج ُة أ ّن هذا الخطاب يظلّ ‪ ،‬كام‬
‫اإلعالمي الّذي ال يُرا ُد به إالّ‬
‫أسلفنا‪ ،‬ملتبسا‪ ،‬بالتعميم‬
‫ّ‬
‫ظاهر اإلعالم العارض سرُ عان ما يُصاغ ويُتق ّبل فال تأثري‬
‫وال تفا ُعل‪.‬‬
‫ِ‬
‫وبعض أدلّتنا عىل هذا الخلل املستفحل يف األداء عدد‬
‫من ِ‬
‫الصحاف ّيني الّذين ال يقرؤون الكتب‪ ،‬بل يكتفون‬
‫بتصفّحها‪ ،‬وال يحرضون الندوات إالّ ما ندر‪ ،‬ونراهم‬
‫مع ذلك يكتفون باألغلفة والفهارس وبرامج الندوات‬
‫وعناوين املداخالت وأسامء أصحابها يعتمدونها وسائل‬
‫مرجع ّية لإلعالم الّذي يبدو شكل ّيا باهتا‪ ،‬إ ْذ ال ُمتابعة‬
‫ؤسس‬
‫حقيق ّية وال نظر يف الخفايا والطوايا وال نقد يُ ّ‬
‫للجديد امل ُختلف‪ ،‬وإنمّ ا هو التقديس أو الت ْبخيس مبا‬
‫يُطلق أحيانا من أحكام ِجزاف‪.‬‬
‫ومن األمثلة األخرى ال ّدالّة عىل سطح ّية اإلعالم املكتوب‬
‫بعض ال ِحوارات تُجرى مع مفكّرين و ُمبدعني يف مختلف‬
‫الفنون دون اطّالع دقيق عميق عىل خصوص ّية التجارب‬
‫ليكتيس الحوار عادة بصبغة املونولوغ‪ ،‬إ ْن صيغت‬
‫األسئلة واإلجابات من طرف واحد هو امل ُست ْج َوب يُغالط‬
‫ذاته والقارئ َم ًعا أو السطح ّية املبالَغ فيها وال حوار أيضا‪،‬‬
‫إ ْن تولىّ ِ‬
‫الصحا ّيف مه ّمة السؤال وعمل املتحا َور معه عىل‬
‫اإلجابة‪ .‬وك ْم من حوارات تظلّ مرجعيّة مل ُ ّدة أعوام يف‬

‫اإلعالم الغر ّيب مقابل "حوارات" ُمؤقّتة عارضة متع ّجلة‬
‫ميتلئ بها عدد من الصفحات بجرائدها ومجالّتنا‪ ،‬وليس‬
‫لها يف الالّحق أ ّي قيمة توثيق ّية ومرجع ّية تُذكر‪.‬‬
‫السمعي يتح ّدد وجوده مبُختلف قنوات البثّ‬
‫اإلذاعي‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫كأن تُق ّدم الكتُب بصفة شكل ّية‪ ،‬كعرض األعامل الفن ّية‬
‫األخرى من مرسح ّية وسينامئ ّية وموسيق ّية وتشكيل ّية‬
‫رسع املبالغ فيه أحيانا كثرية‪ .‬و ُجلّ اإلذاعات متيل‬
‫بالت ّ‬
‫عاد ًة إىل الربامج الخفيفة واألغاين الطربيّة ب ُح ّجة أ ّن‬
‫اإلقبال عىل الربامج الثقاف ّية اإلذاع ّية ينحرص يف القلّة‬
‫الّتي تهت ّم بالثقافة وأخبارها وضمن استامع مؤقّت‬
‫عارض داخل الس ّيارات يف الطريق أو الفضاءات‬
‫العموميّة‪ ،‬كاملقاهي وغريها‪...‬‬
‫أ ّما األحاديث اللّيل ّية املس َّجلة واملبارشة الّتي تُدار بني‬
‫امل ُذيعني وعدد من ال ُكتّاب واملرسح ّيني والسينامئ ّيني‬
‫وغريهم فهي أحاديث من اتّجاه واحد يف الغالب لعدم‬
‫اختصاص املذيعني أيضا ومعرفتهم املحدودة لتجارب‬
‫املبدعني‪.‬‬
‫والنتيجة أ ّن اإلعالم املسموع ال يختلف يف املاه ّية واألداء‬
‫عن اإلعالم املكتوب التّصافهام معا باالرتجال والخفّة‬
‫والسطحيّة وانتفاء الجدوى إالّ ناد ًرا‪.‬‬
‫ج‪ -‬البرص ّي الّذي تراجع أداؤه مماّ كان عليه قبل ‪14‬‬
‫املخصصة للسياسة وما‬
‫جانفي ‪ 2011‬لكرثة الربامج ّ‬
‫اتّصفت بها من حوارات ساخنة وتجاذُبات حزب ّية‪،‬‬
‫وعقب ذلك‪ ،‬كالعمل به يف الشهور األخرية‪ ،‬فائض الربامج‬
‫الرتفيه ّية الّتي ال تذهب إىل الرفع من ُمستوى الوعي‬
‫والذوق للفرد واملجموعة الوطن ّية‪ .‬فنسبة اإلعالم الثقا ّيف‬
‫بوسائل االتّصال البرص ّي ازدادت تضاؤال عماّ كانت عليه‬
‫يف السابق‪ ،‬كأن تظهر فقرات يف أوقات وجيزة بالربامج‬
‫الرتفيه ّية الرديئة الّتي شاع ظهورها يف قنوات البثّ‬

‫العمومي‬
‫الخاصة يف حني يهت ّم اإلعالم البرص ّي‬
‫التلفز ّي ّ‬
‫ّ‬
‫خصص لها بعض الربامج‪ ،‬وإ ْن كان‬
‫ي‬
‫و‬
‫قليال بالثقافة ُ ّ‬
‫ذلك بنسبة ضئيلة مقارن ًة بالربامج األخرى من سياس ّية‬
‫واجتامع ّية وغريها‪...‬‬
‫االجتامعي‬
‫التواصل‬
‫أ ّما اإلعالم الثقا ّيف‬
‫الرقمي بشبكة ُ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫باملؤسسات الثقاف ّية واألشخاص فهي‬
‫ة‬
‫الخاص‬
‫واملد ّونات ّ‬
‫ّ‬
‫تُع ِّرف يف الغالب بظاهر األعامل‪ ،‬وقلّام تنظر يف املحتوى‬
‫والقيمة الجامل ّية‪.‬‬
‫ِ‬
‫كذا اإلعالم الثقا ّيف يف تونس مبختلف وسائله االتّصاليّة‬
‫يش أو ُمه ّمش يف مرحلة استثنائية ن ّزلت‬
‫هو إعالم هام ّ‬
‫يس يف مق ّدمة االهتاممات وربطت بينه‬
‫املشغل السيا ّ‬
‫وبني اإلعالم امل ُتجاذَب اليوم بني دعم االحزاب ونقدها‬
‫بل انتقادها أحيانا باندفاع ناتج عن ركود وتهميش داما‬
‫عقودا يف ال ِحقبتينْ البورقيب ّية والنوفمربيّة‪.‬‬
‫ونتيج َة ضمور الدور الّذي يلعبه اإلعالم الثقا ّيف أو شبه‬
‫الوظيفي الفاعل وعدم مراهنة األحزاب السياس ّية‬
‫غيابه‬
‫ّ‬
‫يف الغالب عىل الثقافة واملثقّفني وارتباك اإلعالم عا ّم ًة‬
‫مبختلف وسائله االتّصال ّية تعيش تونس اليوم وضعا‬
‫ؤسساتها و َهنا شدي ًدا‬
‫ّ‬
‫خاصا‪ ،‬إذ شهدت الدولة ُمبختلِف ُم ّ‬
‫مرجعي بعد أن تقادم األمنوذج التنمو ّي‬
‫أمنوذج‬
‫لغياب‬
‫ّ‬
‫السابق واهرتأ‪ .‬لذا نحيا يف الراهن وضعا إشكاليّا بني آثار‬
‫مرحلة من الحكم الرئاسو ّي والفساد اإلدار ّي وغريه وبني‬
‫مرحلة جديدة ووقائع حادثة مل تُفض بعد إىل حا ٍل من‬
‫االستقرار لرسعة األحداث وكرثة التقلّبات‪.‬‬
‫فهذا الزمن الّذي نعيش اآلن هو زمن الالّنظام‪ ،‬إ ْذ‬
‫كُلّام قاربت التجربة السياس ّية الجديدة بتونس بعضا‬
‫من االستقرار ه ّبت ريح عاصفة أخرى أربكت املشهد‬
‫وبعرثت األوراق ل ُيعاد تنظيمها من غري الوصول إىل‬
‫حلول ُمجدية تُنهي األزمة االقتصاديّة واالجتامعيّة الّتي‬
‫تزداد تفاقُماً مبرور األيّام‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫إعالم ثقا ّيف اليوم يف حاجة إىل ثقافة جديدة‪.‬‬
‫تستحق‬
‫فكيف النهوض باإلعالم الثقا ّيف من غري نهوض بالثقافة وإيالئها املكانة الّتي‬
‫ّ‬
‫يف مرحلة تأسيس لحياة سياسيّة واقتصاديّة واجتامعيّة جديدة؟‬
‫فيستلزم تغيري واقعنا اليوم ثقافة جديدة تُراهن عىل اإلبداع فك ًرا وف ّنا (بتع ّدد‬
‫الفنون)‪ .‬وال بُ ّد لتجسيد هذا القصد من‪:‬‬
‫اتيجي عا ّم يسعى إىل امل ُؤالفة بني الخصوص ّية‬
‫مراجعة منظومة القيم ضمن متثّل اسرت ّ‬
‫والشموليّة‪ ،‬بني الهويّة الوطنيّة والكونيّة بوعي التح ّدي ملا تتع ّرض له األوطان‬
‫والهويّات عا ّم ًة من أخطار يف زمن الع ْوملة وأحكام السوق االستهالك ّية العامل ّية‪.‬‬
‫ؤسسات العمل الثقا ّيف وتطوير وسائله وضبط مقاصده الكربى يف‬
‫إعادة هيكلة ُم ّ‬
‫يس‪.‬‬
‫النهوض العا ّم‬
‫االجتامعي واالقتصاد ّي والسيا ّ‬
‫ّ‬
‫ذلك أ ّن تغيري الوقائع يستدعي فك ًرا مختلفا عن سابقه‪ .‬وهذا التغيري هو اآلخر‪ ،‬إ ْن‬
‫املؤسسات واملجتمع‬
‫تحقّق‪ ،‬يُسفر عن أفكار جديدة تنهض بالوعي الثقا ّيف لألفراد و ّ‬
‫بأكمله‪.‬‬
‫فام حدث اليوم بتونس هو رصاع أفكار تزا ُمنا مع ظهور وقائع جديدة يف حني أ ّن‬
‫الحسم مل يت ّم بعد لصالح األفكار الجديدة الّتي هي اآلن بصدد التشكّل إ ْذ نراها‬
‫بعض من‬
‫تندفع أحيانا لرتت ّد أمام سيادة القديم من أفكار و ِقيم‪ .‬وما اإلعالم الثقا ّيف إالّ ٌ‬
‫هذا الكُلّ اإلشكا ّيل‪ ،‬كام ْأسلفْنا‪.‬‬
‫لقد اعتدنا طيل َة الحقبتينْ البورقيب ّية والنوفمربيّة عىل ثقافة الدعاية للزعيم األوحد‬
‫(زعيم األ ّمة) ث ّم القائد األوحد ( ُمنقذ األ ّمة)‪ ،‬عىل ثقافة الواجهة‪ ،‬ثقافة املناسبات‬
‫االحتفال ّية باستثناء حركات ونواد ثقاف ّية كانت تنشط يف ظروف صعبة من املُراقبة‬
‫والحصار والتهميش‪ ،‬وغالبا ما تتوقّف أنشطتها لصعوبة التمويل وتدخّل األجهزة‬
‫القامعة‪.‬‬
‫اتيجي‪ ،‬شعا ًرا فضفاضا شبه ُمنفصل عن‬
‫فظلّت الثقافة الوطنيّة‪ ،‬باملنظور العا ّم االسرت ّ‬
‫القطاعي من كتاب وفكر وأدب ومرسح وسينام ورسم وموسيقى‪...‬‬
‫الثقافة مبدلولها‬
‫ّ‬
‫حرصا عىل أن تظلّ األنشطة الثقاف ّية القطاع ّية فئويّة عاجزة عن االنفتاح عىل العموم‬
‫الّذي عادة ما يُو َّجه إىل ثقافة االستسهال‪ ،‬إىل الحفالت الغنائ ّية وتجييش األحاسيس‬
‫يف املال ِعب وغريها‪...‬‬
‫والنتيجة بعد كُلّ الّذي خطّط له الساهرون عىل هذه السياسة الثقاف ّية واإلعالم ّية‬
‫ونفّذوه‪ :‬تعليم بال ثقافة‪ ،‬وحياة سياس ّية ومدن ّية بال ثقافة أيضا‪ ،‬ووسائل إعالم مختلفة‬
‫وخف من الثقافة‪ ،‬وإعالم ثقا ّيف باهت شحيح‪...‬‬
‫تشتغل مبا قلّ ّ‬
‫نظ ٌر يف إمكان الحلول‪.‬‬
‫الخاصة باإلعالم عا ّمةً‪،‬‬
‫املذكورة‬
‫الوقائع‬
‫من‬
‫املوصوف‬
‫خالل‬
‫من‬
‫يَعرض إمكان الحلول‬
‫ّ‬
‫واإلعالم الثقا ّيف تحدي ًدا‪.‬‬
‫وتندرج الحلول املمكنة ضمن سياقات ثالثة مختلفة ُمتعالقة كاآليت‪:‬‬
‫القيم املرجعيّة‪.‬‬
‫إ ّن االكتفاء بذكر ع َدد من القيم الثقاف ّية املرجع ّية بصفة شعارات ّية ال يفي بالحاجة‬
‫إىل النهوض بالثقافة واإلعالم الثقا ّيف واإلعالم عا ّمة‪ ،‬بل ال بُ ّد من تحويل هذه القيم‬
‫اتيجي فع ّيل يشمل كُلّ القطاعات بتثقيف‬
‫من عناوين فضفاضة إىل اختيار اسرت ّ‬
‫الثقافة ذاتها (العمل الثقا ّيف عا َّمةً) وتثقيف السياسة بإيالئها االهتامم الالّزم داخل‬
‫األحزاب وتثقيف االقتصاد مبراجعة نظام االستهالك وترشيده وإعادة النظر يف ما هو‬
‫يس حيو ّي وكام ّيل‪ ،‬وتثقيف الفرد‪ ،‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬بتنمية وعي املواطَ َنة الح ّرة‬
‫أسا ّ‬
‫املسؤولة لديه‪ ،‬إذ املقصود بالثقافة‪ ،‬هنا‪ ،‬ليس قطاعات الثقافة فحسب‪ ،‬بل ثقافة‬
‫املجتمع بأكمله‪.‬‬
‫ثقافة التع ّدد واالختالف‪.‬‬
‫ويستدعي كُلٌّ من التع ّدد واالختالف يف تحديد الثقافة املنشودة تحويل الدميوقراط ّية‬
‫الحق‬
‫من مج ّرد ظاهرة "انتخابويّة" إىل مامرسة يوم ّية بالتفكري والنقد وتع ّدد اآلراء و ّ‬
‫يف االختالف‪.‬‬
‫فاإلعالم الثقا ّيف الّذي ينحرص يف قطاع واحد ويتغافل عن القطاعات األخرى وينترص‬
‫لجهة أو فرد عىل جهات أو أفراد آخرين هو إعالم محدود القيمة إ ْن مل نقل عديم‬
‫الجدوى‪ ،‬وهو استمرار يف اإلعالم القديم‪ ،‬إعالم الواجهة وثقافة الواجهة أيضا‪.‬‬
‫مختصني يف مختلف القطاعات للنهوض باإلعالم الثقا ّيف واح ًدا‬
‫فال بُ ّد من ترشيك ّ‬
‫متع ّد ًدا‪.‬‬
‫إعالمي متع ّدد‪.‬‬
‫ج‪ -‬أداء ّ‬
‫تتأكّد الحاجة إىل إعالم ثقا ّيف شامل ال يقترص عىل العاصمة واملدن الكربى‪ ،‬وال يخضع‬
‫إىل توجيه أطراف متنفّذة وتأثري أحزاب بعينها‪ ،‬إعالم ُح ّر ينترص للمصلحة الوطنيّة‬
‫عىل كُلّ املصالح األخرى الض ّيقة‪.‬‬
‫بهذه العنارص الثالثة نتمثّل مستقبال إلعالم ثقا ّيف بديل عن اإلعالم الثقا ّيف السائد‬
‫منذ عقود‪.‬‬
‫فكيف االبتداء تحدي ًدا؟ ومتى؟‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫أفول اإلبداع ‪:‬‬

‫نحو استنطاق اإلعالم الثقافي‬
‫وتشغيل خفاياه‬
‫حاتم التليلي محمودي‬
‫مل يعد بإمكاننا اآلن التحدث عن اإلعالم الثقايف بوصفه منعدما بسبب القمع‬
‫السيايس أو الرقابة الثقافية‪ ،‬فام حصل نتيجة االنفجارات الثورية سمح مبولد عدد‬
‫مهول من وسائل اإلعالم التي نستطيع من خاللها الرتويج ألي عمل ثقايف ما‪ ،‬مهام‬
‫كانت منطلقاته الفكرية أو الجاملية‪ ،‬ولكن يصبح باإلمكان النظر إليه من وجهة‬
‫نظر نقدية تتطلب رصامة أحيانا‪ ،‬فهامش الحريات‪ ،‬وحتى ال ننكر‪ ،‬مل يفتح املجال‬
‫أمام األعامل الثقافية الف ّنية املقموعة يك نر ّوجها للق ّراء والجامهري فحسب‪ ،‬وإمنا‬
‫أعطى الفرصة لتكون مثّة شهرة عالية متعلّقة ببعض تلك األعامل والحال أنّها ال‬
‫متتّ إىل اإلبداع بأي صلة‪ ،‬إذ صار من حقّ أي كان الرتويج لليشء الذي يريده‪.‬‬
‫إزاء هذا األمر‪ ،‬ال ميكننا تشغيل أسئلتنا دون اإلشارة إىل مفهوم الثقافة‬
‫ذاتها‪ ،‬كام ال ميكن النظر إليه معزوال عن سياقاته‪ ،‬إذ مث ّة اآلن ثقافات وما‬
‫كلّ ثقافة تتن ّزل رضورة ضمن املعرفة اإلنسانية بوصفها مهت ّمة مبا هو‬
‫جميل وإنسا ّين‪ ،‬وبوصفها جرسا للعبور إىل املستقبل من بوابة اإلبداع‪.‬‬
‫فبينام نعتقد ذلك تنشأ يف املقابل ثقافة جديدة‪ ،‬زمن ّيا‪ ،‬قدمية من حيث‬
‫إعادة تشغيلها إرثا من الظالم‪ ،‬وهي التي سنطلق عليها ثقافة املوت‬
‫مبا هو يلوح لنا اآلن من خالل نزعة عدم ّية تجد خيامها يف ال ّراهن من‬
‫القتل واألصولية وفصل ال ّرؤوس‪ ،‬وال يخفى علينا‪ ،‬أن مثل هذه الثقافة‬
‫تجد رواجا كبريا وإقباال متزايدا‪ ،‬كام لو أنّها بضاعة يف األسواق‪ ،‬فلها‬
‫جمهورها ومريدوها ومتابعوها‪ ،‬ساهم اإلعالم يف إيصالها إليهم‪ ،‬كام‬
‫ساهمت بدورها يف ض ّخ أموال طائلة له‪ ،‬وهذا ما ميكن أن نصطلح عليه‬
‫باملنعطف اإلعالمي وصناعة الثقافة كام لو أنّها مستعدّة لتصبح أسلحة‬
‫إيديولوجي‪/‬سيايس يح ّركها ويح ّرك املصنع الدعايئ‪.‬‬
‫بقرار‬
‫ّ‬
‫السائد من جديد ثقافة املوت‪ ،‬مبا يحمله من إرث الهويتّ‬
‫مكّن هذا ّ‬
‫وأرطال من الدعم املادّي خ ّول له صناعة مؤسسته الدعائية الخاصة به‪،‬‬
‫خصيها خارج نسقها اإلنساين‪ ،‬فح ّول‬
‫القدرة عىل تدجني العقول وإعادة ْ‬
‫منها إىل أسلحة معدّة للفتك بأن أطلق سمومها يف املجتمعات‪ ،‬مماّ أنتج‬
‫عطبا وأرضا يبابا يف الثقافة اإلنسانية‪/‬التقدّمية (من باب التوصيف)‬
‫بر ّمتها‪ ،‬اصطلح عليه أنطونيو نيغري «بالقحط األنطولوجي)‪ ،‬ذلك أ ّن‬
‫الرصاع صار هو املحدّد عوض التفاعل‪ ،‬مبا يعنيه األمر من هيمنة السلوك‬
‫القائم عىل التضا ّد البافلو ّيف بني ثقافات تدّعي الحياة‪ ،‬والحال أ ّن أغلبها‬
‫نزعة عدميّة أوتاد خيامها من عظام البرش املتطايرة رؤوسهم نتيجة‬
‫السيايس أو لعبة محافل الدم واالنفجارات‪.‬‬
‫القمع‬
‫ّ‬
‫وبدلَ بناء املستقبل من حيث مراكمة السيل املعريف والعلمي والحضاري‬
‫والف ّني‪ ،‬تجد اآلن الثقافة‪/‬الثوريّة (كام تزعم) نفسها مجبولة عىل‬
‫االنخراط يف حقول معادلة الثقافة األوىل‪ ،‬إذ غادرت صالونات الفعل‬
‫اإلبداعي لتجد نفسها مضط ّرة إىل اإلقامة يف حلبة التصادم‪ ،‬زعام منها أنها‬
‫تدحض وتقوض األصوليات‪ ،‬مماّ جعلها تكون رهينة الدائرة‪ ،‬سب ّية هي‬
‫األخرى يف حرب التصادم اإليديولوجي والفكري‪ ،‬تبحث لها عن مصنعها‬
‫املرسحي‬
‫اإلعالمي‪ ،‬ولك ّنه مصنع ال يقيم لإلبداع األديب والسينام ّيئ و‬
‫ّ‬
‫العلمي وزنا‪ ،‬بقدر ما يعنيه تشغيلها وفق منطق ال ّربح‪ ،‬فالجامهري‬
‫و ّ‬
‫اآلن أشبه بطرائد سهلة وفرائس مع ّرضة لسهام الدّجل الخرايف والسيايس‪،‬‬
‫لذلك فإ ّن عمل ّية ترويضها‪ ،‬ثقاف ّيا‪ ،‬تتطلّب أ ّوال من املؤسسة اإلعالمية أن‬
‫املنصة أو ال ّركح الذي يع ّزز دمويّة القربان‪.‬‬
‫تكون بدورها ّ‬
‫يبدو أ ّن معظم وسائل اإلعالم‪ ،‬من جهة اهتاممها مبا هو ثقا ّيف‪ ،‬مل تعد‬
‫تنقل إلينا غري هذا الصدى من التصادم‪ ،‬سواء كانت مرئية أم مسموعة‬
‫أم ورق ّية‪ ،‬مماّ يجعلنا نع ّزز التساؤل عماّ إذا كانت مث ّة هناك ثقافة ما‬
‫خارج هذا املحور من الرعب‪ ،‬ومبا أن «الوحش» اإلعالمي مل يعد يعنيه‬
‫أن يتح ّرك إال بأرجل من فوالذ القتل‪ ،‬وبأصابع من االنتامء اإليديولوجي‪،‬‬
‫وبعيون ترقب أسواق البضائع الثقافية من حيث الربح والخسارة‪ ،‬فإ ّن‬
‫إمكان ّية تحقّق ثقافة مغايرة‪ ،‬تسعى إىل إحداث جراحات يف قميص‬
‫الظالم وتسعى إىل الصعود من ذلك الحضيض إىل ما تحتاجه إنسانيتنا‪،‬‬
‫سيجعلنا نبحث عن مصريها بإعادة تشغيل السؤال القائل هل مث ّة إعالم‬
‫قد يجعلها تجربة ال ميكن طمسها يف ظل تغييبها أو تهميشها نتيجة ذلك‬
‫نجسمه ألصبح مبثابة «بوب دينار»‪ ،‬ذلك‬
‫التطاحن من ثقافات إعالم لو ّ‬
‫القاتل املأجور‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫السيايس‬
‫القمع‬
‫فقتل‬
‫ة‪،‬‬
‫ي‬
‫السيزيف‬
‫املقاومة‬
‫من‬
‫رضب‬
‫أمام‬
‫شك يف أنّنا‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫مكّن اإلعالمي من تعريفنا عىل جلّ التجارب الف ّنية املقموعة‪ ،‬كام مكّننا‬
‫من معرفة تجارب عامل ّية مغايرة ومختلفة‪ ،‬ولكن مبا أ ّن ذلك القتل مل‬

‫يكتمل نتيجة اإلخفاق الثور ّي‪ ،‬جعل من اإلعالم ذاته ينخرط يف قمع‬
‫مضاعف إذ تح ّول بدوره إىل قاتل ميدح أو يهجو‪ ،‬ذلك أنّه ظلّ خاضعا‬
‫إىل منطق املواجهة السياس ّية مبا لها ثقافات متصادمة‪ ،‬ومثال تشغيل‬
‫املعركة بني ثقافة يحملها التقدميون وأخرى يحملها األصوليون وإشعالها‬
‫إعالميّا مل تولّد لنا أعامال ف ّنية راقية ومبدعة بل أنتجت سرية ثقافية‬
‫تتغ ّنى ببعض الشهداء والقتىل‪.‬‬
‫نفهم من خالل هذا الحقل من د ّوامة التصادم‪ ،‬أن الجسد املصطلحي‬
‫لإلعالم الثقايف كانت مدلوالته تقول بأن مساراته الوظيف ّية معدّة سلفا‪،‬‬
‫وهذا مينع نشأة ثقافة مغايرة تلك غري املنخرطة يف محفل الهجاء أو‬
‫السيايس‬‫املديح‪ ،‬ونقصد بها التي تخ ّون السيايس وال تخ ّون الثورة‪ ،‬فهو‬
‫ّ‬
‫ يح ّبذ ثقافة االنتامء فيج ّند لها ترسانة إعالم ّية ويزكّيها بالدّعم املادّي‪،‬‬‫وربمّ ا يصنع مثقّفني هم يف نهاية املطاف ح ّراس لهذا السلوك‪ ،‬بينام الثورة‬
‫تبحث يف ثقافتها عماّ يغذّي االنفالت عن الحصار‪ ،‬ونتذكّر ‪ -‬من باب‬
‫التوضيح ال املزايدة املعرف ّية ‪ -‬بتجربة الشاعر الرويس «ماياكوفسيك»‬
‫إذ بلغت الدعاية ضدّه شوطا كبريا إىل ح ّد منع نرش كتبه‪ ،‬بينام اتجهت‬
‫إىل متجيد الشاعر «فيدين»‪ ،‬إذ الثاين يف نظر السلطة السياسية واإلعالم ّية‬
‫أكرث فاعليّة إلنجاح التجربة السوفييتية‪ ،‬بينام نحن اآلن نقرأ ملاياكوفسيك‬
‫وننىس فيدين‪.‬‬
‫استنادا إىل هذا املثال‪ ،‬تكون الثقافة التي تعيل من شأنها وسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬ثقافة آن ّية‪ ،‬زمنها ال يتعدّى حدود املعركة السياسية والفكرية‬
‫واإليديولوجية‪ ،‬إذ متوت مبج ّرد نهاية هذه املعركة يف ح ّد ذاتها‪ ،‬وميكننا‬
‫املحصلة الف ّنية يف السلّة‬
‫أن نستدلّ عىل ذلك باتخاذ أمنوذج نلتقطه من ّ‬
‫الثقاف ّية من راهننا هذه السنوات‪ ،‬فمعظم األعامل املرسح ّية التي‬
‫لقيت رواجا مكثّفا وإقباال جامهرييا كبريا‪ ،‬هي تلك التي تناولت ظاهرة‬
‫وخاصة بعد اغتيال الشهيدين مح ّمد الرباهمي وشكري بلعيد‪،‬‬
‫اإلرهاب‪ّ ،‬‬
‫فنجحت إعالم ّيا بشكل ال ميكن ألحد أن يعرتض عليه‪ ،‬ولك ّن منها بعض‬
‫أعامل ارتكبت جرمية جامل ّية‪ ،‬إذ خلت مماّ هو إبداعي وتح ّولت إىل‬
‫محض سباب وشعارات سياس ّية‪.‬‬
‫مل يكن ذلك يف عامل املرسح وحده‪ ،‬إنمّ ا نجد له صدى كبريا يف مختلف‬
‫الحقول الثقاف ّية األخرى‪ ،‬كالشعر والقصة والرواية والسينام‪ ،‬مماّ مكّن‬
‫عديد الفنانني واملبدعني من الظهور اإلعالمي والنجاح يف تحقيق شهرة‬
‫واسعة‪ ،‬ولكن ما يفوت املهت ّمني بهذه املسألة عجزهم أو تجاهلهم تلك‬
‫الفاصلة التي تجعلنا نف ّرق بني املبدع الحقيقي وبني تاجر الف ّن‪ ،‬األ ّول‬
‫أدرك أن اللعبة اإلعالمية خاضعة إىل منطق االنتامء‪ ،‬أو منطق السوق‪ ،‬مبا‬
‫يعنيه االنخراط يف س ّجالت تبع ّية ما‪ ،‬مادّية أو إيديولوجية‪ ،‬فنجح إبداع ّيا‬
‫بينام هو رهني التهميش إذ ال أحد يعرفه غري أوساط قليلة من املهت ّمني‬
‫باملسألة الجامليّة يف ما هو ف ّني‪ ،‬أ ّما الثاين فيخون املستقبل‪ /‬اإلبداع‬
‫فيحقّق نجاحا إعالم ّيا غري مسبوق‪ ،‬ورشيحة واسعة من املعجبني‪ ،‬بينام‬
‫يدرك يف قرارة نفسه أنّه مث ّة نكسة إبداع ّية يف أعامله‪.‬‬
‫معضلة إعالم ّية أخرى‪ ،‬بقدر ما لها من حلول تقدمها لنا يك نتع ّرف عىل‬
‫أعامل جادة‪ ،‬فإنّها تجعلنا يف حالة ريب إزاءها‪ ،‬وقد وجدت منبتها يف‬
‫أن كثري من الباحثني والكتاب والشعراء أمام انسداد سبل النرش أمامهم‪،‬‬
‫نتيجة عجزهم عن أداء صكوك االعرتاف بهم مبدع َني‪ ،‬مال ّيا أو نتيجة‬
‫االجتامعي‪،‬‬
‫تبع ّية ما‪ ،‬مل يتو ّرعوا يف نرش ما لديهم يف مواقع التواصل‬
‫ّ‬
‫ائس سهلة من قبل كتّاب آخرين فانتحلوا أعاملهم‬
‫ولك ّنهم صاروا فر َ‬
‫ونرشوها‪ .‬وهكذا تكون الوسائل اإلعالم ّية قد بلغت الدرجة القصوى‬
‫من القتل‪ ،‬إذ متتنع أ ّول األمر عن ترويج أعامل البعض‪ ،‬وفيام بعد تسمح‬
‫ملن ر ّوجت لهم بالرسقات‪.‬‬
‫ختام املقام‪ ،‬نستطيع القول إ ّن مواجهة خطر مثل هذا ال ميكن أن مي ّر إال‬
‫‪/‬اإلعالمي‬
‫بإعادة تشغيل مكانة ال ّناقد‪ ،‬فليس مث ّة ما يجعلنا نهب الصحا ّيف‬
‫ّ‬
‫الدور األ ّول يف التعريف باألعامل األدب ّية واملرسح ّية والشعريّة والروائ ّية‪.‬‬
‫وإضافة إىل ذلك نشري إىل أنّه ليس مث ّة أيضا من سلطة مرعبة حتّى يلقى‬
‫السيايس أو ينصبّه قاضيا عىل اهتاممته‬
‫املبدع حتفه بأن يلعب دور‬
‫ّ‬
‫الفكرية واإلبداعية‪ ،‬مقابل أن يهبه مساحة إعالمية من خاللها تعرف‬
‫أعامله‪ .‬وختاما نلفت االنتباه أيضا إىل أنّه مث ّة فرق بني ثقافة املواجهة‬
‫وثقافة ال تعرتف بغري اإلبداع خصوصية لها‪ ،‬األوىل قامئة عىل القتل وتجد‬
‫لها متجيدا من السلطة ووسائلها الدعائيّة‪ ،‬أ ّما الثانيّة حتّى إن ه ّمشت‬
‫فإنّها وحدها التي تستنطق املستقبل كام ذكرنا سلفا عن تجربة الشاعر‬
‫ماياكوفسيك‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫تحقيق منارات حول أنماط التعبيرات الثقافية‬

‫أهل القطاع يشخصون علل اإلعالم الثقافي‬
‫في تونس ويطلقون صيحة فزع‬
‫إعداد رشيدة الشارني ومنتصر الحملي‬
‫ما كان أحد يقدّر حجم األعطاب الفكرية والسلوكات الهمجية التي كشفت عنها‬
‫الثورة وما ك ّنا نظ ّن أننا ننام منذ قرون طويلة عىل هذا القدر الهائل من الجهل‬
‫والغطرسة والجنون‪ ...‬أصوات كثرية تتعاىل منادية بأهمية الثقافة يف وسائل اإلعالم‬
‫باعتبارها طريقة ف ّعالة للنهوض بالوعي ونرش قيم املح ّبة والتسامح بني األديان ولكن‬
‫مساحة الثقافة الجادّة ظلّت محدودة عموما يف وسائل اإلعالم املسموعة واتّسمت‬
‫بالنخبوية يف اإلذاعة الثقافية وعديد الربامج يف اإلذاعات الجهوية أ ّما اإلعالم املريئ‬
‫(الوطنيتان ‪1‬و‪ ) 2‬فيشهد خواء ثقافيا رهيبا مقارنة بجميع الفرتات السابقة مام جعله‬
‫يسقط يف اجرتار املايض واملستهلك والرديء‪ ...‬وألسباب قد ال تخفى عىل أحد يعمد‬
‫إىل تغ ّيب املثقفني واإلعالميني الجادين القادرين عىل التأثري ويعمل عىل إقصائهم‪...‬‬
‫حول إشكالية اإلعالم الثقايف يف تونس استجابت مشكورة مجموعة متم ّيزة من‬
‫املثقفني واإلعالميني إىل أسئلة منارات الذين شخصوا بدقّة املشهد وطرحوا بجرأة أه ّم‬
‫الصعوبات وسبل خلق إعالم ثقايف مبستوى الحراك املرعب الذي تشهده املرحلة ‪.‬‬
‫حسين راشد ‪ :‬إعالمي‬
‫شهدت تونس بعد ‪ 14‬جانفي تح ّوال جذريّا يف أداء‬
‫وسائل اإلعالم لكنه مازال بعيدا عن طموحات ال ّناس‬
‫حيث بدا غري متفائل مع نبض الشارع مفتقرا إىل‬
‫املهنية والحياد يف نقل الخرب وواقعا تحت سيطرة‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫لوب ّيات ال ه ّم لها إالّ خدمة أجندتها ّ‬
‫كانت االنتظارات كبرية ليكون اإلعالم الثقايف القاطرة‬
‫التي تدفع عجلة التنمية مبفهومها الشامل وترعى‬
‫التح ّول الدميقراطي لك ّن هيمنة السيايس غيّبت أو‬
‫تكاد املسألة الثقافية وبالتايل فإ ّن تأثريه مل يعد كبريا‬
‫واكتفى باجرتار أساليب العادة منترصا للمركز عىل الجهات‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫التحسن‪ ..‬والنهوض‬
‫بعض‬
‫شك يف أن قطاع اإلعالم مازال يبحث عن نفسه رغم‬
‫ّ‬
‫به يتطلّب جهدا مضاعفا من املنتسبني إليه يجعله أقرب إىل التفاعل مع مشاغل‬
‫الفكر والثقافة واألدب‪ ،‬علينا أن نؤمن بأ ّن االستثامر الحقيقي هو استثامر يف‬
‫الفعل الثقايف بتوفري اآلليات املناسبة لكلّ املتدخّلني فيه وذلك لنرش الوعي وقيم‬
‫الحريّة والدميقراطية ملا فيه خري بلدنا وأ ّمتنا‪.‬‬
‫المؤدب ‪ :‬كاتب وإعالمي‬
‫محمد عيسى ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الحق أن اإلعالم الثقايف بعد‪ 14‬جانفي حاول أن يتغيرّ‬
‫وأن يخرج عن سطحيته نتيجة ظهور وجوه إعالمية‬
‫ثقافية جديدة و ظهور أعامل أدبية فرضت أشكالها‬
‫ومضامينها عىل وسائل اإلعالم ولكن منذ سنة ‪2012‬‬
‫بدأت ماكينة تهميش الثقافة يف وسائل اإلعالم تتح ّرك‬
‫وتفاقمت يف سنة ‪ 2013‬وهناك ق ّوة غريبة فعال داخل‬
‫الخاصة مه ّمتها إقصاء‬
‫كلّ وسائل اإلعالم الحكومية و ّ‬
‫صوت املثقّف وتهميشه وتسطيح أعامله ويف املقابل‬
‫فإن هذه املاكينة املتغ ّولة حرصت عىل متجيد األعامل‬
‫حس ف ّني وإبداعي أو وطني‬
‫التافهة والخالية من كلّ ّ‬
‫أو إنساين‪ ،‬وهي أعامل أقلّ ما يقال عنها إنّها مهازل لكنهم يباركونها ومي ّررونها يف‬
‫أوقات الذروة‪ .‬األخطر من ذلك أن اإلعالميني الذين كانوا يحتفون باملشهد الثقايف‬
‫العام يف عمقه وحركيته هاجروا إىل السياسة‪ ،‬باإلضافة إىل حذف الربامج الثقافية‬
‫أو تقليصها وبرمجتها يف أوقات م ّيتة وتغييب الكتاب يف أغلب وسائل اإلعالم‬
‫رسع‪ ،‬الكتاب اليوم لألسف‬
‫وإن ذكر فعىل الهامش وبشكل سطحي وركيك ومت ّ‬
‫أصبح تهمة وأضحوكة وليس لغة العرص‪ ،‬هكذا يقول كثري من املسؤولني يف وسائل‬
‫اإلعالم الوطنية باإلضافة طبعا إىل تهميش الرموز الثقافية والفكرية والوطنية‬
‫وتشويهها مثلام جرى مع الدكتور يوسف الص ّديق والدكتور مح ّمد الطالبي‪.‬‬
‫كلّنا متو ّرطون ومسؤولون عن هذا الحضيض الذي وصل إليه الكتاب وآلت إليه‬
‫الثقافة التونسية وأعني املبدعني يف جميع املجاالت واتحاد الكتّاب الذي فقد كلّ‬
‫صالحيّاته وكل املنظامت والجمعيّات ذات الصلة بالشأن الثقايف‪ .‬هناك أصوات‪،‬‬
‫هناك مقاومة ولكن ضئيلة ويائسة زادتها وسائل اإلعالم االفرتاضية وخاصة‬
‫الفايس بوك بؤسا عىل بؤس‪ .‬وإن رمنا أن نحلم بإعالم ثقايف مؤثّر فال ب ّد أن يكون‬

‫ذلك قرارا بأيدي املبدعني ال بأيدي املسؤولني‪ ،‬ال ب ّد من قوانني جديدة تح ّدد نسبة‬
‫محرتمة لحضور الربامج الثقافية يف كلّ وسائل اإلعالم ‪ 25‬باملائة مثال‪ .‬هم يعلنون‬
‫يوميّا أنّهم يجابهون اإلرهاب ويف املقابل يقصون الثقافة ويجرجرونها إىل الجهل‬
‫والتخلّف‪ .‬إنّها رصخة أخرى إضافية ال ب ّد أن يعي بها كلّ مثقّف ح ّر و مسؤول‪،‬‬
‫آن األوان ليك ننهض ونتح ّرك ونقتحم األماكن التي نهبت م ّنا باسم مسايرة لغة‬
‫العرص وهي دون ّ‬
‫شك لغة اإلفالس واالغرتاب واإلرهاب‪.‬‬
‫د‪.‬عبد القادر عليمي (ناقد وكاتب تونسي)‬
‫استبرشنا بعد ثورة الرابع عرش من جانفي‬
‫إحدى عرش وألفني بربيع ثقايف يواكب ما‬
‫شهدته البالد من تح ّوالت سياسية جذريّة‪،‬‬
‫فقد كان يف الحسبان أ ّن «املشهد» سيتط ّور‬
‫ال محالة‪ ،‬وأ ّن اإلعالم الثقايف سيخرج من‬
‫«حالة السبات» والتسطيح التي كان عليها‬
‫يف ما يتّصل باعتنائه باإلضافات اإلبداعية‬
‫والتنويعات الثقافية الجادّة‪ .‬ولكن الحقيقة‬
‫والواقع كانا ‪ -‬لألسف ‪ -‬خالف ذلك‪ ،‬فاملتتبع‬
‫لهذا اإلعالم يالحظ أ ّن التفاعل مع مستج ّدات الساحة الثقافية ظلّ سطح ّيا يف‬
‫الغالب األع ّم‪ ،‬وأ ّن الكثري من املبدعني الذين وقع تهميشهم وإقصاؤهم يف عهد‬
‫ما قبل الثورة قد وقع تجاهلهم بعدها أيضا‪ ،‬ولعلّ يف معرض الكتاب التونيس يف‬
‫أغلب دوراته التي أقيمت منذ سنة ‪ 2011‬خري دليل عىل ذلك‪ .‬أ ّما عن الربامج‬
‫الثقافية املك ّرسة لجديد الثقافة رصدا وتفاعال‪ ،‬فدار لقامن ظلّت عىل حالها إالّ‬
‫يف ما يتّصل باستثناءات قليلة ميكن أن منثّل لها بربنامج «بيت الخيال» الذي‬
‫يبثّ عىل الوطنية األوىل ويق ّدمه الروايئ كامل الرياحي‪ ،‬وقد مثّل متنفّسا حقيقيا‬
‫للمبدعني واملهتمني بالشأنني الفكري والثقايف عموما‪ ،‬وكذلك ما تجتهد اإلذاعة‬
‫الثقافية يف تأثيثه من برامج وتقدميه إىل املستمعني من خالل ثلّة من الشعراء‬
‫والكتّاب والجامعيني والصحافيني املختصني مبتابعة الشأن الثقايف عىل غرار‬
‫القاص عمر السعيدي وغريهم‪...‬‬
‫األساتذة سامح قصد الله ومحمد آيت ميهوب و ّ‬
‫ولكن رغم ذلك يبقى اإلعالم الثقايف محدود الفاعلية‪ ،‬باإلضافة إىل ظاهرة أخرى‬
‫الفتة وقع تكريسها يف أحيان كثرية وهي االهتامم املبالغ فيه بجملة من األعامل‬
‫التي ي ّدعي أصحابها أنّها «إبداعية» وهي دون ذلك بكثري‪ ...‬ورغم كلّ يشء‪،‬‬
‫فإ ّن فاعلية اإلعالم الثقايف لن تظلّ محدودة إىل زمن طويل واعتقادنا أ ّن القادم‬
‫سيكون أفضل‪.‬‬
‫عبد القادر اللّطيفي‪ :‬روائي‬
‫رأيي أن التغيري السيايس الذي وقع بعد ‪14‬‬
‫جانفي ‪ 2011‬قد فتح اآلفاق واسعة أمام‬
‫جميع الحريّات مبا يف ذلك حريّة اإلعالم‬
‫الثقايف ومن املؤكّد أن املشهد قد كشف عن‬
‫أعامل إبداعية كثرية وأسامء أدبية كانت من‬
‫قبل منبوذة أو بعيدة أو محتشمة ولعلّنا‬
‫نتذكّر موجة الروايات التي استعادت تجربة‬
‫السجن لكثري ممن تع ّرضوا لالعتقال السيايس‬
‫سواء من اليمني أو من اليسار‪ ،‬إذن مل تعد‬
‫املشكلة مشكلة حريّات بقدر ما هي مشكلة انتظارات وطموح وآمال لرشيحة‬
‫من املثقفني وغري املثقفني الذين رمبا كانوا يتوقّعون آفاقا أوسع بكثري من‬
‫إمكانيات البالد والوطن‪ ،‬لقد ظلّ الجامعيون بطريقة أو بأخرى عىل منح الصكوك‬
‫الخاصة ببعض األعامل دون غريها خاصة يف مناسبات منح الجوائز األدبية وظلّت‬
‫الخاصة هي التي تق ّدم هذا وذاك إىل املشهد‬
‫الصحافة التي تحكمها العالقات ّ‬
‫دون متحيص كبري ودون فرز الغثّ من السمني وظلّ املكان أيضا متحكّام مبركزيته‬
‫ونعني به العاصمة يف صنع مشهد ثقايف مح ّدد كثريا ما يتقاطع مع التجاري‬
‫والسيايس وعموما رغم إيجابيات الثورة فإ ّن املشهد‬
‫الثقايف التونيس ومن ورائه اإلعالم الثقايف مازال مشدودا إىل الوراء‪ ،‬أستثني بعض‬
‫األسامء التي تحاول أن تق ّدم مادّة نافعة سواء يف اإلذاعة الثقافية أو القناة األوىل‬
‫أو يف بعض املالحق القليلة يف بعض جرائدنا‪ ،‬أميل أن يتط ّور إعالمنا إىل ما هو‬
‫أفضل بكثري‪.‬‬

‫عامر بوعزّة ‪ :‬شاعر وإعالمي‬

‫مل يطرأ بعد الثورة تغيري يذكر عىل اإلعالم‬
‫الثقايف مبختلف أجنحته بل ظلّ محافظا عىل‬
‫نفس التو ّجه رغم تع ّدد العناوين الصحفية‬
‫وتط ّور وضع الحريّات العا ّمة‪ ،‬هذا يرتبط‬
‫بالوضع العام للثقافة يف تونس وهو وضع‬
‫ثابت مل تق ّوض أسسه املتغيرّ ات السياسية‪،‬‬
‫بالسوق من جهة وباملؤسسة‬
‫وضع يرتبط ّ‬
‫الرسمية من جهة ثانية فال حديث عندئذ عن‬
‫الثقافة إالّ مبا هي عروض فرجويّة يف مختلف‬
‫الفنون ودعم حكومي ملشاريع فن ّية واإلعالم ينقل هذا الوضع يف تعابري صحافية‬
‫يومية ال غري مقارنة بفرتات ماضية كان الشأن الثقايف فيها أحد مك ّونات السيادة‬
‫الوطنية وعنرصا أساسيا يف حقل التنمية البرشية‪ ،‬ميكن القول بأننا منذ بدايات‬
‫األلفية الجديدة دخلنا النفق املظلم ونزلنا إىل أسفل درجات الدرك فقد كنت‬
‫تجد يف الصفحات الثقافية لكربيات الجرائد اليومية واألسبوعية ومنها الحزبية‬
‫املتخصصة‬
‫فضاءات لل ّنقاش والرأي كان لها دور يف تغيري الواقع كام كانت املجالّت ّ‬
‫عىل غرار «الفكر» و»قصص» تلعب دورا مهماّ يف تشكيل الحركة اإلبداعية‬
‫وقيادتها ويف التسعينات كان من حظّنا أن عشنا تجربة ملتقى أدب التسعينات‬
‫التي تتن ّزل يف هذا السياق‪ ،‬تط ّور اإلعالم الثقايف مرتبط بتط ّور التص ّورات الثقافية‬
‫ونحن نفتقد اليوم إىل رؤية اسرتاتيجية واضحة تح ّرر الثقافة من بعدها القيمي‬
‫االستهاليك ومتنحها من جديد وظيفة القيادة يف مجتمع يتطلّع إىل األفضل‪.‬‬

‫حفيظة قاره بيبان _بنت البحر _ (روائية تونسية)‬
‫تعترب الثقافة منارة الشعوب وعنوان التحرض‪.‬‬
‫وهذا ما تدركه جيدا القوى الكربى فتغزونا من‬
‫خاللها‪ ،‬موظفة كل الوسائل وأخطرها اإلعالم‬
‫الذي أصبح ‪ -‬ال قوة رابعة ‪ -‬بل قوة أوىل‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬لألسف‪ ،‬رغم تحرر الكلمة مع الثورة‬
‫وتحرراإلعالم‪ ،‬مل يع من اعتلوا كرايس الحكم‬
‫هذه الحقيقة أو شغلتهم عنها رصاعاتهم‬
‫السياسية‪ ،‬فظلت الثقافة دوما مهمشة رغم‬
‫حركية املشهد اإلبداعي ورغم استقاللية اإلعالم‬
‫ يف الظاهر ‪ -‬فإنه ظل يدور يف فلك الرصاعات السياسية والحزبية‪ ،‬تاركا للثقافة‬‫الحوايش الصغرية‪ ،‬إن وجدت‪.‬‬
‫فمع اندثار املالحق الثقافية وتقلص عديد الصفحات الثقافية‪ ،‬يواصل اإلعالم‬
‫املريئ الطاغي تركيزه غالبا‪ ،‬عىل ثقافة الرتفيه والتخدير التي ورثها عن النظام‬
‫املنهار والتي خلفت جيال هشا ضائعا يتلقفه التطرف ميينا ويسارا‪.‬‬
‫ألهمية املوضوع‪ ،‬نظمنا السنة املاضية يف فرع رابطة الكتاب األحرار ببنزرت‬
‫ندوة «اإلعالم والثقافة» ودعونا اإلعالميني واملسؤولني للحوار‪ ..‬ولكن‪ ،‬حرضت‬
‫قامات إعالمية معروفة كمحمد بن رجب‪ ،‬الهاشمي السنويس (عن الهايكا)‪،‬‬
‫آمال الشاهد‪ ،‬مراد البجاوي‪ ،‬إضافة إىل الكاتبني املناضلني د‪.‬جلول عزونة ومحمد‬
‫الجابيل‪ ...‬حرض اإلعالميون والكتاب وتغيب املسؤولون عن التلفزة الوطنية الذين‬
‫دعوناهم‪ ،‬مام يثري أكرث من سؤال‪.‬‬
‫نقطة االستفهام الكربى كانت بعد قيام التلفزيون الفلسطيني بتسجيل أكرث من‬
‫‪ 10‬حلقات من برنامج ثقايف خاص باملبدعني التونسيني ‪ ،‬بعنوان «أوراق خرضاء»‬
‫تم تسجيله يف تونس باالشرتاك مع التلفزة التونسية‪ ،‬ليقدم يف نفس الوقت يف‬
‫تونس وفلسطني‪ .‬أعدت الربنامج وقدمته اإلعالمية والشاعرة كوثر الزين‪ ،‬يف مدن‬
‫تونسية مختلفة‪ ،‬فحاورت لطفي بوشناق‪ ،‬صابر الرباعي‪ ،‬فاضل الجعايبي‪ ،‬محمد‬
‫الصغريأوالد أحمد‪ ،‬عادل بوعالق‪ ،‬حفيظة قاره بيبان‪ ...‬ولكن‪ ،‬قدم التلفزيون‬
‫الفلسطيني الربنامج عن املبدعني التونسيني وأسقطته التلفزة التونسية من‬
‫برامجها رغم مشاركتها التقنية فيه‪ .‬السؤال الكبري والخطري يظل قامئا‪ ،‬ملاذا؟‬
‫«أوراق خرضاء» موجود عىل اليوتوب ملن يريد االطالع عليه‪.‬‬
‫*************************‬

‫‪9‬‬
‫لعل أهم أسباب هذا ا لتهميش اإلعالمي للثقافة هو‪:‬‬
‫‪ - 1‬غياب إرادة سياسية حقيقية إليالء الثقافة مكانتها باعتبارها أولوية وطنية‪،‬‬
‫تعمق وعي املواطن وتحصن الشباب وتحميه من املخاطر‪.‬‬
‫‪ - 2‬ضيق الرؤية لدى أغلب املسؤولني عن اإلعالم ‪ -‬املريئ يصفة خاصة ‪ -‬والسعي‬
‫وراء املصالح اآلنية الطاغية والربح الرخيص‪.‬‬
‫‪ - 3‬انعدام مرشوع ثقايف واضح يسعى الجميع إىل تحقيقه ألجل مصلحة الوطن‪.‬‬
‫‪ - 4‬إقصاء وتهميش اإلعالميني الوطنيني أصحاب املشاريع‪.‬‬
‫قد نتجاوز هذا الواقع لوأجبنا عىل هذه األسئلة‬
‫‪ - 1‬متى تصبح الثقافةأولوية وطنية‪ ،‬لها مكانتها يف كل الوزارات‪ ،‬فتن ّمي وعي‬
‫املواطن وتحصن الشباب من السقوط يف مهاوي التطرف‪ ،‬وتتجند لها الكفاءات‬
‫الوطنية من اإلعالميني أصحاب املشاريع لتصبح حاجة وغذاء روحيا وعقليا يحقق‬
‫توازن الفرد ويرتقي بإنسانيته؟‬
‫‪ - 2‬متى يتخلص عديد املشتغلني باإلعالم الثقايف من بعض غرور أو كسل أو‬
‫ارتباطات إخوانية مصلحية أحيانا‪ ،‬للبحث والسعي النبيل إىل تقديم الجديد‬
‫واملفيد املبتكر يف املشهد الثقايف وعدم السقوط يف املجرت واملكرس؟‬
‫‪ - 3‬متى تتعمق الرؤية وتتسع لدى املسؤولني عن القطاع اإلعالمي املريئ خاصة‬
‫فيخف سعي الكثري منهم‪ ،‬خلف الربح الرخيص‬
‫(لخطورته وتأثريه الواسع) ّ‬
‫وتشجيعهم للسقوط األخالقي العام؟‬
‫‪ - 4‬ما الذي مينع وزارة الثقافة من أنتاج برنامج ثقايف قصري ومميز يقدم يوميا‬
‫أوقات الذروة يف القناة الوطنية لتقديم كتاب بطريقة مبتكرة خفيفة‪ ،‬كام فعلت‬
‫وزيرة الثقافة األردنية؟ وما الذي مينع تلفزاتنا من تقديم فقرة يومية يف نرشة‬
‫األخبار تعرف بكتاب جديد يف دقائق كام تفعل بعض التلفزات األجنبية؟‬
‫‪ - 5‬متى تصبح الصلة وطيدة بني الثقايف والرتبوي واإلعالمي‪ ،‬ومتى يعي اإلعالم‬
‫مبسؤوليته الخطرية ‪ -‬ال يف نرش املعلومة فقط ‪ -‬بل يف تغيري العقليات وتأسيس‬
‫وعي جديد والرقي باإلنسان لصالح هذا الوطن‪.‬‬
‫ابتسام خليل (كاتبة وناقدة تونسية)‬
‫للثقافة تجلّياتٌ وتعبرياتٌ إبداع ّي ٌة مختلفة‬
‫يف الكتابة واملرسح والسينام واألغنية وفنون‬
‫الشارع إىل غري ذلك‪ .‬وال يختلف إثنان يف‬
‫مسؤولية اإلعالم الثقا ّيف التي ازدادت بعد الرابع‬
‫عرش من جانفي‪ .‬إذ عليه أن ي ُوصل أصوات‬
‫املثقّفني يف البالد التونسية ورؤاهم ومشاغلهم‬
‫االجتامعي أو‬
‫يس و‬
‫رغم ُعلُ ّو موجة الشأن السيا ّ‬
‫ّ‬
‫االقتصاد ّي‪ .‬يبذلُ مق ّدمو الربامج الثقافيّة يف‬
‫اإلذاعة جهدا مضاعفا لتقديم تجارب إبداعية‬
‫معيّنة أو ملواكبة فعاليات يف جهة من الجهات‪،‬‬
‫فكان جزا ُء بعضهم «جزا ُء سنامر»‪ ،‬أش ُري مؤ ّخرا اىل التخ ّيل عن «مراد البجاوي»‬
‫اإلعالمي املميّز‪ ،‬وهو يف أوج عطائه‪ .‬وقبله ُهرسلَت سيّدة املصدح «علياء‬
‫املبدع‬
‫ّ‬
‫رحيم» من إذاعة املنستري‪ ،‬واغتيل صوتُها وهو صوتُ كثري من املبدعني والجهات‬
‫يف البالد من رشقها اىل غربها ومن شاملها إىل جنوبها‪.‬‬
‫الوج ُه اآلخ ُر لهامش ّية املثقف التونيس وتهميشه هو وج ُه الفُرصة إلخراج أكرث من‬
‫ُمنتَج ثقا ّيف ُمميَّز يرغ ُم ال َعمى التلفز ّي مثالً عىل التنقّل عىل عني املكان لإلحاطة‬
‫بتفاصيله حدثا ثقافياّ عظيام حقاّ‪ .‬إنّها فرص ُة الكتّاب أيضا أن ال يكونوا ظالال لذلك‬
‫اإلعالمي أو لتلك اإلعالميّة‪ ،‬وأن ي َدع ُوا أعاملهم تدافع عنهم ال أن يتح ّول الكثري‬
‫ّ‬
‫مناّ‪ ،‬لألسف‪ ،‬إىل َس َد نة لقامات زائفة‪.‬‬
‫الصحافة ويتعاون في إنتاج‬
‫الشيحاوي‪،‬‬
‫كمال ّ‬
‫صحافي بجريدة ّ‬
‫ّ‬
‫برامج في اإلذاعة الثّقاف ّية‬
‫بيشء من االختزال ميكن القول إن اإلعالم الثقايف‬
‫قد تأثّر يف مضامينه باالستحقاقات والرهانات‬
‫السياسية واالجتامعية التي فرضتها ثورة‬
‫‪ 14‬جانفي وبكلّ أطوار االنتقال الدميقراطي‬
‫التي عرفتها بالدنا ومازالت‪ .‬ومن مظاهر هذا‬
‫التأثر يف السنوات األوىل مشاركته يف الجدل‬
‫اإليديولوجي والفكري حول قضايا الهوية‬
‫ومدنية الدولة واشكاليات تضمني الرشيعة‬
‫ومبادئ حقوق اإلنسان العاملية يف دستور‬
‫الجمهورية الثانية لتونس‪ .‬هذا باإلضافة إىل ما‬
‫طرحته عديد املنابر الثقافية من أسئلة حول واقع اإلنتاج الثقايف وفلسفة السياسة‬
‫الثقافية يف تونس ملا بعد ‪ 14‬جانفي يف ما يتّصل بآليات الدعم العمومي للمرسح‬
‫والسينام والكتاب وتنظيم امللتقات واملهرجانات وغريها وما ظهر من تح ّمس‬
‫عدد من الفنانني الذين صاروا «ناطقني باسم الثورة» إىل معاقبة عدد من الفنانني‬
‫املحسوبني عىل النظام السابق مبنعهم من صعود عدد من املهرجانات الدولية‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫وحرمانهم من آلية الدعم العمومي‪ .‬وقد عرفت الساحة الثقافية والفكرية خاصة‬
‫بروز عدد من املثقفني الذين كان صوتهم عاليا يف مواجهة مشاريع وأفكار ما‬
‫عرف باإلسالم السيايس مبختلف تعبرياته‪ .‬ومن بينهم «يوسف الصديق» و«رجاء‬
‫بن سالمة» و«محمد الطالبي» عىل سبيل املثال ال الحرص‪ .‬واتضح خالل السنوات‬
‫األوىل التي تلت الثورة حجم تأثري التلفزة بوصفها أحد املحامل األكرث تأثريا يف‬
‫مجال اإلعالم عموما واإلعالم الثقايف خصوصا‪ .‬وبرزت يف هذا اإلطار قنوات تلفزية‬
‫خاصة حقّقت نسب مشاهدة عالية من خالل نوعية من الربامج الثقافية التي‬
‫تعتمد صيغ املن ّوعات والحوارات و«التولك شاو» التي يتداخل فيها التعليق‬
‫بالسخرية واملواقف الكوميدية وطرحت أسئلة حول خطورة البحث عن اإلثارة‬
‫و»البوز» بطرق يت ّم فيها أحيانا التضحية بالقيمة الثقافية للضيف‪ .‬واإلعالم الثقايف‬
‫يف مجال عميل األسايس بجريدة الصحافة التونسية يستم ّر عىل نفس الوترية‬
‫ومشاكله هي من جوهر مشاكل اإلعالم املكتوب يف املجال العمومي‪ .‬ومماّ أس ّجله‬
‫يف هذا املجال أ ّن معظم الصحف التونسية باتت تقترص عىل الصفحات الثقافة‬
‫والفنية اليومية مع فتور الحامس إن مل أقل انعدامه يف ما يتصل بتخصيص مالحق‬
‫مختصة أو منابر للجامعيني واملثقفني‪ .‬ويرجع األمر إىل سببني أساسيني يف تقديري‪:‬‬
‫املشكل املادي والعجز عن دفع أجور املتعاونني يف هذا املجال والذين يجدون يف‬
‫الصحف واملجالت الخليجية وغريها من يكافأ أعاملهم ماديا عىل نحو أفضل بكثري‪.‬‬
‫وثانيا الوعي غري املعلن أحيانا بأن صيغ املالحق والصفحات املختصة يف الصحف‬
‫اليومية ربمّ ا بات شيئا من املايض‪ .‬وأحسب أن رشوط النهوض باإلعالم الثقايف‬
‫ليست مفصولة عن رشوط النهوض باإلعالم عموما وخصوصا يف مجال الصحافة‬
‫املكتوبة التي تعاين من أزمة مستفحلة تضاعفت يف السنوات األخرية‪ .‬ومن الحلول‬
‫املقرتحة يف هذا املجال أن تقف الدولة بالدعم إىل جانب الصحف التونسية‬
‫وتضاعف من مساعداتها‪ .‬وأن يفتح نقاش واسع للتفكري يف الصيغ والطرق األكرث‬
‫نجاعة يف مجال اإلعالم الثقايف عىل مختلف املحامل اإلعالمية (صحافة مكتوبة‪،‬‬
‫إذاعة‪ ،‬تلفزة‪ ،‬أنرتنات)‪ .‬ث ّم أن يتم الفصل تدريجيا بني الصحافة املختصة يف مجال‬
‫اإلعالم الثقايف والصحافة الجامعة مع مضاعفة فرص الرتبّص والتكوين للصحافيني‬
‫الشبّان بحيث يتاح لهم الحصول عىل تكوين أفضل يف مجاالت النقد السيناميئ‬
‫واملرسحي واألديب واملوسيقي بحضور مك ّونني وجامعيني مختصني‪.‬‬
‫ثريا رمضان‪( :‬سكريتيرة تحرير وكالة أخبار المرأة وشاعرة)‪.‬‬
‫* ما هو تشخيصك لواقع اإلعالم الثقايف يف بالدنا بعد ‪ 14‬جانفي؟‬
‫ تعرف الثقافة يف تونس يف فرتة ما بعد ‪14‬‬‫جانفي نوعا من التهميش‪ ،‬مع بروز السيايس‬
‫عىل الواجهة واهتامم الشارع ببالتوهات‬
‫التحليل الدائم لألحداث السياسية‪ ،‬ال سيّام‬
‫وأن الشعب مازال يتل ّمس طريقه إىل حرية‬
‫الرأي‪ ،‬بعد قمع مورس عليه عقودا‪ ،‬وهذا‬
‫ما جعل من الثقافة آخر اهتامماته‪ ،‬وما زاد‬
‫الطني بلّة األحداث الدموية املتتالية التي‬
‫عرفتها البالد‪ ،‬وجعلت اإلعالم يتّجه بنظره‬
‫إىل التحاليل الدورية وبشكل مكثف‪ .‬ورغم أن البعض يرى أن املثقف استعاد‬
‫اعتباره عىل الساحة مع قدرته عىل التعبري بحرية أكرب‪ ،‬إال أين أعتقد أن اإلعالم مل‬
‫يعطه حقه بالقدر الكايف‪ ،‬خصوصا أننا نفتقر إىل برامج ثقافية تلفزية مع إلغاء‬
‫العديد منها وعدم تعويضها بغريها‪ .‬وأيأ كانت أسباب هذا اإللغاء يتوجب عىل‬
‫املؤسسات اإلعالمية الكربى توفري التعويض‪.‬‬
‫* ما هي الصعوبات والعراقيل التي تعرتض اإلعالم الثقايف يف مجال عملك؟‬
‫ بالنسبة إيل‪ ،‬ال أجد صعوبات أو عراقيل بشكل كبري وال أرى أنها قد تنغّص‬‫العمل الصحايف يف املجال الثقايف‪ ،‬ذلك أن القنوات صارت مفتوحة بشكل أكرب‬
‫منذ ‪ 14‬جانفي لتمدنا باملعلومة‪ ،‬كام أن استعادة املثقف كام قلت سابقا لحرية‬
‫التعبري س ّهلت مه ّمة الصحايف‪ .‬لكن امللفات الثقافية الكربى تبقى يف معظمها‬
‫تعرف ضبابية‪ ،‬ذلك أن اإلدارة بهيكلتها الكالسيكية مل تتغري‪ ،‬فالبريوقراطية كعادتها‬
‫يف بطئها واملحسوبيات يف السبق‪ ،‬وحتى يف توزيع املهام الصحفية خالل املناسبات‬
‫الكربى كاملهرجانات‪ .‬املشكلة أيضا مرتبطة باملؤسسات اإلعالمية التي سقطت‬
‫يف ف ّخ االبتذال مام جعل املجتمع يسقط يف ه ّوة املبتذل‪ ،‬وهو ما يجعلني أرى‬
‫عىل البعد الطويل محاوالت لتدمري الثقافة يف تونس‪ ،‬من خالل إعالم يتعامل مع‬
‫املبتذل والهابط والسكوب والفضائح‪.‬‬
‫* ما هي حسب رأيك الحلول الكفيلة بدفع اإلعالم الثقايف والنهوض به؟‬
‫ نحتاج إىل برامج ثقافية تلفزية دسمة ترفع من مستوى املشاهد‪ ،‬وتش ّجع املبدع‬‫التونيس عىل العمل أكرث للدفع بعجلة الثقافة وإعادة هيبتها من جديد‪ ،‬ومن هذا‬
‫املنطلق يجب عىل املؤسسات اإلعالمية عىل مختلف أشكالها وتوجهاتها أن تعيد‬
‫رضت بالجيل الجديد‪.‬‬
‫النظر يف ما تبثه وما تنرشه من تفاهات أ ّ‬

‫الشارني‬
‫كمال ّ‬
‫الشروق ومحلّل ومح ّرر باإلذاعة الثّقاف ّية)‬
‫(صحافي بجريدة ّ‬
‫ّ‬
‫ تشخييص لواقع اإلعالم الثقايف‪:‬‬‫باءت أحالمنا بواقع إعالمي أكرث حرفية ونزاهة‬
‫وجدية ومصداقية واختصاصا بالفشل‪ ،‬أصبح‬
‫اإلعالم الثقايف أكرث سطحية‪ ،‬فريسة لالنتهازيني‬
‫وغري املختصني وممن فشلوا يف مهنهم األصلية‬
‫فأصبحوا بفعل كساد مهنة الثقافة صحافيني‪،‬‬
‫كيف ميكن أن نتحدث عن إعالم ثقايف يف ظل‬
‫انخفاض اإلنتاج الثقايف نفسه‪ ،‬كم من كتاب‬
‫ننرش سنويا؟ كم من فيلم وكم من مرسحية‬
‫ومن أغنية ؟‬
‫مازالت العالقة بني املبدع أو املنتج الفني والصحايف غري سليمة‪ ،‬األول يروج‬
‫أنه ميكن رشاء صحايف بربع دجاج (تهافت املحسوبني عىل الصحافة الثقافية‬
‫وانتشار الدخالء)‪ ،‬والصحايف يشكو من خواء اإلنتاج وميل املنتجني واملحسوبني‬
‫عىل اإلبداع إىل اجتذاب صحافيني أنصار‪ ،‬قاوقجية للرتويج‪ ،‬مل يتحول الصحايف‬
‫الثقايف إىل سلطة نقدية كام هو حر ّي به‪ ،‬طريق الخروج يجب أن يكون هناك‬
‫إعالم وطني أوال‪ ،‬ثم يجب أن يكون هناك صحافيون مختصون ثانيا‪ ،‬وأن يتواضع‬
‫السادة أصحاب املؤسسات اإلعالمية إلعطاء الثقافة حقها‪ ،‬والتوقف عن تكليف‬
‫شذاذ اآلفاق بالكتابة عن الفعل الثقايف‪.‬‬
‫آمال الشاهد (صحافية وإعالمية)‬
‫من الصعب القيام بتشخيص وضع أو واقع‬
‫االعالم الثقايف يف تونس خالل السنوات االخرية‬
‫بصورة مجردة ومن الصعب أكرث الحديث‬
‫عن االعالم الثقايف مبعزل عن واقع اإلعالم‬
‫عموما يف ح ّد ذاته ومبعزل عن واقع الثقافة‬
‫نفسها لقد ساهمنا جميعا يف تهميش الثقافة‬
‫الحقة ويف وضعها يف الصفوف االخرية من‬
‫دائرة اهتامماتنا وحديثنا‪ .‬مل تكن الثقافة قبل‬
‫السنوات الست االخرية اختيارا محوريا واضحا‬
‫ومكتمل املعاين‪ ،‬كانت هنالك محاوالت فردية «تخطى وتصيب» ولكن ال ميكن‬
‫الحديث عن اختيارات جوهرية عميقة ومدروسة يف مجال السياسة الثقافية‬
‫وهذا االمر تواصل بل قل استفحل خالل سنوات الثورة بسبب انكباب الجميع‬
‫عىل الشان السيايس اليومي يف معناه السطحي وبسبب عدم وجود رؤية واحدة‬
‫واضحة لدى من ميارسون السياسة ويتقلدون الحكم للشأن الثقايف‪ ،‬وبالتايل بقي‬
‫الشأن الثقايف يف تصوره اقرب إىل الفولكلور أو للتظاهر الجامعي الذي يعول عىل‬
‫الك ّم وعىل حشد الجامهري دون موقف نقدي ودون فهم الغايات املطلوبة أو‬
‫النتائج املامول تحقيقها‪ ،‬وبالتايل يف هذا الوضع من التخبط والسطحية واالرتجال‬
‫ماللذي ميكن أن نطلبه من اإلعالم الثقايف؟‬
‫لن نجد إجامال ويف غالبية االحوال دون السقوط يف التعميم إال نتيجة واحدة ‪:‬‬
‫«هذه بضاعتكم ردت إليكم‪.»...‬‬
‫ميكنني ذكر بعض االمور التي تؤخر أداء االعالم الثقايف خصوصا يف ظل املشهد‬
‫االعالمي الحايل املكتوب منه والسمعي والبرصي‪ ،‬االعالم العمومي بعيد جدا‬
‫عن األدوار التي من املفروض أن يؤديها وبالتايل هو ال يخدم الثقافة الوطنية‬
‫وال الثقافة االنسانية باألداء املطلوب وبالحجم والنوعية الالزمني‪ ،‬ولنقل إنه آن‬
‫األوان حتى يستفيق من سباته ومن استقالته‪ ،‬حتى يتمكن من دور القاطرة التي‬
‫تؤسس وتدافع عن مبادئ اإلعالم املهني وااليجايب وحتى يضطلع مبهامه الرئيسية‬
‫الثالث املتعارف عليها كونيا وهي اإلخبار والتثقيف والرتفيه (يف معناه السامي‬
‫والنبيل) أما اإلعالم الخاص فهو أبعد ما يكون يف شكله الحايل ويف خطه التحريري‬
‫الطاغي اليوم‪ ،‬عن الوعي بأهمية الثقافة والعلم والعمل واملعرفة وبالتايل فإنه‬
‫يختار يف غالبيته ثقافة اإلثارة واالستفزاز واللهث وراء الفضائح‪ ،‬إن صح التعبري‬
‫يف تسمية هذه املامرسات «ثقافة»‪ ،‬وأظن أنني لست يف حاجة إىل الحديث عن‬
‫وضع الصحف املكتوبة التي تتكبد مشاقا يف مواصلة الصدور والتي يعمد جزء‬
‫منها بني الفينة و االخرى اىل الطرد الجامعي للصحافيني العاملني فيها بتعلة‬
‫الصعوبات االقتصادية‪ ،‬فعن اي ثقافة وعن أي سياسة تحريرية ثقافية ستتحدث‬
‫مع املرشفني عليها؟ السؤال الثالث لن أطيل عليك وأكتفي بقول واحد‪ :‬عىل هذا‬
‫البلد ومؤسساته واملسؤولني عن سياسته وعىل شعبه أن يطرحوا عىل أنفسهم‬
‫سؤاال جوهريا‪ ،‬ماذا نريد وما هي الغايات التي نريد الوصول إليها وتحقيقها‪،‬‬
‫عند اإلجابة عن هذا السؤال سوف تتوضح حينها عالقتنا بالفعل الثقايف يف معناه‬
‫العميق‪ ،‬وعندها سنفهم مدى حاجتنا إىل الثقافة واملعرفة و إىل حرية الفكر‬
‫والخلق حتى نصل اىل تلك االهداف والغايات بعد ذلك سيبدو الطريق لنا واضحا‬
‫وسيكون منهج الوصول سهال جدا‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫موجز لتاريخ االعالم ال ّثقافي في تونس‬
‫من خالل المج ّالت والمالحق ال ّثقاف ّية‪.‬‬

‫*عاطف رجب‬
‫باحث في ال ّتاريخ‬

‫عتبة ‪:‬‬
‫مصطلح الثقافة الذي يشري إىل ّكل ما أنتجه البرش من أفكار وتصورات وعادات ونظم‬
‫اجتامعية وسياسية ومدلوالت اقتصادية وفعاليات أدبية فنية‪ ،‬هو يف الواقع وثيق الصلة‬
‫بفعل التواصل بني األفراد وبني الجامعات املختلفة وبني األمم والحضارات‪ .‬يف عرصنا هذا‬
‫يتجسد يف االعالم الذي ليس أداة لل ّتواصل االجتامعي والترّ ويج االخباري‬
‫فإ ّن فعل ال ّتواصل ّ‬
‫فحسب‪ ،‬بل هو رشيك حقيقي يف تكوين األدوات الفكرية واملفاهيم واملنظومات والقيم‬
‫الفاعلة يف الثقافة وانتشارها‪ ،‬كام أ ّن اإلعالم كان مساهام فاعال يف توليد الثقافة وجعلها‬
‫ضمن آليات الوعي الفردي والجمعي من أجل التغيري والتقدّم الحضاري‪.‬‬
‫ميكن الحديث اذن عن عالقة بني االعالم والثّقافة تصل إىل ح ّد الرتابط الوثيق وال ّتداخل‬
‫املستم ّر‪ ،‬فاالعالم مطالب بتقديم الدّعم للمنتوج الثّقايف والترّ ويج له وخلق جسور ال ّتواصل‬
‫بني املبدع واملتلقّي ّ‬
‫وبث االفكار الثّقاف ّية‪ ،‬وهنا نتحدّث عن االعالم الثّقايف أي االعالم الذي‬
‫يعالج األحداث والظّواهر والتط ّورات التي تعيشها الحياة الثّقافية‪ ،‬اذ أنّه باألساس يتو ّجه‬
‫لتحريك وتوجيه الوعي االنساين‪ ،‬ومن هذا املنطلق أردنا هذه القراءة املوجزة يف تاريخ‬
‫االعالم الثّقايف يف تونس من خالل االعالم املكتوب (الصحف واملجالت) بوصفه يحمل تقاليدا‬
‫عريقة يف تونس انطلقت منذ‪ 1860‬مع جريدة ال ّرائد التونيس‪.‬‬
‫*المجالّت األدبية والفكر ّية‪:‬‬
‫تظلّ مجلّة الفكر التي صدرت بني ‪ 1955‬و ‪1986‬لصاحبها «محمد مزايل» إحدى‬
‫أبرز املجالّت الثّقافيّة نظرا إىل اهتاممها مبشاغل املثقّف التّونيس والتّعريف‬
‫خاصة للشباب من الكتّاب والشّ عراء التّونسيني مثل جامعة‬
‫باملنجز اإلبداعي ّ‬
‫الطّليعة‪ ،‬لكن حسب تقديرنا كان يعوزها الحياد والعمل مبقتىض حريّة الفكر‬
‫الصحافة حيث كانت حكرا عىل مريدي الفكر البورقيبي رغم ادّعاء مرشفيها‬
‫و ّ‬
‫أنّها مفتوحة ملختلف التّيارات الفكريّة‪.‬‬
‫تخصصت يف الثّقافة وهي مجلّة الحياة الثّقافيّة التي ّأسسها الراحل‬
‫مجلّة أخرى ّ‬
‫محمود املسعدي سنة ‪ ،1971‬والتي بذلت جهدا يف ترويج الثّقافة التّونس ّية‬
‫والعمل من أجل املثقّف التّونيس‪ ،‬وهي مجلّة رسم ّية صادرة عن وزارة الثّقافة‪.‬‬
‫مجلّة قصص‪ّ :‬أسسها األديب محمد العرويس املطوي سنة ‪ 1966‬تصدر كل ثالثة‬
‫الصدور‬
‫أشهر عن ال ّنادي الثقايف «أبو القاسم الشّ ايب» بالوردية وهي متواصلة ّ‬
‫مختصة يف‬
‫إىل اليوم رغم ما تجده من صعوبات‪ .‬هذه املجلّة هي أقدم مجلّة ّ‬
‫القصة القصرية وفصوال من ال ّروايات‬
‫القصة يف العامل العريب تنرش مناذج من ّ‬
‫ّ‬

‫للقصة‬
‫ودراسات تنظرييّة يف مجال الكتابة القصصيّة وال ّدراسات التّقليديّة ّ‬
‫القصرية وال ّرواية‪.‬‬
‫إضافة إىل املجالّت املذكورة هنالك مجالت عديدة أخرى كان لها دور هام يف‬
‫خدمة املثقّف التّونيس مثل مجلّة االتحاف‪ ،‬مرآة الوسط‪ ،‬واملسار وهي مجلّة‬
‫اتّحاد الكتاب التّونسيني‪...‬‬
‫اختصت يف الثّقافة والعلوم االنسان ّية عىل‬
‫الب ّد من االشارة أيضا إىل نرشيّات ّ‬
‫غرار «ايبال» والتي تصدر من تونس منذ عام ‪1937‬عن معهد اآلداب العربية‬
‫الجميلة‪ ،‬وتعنى باآلداب العربيّة‪ ،‬كذلك نرشيّة مركز البحوث حول املغرب‬
‫تأسس سنة ‪1993‬بتونس‪ ،‬باإلضافة إىل فصلية حديثة ال ّنشأة وهي‬
‫املعارص الذي ّ‬
‫مجلّة الفكر الجديد التي صدر العدد األ ّول منها يف مارس‪ 2015‬وهي مجلّة‬
‫ثقاف ّية جامعة تصدر عن جامعة منوبة‪ ،‬ومجلّة الكاتب الح ّر وهي املجلّة التي‬
‫تصدرها رابطة الكتاب األحرار‪.‬‬
‫*المالحق الثّقاف ّية‪:‬‬
‫للصحف سواء ال ّناطقة باللّغة العرب ّية أو باللّغة الفرنس ّية‬
‫كان ّ‬
‫صفحات أو مالحق تعنى بالشّ أن الثّقايف سواء يف شكل‬
‫خاصة يف‬
‫صفحات أو مالحق مستقلّة وقد كان لها دور كبري ّ‬
‫مساعدة األقالم الشّ ابّة عىل الظّهور‪ ،‬وكانت همزة وصلت‬
‫بني املهت ّمني بالشّ أن األديب‪ ،‬ومن أبرز املالحق الثّقافية‬
‫ملحق العمل التّونيس‪ :‬العمل التّونيس هي الجريدة‬
‫ال ّناطقة باسم الحزب الح ّر الدّستوري التّونيس‪ ،‬تح ّولت‬
‫صفحاتها الثّقاف ّية إىل ملحق ثقايف مستقلّ منذ سنة‪1968‬‬
‫بإرشاف األديب ع ّز الدين املدين‪ ،‬احتضن هذا امللحق‬
‫رموز حركة الطّليعة األدبيّة وحركة الشّ عر املنجمي‪،‬‬
‫الساحة الثّقافيّة‪ ،‬انبثقت‬
‫كام مثّل امللحق باباً لدخول ّ‬
‫منه أسامء عديدة مثل محمد صالح بن عمر‪ ،‬الطاهر‬
‫الهاممي‪ ،‬نافلة ذهب‪ ...‬وغريهم من الكتاب التّونسيني‪ ،‬وتواصل هذا امللحق يف‬
‫الصدور بعد‪ 1987‬وتح ّول من جريدة العمل إىل جريدة الحرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ملحق جريدة الشعب‪ :‬جريدة الشعب هي ال ّناطقة باسم االتّحاد العام التّونيس‬
‫للشغل‪ ،‬بعد أحداث ‪ 1978‬وصدام الحزب الحاكم واالتّحاد‪ ،‬برز ملحق جريدة‬
‫الشعب الثّقايف بإرشاف «أحمد حاذق العرف»‪ ،‬وأصبح امللحق محلّ تنافس بني‬
‫األقالم امله ّمة‪ ،‬ومن أهم األسامء التي نرشت يف هذا امللحق أوالد أحمد ومنصف‬
‫املزغ ّني ومحمد الغ ّزي وغريهم‪.‬‬
‫الصدور أواخ َر الثّامنينات‪ ،‬لينبثق من جديد سنة ‪2012‬‬
‫انقطع امللحق عن ّ‬

‫الشعب الثقايف وسنة‬
‫‪ 2004‬إىل سنة‪2007‬‬
‫منارات ‪ 45‬عددا ويف سنة ‪2016‬‬
‫باسم «منارات» كذلك يف تجربتها الثانية‪.‬‬
‫الصحافة‪ ،‬بدأ صدوره منذ‪ 1993‬واكتسب‬
‫ورقات ثقافيّة‪ :‬امللحق الثّقايف لجريدة ّ‬
‫رسيعا إشعاعاً مهماّ فقد كان منربا ً للكتّاب املجدّدين‪ ،‬نرشت فيه الكثري من‬
‫ال ّنصوص الشعرية وال ّنرثيّة املجدّدة إضافة إىل ورقات نقديّة ذات قيمة‪ ،‬قبل أن‬
‫الصدور يف ‪.2009‬‬
‫يتوقّف هذا امللحق عن ّ‬
‫جريدة الصباح كان لها أيضا ملحقها الثّقايف الذي مثّل فضاء للتعريف بالكتّاب‬
‫الشّ بان‪ ،‬صحف أخرى لها صفحات ومالحق ثقاف ّية مه ّمة مثل الرأي العام‬
‫الشرّ وق واملغرب‪...‬‬
‫الصحف ثقافيّة باألساس تعمل عىل تقديم مادّة ثقافيّة‬
‫يف مهدها كانت كلّ ّ‬
‫مه ّمة وتضاهي الكتب واملجالّت األدبية لكن‬
‫انخراطها يف منظومة الدّعاية واإلشهار كان عىل‬
‫الصفحات الثّقاف ّية مماّ أدّى إىل اندثار أغلب‬
‫حساب ّ‬
‫املالحق الثقافيّة تقريبا‪.‬‬
‫مث ّة بعض األسباب األخرى املساهمة حسب تقديرنا‬
‫يف تراجع دور املالحق الثقاف ّية واملجالّت األدبية ومنها‬
‫رسعة‬
‫دخول الشعوب العربية يف عرص العوملة بصفة مت ّ‬
‫الصورة‬
‫وبالتايل م ّرت من الثّقافة الشفهيّة إىل استهالك ّ‬
‫الصحف واملجالّت‪.‬‬
‫دون أن تكتسب عادة استهالك ّ‬
‫الصحف التّونسية وإن اهت ّمت‬
‫السبب اآلخر هو أ ّن ّ‬
‫بالثّقافة فإنّها مل تنج ْح إىل ح ّد ما يف إخراج الثّقافة من‬
‫ميس الفكر والفلسفة‬
‫رشنقة األدب إىل أفق ثقايف أرحب ّ‬
‫والعلوم اإلنسانيّة األخرى‪..‬‬
‫عتبة الخروج‪:‬‬
‫نخْلص إىل أ ّن املجالت واملالحق الثّقافية لعبت دورا مهماّ يف الثّقافة التّونسيّة‪،‬‬
‫يك تجد كُوى أخرى من خالل شبكات األنرتنيت‬
‫وهي وإن اندثرت ورقيّا ف ْ‬
‫ومواقع التّواصل االجتامعي تطلّ منها عىل قارئ مختلف ومتجدّد‪ ،‬ونجحت إىل‬
‫ح ّد ما يف تبديل خالياها امل ّيتة‪.‬‬
‫*أردنا لهذه القراءة أن تتجاوز املنطق العلمي للتّاريخ لتأخذ طابعا تقييميّا‬
‫لوضع اإلعالم الثّقايف املكتوب دون أن نُغفل الجانب التّاريخي الذي رسم هيكل‬
‫هذه القراءة‪.‬‬

‫تعوض الحيطان الفايسبوك ّية «المالحق اإلبداعية»‬
‫هل ّ‬
‫صالح بن عياد‬
‫كاتب ومترجم تونسي‬
‫ال ّ‬
‫يكف عن التغيرّ شكال ومعنى‪ .‬تغيرّ يف معامل الكتابة ابتداء من‬
‫شك يف أ ّن مفهوم الكتابة ال ّ‬
‫أدواتها وصوال إىل عمقها إذ نستطيع أن نلمح انقراضا شبه كليّ للشكل الكالسييك للكتابة‬
‫ورقي لتتضح معامل أخرى لكتابة باتت تع ّرف ب»الكتابة‬
‫اليدوية بواسطة قلم عىل محمل ّ‬
‫ال ّرقميّة» والتي لها خصائصها كام كانت للكتابة القدمية خصائصها‪ ،‬ال شطب يف الكتابة‬
‫فالنص يتشكّل عىل الشّ اشة بإيعاز وإعانة أوتوماتك ّية يف إصالح األخطاء‪ ،‬إلخ‪...‬‬
‫ال ّرقم ّية مثال‪ّ ،‬‬
‫النص شكال ومعنى‪ ،‬فنحن أمام معايري جديدة ومغايرة‬
‫عىل‬
‫تأثري‬
‫العوامل‬
‫سيكون لهذه‬
‫ّ‬
‫للمعايري الكالسيكية املعروفة مام يستوجب حتام قراءة جديدة مبعايري جديدة وربمّ ا نقدا‬
‫جديدا‪ .‬سنالحظ مثال أ ّن الخطأ اللغو ّي مل يعد ليثري نفس ردة الفعل أو الريبة التي تصل إىل‬
‫النص يف زمن ليس بالبعيد‪ .‬لقد تناقص ثقل الخطأ اللغوي متجهني ربمّ ا‬
‫«الفضائحي» يف تق ّبل ّ‬
‫إىل املعنى أكرث منه إىل املبنى‪ ،‬ومع دخول ع ّدة رموز من نوع آخر واختالط اللغات ببعضها‬
‫البعض تصل إىل ح ّد كتابة العربيّة بالحروف الالتينية‪.‬‬
‫بعد الصحف والجرائد واملجالت ثم التدوين‪ ،‬مثّل الفيس بوك واجهة‬
‫زجاجية لعرض اإلبداع األديب خاصة من ِقبَ ِل ما نصطلح عليه ب"املبدع‬

‫كل ناقد محبط‪ .‬مع أننا قد نالحظ يف هذا املجال أن اعتباطا ما قد‬
‫الشاب"‪ ،‬فيها ينرش ويطلع ويتطلّع ويناقش‪ .‬حرك ّية ستتعارض عن ّ‬
‫نكف عن الرت ّدد‪ .‬يحكم املكتوب يف عالقته باملرفق من صورة وغريه‪ ،‬كأن نجد يف أكرث من‬
‫مع إعالنات محبطة ملوت األدب بأنواعه التي ال ّ‬
‫إعالنات ملوت رسير ّي لنوع من الكتابة األدبية تطلع علينا من حني مثال مشهدا طبيعيّا جميال موضوعا مع جملة تتحدث عن األحاسيس‬
‫إىل آخر من نقّاد وشعراء يف حني أننا نستطيع االدعاء أن األدب ميارس الشخص ّية لصاحب الحائط وغريها من الثغرات التي ميكن الوقوف‬
‫عندها‪ .‬ستكون جدية التعامل مع الفيس بوك‬
‫حياته بكل ألقها يف مستوى آخر أكرث تفاعال ربمّ ا مماّ‬
‫بوصفه موقعا اجتامعيا هي الفيصل‪ ،‬إنك لتطرب‬
‫يتوقعه البعض ممن هم داخل املؤسسة بكل سيقانها‬
‫الحقيقي هنا وهناك من تلك‬
‫أحيانا وتلمس األدب‬
‫األخطبوطية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الستاتوات اللماّ حة واملثقلة املعاين والجامل ّيات‪ .‬كام‬
‫عىل الفايسبوك وبنرش مبارش فور ّي سهل دون‬
‫أ ّن الكاتب الحقيقي ودون أدىن ّ‬
‫شك يكون ج ّديا عىل‬
‫إيداع قانو ّين يرمي املبدع مبنتجه ليُشفع عىل الفور‬
‫على الفايسبوك‬
‫الورق أو املوقع االجتامعي أو املد ّونة أو حتّى يف‬
‫بالتعاليق والتفاعالت‪ ،‬طريقة قد تؤث ّر عىل املا ّدة‬
‫حواراته بأحد املقاهي‪.‬‬
‫فوري‬
‫املكتوبة وحتى كاتبها‪ .‬أ ّما إمكانية أن نرفق ما نكتب وبنشر مباشر ّ‬
‫هل من املمكن أن نسلّم أن أدبا ما بصدد التشكّل أو‬
‫بصورة أو فيديو أو مقطوعة موسيقية نخالها يف صالح‬
‫سهل دون إيداع‬
‫خاصة‬
‫نصنا مل نخيرّ إيراده أو هو من قبيل‬
‫قانوني يرمي المبدع تشكّلت مالمح له عىل حيطان 'الفيس بوك'؟ ّ‬
‫النص أو نصا عىل ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لكل‬
‫بعد أن أصبح هذا املوقع االجتامعي جامعا ّ‬
‫عىل‬
‫قامئا‬
‫ا‬
‫ز‬
‫ي‬
‫ومت‬
‫ا‬
‫ري‬
‫تأث‬
‫منتجنا‬
‫ستزيد‬
‫التي‬
‫االستعارة‬
‫ّ‬
‫بمنتجه ل ُيشفع على‬
‫الرشائح البرشيّة عىل اختالفاتها‪ ،‬الكتاب والشعراء‬
‫هنا‬
‫وها‬
‫نهاية‪،‬‬
‫مصاحبة السمعي للبرصي للمكتوب‬
‫الفور بالتعاليق‬
‫وغريهم من مامريس مهنة الكتابة‬
‫تتسع الكتابة األدبيّة لتتزاوج مع الفنون األخرى بعيدا‬
‫والتفاعالت‬

‫‪11‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫الصحافة‬
‫نفوذ ّ‬

‫*‬

‫تعريب المنتصر الحملي‬

‫الصحافة‬
‫الصحافيني» ‪ -‬وليس كذلك ّ‬
‫ليس املوضوع هنا «سلطة ّ‬
‫باعتبارها «سلطة رابعة» ‪ -‬بل هو ال ّنفوذ الّذي متارسه آليات حقل‬
‫السوق (سوق الق ّراء واإلعالنيني)‬
‫صحايفّ ما انفكّ يخضع إىل متطلّبات ّ‬
‫الصحافيني) ومن ث َّم‪ ،‬وجزئ ّيا من‬
‫الصحافيني أ ّوال (واملثقّفني ‪ّ -‬‬
‫عىل ّ‬
‫خاللهم‪ ،‬عىل مختلف حقول اإلنتاج الثّقايفّ‪ ،‬كالحقل القانو ّين والحقل‬
‫العلمي‪ .‬املسألة إذن هي فحص كيف‬
‫األد ّيب والحقل الف ّن ّي والحقل‬
‫ّ‬
‫أ ّن اإلكراه الهيك ّيل الّذي ميارسه هذا الحقل‪ ،‬الخاضع هو نفسه إىل‬
‫السوق‪ ،‬يغيرّ جوهريّا بهذه الدّرجة أو تلك موازين القوى يف‬
‫إكراهات ّ‬
‫داخل مختلف الحقول‪ ،‬مؤثّرا بذلك يف ما يُف َعل وما يُن َتج فيها وتاركا‬
‫أثرا شبيها جدّا يف جميع تلك العوامل املتباينة جدّا ظاهريّا‪ .‬سنفحص‬
‫هذا دون أن نقع يف أحد الخطأين املتقابلني ال ّتاليني‪ ،‬وهْم ال ّنفي‬
‫املطلق ووهْم ال ّتأكيد الدّائم‪.‬‬
‫منطق‬
‫الصحا ّيف ومن خالله ُ‬
‫إ ّن ال ّنفوذ الّذي ميارسه الحقل ّ‬
‫السوق يف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف‪ ،‬حتّى األكرث استقالل ّية منها‪،‬‬
‫ّ‬
‫ليس باألمر الجديد متاما‪ :‬بإمكاننا دون عرس مستعينني‬
‫بنصوص لكتاب من القرن املنرصم‪ ،‬أن نرسم جدوال واقعيّا‬
‫متاما للتّأثريات األكرث عموم ّية الّتي ينتجها داخل هذه العوامل‬
‫املحم ّية‪ .‬لك ّننا يجب ألاّ نتجاهل خصوص ّية الواقع ال ّراهن‬
‫الّذي‪ ،‬من وراء االتّفاقات ال ّناجمة عن تأثري التّامثالت‪،‬‬
‫خاصيات غري مسبوقة نسبيّا‪ :‬فالتأثريات الّتي يصنعها‬
‫يعرض ّ‬
‫الصحا ّيف‪ ،‬ومن خالله‪ ،‬يف بق ّية حقول‬
‫تط ّور التّلفاز يف الحقل ّ‬
‫اإلنتاج الثّقا ّيف جميعها‪ ،‬هي أه ّم كثافة وانتشارا مبا ال يُقاس‬
‫ناعي مع ظهور‬
‫من تلك الّتي أفرزها ظهور األدب ّ‬
‫الص ّ‬
‫الطّباعة الكربى والورق املق ّوى‪ ،‬ما أدّى إىل شعور الكتّاب‬
‫باإلهانة أو بالغضب الّذي انبثقت منه‪ ،‬حسب راميون‬
‫ويليامز‪ ،‬التّعريفات الحديثة لـ»الثّقافة»‪.‬‬
‫الصحا ّيف عىل مختلف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف‬
‫ميارس الحقل ّ‬
‫مجموعة من التّأثريات املرتبطة‪ ،‬يف شكلها وفعاليتها‪،‬‬
‫الصحافيني‬
‫الصحف و ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬أي بتوزيع مختلف ّ‬
‫ببنيته ّ‬
‫وفقا الستقالليتهم إزاء القوى الخارج ّية‪ ،‬ونعني قوى سوق‬
‫الق ّراء وسوق اإلعالنيني‪ .‬ودون ّ‬
‫شك‪ ،‬تُقاس درجة استقاللية‬
‫وسيلة إخباريّة ّما بنصيبها من العائدات املاليّة املتأتّية من‬
‫اإلشهار ومن معونة الدّولة (يف شكل إشهار أو تعويض)‬
‫وكذلك بدرجة متركز اإلعالنيني‪ .‬أ ّما عن درجة استقالل ّية‬
‫الصحافة (الّذي‬
‫الصحا ّيف الفرد فمرتبطة أ ّوال بدرجة متركز ّ‬
‫ّ‬
‫بتقليصه من عدد املشغّلني املحتملني يضاعف من هشاشة‬
‫الصحف‪،‬‬
‫الشّ غل)‪ ،‬ومرتبطة ثانيا مبوقع صحيفته يف فضاء ّ‬
‫أي مبدى اقرتابه من القطب «الفكر ّي» أو من القطب‬
‫«التّجار ّي»‪ ،‬وثالثا مبوقعه داخل الجريدة أو وسيلة اإلعالم‬
‫(مرتسم‪ ،‬مص ّحح‪ ،‬إلخ‪ )..‬الّذي يحدّد مختلف الضّ امنات‬
‫ّ‬
‫املهن ّية (املرتبطة بالشّ هرة خصوصا) الّتي يحصل عليها‬
‫وأجرته كذلك (وهو عامل قو ّي للوقوع تحت تأثري األشكال‬
‫ال ّناعمة للعالقات العا ّمة وللتّبعيّة إزاء املنتجات الغذائيّة‬
‫أو التّجاريّة الّتي ميا َرس من خاللها تأثري الوصيني‪ ،‬وهي‬
‫مرتبطة أخريا بقدرته عىل اإلنتاج املستقلّ للمعلومة‬
‫املبسطني للعلوم أو‬
‫(كام هو حال بعض ّ‬
‫الصحافيني مثل ّ‬
‫الصحافيني االقتصاديني)‪ .‬من الواضح فعال أ ّن مختلف‬
‫ّ‬
‫رصف ليس فقط عرب‬
‫ّ‬
‫السلطات‪ ،‬الحكوميّة منها خصوصا‪ ،‬تت ّ‬
‫اإلكراهات االقتصاديّة الّتي هي قادرة عىل مامرستها بل‬
‫كذلك عرب كلّ الضّ غوط الّتي يسمح بها احتكار املعلومة‬
‫ونخص بالذّكر منها املتأتّية من املصادر ال ّرسميّة‪،-‬‬
‫القانو ّين ‪ّ -‬‬
‫للسلطات الحكوميّة أ ّوال ولإلدارة أيضا‬
‫فهذا االحتكار يعطي ّ‬
‫للسلطات القضائ ّية والعلم ّية‪ ،‬إلخ‪،‬‬
‫(الشرّ طة مثال) وكذلك ّ‬
‫الصحافيني وتحاول فيه‬
‫مع‬
‫يضعها‬
‫أسلحة يف الصرّ اع الّذي‬
‫ّ‬
‫التّحكّم يف املعلومات أو يف األعوان املكلّفني بنقلها‪ .‬يف حني‬
‫الصحافة من جهتها أن تتحكّم يف املاسكني باملعلومة‬
‫تحاول ّ‬
‫رصف الحرص ّي فيها‪.‬‬
‫ت‬
‫ال‬
‫حق‬
‫وضامن‬
‫عليها‬
‫الحصول‬
‫سعيا إىل‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫السلطة ال ّرمزيّة االستثنائ ّية الّتي متنحها‬
‫ننىس‬
‫أن‬
‫دون‬
‫هذا‬
‫ّ‬
‫إىل سلطات الدّولة القدرة‪ ،‬عن طريق أفعالها وقراراتها‬
‫الصحا ّيف‪ ،‬عىل تحديد جدول أعامل‬
‫وتدخّالتها يف الحقل ّ‬

‫بقلم بيار بورديو‬

‫الصحف‪.‬‬
‫األحداث وسلّم أولوياتها الّتي تفرض عىل ّ‬
‫حافي‪:‬‬
‫بعض خصائص الحقل ّ‬
‫الص ّ‬
‫الصحا ّيف يف تعزيز ما هو‬
‫لنفهم كيف يساهم الحقل ّ‬
‫ٍ‬
‫«صاف»‪ ،‬واملنتجني األكرث‬
‫«تجار ّي» عىل حساب ما هو َ‬
‫السياسيّة‬
‫السلطات االقتصاديّة و ّ‬
‫قابليّة للوقوع يف إغواء ّ‬
‫متسكا بالدّفاع عن مبادئ املهنة‬
‫عىل حساب املنتجني األكرث ّ‬
‫وقيمها يف صلب جميع الحقول‪ ،‬ينبغي يف نفس الوقت أن‬
‫ندرك أنّه ينتظم وفق بنية مامثلة لبنية بقيّة الحقول وأ ّن‬
‫وزن «التّجار ّي» فيها أكرب بكثري‪.‬‬
‫الصحا ّيف كام هو يف القرن التّاسع عرش حول‬
‫تشكّل الحقل ّ‬
‫املعارضة بني الجرائد الّتي تقدّم قبل كلّ يشء «أخبارا»‪،‬‬
‫ستحسن أن تكون مثرية واألفضل «مؤثّرة»‪ ،‬والجرائد الّتي‬
‫يُ َ‬
‫ومتمسكة بأن تظهر متيّزها عن‬
‫تقرتح تحاليل و»تعاليق»‬
‫ّ‬
‫األوىل من خالل التّأكيد بوضوح عىل قيم «املوضوع ّية»‪.‬‬
‫كان الصرّ اع مجاال للتّعارض بني منطقني ومبدأين للشرّ ع ّية‪:‬‬
‫التّحقّق من خالل القيمة األسمى‪ ،‬املمنوحة إىل أولئك‬
‫الذين يق ّرون بشكل كامل بالـ»قيم» أو املبادئ الدّاخليّة‪،‬‬
‫والتّحقّق من خالل العدد األكرب من الق ّراء أو املستمعني‬
‫أو املشاهدين‪ ،‬إذن من خالل أرقام املبيعات (األكرث مبيعا‬
‫‪ )best-sellers‬والربح املا ّيل‪..‬‬
‫الصحا ّيف إذن‪ ،‬مثله مثل الحقل األد ّيب والحقل‬
‫الحقل ّ‬
‫الف ّن ّي‪ ،‬هو مجال ملنطق مخصوص‪ ،‬وتحديدا ثقا ّيف‪ ،‬يفرض‬
‫الصحافيني من‬
‫نفسه عىل ّ‬
‫خالل الضّ غوط واملراقبة‬
‫املتقاطعة الّتي ميارسها البعض‬
‫منهم عىل البعض اآلخر‪ ،‬منطق‬
‫ميثّل احرتامه (املوصوف أحيانا‬
‫ديونطولوجي) أساسا‬
‫بأنّه‬
‫ّ‬
‫لسمعة الكرامة املهنيّة‪.‬‬
‫الصحا ّيف‪ ،‬مثله‬
‫لكن الحقل ّ‬
‫يس والحقل‬
‫مثل الحقل ّ‬
‫السيا ّ‬
‫االقتصاد ّي‪ ،‬وأكرث من الحقل‬
‫العلمي أو الف ّن ّي أو األد ّيب أو‬
‫ّ‬
‫حتّى القانو ّين‪ ،‬خاضع باستمرار‬
‫السوق‪ ،‬من‬
‫إىل امتحان أحكام ّ‬
‫خالل املعاقبة املبارشة من‬
‫ال ّزبائن أو غري املبارشة من‬
‫نسبة املشاهدين أو املستمعني‬
‫(حتّى وإن كانت معونة الدّولة‬
‫تضمن استقالليّة محدّدة إزاء‬
‫السوق املبارشة)‪ .‬كام‬
‫إكراهات ّ‬
‫الصحافيني هم دون ّ‬
‫شك‬
‫أ ّن ّ‬
‫أكرث نزوعا إىل تب ّني «مقياس‬
‫نسبة املشاهدة» يف اإلنتاج («أنجز ببساطة»‪« ،‬أنجز دون‬
‫إطالة»‪ ،‬إلخ) أو يف تقويم املنتوج وحتّى املنتجني (مقبول‬
‫تلفزيون ّيا‪ ،‬يباع ج ّيدا‪ ،‬الخ) عندما يكونون يف مناصب أرقى‬
‫(مدير قناة‪ ،‬رئيس تحرير‪ ،‬إلخ) يف جهاز مرتبط بشكل مبارش‬
‫بالسوق (قناة تلفزيّة تجاريّة مقابل قناة ثقافيّة‪ ،‬إلخ)‪،‬‬
‫أكرث ّ‬
‫الصحافيني األكرث حداثة واألقلّ استقرارا يف املهنة‬
‫عكس ّ‬
‫الّذين عىل العكس منهم ينزعون إىل جعل مبادئ املهنة‬
‫وقيمها يف مواجهة املتطلّبات‪ ،‬األكرث واقع ّية أو األكرث بذاءة‪،‬‬
‫لـ»السابقني» عليهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫يف إطار املنطق املخصوص لحقل مو ّجه نحو إنتاج هذا‬
‫الخري الفاين الّذي هو الخرب‪ ،‬ينزع التّنافس عىل ال ّزبائن‬
‫إىل أن يتّخذ شكل التّنافس عىل األولويّة‪ ،‬أي عىل األخبار‬
‫(السكوب)‪ - ،‬وهذا طبعا بقدر االقرتاب أكرث‬
‫األكرث جدّة ّ‬
‫السوق ال ميا َرس إالّ بواسطة‬
‫من القطب التّجار ّي‪ .‬إ ّن إكراه ّ‬
‫السكوبات املبحوث‬
‫تأثري الحقل‪ :‬بالفعل‪ ،‬إ ّن عددا من هذه ّ‬
‫عنها واملعتبرَ ة ورقات رابحة لغزو ال ّزبائن محكوم عليها بأن‬
‫تظلّ غري معلومة من الق ّراء أو من املشاهدين وبأالّ يراها‬
‫الصحافيني هم وحدهم من يقرؤون‬
‫إالّ املتنافسون (ذلك أ ّن ّ‬
‫الصحف‪ .)...‬إ ّن التّنافس عىل األولويّة‪ ،‬املرسوم يف‬
‫مجمل ّ‬

‫بنية الحقل ويف آلياته‪ ،‬يستدعي ويش ّجع األعوان الحائزين‬
‫الصحا ّيف‬
‫عىل التّدابري املهن ّية املتّجهة نحو وضع كلّ ال ّنشاط ّ‬
‫رسع) والتّجديد املستم ّر‪ .‬إنّها تدابري‬
‫يف إطار السرّ عة (أو التّ ّ‬
‫الصحافيّة نفسها الّتي‪،‬‬
‫تع ّززها باستمرار زمنيّة املامرسة ّ‬
‫بإجبارها الق ّراء عىل العيش والتّفكري كلّ يوم ليومه وعىل‬
‫تقويم معلومة ّما حسب راهن ّيتها (إنّه شغف األخبار‬
‫التّلفزيّة باألخبار)‪ ،‬تش ّجع عىل وجود نوع من فقدان‬
‫لبي الستعراض‬
‫الذّاكرة الدّائم الّذي هو الوجه اآلخر ّ‬
‫الس ّ‬
‫الجديد وأيضا عىل امليل إىل الحكم عىل املنتجني واملنتوج‬
‫حسب التّعارض بني «الجديد» و»القديم»‪.‬‬
‫لهذا الحقل تأثري آخر‪ ،‬متناقض متاما‪ ،‬وغري مساعد عىل‬
‫تأكيد االستقالليّة الجامعيّة أو الفرديّة‪ :‬هو أ ّن التّنافس يدفع‬
‫جسس‬
‫إىل مامرسة رقابة دامئة (ميكن أن تصل إىل ح ّد التّ ّ‬
‫املتبادل) عىل أنشطة املتنافسني‪ ،‬من أجل االستفادة من‬
‫إخفاقاتهم بتفادي أخطائهم‪ ،‬والتّصدّي لنجاحاتهم مبحاولة‬
‫استعارة وسائل نجاحهم املفرتَضة‪ ،‬مثال محاور األعداد‬
‫الخاصة الّتي يشعرون برغبة يف إعادتها‪ ،‬والكتب الّتي‬
‫ّ‬
‫عدّدها غريهم «وال ميكن عدم الحديث عنها»‪ ،‬واملدعوون‬
‫الّذين من الضرّ ور ّي مشاهدتهم‪ ،‬واملواضيع الّتي ال ب ّد من‬
‫الصحافيون‬
‫«تغطيتها» أل ّن آخرين اكتشفوها بل وحتّى ّ‬
‫الّذين يتنافسون عىل جلْبهم ليس فقط بسبب ال ّرغبة‬
‫يف حيازتهم بل كذلك من أجل إبعادهم عن منافسيهم‪.‬‬
‫هكذا ينزع التّنافس يف أغلب‬
‫األحيان‪ ،‬يف هذا الحقل كام يف‬
‫غريه‪ ،‬ودون أن يكون مولّدا آليّا‬
‫لألصالة وللتّن ّوع‪ ،‬إىل تشجيع‬
‫التّامثل يف العرض‪ ،‬هذا ما ميكننا‬
‫بسهولة االقتناع بوجوده من‬
‫خالل مقارنة مضامني الجرائد‬
‫األسبوع ّية الكربى أو القنوات‬
‫اإلذاع ّية أو التّلفزيّة ذات نسبة‬
‫املشاهدة العالية‪.‬‬
‫دخل‪:‬‬
‫تأثيرات ال ّت ّ‬
‫الصحا ّيف‬
‫ينزع نفوذ الحقل ّ‬
‫إىل أن يق ّوي يف كلّ حقل من‬
‫املؤسسات‬
‫الحقول األعوان و ّ‬
‫القريبة من القطب األكرث‬
‫السوق‪.‬‬
‫خضوعا لتأثري العدد و ّ‬
‫وتكون ق ّوة هذا التّأثري بقدر‬
‫ما تكون الحقول الّتي تعاين‬
‫منه هي نفسها خاضعة بنيويّا‬
‫بشكل دقيق إىل هذا املنطق‪،‬‬
‫وكذلك بقدر ما يكون الحقل‬
‫الصحا ّيف هو نفسه أكرث خضوعا‪ ،‬حسب الظّروف‪ ،‬إىل‬
‫ّ‬
‫اإلكراهات الخارجيّة الّتي‪ ،‬تؤثّر فيه بنيويّا أكرث من غريه‬
‫من حقول اإلنتاج الثّقا ّيف‪ .‬غري أنّنا نالحظ اليوم عىل سبيل‬
‫املثال أ ّن العقوبات الدّاخل ّية متيل إىل فقدان ق ّوتها ال ّرمزيّة‬
‫الصحف «الجدّيني» يفقدون إشعاعهم‬
‫الصحافيني و ّ‬
‫وأ ّن ّ‬
‫ويضط ّرون هم أيضا إىل القيام بتنازالت لفائدة منطق‬
‫السوق والتّسويق‪ ،‬الّذي جاء به التّلفاز التّجار ّي‪ ،‬ولفائدة‬
‫ّ‬
‫هذا املبدأ الجديد للشرّ ع ّية الّذي هو نيل االعرتاف من خالل‬
‫العدد و»قابليّة املشاهدة اإلعالميّة»‪ .‬منطق ومبدأ قادران‬
‫السياسيّة)‬
‫عىل أن يوكال إىل بعض املنتجات (الثّقافيّة وحتّى ّ‬
‫اطي ظاهريّا‬
‫أو إىل بعض «املنتجني» مه ّمة البديل الدّميقر ّ‬
‫املختصة‪ .‬إ ّن‬
‫عن العقوبات املخصوصة الّتي تفرضها الحقول‬
‫ّ‬
‫الصحافيني‪،‬‬
‫بعض «التّحاليل» يف التّلفاز مدينة بنجاحها لدى ّ‬
‫خصوصا منهم األكرث تأثّرا بفعل نسبة املشاهدة‪ ،‬إىل أنّها‬
‫تضفي نوعا من الشرّ ع ّية الدّميقراط ّية عىل املنطق التّجار ّي‬
‫السياسة‪ ،‬وبالتّايل بلغة‬
‫وذلك باكتفائها بالتّعبري بلغة ّ‬
‫االستفتاء‪ ،‬عن مشكل اإلنتاج والبثّ الثّقافيني‪.‬‬
‫الصحا ّيف الّذي يخضع‬
‫هكذا‪ ،‬ينزع تعزيز نفوذ الحقل ّ‬
‫بدوره أكرث فأكرث إىل الهيمنة املبارشة أو غري املبارشة للمنطق‬

‫التّجار ّي إىل تهديد استقالليّة مختلف حقول اإلنتاج الثّقا ّيف‬
‫األخرى وذلك بتقويته يف صلب كلّ حقل منها مكانة األعوان‬
‫املؤسسات املع ّرضة أكرث من غريها إىل االستسالم إلغراءات‬
‫و ّ‬
‫«الخارجي»‪ ،‬ألنّها أقلّ غنى يف رأس املال املخصوص‬
‫ال ّربح‬
‫ّ‬
‫(العلمي أو األد ّيب إلخ) وأقلّ ضامنا للمرابيح املخصوصة‬
‫ّ‬
‫الّتي يضمنها لها الحقل فوريّا أو عىل املدى البعيد نسب ّيا‪.‬‬
‫الصحا ّيف نفوذه عىل بق ّية حقول اإلنتاج‬
‫ميارس الحقل ّ‬
‫الثّقا ّيف (يف مجال الفلسفة والعلوم االجتامعيّة بالخصوص)‬
‫أساسا من خالل تدخّل املنتجني الثّقافيني املوجودين يف‬
‫املختصة‬
‫الصحا ّيف والحقول‬
‫ّ‬
‫مكان غري ثابت بني الحقل ّ‬
‫الصحافيون»‬
‫‬‫ّفون‬
‫ق‬
‫«املث‬
‫(أدب ّيا كان أو فلسف ّيا إلخ)‪ .‬هؤالء‬
‫ّ‬
‫الذين يستخدمون انتامءهم املزدوج لالنفالت من متطلّبات‬
‫السلطات الّتي‬
‫العاملني املخصوصة وليحملوا إىل كلّ منهام ّ‬
‫اكتسبها العامل اآلخر‪ ،‬هم قادرون عىل مامرسة تأثريين‬
‫كبريين‪ :‬من ناحية أوىل إدخال أشكال جديدة لإلنتاج‬
‫الثّقا ّيف توجد يف منطقة بينيّة غري محدّدة بدقّة بني التّخفّي‬
‫الصحا ّيف‪ ،‬ومن ناحية ّأخرى‪ ،‬خصوصا‬
‫الجامعي والتّجليّ ّ‬
‫ّ‬
‫من خالل أحكامهم ال ّنقديّة‪ ،‬فرض مبادئ تقويم املنتجات‬
‫السوق يف‬
‫الثّقافية التّي تنزع‪ ،‬مبوافقتها عىل ظهور عقوبات ّ‬
‫السلطة الفكريّة وبتعزيزها الستسالم بعض أصناف‬
‫مظهر ّ‬
‫املستهلكني العفوي إىل الوعي املقلوب باألدوار ‪،Allodoxia‬‬
‫إىل تعزيز تأثري نسب املشاهدة أو قامئة األعىل مبيعا يف‬
‫تق ّبل املنتجات الثّقاف ّية وكذلك بشكل غري مبارش يف اإلنتاج‬
‫من خالل توجيه االختيارات (اختيارات ال ّنارشين مثال) نحو‬
‫منتجات أقلّ رصامة وأكرث مبيعا‪.‬‬
‫هكذا ميكن أن تصبح عدّة مكاسب تحقّقت بفضل‬
‫استقالل ّية الحقل وبفضل قدرته عىل مقاومة الطّلبات‬
‫املرتفة‪ ،‬الّتي يرمز إليها اليوم مقياس نسب املشاهدة‬
‫وقصدها كتّاب القرن املنرصم حني انتفضوا ض ّد فكرة أ ّن‬
‫َ‬
‫الف ّن (ميكن قول نفس الشيّ ء بخصوص العلم) يجب أن‬
‫عبي‪ .‬إزاء هذا الخطر‪ ،‬توجد‬
‫يخضع إىل حكم االستفتاء الشّ ّ‬
‫اسرتاتيجيتان ممكنتان تتواتران نسبيّا حسب الحقول‬
‫ودرجة استقالليتها‪ :‬إ ّما وضع حدود صارمة للحقل ومحاولة‬
‫إعادة رسم الحدود املهدّدة بتطفّل منط التّفكري والفعل‬
‫العاجي (وفق الطّريقة‬
‫الصحافيني عليه‪ ،‬أو مغادرة برجه‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الّتي دشّ نها زوال) لفرض القيم ال ّنابعة من القبوع يف الربج‬
‫املختصة‬
‫العاجي‪ ،‬واستخدام كلّ الطّرق املتاحة يف الحقول‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الصحا ّيف نفسه ملحاولة‬
‫أو يف خارجها وكذلك يف صلب الحقل ّ‬
‫أن يفرض عىل الخارج املكاسب والفتوحات الّتي صارت‬
‫ممكنة بفضل االستقالليّة‪.‬‬
‫علمي‬
‫توجد رشوط اقتصاديّة وثقافيّة للوصول إىل حكم ّ‬
‫عبي (أو من‬
‫مستنري وال ميكن أن نطلب من االستفتاء الشّ ّ‬
‫سرب اآلراء) أن يحسم مشكالت العلم (رغم أنّنا نفعل ذلك‬
‫أحيانا بطريقة غري مبارشة ودون أن نعي ذلك) دون أن‬
‫العلمي نفسها‪ ،‬أي‬
‫يقيض يف نفس الوقت عىل رشوط اإلنتاج‬
‫ّ‬
‫عىل حاجز الدّخول الّذي يحمي املدينة العلم ّية (أو الف ّن ّية)‬
‫من االقتحام املد ّمر ملبادئ اإلنتاج والتّقويم الخارج ّية‪،‬‬
‫وبالتّايل غري ال ّنظيفة وغري املالمئة‪ .‬ولك ّننا ال يجب أن نستنتج‬
‫من هذا أ ّن الحاجز ال ميكن اجتيازه يف االتّجاه اآلخر وأنّه‬
‫من املستحيل العمل عىل إعادة توزيع دميقراط ّية للمكاسب‬
‫الّتي صارت بفضل االستقالل ّية ممكنة‪ .‬وهذا برشط أن ندرك‬
‫بوضوح أ ّن أ ّي عمل يرمي إىل إشاعة املكتسبات األكرث‬
‫العلمي أو الف ّن ّي األكرث تقدّما يفرتض مراجعة‬
‫ندرة للبحث‬
‫ّ‬
‫احتكار وسائل إذاعة هذه املعلومة (العلم ّية أو الف ّن ّية) الّتي‬
‫الصحا ّيف فعل ّيا‪ ،‬وأيضا نقد تقديم انتظارات‬
‫ميتلكها الحقل ّ‬
‫أكرث ال ّناس الّتي تصنعها الدّمياغوجيا التّجاريّة ألولئك الّذين‬
‫وسط بني املنتجني الثّقافيني وال ّنسبة‬
‫لهم اإلمكانيات للتّ ّ‬
‫الكبرية من املستهلكني‪.‬‬
‫*‪ ،»»l’emprise du journalisme‬هو ملحق كتاب‪:‬‬
‫«‪ ،»Sur la télévision‬لبيار بورديو‪ ،‬منشورات‬
‫««‪ Raisons D’agir‬الطّبعة ‪. 2006 ،31‬‬

‫‪12‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫قافي في تونس‬
‫اإلعالم ال ّث ّ‬

‫الخشبي اله ّزاز‪ ،‬واالسم الخاسر‬
‫الحصان‬
‫ّ‬
‫شفيق طارقي‬
‫شاعر وروائي من تونس‬

‫عندما جاءت الثّورة‪ ،‬صدّقناها‪ ،‬ح ّتى أنّنا مل نجد حرجا‪ ،‬ونحن نفتح‬
‫لحرضتها باب البيت أن نستقبلها يف بيجاما ال ّنوم وأعددنا لها من‬
‫عبق الشّ هداء عشاء دسام وجعلنا لها من أحالمنا مرشوبا‪ ،‬قبل‬
‫مغادرة البيت لشأن‪ ،‬منحناها مفاتيحه‪ ،‬وب ّجلنا مقامها‪ ،‬واستأم ّناها‬
‫عىل مدّخراتنا وعىل زوجاتنا واألطفال‪ ،‬مل نبطئ‪ ،‬ولكن فاجأنا ونحن‬
‫نحاول طرق الباب‪ ،‬أن ال باب لنطرقه‪ ،‬دلفنا فوجدنا غرباء يف البيت‪،‬‬
‫وزوجات أنكرننا‪ ،‬وأطفاال قد أهملوا واجبهم وركبوا فيام ركبوا حصانا‬
‫ه ّزازا‪ ،‬مزدحمني عىل صهوته لرياهنوا عىل اسم خارس‪.‬‬
‫ونيس أ ّن زائرته الّتي طاملا‬
‫لقد حسب املثقّف التّ ّ‬
‫انتظرها‪ ،‬وكثريا ما صاغها قصائد مل يقرأها إلاّ امللعونون‪،‬‬
‫وأغا َين مل يحفظها إلاّ القلّة‪ ،‬ورسوما موغلة يف التّجريد‪،‬‬
‫وأفالما مل تعرض‪ ،‬حسب أنّها لن تخلف عهدا‪ ،‬وأ ّن‬
‫السمسمة الواقعة‬
‫تحقّقها حدثا جعل من تونس تلك ّ‬
‫بالحق‪،‬‬
‫محب للح ّريّة‪ ،‬كلف ّ‬
‫جنوب ّ‬
‫املتوسط‪ ،‬غاية ّكل ّ‬
‫ستتبعه حلقات وشموس مرشقة قدرها أن ال تغرب‪ ،‬لقد‬
‫حسب الكاتب أ ّن نصوصه ستصبح خبزا يوم ّيا‪ ،‬وخال‬
‫امللتزم أ ّن أغانيه سريدّدها العماّ ل‪ ،‬وتتب ّناها جمعيّات‬
‫بدب البندا‪ ،‬وظ ّن ال ّر ّسام أ ّن ألوانه ستحيد قليال‬
‫ال ّرفق ّ‬
‫عن ظلمتها‪ ،‬وتو ّهم أهل املرسح واملشتغلون بالف ّن‬
‫الساعة قد حانت‪ ،‬ليكون التّمثيل رشيكا يف‬
‫السابع أ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫إمناء الوعي وش ّد عضده‪ ،‬ولكن هيهات‪ ...‬أما ّين بحجم‬
‫الكون عقدت يف الثّورة‪ ،‬وعقدت أكرث يف دعمها من قبل‬
‫اإلعالمي‪ ،‬أمال يف أن يتوضّ أ عن سوءات سابقة‬
‫اإلعالم‬
‫ّ‬
‫بدماء الشّ هداء‪ ،‬ليكون جديرا باملرحلة‪ ،‬وأمال يف أن يقلع‬
‫عن "لوك" الواقع ويتجاوز عن هفوات ونقائص أ ّولناها‬
‫قدميا بحذاء الحاكم‪ ،‬ووجدنا لها عذرا يف نكد ال ّدنيا‪،‬‬
‫نطل عىل‬
‫اليومي‪ ،‬وحليب األطفال‪ ،‬ظللنا ّ‬
‫يف متطلّبها‬
‫ّ‬
‫املشهد من ثقب يف الباب‪ ،‬حني واربناه وتركنا مفاتيح‬
‫البيت لدى زائرة‪ ،‬استأم ّناها عىل ما يف البيت وعىل من‬
‫فيه‪ ،‬فجازت تلك الثّقة باستدعاء الغرباء‪.‬‬
‫قصة‬
‫لقد ّ‬
‫ظل املثقّف شأنه يف ذلك شأن "بول" بطل ّ‬
‫الخشبي اله ّزاز واالسم الفائز"‪،‬‬
‫"الحصان‬
‫لورنس‪،‬‬
‫د‪.‬ه‪.‬‬
‫ّ‬

‫الحي من امل ّيت ويعيد‬
‫يراهن عىل إعالم ثقا ّيف يخرج ّ‬
‫إىل املكتوب بهاء حروفه‪ ،‬وإىل املسموع جالل أثريه‪،‬‬
‫الصورة‪ ،‬ويزيح غبارا‪ ،‬طاملا أغىش‬
‫وإىل املر ّيئ وضوح ّ‬
‫األبصا َر وأضَ َّل عقوال‪ ،‬ولكن يبدو أ ّن قدر األشياء اآلن‬
‫وهنا‪ ،‬يف تونس‪ ،‬أن ال تتغيرّ ‪ ،‬بل إ ّن قدرها أن ترتاجع‪،‬‬
‫رص عىل ما كان‪ ،‬وأن تنترص لألردأ‪ ،‬فلقد هام اإلعالم‬
‫وت ّ‬
‫وفرسانه‪ ،‬يف وديان ليس بها من زرع‪ ،‬ليكون املشهد فيام‬
‫للساسة‪،‬‬
‫نقرأ وفيام نسمع وفيام تبرص أعيننا‪ ،‬مشاعا ّ‬
‫يخْتصمون عىل اللاّ يشء‪ ،‬ومشاعا لقضايا واهية‪ ،‬تجاوزها‬
‫العقل البرش ّي‪ ،‬ولتفاهات ال تغني وال تسمن شعبا من‬
‫وليظل الوعي‬
‫جوع‪ ،‬وامت ّد الوهن‪ ،‬لتكون الفرقة ديدننا‪ّ ،‬‬
‫الجمعي مرتهنا بسخافات‪ ،‬ومشغوال عماّ يحيطه من‬
‫ّ‬
‫أخطار‪ ،‬بتطاحن أحزاب‪ ،‬وبفتاوى قروسط ّية‪.‬‬
‫لقد غفلت وسائل اإلعالم جميعها‪ ،‬عن الثّقا ّيف وأحالته‬
‫إىل ما يشبه التّقاعد املبكّر‪ ،‬يف الوقت الّذي ك ّنا ننتظر‬
‫يحتل الفعل الثّقا ّيف من املشهد أكرثه‪ ،‬وأن‬
‫فيه أن ّ‬
‫نبي املرحلة‪ ،‬ومرتجمها إىل أعامل‬
‫يف‬
‫ّقا‬
‫ث‬
‫ال‬
‫يكون الفاعل‬
‫ّ ّ‬
‫إبداعيّة‪ ،‬تستكمل الشرّ ط الثّور ّي وتع ّززه برؤى جدد‬
‫وبأبعاد متيض به صعدا يف آفاق متغايرة‪ ،‬فاملثقّف‬
‫الصحا ّيف‪ ،‬وكذلك صوته‪ ،‬وأ ّما صورته‬
‫عبء عن حرب ّ‬
‫فيبغضها "الكامريامان"‪ ،‬وإذا صادف أن ريض القوم عىل‬
‫سيّدهم‪ ،‬فإ ّن إحضاره كثريا ما يرادف تغييبه‪ ،‬يحرض يف‬
‫صفحات ثقاف ّية حضورا محتشام يف مساحات ض ّيقة‬
‫ملؤلّف جديد‪ ،‬أو لتظاهرة‪ ،‬ويف برامج مسموعة تنقل‬
‫غصته‪ ،‬ومتى استثنينا يف التّلفاز برامج‬
‫صمته‪ ،‬وتواري ّ‬
‫ُمر َجأة إىل سا ّعات من اللّيل متأخّرة‪ ،‬فإ ّن حضوره فيها‬
‫جل‬
‫يظل دون املأمول‪ ،‬بل إ ّن برامج وهي األشهر يف ّ‬
‫ّ‬
‫القنوات واألكرث بلغة اإلحصائيّات متابعة تق ّدمه يف‬
‫وضع كاريكاتور ّي‪ ،‬ال يخلو من بؤس‪ ،‬وتسطّح عمقه‪،‬‬
‫وتش ّوه فكره‪ ،‬غايتها من ذلك وغاية أصحابها تهميش‬
‫املثقّف وتقدميه يف صورة املغ ّرد خارج السرّ ب‪ ،‬وج ّره من‬
‫خالل أسئلة مو ّجهة إىل أن يكون مثريا‪ ،‬حتّى يطاله تهكّم‬
‫العا ّمة وازدراؤهم لواسع علمه بضيق آفاقهم الفكريّة‪،‬‬
‫وبضحل ما استق ّر لديهم من ثوابت‪.‬‬
‫الصحافة املكتوبة منيّز يف تونس مجلّة‬
‫عىل مستوى ّ‬
‫ثقاف ّية وحيدة يسعى القامئون عليها إىل تجويدها‪ ،‬مبا‬

‫ال ينكر‪ ،‬وهي مجلّة الحياة الثّقاف ّية‪ ،‬ولك ّن حضورها‬
‫يظل غري كفيل بتطلّعات املثقّف‪ ،‬ودون أمانيه‪،‬‬
‫اليتيم ّ‬
‫متى قارنّاها مبجلاّ ت أُخرى يف العامل العر ّيب‪ ،‬وأ ّما املالحق‬
‫تخصصها بعض الجرائد ملا هو ثقا ّيف ففي انحدار‬
‫الّتي ّ‬
‫لعدم ج ّديّة املنكبّني عليها‪ ،‬ولعدم إميانهم يف الغالب مبا‬
‫الصحافة املسموعة‪ ،‬فنم ّيز‬
‫يفعلون‪ ،‬وأ ّما عىل مستوى ّ‬
‫ال ّدور الّذي تقوم به إذاعة تونس الثّقاف ّية‪ ،‬وهو محمود‬
‫يف ح ّد ذاته‪ ،‬فقد استطاعت وسط هذه العتمة أن تكون‬
‫اإلرشاقة‪ ،‬وأن تكاشف حقيقة الوضع الثّقا ّيف مكاشفة‬
‫محمود ًة يف جميع مجاالته‪ ،‬وأن تطلع ال ّناس عىل أسامء‬
‫مغمورة‪ ،‬وأن تن ّبه إىل طاقات مبدعة يكاد يتغ ّمدها‬
‫اإلحباط‪ ،‬وأ ّما عىل املستوى املر ّيئ‪ ،‬فإ ّن بيت الخيال‪،‬‬
‫يظل املنارة الوحيدة يف تلفزاتنا‪ ،‬وقد استطاع‬
‫فيام نعتقد ّ‬
‫ونيس بال ّنخبة وأن‬
‫ت‬
‫ال‬
‫صلة‬
‫ّد‬
‫ط‬
‫يو‬
‫أن‬
‫قضايا‬
‫مبا أثاره من‬
‫ّ ّ‬
‫يق ّربه من إشكاالت هو أبعد ما يكون عنها‪.‬‬
‫يايس‪،‬‬
‫الس‬
‫عىل‬
‫ونيس بعد الثّورة مبراهنته‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫إ ّن اإلعالم التّ ّ‬
‫يكون قد راهن عىل الحصان الخارس‪ ،‬فقد تح ّول من‬
‫ميثّلها من رؤساء أحزاب أو قياديّني فيها‪ ،‬ومن ن ّواب‬
‫"حطّبت لهم رياح ال ّدميقراطيّة"‪ ،‬إىل نجوم مل تزد ليل‬
‫تونس إلاّ كدرا‪ ،‬ومل تنتج يف نفس املتلقّي إلاّ وثوقا‬
‫بإفالس الجامعة‪ ،‬وبوهن برامجهم‪ ،‬وبخل ّو الوفاض إلاّ‬
‫من وعود لن تتحقّق‪ ،‬وإىل جانب هذا الحصان الخارس‪،‬‬
‫أمالت وسائل اإلعالم عنايتها إىل حفظة يلوكون املرو َّي‪،‬‬
‫ويثريون إشكاالت أقىص ما ميكن أن تُوصف به أنّها‬
‫مضحكة يف زمن ي ْنحو منحى ما بعد حداثته‪ ،‬فرتى‬
‫الجاهل منهم واملطم ّنئ إىل ما س ّجلت ذاكرته يف زمن‬
‫األقراص املضغوطة‪ ،‬يجادل أهل العلم وسدنة املنهج‪،‬‬
‫ويناظرهم‪ ،‬يحدث هذا يف الوقت الّذي تزخر فيه بالدنا‬
‫بأسامء دالّة يف حقول ثقافيّة متع ّددة‪ ،‬أثبتت يف زمن‬
‫والعاملي‪ ،‬فجاءت‬
‫الخسائر نجاحاتها عىل املستوى العر ّيب‬
‫ّ‬
‫باالعرتاف من خارج أسوار الوطن‪ ،‬يف الشّ عر ويف ال ّرواية‬
‫مؤسساته مل يلتفت‬
‫السينام‪ ،‬ولك ّن اإلعالم رغم تع ّدد ّ‬
‫ويف ّ‬
‫إىل هذا التّتويج وإىل أصحابه إلاّ قليال‪ ،‬بل إ ّن البعض قد‬
‫طاله التّجاهل‪ ،‬وكأ ّن األمر يدور يف كوكب آخر‪ ،‬واإلعالم‬
‫املؤسسات الحاضنة للفعل الثّقا ّيف‬
‫شأنه يف ذلك شأن ّ‬
‫وعىل رأسها الوزارة الّتي مل تكلّف نفسها عناء تكريم‬

‫وفاة عالم وأكاديمي عظيم!!‬
‫السوسيولوجيا واالقتصاد السيايس والنقد االديب والتاريخ والجغرافيا موضوعات‬
‫دراسية وبحثية قدمية نسبيا يف العامل ويف العربية كذلك «علم النفس» هو متأخر‬
‫نسبيا يف الظهور ويرجع إىل الثورة الفرويدية الفضل يف تدشينه علام حديثا له‬
‫قواعد وأسس نظرية بعد فرويد تفرقت السبل فكان اتجاه مثله يونج وآخرون‬
‫واستمرت التقاليد الفرويدية وتطورت يف ما يسمى الالكانية‪.‬‬
‫يف املنطقة العربية كان االنطالق يف مجال علم النفس يف مرص وعىل يد الثاليث‬
‫«مصطفي زيوار»‪-‬جامعة عني شمس و«مصطفي سويف» يف جامعة القاهرة‬
‫ومصطفى صفوان الذي أىت من االسكندرية واستقر يف باريس ليقود الالكانية‬
‫عمل مصطفى صفوان عىل االنتهاء من الرتجمة العربية لتفسري األحالم‬
‫لسيجموند فرويد والذي راجعه مصطفى زيوار وعمل طوال الوقت يف التحليل‬
‫النفىس َوقّاد املدرسة الالكانية للتحليل النفيس‪.‬‬
‫بينام عمل سويف عىل سيكولوجيا اإلبداع وهو ما أسهم فيه بعدد من‬
‫األعامل امله ّمة وتتلمذ عىل يديه العديد وكان آخر أعامله املحارصة االحتفالية‬
‫سيكولوجيا الحكمة والتي خرصها الكثري من زبدة املثقفني يف جامعة القاهرة‬
‫وكانت موضوع ملناقشات فكرية مه ّمة‪.‬‬

‫تلقينا مبزيد من الحزن واألمل نبأ رحيل العامل الفذ «دكتور مصطفى‬
‫سويف» وهو أحد ثالثة مؤسسني لعلم النفس يف البالد العربية مع‬
‫«د‪ .‬مصطفى زيوار» ومع «د‪.‬مصطفى صفوان» بينام قام سويف‬
‫بتأسيس قسم علم النفس بجامعة القاهرة قام «زيوار» بتأسيس‬
‫القسم يف جامعة «عني شمس» بينام أصبح صفوان رائد للتحليل‬
‫النفيس يف فرنسا وهو الذي قام برتجمة «تفسري األحالم» لفرويد‬
‫للغة العربية مبراجعة «زيور» وهي ترجمة ترتقي إىل العمل‬
‫اإلبداعي الكبري مع هوامش ومالحظات لعامل وفيلسوف كبري كان‬
‫هو من قام بإدارة جمعية التحليل النفيس يف فرنسا بعد «الكان» وقام بإجراء‬
‫التحليل النفيس ل «الكان» نفسه‪.‬‬
‫اتجه «سويف» اتجاه آخر إذ انرصف للتحليل النفيس لعملية اإلبداع نفسها فقد‬
‫كان أديبا يف مطلع شبابه ومؤلفاته يف هذا املجال رائدة ورمبا كانت متفردة يف‬
‫اللغة العربية وتض ّم عرشات املؤلفات وهو مؤسس أكادميية الفنون يف القاهرة‬
‫وأول عميد لها‪ ،‬وقام بالتدريس يف جامعة القاهرة وجامعة لندن‪.‬كانت رفيقة‬
‫دربة الدكتورة «فاطمة موىس» أستاذة األدب االنجليزي بجامعة القاهرة وهي‬

‫من رفع اسم تونس‪ ،‬وال ّ‬
‫سمي من‬
‫شك يف أ ّن املوقف ال ّر ّ‬
‫املثقّف مؤث ّر يف مدى عناية اإلعالم ووسائله بإنجازاته‪،‬‬
‫الصدد أن ّوه‬
‫ويف إرساء ال ّنكران عروة ُوثقى‪ ،‬ويف هذا ّ‬
‫بالتّكريم الّذي نال املبدعني املت ّوجني يف عرشيّة اإلذاعة‬
‫املؤسسة الّتي متثّل استثناء ما ّ‬
‫انفك‬
‫الثّقافيّة‪ ،‬هذه ّ‬
‫يكشف عن نفسه يف أكرث من مناسبة‪.‬‬
‫إ ّن ما مي ّيز اإلعالم الثّقا ّيف من ضعف عىل مستوى الك ّم‪،‬‬
‫كام الكيف‪ ،‬عائد إىل أسباب من بينها يف تقديري‪ ،‬عدم‬
‫مختصني يتملّكون آليّات اإلعالم الثّقا ّيف‪ ،‬وإن‬
‫وجود‬
‫ّ‬
‫وجدوا فإ ّن عدم إميان أعرافهم بالثّقافة‪ ،‬بل وازدراء‬
‫بعضهم لها‪ ،‬يثنيهم عن توظيف خرباتهم فيستكينون‬
‫إىل الجاهز‪ ،‬وينساقون يف جوقة ما يطلبه ال ّناس ق ّرا ًء‬
‫أو مستمعني أو مشاهدين‪ ،‬ومن األسباب الكامنة وراء‬
‫يايس‬
‫الخيبة‪ ،‬انشغال وسائل اإلعالم بعد الثّورة ّ‬
‫بالس ّ‬
‫يني وطرحهام بطريقة سطحيّة املقصد منها‬
‫وبال ّد ّ‬
‫اإلثارة‪ ،‬وتحقيق نسب قراءة أو استامع أو مشاهدة‬
‫أوسع‪ ،‬واعتبار الخرب الثّقا ّيف حصانا خارسا‪ ،‬ومن األسباب‬
‫أ ّن الثّقا ّيف وكذلك املثقّف هو آخر ما ميكن أن ميثّل مدارا‬
‫اهتامم الجهات ال ّرسميّة‪ ،‬ألنّه يف تقدير من ميثّلها ال يع ّد‬
‫سيايس تتحكّم به التّجاذبات‪،‬‬
‫فاعال وال مؤثّرا‪ ،‬يف واقع‬
‫ّ‬
‫ويسيطر عليه منطق الوالئم والغنائم‪ .‬ومن األسباب أ ّن‬
‫يجسد بها املثقّف قامئة‬
‫ّ‬
‫الصورة الّتي يحرص اإلعالم أن ّ‬
‫الحق‪ ،‬وإدراك ال ّناقص‬
‫عىل حرمان الفاضل من املبدعني ّ‬
‫من الّذين أقحموا أنفسهم يف عوامل الثّقافة‪ ،‬وهي‬
‫الصورة نفسها الّتي طاملا آملتنا قبل الثّورة‪ ،‬وتح ّولت‬
‫ّ‬
‫اليوم إىل ورم مستفحل‪.‬‬
‫ليس يأسا من املشاريع التّونس ّية مثلام رصخ الشّ ابيّ‬
‫ذات يوم‪ ،‬ولك ّنها الحرية‪ ،‬حريتنا إزاء واقع كاألكذوبة‪،‬‬
‫السياسيّني‬
‫وإزاء ثورة رسقت‪ ،‬وارتفعت بها حسابات ّ‬
‫البنك ّية وأفرغت بسببها حسابات املبدعني حتّى من‬
‫رصيدها املعنو ّي‪ ،‬ولست أدري أمازال من حقّنا أن‬
‫أجمل‪،‬‬
‫نحلم‪ ،‬وأن ن ّدعي ولو مجازا أ ّن القادم سيكون َ‬
‫الصمت هو املقاربة الوحيدة لواقع‬
‫أم أ ّن الصرّ اخ‪ ،‬ح ّد ّ‬
‫أكف عن ه ّز حصاين‪ ،‬وسأنتظر‬
‫إعالمي ثقا ّيف‪ .‬شخص ّيا لن ّ‬
‫ّ‬
‫الحصان الفائز‪ ...‬ذاك الّذي لن يأيت‪.‬‬

‫ناقدة ومرتجمة وأستاذة مربزة ولها عديد‬
‫الرتجامت للكالسيكيات للعربية ورمبا كان‬
‫آخر إنتاجها ترجمتها لرائعة ابنتها «أهداف»‬
‫من االنجليزية «خريطة الحب» وهي الرواية‬
‫الحاصلة عىل جائزة البوكر العاملية عام ‪.1999‬‬
‫ملصطفى سويف أرسة من املربزين يف مجالت‬
‫مختلفة فابنته «د‪.‬ليىل سويف» أستاذة‬
‫الرياضيات يف جامعة القاهرة وجامعات فرنسا‬
‫والناشطة الحقوقية التي ال تكلّ وال متل وابنته «د‪.‬اهداف سويف» وهي روائية‬
‫ذات سمعة عاملية ولها عديد الروايات املعروفه باالنجليزية والعربية وأستاذة‬
‫لألدب يف «انجلرتا» وكاتبة مرموقة يف «الجارديان» ويف عديد الصحف العربية‬
‫و«م ‪.‬عالء سويف» مهندس ونارش طليعي‪.‬‬
‫يرحل سويف بينام اثنان من أحفاده قيد االعتقال وهام «عالء عبدالفتاح»‬
‫و«سناء سيف» وهام من قيادات حركة الشبيبة الثورية الجديدة يف مرص‪.‬‬
‫حسني عبد الرحيم‬

‫‪13‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫قافي في تونس‪:‬‬
‫ث‬
‫ال‬
‫اإلعالم‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يكاد يكون موجودا ببوصلة معطوبة‬
‫ُ‬

‫أشرف القرقني‬
‫شاعر ومترجم تونسي‬

‫يف مق ّدمتها لكتاب «الغرفة ال ّرماديّة‪ :‬نظريّة جديدة لإلعالم األملا ّين»‪ ،‬تشري إيفا هورن‬
‫إىل أ ّن اإلجابة التي تجمع بني املساهمني يف الكتاب عىل سؤال «ما اإلعالم؟»تتمثّل‬
‫السؤال هو أحد أكرث األسئلة‬
‫فيام ييل‪« :‬ليس هناك إعالم»‪ .‬كام أنّها تعترب أ ّن هذا ّ‬
‫إثارة لنقاشات ساخنة وخالفات عديدة‪ّ .‬‬
‫املؤسسايتّ‬
‫قني و ّ‬
‫فبغض ال ّنظر عن املستوى التّ ّ‬
‫السياق‪« :‬يج ُد‬
‫لإلعالم‪ ،‬يظلّ هذا املفهوم يف عمقه غامئا وضبابيّا‪ .‬تقول هورن يف نفس ّ‬
‫ال ّدارسون اليوم أنفسهم أمام استحالة العثور عىل أرضيّة مشرتكة ملا يعنونه من خالل‬
‫عبارة»اإلعالم»‪.‬‬
‫إ ّن غياب مفهوم عا ّم ملصطلح اإلعالم يكون دقيقا وجل ّيا يف آنٍ ‪ ،‬هو‬
‫السبب حسب رأي الباحثة يف مأسسة ال ّدراسات اإلعالم ّية مماّ أ ّدى‬
‫ّ‬
‫إىل ضبط تعريفات ما قبل ّية مح ّددة بدقّة من أجل أن تخدم مطالب‬
‫مع ّينة للتوظيف العم ّيل لإلعالم‪.‬‬
‫باعتبارنا نق ّدم رأيا فيام يُس ّمى اإلعالم الثّقا ّيف‪ ،‬فنحن نتح ّرك خارج‬
‫الجامعي يف هذا املجال‪ .‬لك ّننا نق ّدم‬
‫السلطة التي مينحها االختصاص‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫مالحظات تلتقطها ع ُني شاعر يتح ّرك يف هذا املجال املس ّمى إعالما‬
‫ثقاف ّيا تح ّركا يجمع بني ال ّداخل والخارج‪.‬‬
‫ليست وسائلُ اإلعالم مج ّرد املجموع العا ّم للظّروف املتاحة إلمكان‬
‫وقوع حدث ّما‪ -‬من خالل نقل رسالة أو موضوع برص ّي طارئ أو‬
‫إعادة تقديم أشياء حدثت ‪ -‬وإنمّ ا هي أحداث يف ح ّد ذاتها لها آثارها‬
‫فكيف ميك ُن أن يصري اإلعال ُم حدثا‬
‫عىل املتعاملني معها صناعة وتق ّبال‪َ .‬‬
‫السياق؟ ما هي تأثرياته عىل املتلقّي (يف تونس عىل‬
‫(ثقاف ّيا) يف هذا ّ‬
‫باأليديولوجي واالقتصاد ّي؟‬
‫وجه التّخصيص)؟ ما صلة هذه الوسائل‬
‫ّ‬
‫كالصناعات األخرى؟‬
‫وكيف ميك ُن ضبط صناعة ليست ّ‬
‫يظلّ اإلعالم ثقاف ّيا كان أم خالفه مشكّال لنظام رمز ّي مهام اختلفت‬
‫تعريفاته واملفهومات ال ّنظريّة التي تق ّدم له عىل طبق رأس املال‪ .‬هذا‬
‫أساسا‪.‬‬
‫ال ّنظام ال ّرمز ّي مثل أ ّي نظام رمز ّي آخر هو أثر برش ّي يُنحت ً‬
‫وعمل ّية صناعته مو ّجهة نحو أهداف مرج ّوة‪ .‬ولعلّ أبرز ما يق ّدمه‬
‫هذا ال ّنظام هو السرّ ديّات املنسوجة من خالل ال ّرموز إ ْذ ترتاوح هذه‬
‫السرّ ديّات بني ما هو متخ ّيلٌ وما هو ُمنتقى بعناية‪.‬‬
‫تُبتدع السرّ ديّات لتنقل معنى مع ّينا حول أحداث منتقاة‪ .‬وهي‬
‫توهمنا باعتبارنا متلقّني لها أنّها بصدد كشف األمور كام هي‪ .‬وإن‬
‫كان االنتقاء مؤ ّديا إىل خلق بنية جديدة مغايرة ال ّداللة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫خاصة إىل‬
‫توصلت وسائل اإلعالم عا ّمة واإلعالم الثّقا ّيف ّ‬
‫فحتّى إن ّ‬
‫كشف األمور كام هي يف"الواقع"‪ ،‬فإنّها نادرا ج ّدا ما تساهم يف بيان‬
‫كيف ّية حدوثها وعلّة ذلك‪.‬‬
‫ال يشء يقوم عىل االختيار واملخ ّيلة دون أن يحمل هدفا أو وظيفة‪.‬‬
‫ولكن ما هو هذا الهدف؟ هل هو مج ّرد نقل حدث ثقا ّيف إىل جمهور‬
‫ال ّناس مهام كان هذا الحدث ومهام اختلفت رؤيته ورسالته؟ أم هو‬
‫وطني أم مج ّرد‬
‫املساهمة يف صنع الحدث الثّقا ّيف تأسيسا ملرشوع ّ‬
‫مسايرة ذائقة عا ّمة تحقيقا لل ّربح املحض؟ أم أ ّن مسألة الذّائقة نفسها‬
‫ليست سوى ا ّدعاء صار ركيكا يف إطار نحت هذه الذّائقة يف اتّجاه‬
‫مح ّدد؟ هل ينتمي اإلعالم الثّقا ّيف حقّا إىل مقوالت اإلعالم الكربى‬
‫الصناعات األخرى أم أ ّن‬
‫باعتباره صناعة ثقاف ّية ليست مثل جميع ّ‬
‫تلك الشّ عارات ليست سوى أدو ِات عمل ناجعة؟‬
‫فلْنرضب مثل التّلفاز إذن باعتباره سارد الحكايات الكو ّين واأل ّول يف‬
‫املجتمع الحديث‪ ،‬عىل ح ّد عبارة جورج غربرن‪ ،‬الباحث يف جامعة‬
‫بنسيلفانيا‪ .‬يرى غربرن أ ّن التّلفاز هو فضاء رمز ّي أكرث من كونه وسيطا‬
‫تقليديّا‪ .‬وفيام مل يولد ال ّناس بالفطرة لعامل التّلفزيون‪ ،‬فإ ّن عمل ّية‬
‫اختيارهم أو خلقهم تكون من أجل هدف مح ّدد‪ .‬وهذا ُ‬
‫الهدف هو‬
‫املؤسسات املنتجة‬
‫مدى صالح ّيتهم لتشكيل العامل ال ّرمز ّي الذي ترى ّ‬
‫وأعرافها وع ّرابوها أنّه قادر عىل خدمة أهدافهم‪ .‬هذه األهداف التي‬

‫يس‪.‬‬
‫يتشابك فيها ما هو اقتصاد ّي مبا هو‬
‫ايديولوجي وسيا ّ‬
‫ّ‬
‫وأبس ُط مثال عىل ذلك أ ّن املجموعات االجتامع ّية املهيمنة تنزع إىل‬
‫متثيل نفسها بشكل مهيمن أيضا يف وسائل اإلعالم‪ .‬فلننظر مثال إىل‬
‫حضور ال ّرجل يف وسائل اإلعالم مقابل حضور املرأة (يف املجتمعات‬
‫الذّكوريّة أساسا وحتّى تلك 'املتق ّدمة')‪ .‬ولننظر أيضا إىل حضور‬
‫السياق تجدر‬
‫الطّبقات الفقرية يف اإلعالم ومدى متثيلها‪ .‬ويف هذا ّ‬
‫اإلشارة إىل أ ّن اطّراد حضور هذه الطّبقات الفقرية بعد ‪ 14‬جانفي يف‬
‫يس ليس مو ّجها يف األغلب إالّ إىل غاية تحويل دموعهم‬
‫اإلعالم التّون ّ‬
‫السياق‬
‫مع‬
‫متناسقة‬
‫صورة‬
‫اكتساب‬
‫و‬
‫بح‬
‫ر‬
‫لل‬
‫مصدر‬
‫وآالمهم إىل‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫"الثّوري" املحقّق لل ّربح أيضا‪.‬‬
‫يقول كريون ألنتيغون بعد مقتل أخيها‪" :‬بعد ثورة فاشلة‪ ،‬هناك عمل‬
‫كثري‪ .‬أؤكّد لك هذا"‪.‬‬
‫تصطف معظم وسائل اإلعالم الثّقا ّيف واإلعالم عا ّمة يف تونس‬
‫لألسف ّ‬
‫اإلبداعي‬
‫إىل جانب كريون‪ .‬عملٌ كث ٌري يقوم عىل انتقاء شديد لألثر‬
‫ّ‬
‫والثقا ّيف املق ّدم‪ .‬وهذا االنتقاء يو ّجه عادة إىل منتوجات استهالك ّية‬
‫تنخرط متاما يف سياق الطّلب والعرض‪ .‬ولك ّن الطّلب ال يأيت بشكل‬
‫مبارش من الجمهور كام يحاول البعض إقناعنا متح ّججني بأ ّن املا ّدة‬
‫الثّقاف ّية التي تق ّدمها وسائلهم هي ما يريده الجمهور‪ .‬إنّها مغالطة‬
‫الحقيقي للبضاعة‪ ...‬ع ّرابها‬
‫ّلب يأيت من املنتج‬
‫اطّرد سامعها‪ .‬الط ُ‬
‫ّ‬
‫السياس ّيني األكرب وملقّنهم دروسهم يف‬
‫وصاحب أموالها‪ ...‬شقيق ّ‬
‫ٌ‬
‫املؤسسة‬
‫بني‬
‫وتبنى‬
‫ُنحت‬
‫ت‬
‫ة‬
‫مسأل‬
‫وفكره‬
‫األوملب‪ .‬إ ّن ذائقة شعبٍ ّما‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫التّعليم ّية والثّقاف ّية واإلعالم ّية وغري ذلك‪ .‬واألمر نفسه ينطبق عىل‬
‫عب يري ُد ما ينخر ُط يف نفس ال ّدائرة‬
‫ملكته يف التّفكري والتّحليل‪ .‬الشّ ُ‬
‫ترب يف خض ّمها وتشكّلت ذائقته وملكاته الفكريّة يف محيطها‪.‬‬
‫التي ىّ‬
‫ولذلك يشب ُه األمر رجال يصنع آلة يربمجها بدقّة‪ .‬ث ّم يقول اآللة تريدين‬
‫أن أربح أمواال بال عدد وأن أق ّدم خطابا ثقاف ّيا سطح ّيا يخدم أهداف‬
‫سياس ّيني سيجعلونني بدورهم أربح أمواال بال عدد‪ ،‬أدعمهم ببعضها‬
‫يف سياق انتخا ّيب ّما حتّى أربح فيام بع ُد أمواال أخرى بال عدد‪ .‬ال دخل‬
‫يل يف هذا‪ .‬اآللة تري ُده‪.‬‬
‫هت إليه‪ .‬وال متيز خبيثا من ط ّيب‪ .‬ربمّ ا ال‬
‫نعم اآللة تريده ألنّها و ّج ْ‬
‫حاجة إىل أمثلة كثرية عماّ أقول‪ .‬فيكفي أن ننظر إىل وسائل اإلعالم‬
‫البرصيّة باقتصارها عىل برنامج ثقا ّيف جا ّد وحيد تقريبا هو برنامج‬
‫ياحي‪" ،‬بيت الخيال" وهو يف اختالفه ذاك يعتمد عىل‬
‫ال ّروا ّيئ كامل ال ّر ّ‬
‫مجهودات فرديّة أكرث من أ ّي يشء آخر‪ .‬بال ّنسبة إىل اإلذاعات‪ ،‬لعلّ‬
‫اإلذاعة الثّقاف ّية مازالت يف بعض برامجها تحاول نحت زهرة يف حقل‬
‫املؤسسات اإلعالم ّية‬
‫من الشّ وك‪( .‬نالح ُظ أ ّن أكرث املوا ّد الجا ّدة تأيت من ّ‬
‫بحق‬
‫املطالبة‬
‫ين‬
‫العموم ّية‪ ،‬ربمّ ا الستطاعة املثقّفني واإلعالم ّيني الجا ّد‬
‫ّ‬
‫شعبٍ يف أمواله‪ ،‬إىل ح ّد ّما طبعا)‪.‬‬
‫بالصحافة املكتوبة فيمكننا أن نقول دون مبالغة أنّه‬
‫أ ّما فيام يتعلّق ّ‬
‫باستثناء هذا املنرب "منارات ثقافية"‪ ،‬يكا ُد ال يوج ُد أ ّي إعالم ثقا ّيف‬
‫الصفحات الثّقاف ّية يف الجرائد الوطن ّية عىل نرش بعض‬
‫جا ّد‪ .‬إذ تقترص ّ‬
‫املواعيد الثّقاف ّية ويف أحسن الحاالت تتض ّمن تغطية رسيعة ومقتضبة‬
‫لنشاط ثقا ّيف ّما مماّ يستطيع الجمهور أن يلقي عليه نظرة‪.‬‬
‫الصحف عن املالحق الثّقاف ّية‪ .‬ال أحد يري ُد أن يدفع ماال‬
‫تخلّت جميع ّ‬
‫اإلعالمي الثّقا ّيف أو غريه‬
‫العمل‬
‫ه‬
‫ز‬
‫نن‬
‫ال‬
‫نحن‬
‫عقال‪.‬‬
‫يوقظ‬
‫من أجل أن‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ايديولوجي باملعنى العميق للكمة أي مبعنى أ ّن كلّ ما يخدم‬
‫عماّ هو‬
‫ّ‬
‫ايديولوجي عىل ح ّد‬
‫فعل‬
‫هو‬
‫مصلحتها‬
‫إىل‬
‫ه‬
‫ج‬
‫مو‬
‫أو‬
‫ا‬
‫م‬
‫ة‬
‫ي‬
‫اجتامع‬
‫فئة‬
‫ّ ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫عبارة الشّ اعر والباحث العراقي فاضل العزاوي‪.‬‬
‫ايديولوجي مبعنى‬
‫فعل‬
‫بل إ ّن مامرسة اللغة يف ح ّد ذاتها هي‬
‫ّ‬
‫أنّها تحمل رؤية وموقفا‪ .‬لك ّننا نتح ّدث هنا عن االيدولوجيا ض ّيق ًة‬
‫وموصول ًة مبصالح رأس مال ال ميكن أن يكون غري موصول بالخارج‬
‫طبعا‪.‬‬
‫من يستفي ُد من شعبٍ ال ُ‬
‫يعرف تاريخه؟ ال يقرأ شعرا يف صحفه‪،‬‬
‫ال يشاه ُد نقاشات مفكّرين عىل شاشات التّلفاز‪ .‬إنّه مد ّجج فقط‬

‫سطحي ورسيع‬
‫بالسرّ ديّات الكربى تلك التي تحاول بشكل‬
‫ّ‬
‫أن تق ّدم تفسريا مطمئ ّنا ونهائ ّيا لألحداث الكربى يكون يسري‬
‫التّصديق ورسيع االنتقال وال ّرسوخ‪ .‬بلغة أخرى متنح وسائلنا‬
‫اإلعالم ّية الوهم الذي مت ّوله أعرافها وتحتاجه الحشود لتطم ّنئ‬
‫طأمنينة زائفة‪ ،‬سوف تُتع ّهد بالعناية والتّحيني‬
‫حتّى تظلّ راسخة‪.‬‬
‫متارس وسائل اإلعالم انتقاء مو ّجها‬
‫بشكل حا ّد يف البالد التّونس ّية‪ :‬هناك‬
‫خطابات ّما لن تسمعها يف إذاعة‬
‫أو تشاهدها عىل شاشات التّلفاز‪.‬‬
‫وبالطّبع يكفي أن تعرف أهلها‬
‫حتّى تق ّدم لهم سلفا بطاقة غيابهم عن وسائل‬
‫اإلعالم‪ .‬ميكنك أن تطلب رؤية الخيول ذات األجنحة الطّويلة‬
‫البيضاء بدل أن تأمل يف مشاهدة مرسح ّية عىل شاشة التّلفاز أو‬
‫فيلم لتاركوفسيك أو بريغامن أو توين غاتليف أو إمري كوستاريكا أو‬
‫موش أو غريهم‪.‬‬
‫دجيمجا ْر ْ‬
‫مختلف‪.‬‬
‫أ ّما بال ّنسبة إىل الحوارات الفكريّة والفلسف ّية‪ .‬فاألمر‬
‫ٌ‬
‫سلفي‬
‫سوف تج ُد الكثري منها يديرها سم ٌري ّما رفقة شيخ ّ‬
‫محاوريْن مح ّمد الطّالبي أو ماسخني لصورته‪ .‬وميكنك أيضا‬
‫أن تتف ّرج يف األدعياء يق َّدمون لك باعتبارهم سدنة هيكل‬
‫الفكر والفلسفة والثّقافة‪.‬‬
‫متأل وسائل اإلعالم عا ّمة حياة ال ّناس بكالم كثري‪ .‬لك ّن كْ ِريُو ْن‬
‫ملك طيبة ذلك ُ‬
‫امللك الذي حاول قتل الثّورة ض ّده يحمل‬
‫اإلجابة التي ألقاها عىل مسامع أنتيغون‪" :‬وحده الكالم الذي ال‬
‫نقوله صحيح‪ .‬ستتعلّمني ذلك أنت أيضا ولكن بعد فوات األوان"‪.‬‬
‫يف دراسة قامت بها منظّمة اليونسكو حملت عنوان‪" :‬الربامج‬
‫خصصت‬
‫الثّقاف ّية عىل القنوات العموم ّية للتّلفزات األوروب ّية" ّ‬
‫اللّجنة ال ّدارسة قسام من عملها لتقديم توجيهات تتعلّق بضبط‬
‫هذا املجال وهو مجال اإلعالم الثّقا ّيف انطالقا من حكم يعتربه‬
‫يس‪.‬‬
‫صناعة مختلفة عن بق ّية ّ‬
‫وطني أسا ّ‬
‫الصناعات وحماّ لة لدور ّ‬
‫تعترب اللّجنة أ ّن حضور ال ّدولة باعتبارها مساهام يف متويل املنابر‬
‫الخاصة يع ّد أمرا رضوريّا ال مناص منه‪ .‬وعىل هذا‬
‫اإلعالم ّية ّ‬
‫ال ّنحو ميكنها أن تتدخّل يف طبيعة الربمجة وشبكاتها تدخّال فاعال‬
‫وإيجاب ّيا ومو ّجها‪ ،‬حتّى تقوم بواجبها يف تثقيف مواطنيها ناشئة‬
‫وكهوال وعجائ َز‪ .‬وتق ّدم لهم ما ّدة ثقاف ّية تجمع بني التّوعية وتحفيز‬
‫القيم العا ّمة التي تتب ّناها ال ّدولة‪ .‬باإلضافة إىل تحفيز ملكة ال ّنقد‬
‫والتّفكري والتّحليل‪ .‬كام أ ّن لل ّدولة أن تقيم فروقا واضحة يف مسألة‬
‫التّمويل هذه استنادا إىل املعايري الثّقاف ّية والترّ بويّة‬
‫واللّسان ّية‪.‬‬
‫يف خامتة هذا القسم تشري اللّجنة‪" :‬يجب أالّ‬
‫الصناعات اإلعالم ّية‬
‫يغيب عن الوعي العا ّم أ ّن ّ‬
‫(السمع ّية البرصيّة) باعتبارها قسام من‬
‫ّ‬
‫الصناعات‪.‬‬
‫من‬
‫كغريها‬
‫ليست‬
‫ة‬
‫ي‬
‫ّقاف‬
‫ث‬
‫ال‬
‫ناعات‬
‫الص‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يجب أن تُدار من قبل أجهزة تضع يف‬
‫وعليه ُ‬
‫حسبانها هذه الخصوص ّية‪ .‬وهذا من بني أوكد‬
‫رهانات مستقبلها"‪.‬‬
‫ميكن لل ّدارسني إذن أن يبحثوا كيفام أرادو سبل‬
‫ِ‬
‫الخاص مبصطلح اإلعالم‪ .‬وأن يعملوا يف‬
‫نحت املفهوم ّ‬
‫مجال بحثهم الذي يعترب مهماّ ومركزيّا‪ .‬فنحن ال نقلّل من‬
‫أه ّم ّية جهودهم‪ .‬ولكن قبل كلّ يشء‪ ،‬علينا أن نح ّدد‬
‫معا‪ :‬ما هي األهداف التي نريد رسمها إلعالمنا الثّقا ّيف؟‬
‫وطني‬
‫كيف ميكنه أن يحقّق دوره يف التّأسيس ملرشوع ّ‬
‫منفتح ذي آفاق؟‬
‫وليح ّدد كلّ طرف بوصلته استنادا إىل ذلك‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫اإلعالم المكتوب وسياسة االغتيال الثقافي‬
‫عبد الفتاح بن حمودة (ايكاروس)‪.‬‬

‫يبدو املشهد اإلعالمي املكتوب يف تونس أشبه بحاضنة بيوض ميتة ألنّه ال يعري انتباها إىل الثقافة‪ ،‬فمن الوهم‬
‫الصحف السيارة أنّها تساهم يف خلق ثقافة بديلة وفاعلة من خالل إفراد صفحة أو صفْحتني لألخبار‬
‫حقّا أن تعتقد ّ‬
‫الثقافية الرسيعة مثل برامج املهرجانات الفنية أو نقل أخبار األمسيات األدبية أو الجوائز األدبية أو حتى لنرش‬
‫بعض النصوص أو الكتابات من هنا وهناك بدعوى التشجيع علی اإلبداع‪ ...‬إنّها صفحات ثقافية مزيّفة ال عالقة لها‬
‫باألدب أو الثقافة وزيفها ج ّيل دوما فام قيمة ما ينرش اليوم يف الصحف اليومية أو األسبوعية غري الهراء والهذيان؟‬
‫ويعود هذا الهزال التونيس يف الحقيقة إىل أسباب كثرية منها‪:‬‬
‫ـ عقلية احتقار األدب والثقافة التي ميارسها املديرون ورؤساء التحرير ورؤساء التحرير ورؤساء األقسام يف نظرتهم‬
‫البائسة والسطحية وعدائهم الدفني لكل ما هو ثقافة جادّة أصيلة وذلك لجهلهم بقيمة اإلبداع‪.‬‬
‫ـ عقلية الربح والتجارة املسيطرة عىل وسائل اإلعالم والبحث عن اإلثارة من خالل تركيزهم عىل ما هو سيايس‬
‫وإشهاري واقتصادي وريايض عىل حساب الثقايف واإلبداعي‪.‬‬
‫فقليال حقا ما أفردت الصحف التونسية بعد الثورة مالحق ثقافية جادة وظلّت عىل حالها أو ساء حالها بإفراد صفحات‬
‫ثقافية باهتة ال طعم وال لون لها إالّ ما ندر يف قراءات جادّة لنصوص أدبية أو حوارات مع ثلّة من املبدعني لكن هذه‬

‫خطك رديء‬
‫ّ‬

‫الصفحات الثقافية مل تصمد طويال بعد الثورة فأصابها الخمول والهزال نظرا إىل طغيان املشهد السيايس وتسلسل‬
‫األحداث السياسية واالقتصادية‪.‬‬
‫من هنا ارتأت أرسة جريدة الشعب وعىل رأسها االخ سامي الطاهري األمني العام املساعد املسؤول عن النرش واإلعالم‬
‫إيجاد ثقافة بديلة وطنية جادّة من خالل إعادة تجربة جادة وعريقة مع ملحق منارات ثقافية (‪ )2007/2004‬بعد‬
‫تجربة أوىل مع ملحق الشعب الثقايف (‪ )2002‬بعد بلوغ رصختي بنرش مقايل‪ :‬للصحافة الثقافية يف تونس الواقع‬
‫واآلفاق (الشعب عدد ‪ 629‬ص ‪ 19‬بتاريخ ‪ 3‬نوفمرب ‪ )2001‬الذي كشفت فيه الخلل الثقايف العام يف بالدنا بحثا عن‬
‫البدائل‪ ،‬فجريدة الشعب كانت رائدة يف خلق البديل للمرة الثلثة وها هي تعيد التجربة األصيلة للمرة الثالثة (مرتان‬
‫قبل لثورة ومرة بعد الثورة) إميانا من االتحاد العام التونيس للشغل بأ ّن الثقافة الجادة دعامة أساسية لكل إعالم‬
‫وبأن الثقافة هي الوحيدة التي تبني وطنا جميال شعبنا جدير به وذلك من خالل افتتاح مركز ثقايف ومكتبة للباحثني‬
‫لكل قلم ح ّر‬
‫والدارسني والقراء وإذاعة وطنية وملحق ثقايف هو اآلن رائد وال نظري له يف تونس بعد الثورة إنه ملحق ّ‬
‫وجا ّد يف الفن واألدب والثقافة‪ ...‬فقط من أجل وطن أجمل بأكرث من جناح‪.‬‬

‫اسمع يا اهلل‬

‫رضا العبيدي (شاعر تونسي مقيم في فرنسا)‬

‫كاظم خنجر (شاعر عراقي)‬

‫خطّك رديء أ ّيها الشّ اعر ّ‬
‫كخط الفقر متاما‬
‫وصوتك موجات راديو هرم كلّها زجر بال م ّد‬
‫املنفي يف داخيل‬
‫ال رغبة يل يف قراءتك أو سامعك أ ّيها الشّ اعر ّ‬
‫ال أريد أن أمتادى يف ال ّتحديق ح ّتى ال أرى شي ًئا ‪...‬‬
‫أريد بعيدا عن أوهامك‬
‫أن أقرأ بلزاك‬
‫وحني أحيص أصابعي‬
‫أريد أن أجد عرشة ال ألفا‬
‫ال أريد أن أصبح ملكا وال مالكا‬
‫الساموات‬
‫بخزائن مثقلة بال ّذهب وصكوك الغفران و ّ‬
‫وبجيوب أنف ّية مملوءة بالحدائق املهندسة‬
‫الصباح‬
‫يكفي حني أصحو كام يف هذا ّ‬
‫بكسل شجرة عقيمة يف باحة الحوش‬
‫أن أعرث عىل كرة صوف مهملة‬
‫قضت ليلها يف برد الخارج‬
‫ألتقطها وأالعب بها كلب البيت‬
‫السياج‬
‫أن أطعم األرانب خلف ّ‬
‫أكنس األغربة التي راكمها هواء البارحة‬
‫َ‬
‫أتحسس شوكة صغرية يف كفّي‬
‫ّ‬
‫أتف ّوه بكلمة خشنة بصوت خافت جدّا‬
‫وتن ّبهني بحركة خف ّية‬
‫الجار ُة القادمة للت ّو لرؤية أ ّمي‬
‫إىل قفل يف صدر قمييص‬
‫نسي ُته مفتو ًحا‪.‬‬

‫أيب‪ /‬أمي يتشاجران منذ ‪ 3‬ساعات‪ .‬ال أعتقد أنه سيقتلها‬
‫كام يهدد؛ ألن حديقة البيت صغرية وال تكفي لجثة‪.‬‬
‫نرشوا صورة جثته عىل ال«فيسبوك»‪ ،‬أخي األصغر‪،‬‬
‫وبعدما عجزنا عن العثور عليها‪ ،‬قمنا بطباعة الصورة‪،‬‬
‫تغسيلها‪ ،‬تكفينها‪ ،‬ودفْنها يف مقربة العائلة‪.‬‬
‫أن تسحب جثة من تحت حصري من الذباب‪.‬‬
‫ما معنى ذلك؟!‬
‫وبكل تأكيد القتىل ال يتحركون؛‬
‫ألنهم ينامون عىل بكائهم‪.‬‬
‫ الله أضحوكة؟‬‫أم رشطي؟‬
‫أم سكِّني؟‬
‫الرايات كراهيتنا التي ترفرف‬
‫الرايات سكاكني من قامش‪.‬‬
‫نضع امليت يف تابوت من خشب‬
‫لنوهم األرض بأننا جئنا لزراعة شجرة‬
‫يف املحطة‬
‫منذ ‪« 2‬قواطي» ويسيك وأنا أحاول الكتابة عن‪:‬‬
‫أم تحاول أن تطفئ ابنها املحروق بذراعيها‬
‫املقصوصتني‬
‫أب يحاول إعادة رأس ابنه املقطوع إىل عنقه النازف‪.‬‬
‫اسمع أيها «الله»‬
‫إما أن تخلق الرأس منفصال عن الجسد‬
‫أو تنفي فكرة «الحور العني»‪.‬‬

‫ومضات بال‬
‫الرأس‬
‫سعد شفان‬
‫(شاعر عراقي)‬

‫يف املقابر التي زرعوها لنا‬
‫رفضتْ الجثة أن تغني‬
‫ورفض اللهُ أن يستمع‬
‫َ‬
‫*********‬
‫شنقاً‪ ..‬حرقاً‪ ..‬رمياً بالرصاص‬
‫بأي طريقة تريد أن متوت أيها الشنكايل؟‬
‫*******‬
‫عرشون جثة من العظام يف كيس واحد‬
‫يكفي أن َ‬
‫نقول مجزرة‬
‫عرس يف القرية‬
‫أو رمبا إلقامة ٍ‬
‫******‬
‫تركض ٍ‬
‫بجثث إىل املزار‬
‫املركباتُ ُ‬
‫ال أحد يبيك‬
‫أين الغرابة يف أن ميوت ألفا شنكايل ؟‬
‫*******‬
‫أحدهم أراد أن ميوت‬
‫حضن أمه‬
‫يف ِ‬
‫رفضوا حتى حرية املوت‬
‫*****‬
‫تعبتُ مبا يكفي‬
‫يك أترك رأيس وأرحل‬

‫‪15‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫شنكال‬
‫سرمد سليم‬
‫(شاعر عراقي)‬

‫يوميات‬
‫صالح‬
‫فائق‬

‫صالح فائق‬
‫(شاعر عراقي مقيم في الفيليبين)‬

‫أنا مدم ٌن عىل ملذ ٍ‬
‫ّات قليلة‬
‫ٍ‬
‫تتناقض‪ ،‬أمراضاً‬
‫ومشاحنات يف‬
‫أتفادى بها آرا ًء‬
‫ُ‬
‫داخيل‪،‬‬
‫أزقّة‪ ،‬كام إين مول ٌع بهذه األرض‪،‬‬
‫وقدريت عىل االحتفاء بها بقصائد وأشعا ٍر‬
‫أتحدثُ ‪ ،‬بطالقة‪ ،‬يف مؤمترات الصيادلة‬
‫ِ‬
‫الجواميس خار َج مدنٍ وقرى‬
‫وباعة‬
‫أغني‪ ،‬بصويت الجميل‪ ،‬مقاطع ماجنة أواخر الليل‬
‫أرشب نبيذا ً بطاس ٍة من نحاس ورثتها عن ج ّدي‪.‬‬
‫وأنا ُ‬
‫صباحاً أمس ُح أطرايف بالزيت‬
‫مثل إفريقي وأنحني‪ ،‬يف مستشفى‪ ،‬عىل آخر مولو ٍد‪،‬‬
‫يرفس الهواء بقدمٍ واحدة‪.‬‬
‫فأرا ُه يغم ُز يل وهو ُ‬
‫خالصة هذه القصيدة ‪:‬‬
‫أنا مدم ٌن عىل هذه امللذّات وغريها‬
‫أو أتوه ُم ذلك‪ ،‬وال أج ُد بينهام أي فرق‬
‫*‬
‫أب ّد ُد وقتاً‪ ،‬كل مرة‪ ،‬يف مقهى‪ ،‬حانة‬
‫مع مه ّريب مخدرات‪ ،‬قراصنة‪ ،‬وصيادين‬
‫وحتى ساع ٍة متأخر ٍة‬
‫أعو ُد اىل البيت‪ ،‬كلبي نائ ٌم‪،‬‬
‫أشاه ُد يف التلفزيون تفجريات جديدة وقتىل يف‬
‫بلدانٍ‬
‫اجلس هناك‬
‫أذهب اىل الخارج‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫أخنق دجاجة أحد جرياين‪..‬‬
‫ر‬
‫القم‬
‫غياب‬
‫ويف‬
‫ِ ُ‬

‫لي ِح َّص ُة‬
‫َهـواء‬
‫عبد اللطيف الوراري‬
‫(شاعر وناقد مغربي)‬

‫مل أشأْ أن أقول شَ ْيئًا‪،‬‬
‫فَالْ َهوا ُء املالِ ُح َو ْحد ُه‬
‫عىل األَ ْرصفة وأَ ْسامء ال ِفراق‬
‫يَ ْروي يل مع ُغ َرباء ِمثْيل‬
‫عن ُسيو ٍل جرف َِت الربيق من العيون‪،‬‬
‫جانب ال ِق َّصة‬
‫ور َم ْت بِاألَ ْحجار َ‬
‫إليهام َم ْن يف مثل َخطْوي بمِ ا َح َدث‪.‬‬
‫أُكِ ُّب عىل َو ْجهي‬
‫ُم ْهتديًا ِب َن ْجم ٍة مثل قصيدة طَ َرفة‪.‬‬
‫كأ َّن يب َم ًّسا‬
‫َ‬
‫ِم ْن َه ْو ِل ما أ َرى من األسباب ال َرثَّة‬
‫يف عرض طريقٍ إىل املنحدر‪،‬‬
‫أدوس نمَ ْل ًة أو ِظلَّ َغ ْيمة‪،‬‬
‫أَخْىش أن َ‬
‫وأَ ْرف َع َرأْيس إىل نوافذ تتصاي ُح ِم ْن بَ ْرد الْ َم ِ‬
‫فاصل‪،‬‬
‫وأَثِ َق يف ي ٍد َج ْرباء من َسدى السيلوفان‪.‬‬
‫نُود َي ب ِْاسمي َم َّر ٍات‪،‬‬
‫فَلَ ْم أَ ْعبأْ بِالحنني‪،‬‬
‫لأِ َّن ِحذايئ األُولَ ْمب‬
‫َولىَّ ِقناعي شَ طْ َر الكُوميديا‪.‬‬
‫كان يكفي بَالُونات َهواء‬
‫أنو ُء بها تحت أَ ْساميل‬
‫ألَ ْسمع كلَّ أَ ْصوات العرص‪.‬‬
‫كان يكفيها أ ْن تط َري يب‬
‫وتصري قَ ْوس قُ َزح بِال تُ ْهمة ال َّدم‪،‬‬
‫فَالْ َعصا‪ -‬وهي أَ ْعىل الظِّالل‬
‫ِحصة الْ َمالك‪.‬‬
‫َوشْ وشَ ْت يل ب َّ‬

‫تلك‬
‫الغرفة‬
‫البعيدة‬

‫ميالد فايزة‬
‫(شاعر ومترجم تونسي مقيم أمريكا)‬
‫ملْ أن ْم ليل َة البارحة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لساعات‬
‫ْملت يف الفراش‬
‫متل ُ‬
‫ُمف ِّكرا يف غرفتي البعيدة‪،‬‬
‫غرفتي املوصدة منذ خمسة عرش عاما‪.‬‬
‫ملْ أفت ْح باب الغرف ِة‬
‫ل ِئالّ أزْع َج العناكب املنهمكة يف بناء جرس جديد‬
‫أو الزهرة الذابلة‪.‬‬
‫ملْ أنفض الغبار عن كتاب «األم» لغوريك‪.‬‬
‫ملْ أغيرّ بقلم الرصاص ترسيحة شعر ر ْمبو التي‬
‫رسمتها‬
‫حني كنت طفال حاملا بالرشق‬
‫وتجارة ال ُجنب واألسلحة‪.‬‬
‫ملْ ْ‬
‫أدرك ساعتها أ ّن ذئباً أمريكيًّا ي ْعوي يف دمي‬
‫وي ْحتمي بالثلج من شمويس الحارقة‬
‫وأ ّن امرأ ًة تتأملُ ُع ْريَها عىل سواحل كاليفورنيا يف‬
‫لغتي‬
‫وتصليّ يف كنيسة قدمية ّ‬
‫ليفك اإلله رساحي‬
‫ملْ أن ْم ليل َة البارحة‪.‬‬
‫ست املفتا َح بيد وجِلة‬
‫تحس ُ‬
‫ّ‬
‫ْفت ُهنيه ًة أمام الباب‪،‬‬
‫و َوق ُ‬
‫َفي يَ ْخ ُر ُج من الخزانة‪.‬‬
‫ْأسرتقُ السم َع ألنني خ ّ‬
‫ملْ ت ْق َو أصابعي عىل الحركة‬
‫َوسق َط املفتا ُح من يدي‪.‬‬

‫بعد أن نعود إىل شنكال‬
‫سأقوم بأشيا َء كثرية‪:‬‬
‫سأبحث عن منزل صغري جدا‬
‫ويف املنزل عن جدار‬
‫يحتفظ بصورة جامعية لعائلة صغرية‬
‫ويف الصورة عن األحياء‬
‫وبني األحياء عني‬
‫يف غرفة النوم‬
‫سأبحث بني الكتب املنترشة يف األرجاء‬
‫عن ديوان «كاظم خنجر»‬
‫ويف الديوان عن السكاكني‬
‫السكاكني التي ذبحت العراقيني فقط‬
‫سأضع رقبتي عىل حد سكني قاتل طيب‬
‫وسأقول له أنا عراقي‬
‫يا ابن الكلب‬
‫حرك يدك جيدا‬

‫ألوان‬

‫مازن معموري‬
‫(شاعر عراقي)‬

‫تض ُع زوجتي راي ًة خرضا َء عىل ِ‬
‫رأس بابِ البيت‪ ،‬دليالً عىل‬
‫شيع ّيتها‬
‫حليق الوج ِه مبالبس شبابية‪ ،‬دليالً عىل علامنيتي‬
‫وأنا أبدو َ‬
‫يحلق السني شاربه ويطيلُ لحيته وكذلك الشيعي‬
‫ُ‬
‫كالهام يلبسان األسود ويقتلُ بعضهام اآلخر‬
‫لن تنتهي الحرب‬
‫العالمات تتجدد‬
‫وتستم ُّر يف كتاب ِة كراهي ِة البياض‬
‫كلُّ يش ٍء جمي ٍل أبيض‬
‫وكلُّ قبي ٍح أسود‬
‫ِ‬
‫باألثاث‪ ،‬وأحياناً‬
‫رصتُ أل ّون االشياء بدءا‬
‫أسكب ألوا َن الرسمِ‬
‫ُ‬
‫متعمدا ً عىل كلّ يش ٍء أبيض أو أسود‬
‫لك ّنها مرارا ً متس ُحها بقطع ٍة بيضاء أو سوداء لتؤك َد يل إنها غريب ٌة‬
‫عني‬
‫َ‬
‫وتقولُ يل‪َ :‬‬
‫إنك رجلٌ ملونٌ‪َ ..‬‬
‫أغسلك ذاتَ يوم‬
‫وسوف‬

‫‪16‬‬

‫الخميس ‪ 4‬أوت ‪ - 2016‬املوافق لـ ‪ 30‬شوال ‪ - 1437‬العدد ‪51‬‬

‫ركن إصدارات‬

‫قراءة في رواية «بيبوالر» ألمين الحسيني‬
‫عمر حفيظ‬
‫مستهل‬
‫ّ‬
‫السارد يف الفصل األ ّول وعىل امتداد ثالث صفحات كاملة يف‬
‫يتك ّتم ّ‬
‫ال ّرواية عىل اسم البطلة‪ ،‬ضمري الغائب املؤنّث (هي) هو الضّ مري املهيمن‪ .‬ولك ّن‬
‫الالّفت هو أنّ هذه البطلة ال ّنكرة بغياب االسم ال تحملنا عىل أنّ ال ّتسمية ال‬
‫تعني شيئا‪ .‬فالهويّة بال ّتسمية هويّة تشابه ومتاثل بل هي مج ّرد عالمات لتمييز‬
‫الكائنات من بعضها‪ .‬أ ّما الهويّة الحقيق ّية فهي كيف ّية مثولنا يف العامل‪.‬‬
‫الصفحات الثالث التي أرشنا إليها وقبل ظهور اسم البطلة يهيمن الوصف‬
‫يف ّ‬
‫مبا فيه من طاقة عىل تحويل األشياء العاديّة إىل لوحات ال تخلو من رسيال ّية‬
‫الصفحة األوىل‬
‫يئ أن يضعها يف ّ‬
‫أش ّعت من لوحة سلفادور دايل التي اختار ال ّروا ّ‬
‫من الغالف‪ :‬فال ّريح عواء ذئب جريح‪ ،،‬ولل ّذاكرة عني وأنف ولسان‪ ،،‬واللّيل‬
‫يكف عن رثاء ذاته عند رأس جثّة الوقت العفنة‪،،‬‬
‫كاألساطري‪ ،،‬واإلنسان ال‬
‫ّ‬
‫والحياة صدَ فة يف قعر محيط‪...‬‬
‫السجن‪ .‬فهي‬
‫للسائد ‪ّ -‬‬
‫أ ّما هي ويف هذا الفصل تحديدا فقد بدت هويّة اخرتاق ّ‬
‫كل‬
‫كل يشء ومن ّ‬
‫تدخّن وترشب وتغ ّني‪ ،‬بل إنّها بدت أبيقوريّة تنشد الل ّذة يف ّ‬
‫الحب الهادئة يف حانة‬
‫يشء( التقت بـ"فرنسوا" الذي كان رقيقا ّ‬
‫ككل معزوفات ّ‬
‫ثم افرتقا صباحا كام التقيا يف الحانة مج ّرد غريبني)‪.‬‬
‫يف باريس‪ ،‬ناما يف العراء ّ‬
‫يف بداية الفصل الثّاين نعرف أنّ اسمها هو سا ّرة ونعرف عنها أكرث من اسمها‬
‫عندما تدخل عيادة طبيب نفسا ّين‪ .‬فهي سا ّرة وعمرها تسع وعرشون سنة وهي‬
‫البنت الوحيدة وليس لها إخوة وتعيش وحيدة بعيدة عن والديها وهي كاتبة‬
‫مرسح ّية‪ .‬ولك ّن الالّفت أنّها مل تأت لتعرض نفسها عىل الطّبيب‪ ،‬وإنمّ ا جاءت‬
‫لتعرض عليه فكرة أن تكتب سيناريو مرسح ّية حول شخص ّية مضطربة نفس ّيا‪.‬‬
‫ويفاجئها الطّبيب بأن يَطلب منها أن تنتحل هي شخص ّية البيبوالر ‪،Bipolaire‬‬
‫الصفة عىل صلة برسيال ّية ف ّن دايل املشبع بالفرويد ّية والعبث ّية‬
‫ونحسب أنّ هذه ّ‬
‫والهذيان ومتظهرات الجسد يف حاالته الالّنهائ ّية‪.‬‬
‫ثم تعود إليه عىل غري موعد وتدخل وترشع‬
‫تغادر سا ّرة حجرة الطّبيب يومها ّ‬
‫يف تعليق نسخة عن لوحة "فتنة القدّ يس آنطوين" لسلفادور دايل‪ .‬وما يعنيها‬
‫من اللّوحة ليس تأويلها وإنمّ ا وظيفتها ووظيفة الف ّن عا ّمة‪ .‬فهي تراه رصخة‬
‫اإلنسان الوحيدة يف وجه مجتمع البؤس‪ .‬وها هنا ينشأ بينها وبني الطّبيب حوار‬
‫حول اإلنسان واملجتمع والفنّ‪ .‬فالف ّن بال ّنسبة إليها هو عشبة الخلود‪ ،‬وهو‬
‫املدخل الوحيد إىل إنسان ّية اإلنسان وسط هذا الخراب املع ّمم‪.‬‬
‫وتأسيسا عىل ما تقدّ م فإنّ سا ّرة تتح ّول إىل سؤال من أسئلة الوجود‪ ،‬سؤال‬
‫ينفتح عىل إيقاع ال ّذات وهي تبحث عن ذاتها‪ :‬كلّهم أتوا بال موعد هذا املساء‪:‬‬
‫السوداء‪ /‬هكذا يرتائ لها اآلن‪ /‬ال ّنادل الذي‬
‫البوليس‪ /‬فصل الشّ تاء‪ /‬العناكب ّ‬
‫ثم ابتسم‪ /‬مكاملة مالك املنزل الذي تس ّوغته‬
‫أعطاها زجاجة "برية" مجانا ّ‬

‫السابعة صباحا‪( /‬ص‪)35‬‬
‫حديثا‪ /‬قطار ّ‬
‫ّ‬
‫الساعة‪ :‬إنّها ال ّتاسعة مساء‪ /‬تفكّر يف الكتابة‪ /‬تعدل‪ /‬تضحك تبتهل كصويفّ‪/‬‬
‫تدق ّ‬
‫تبيك‪ /‬تقول‪ :‬أح ّبك‪ /‬تشعل سيجارة‪ /‬تقول‪ :‬أكرهك‪ /‬تثمل دون نبيذ‪( /‬ص‪)35‬‬
‫ربمّ ا ‪...‬‬
‫تحتل ال ّنهايات مكان البدايات‪...‬‬
‫ّ‬
‫وتُزهر الشّ مس أغنيات‪...‬‬
‫وتنضب ال ّنار من وقودها‪...‬‬
‫ربمّ ا‪...‬‬
‫يتض ّوع اللّيل بوحا وتنكرس الحكايا قبل الوصول إىل الشّ فتني‪...‬‬
‫كل القصائد‪...‬‬
‫وتنتحر ّ‬
‫ربمّ ا‪...‬‬
‫تعود‪...‬‬
‫أو ال تعود‪...‬‬
‫من يكرتث (ص‪)36‬‬
‫حرصنا عىل أن ننقل الشّ واهد كام وردت يف ال ّرواية لنشري من خاللهام إىل‬
‫يئ يحرصان عىل الوفاء لطبيعة الشّ خص ّية وهويّتها‬
‫السارد ومن ورائه ال ّروا ّ‬
‫أنّ ّ‬
‫والسواد والفصل بني‬
‫السرّ ديّة التي نحتاها لها‪ .‬وليس هذا ال ّتوقيع بالبياض ّ‬
‫الجمل ّ‬
‫بخط مائل والكتابة عموديّا والجمع بني املعاجم املختلفة إالّ محاولة‬
‫لرتسم حاالت ال ّذات املتح ّولة باستمرار‪.‬‬
‫ّ‬
‫السؤال عن‬
‫تعود سا ّرة اىل الطّبيب بعد ثالثة أشهر ويجري بينهام حوار يع ّمق ّ‬
‫أي معنى لهذا الكائن الذي هو نحن؟‬
‫املعنى‪ّ ،‬‬
‫األمني يف اليمن والبحرين وسوريا‬
‫والوضع‬
‫ياسة‬
‫الس‬
‫أحاديث‬
‫مللت‬
‫ لقد‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫والحالة الصح ّية لالجئي مخ ّيم الريموك‬
‫ هل تعرفني ألبري كامو‬‫ ملاذا كلّام اعرتضتني مفردة موت إالّ وربطتها بفكرة البطولة‪ ،‬ترى ألنّ مج ّرد‬‫بقائنا عىل قيد الحياة دليل عىل كوننا مشرتكني يف الجرائم التي ترتكبها البرشيّة‬
‫كل لحظة؟ ألهذا الحدّ أضحت حياتنا خيانة للموت؟ (صص ‪)44-45-46‬‬
‫يف ّ‬
‫بسارة والطبيب كذلك فقد انتقلت إليه‬
‫إنّ سؤال املعنى هو الذي يستبدّ اآلن ّ‬
‫عدوى البحث والقلق والخوف ومتجيد املوت‪ :‬يومها حملوه عىل األعناق (‬
‫تعني والدها) وحني أدخلوه إىل قربه شعرت بحسد تجاهه‪ ،‬فكيف ال أحسده‬
‫وهو الذي تح ّرر أخريا من سجن الجسد (ص‪)50‬‬
‫والواقع أنّ غياب األب قد غيرّ رؤية سا ّرة إىل الوجود‪ :‬أيب مل أعد تلك الطّفلة‪...‬‬
‫رصت كائنا آخر نصفي رجل ونصفي اآلخر أنثى مقهورة وأنا أمت ّزق بينهام‪ ،‬مل‬
‫يعد يل حنني إىل يشء فقد رصت شيئا أعمق بكثري من اإلنسان (‪)52‬‬

‫وبرضب من ال ّتداعي‬
‫والعدوى يعود الطبيب‬
‫الذي احتضن سا ّرة وهي‬
‫تبيك إىل موت زوجته‪ ،‬وقد‬
‫خال أنّه نسيها‪ .‬وبالعودة‬
‫إىل املايض تتكاثف األسئلة‬
‫ويصبح الحديث عن‬
‫والحب‬
‫الحياة واملوت‬
‫ّ‬
‫موسعة عندما‬
‫استعارة ّ‬
‫كان وسا ّرة يف مطعم يف‬
‫املدينة‪:‬‬
‫لكل ما يدور حولنا يف "نوتة"‬
‫رس الحياة يكمن يف ترجمتنا ّ‬
‫ ّ‬‫ثم سألها‪ :‬ونحن عازفوها؟‬
‫عندئذ اعتدل ّ‬
‫ هذرت سا ّرة قائلة ‪ :‬نحن املستمعون‪ ،‬فقط حني نُج ّن نصري لها عازفني‬‫(صص‪)61-62‬‬
‫ويف سياق الجنون تتذكّر سا ّرة أنّ ح ّبها لحبيبها الذي كان كاتبا مرسح ّيا وممثّال‬
‫كان عنيفا‪ ،‬ولك ّنه كان ح ّبا لعنة‪ ,‬ولك ّن الطّريف هو أنّها لعنة تكرس رتابة‬
‫الوجود وتخرتقه بالجنون والالّمعنى وال ّتفكري يف الفراق والغياب واملوت‬
‫والحرب والدّ فن‪...‬‬
‫يتح ّول السرّ د يف لقاء الطّبيب بسا ّرة إىل رضب من ال ّتداعي كام سبقت اإلشارة‬
‫إىل ذلك وتتداخل األزمنة فيعود بها الحديث إىل والدها الذي فارقها وإىل‬
‫صغرها‪ ،‬وفجأة تعلن أنّها ق ّررت أن ال تُنجب‪ ،‬لن تشارك يف إضافة أرقام‬
‫بيولوج ّية جديدة لهذا الكون البغيض‪.‬‬
‫تنتهي ال ّرواية بهبوط الطّائرة يف تركيا واالتّجاه إىل مخ ّيم الريموك يف سوريا‬
‫ويعود السرّ د من جديد إىل لعبة املوت والحياة والعبث واملعنى والالّمعنى‪.‬‬
‫وما من شكّ يف أنّ الجمع بني بني مخ ّيم الريموك – أيقونة من أيقونات الالّجئني‬
‫الفلسطين ّيني الكثرية وسوريا التي تُعترب اآلن أكرب ومخ َتبرَ لإلجابة عن سؤال‬
‫العبثي‪ ،‬إنمّ ا هو جمع مقصود يروم الغوص عىل معنى الحياة واإلنسان‬
‫املوت‬
‫ّ‬
‫بيبوالري كذلك‪.‬‬
‫يف آن معا ويف عامل‬
‫ّ‬
‫السمة األجىل يف‬
‫وإذا كان سمة‬
‫ّ‬
‫البيبوالري هي التعدّ د والتوتّر‪ ،‬فإنّ ال ّتوتر هو ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫العيص عىل األجوبة الجاهزة أو‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ق‬
‫ال‬
‫ؤال‬
‫الس‬
‫جليه‬
‫ي‬
‫ّر‬
‫ت‬
‫تو‬
‫كذلك‪،‬‬
‫هذه ال ّرواية‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫املبني باملتعدّ د من خطابات أخرى‪ ،‬وهو ما جعل ال ّرواية‬
‫والخطاب‬
‫املألوفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫كتابة فسيفسائ ّية تُرهق العني‪ -‬الفكر ولك ّنها تُحقّق ل ّذة البحث عن معنى لهذا‬
‫الكائن الذي هو نحن؟‬

‫«كأن أمضي خلف جثتي» لعيسى جابلي‬
‫محاولة في قراءة العتبات واستدراج القارئ‬
‫بقلم‪/‬محمد العربي‬
‫بصفتي قارئا وكاتبا تونسيا أتابع بجدية ولهفة املشهد األديب التونيس املعارص‬
‫وأتصور أنني قرأت نصوصا شعرية وقصصية وروائية جادة ومثرية للجدل‬
‫واالهتامم رغم أن أغلب أصحابها مغمورون ألسباب عديدة أهمها أن املشهد‬
‫الثقايف واإلبداعي يف تونس تتصدره أسامء مكرسة ومهيمنة رغم ضعف منجزها‬
‫وضحالة ما تقدمه‪ .‬فنحن نفتقر اليوم إىل حركة نقدية تواكب ما يصدر من‬
‫نصوص أدبية وتشتغل عليها‪.‬‬
‫واألهم من كل ذلك أن أصحاب املشاريع األدبية الحقيقية – وأغلبهم من‬
‫الشباب _ يعملون يف صمت منكبني عىل أعاملهم مكتوين بها وحريصني أن‬
‫ال يخوضوا يف معارك واهية ومزيفة مقتنعني أن الحرب الحقيقية هي حرب‬
‫النص وأن أسئلتهم األساسية هي أسئلة الكتابة بحثا عن االختالف والتجديد‪.‬‬
‫قرأت نصوصا قصصية مدهشة ومختلفة تنبئ بأن النرث بخري ويف أفضل حاالته‬
‫وتابعت نصوصا ألسامء كثرية أذكر منها السيد التوي‪ ،‬وليد سليامن‪ ،‬عبد‬
‫الرزاق املسعودي‪ ،‬نجيب الربكايت‪ ،‬عيىس جابيل‪ ،‬محمد فطومي‪ ،‬فائقة قنفايل‪،‬‬
‫نجيبة الهاممي‪ ،‬جابر السالمي‪ ،‬عفاف الشتيوي‪ ،‬هدى بن عيل‪ ،‬سهى بختة‪،‬‬
‫صفاء متاع الله‪ ...‬وغريهم من األسامء التي تبرش بكل خري‪.‬‬
‫نصوص ملتصقة بواقعها تحاول أن تلتقط منه ما يصلح به وأن تعالج أمراضه‬
‫وعقده‪ .‬نصوص لها الشجاعة الكاملة يف أن تتقدم وسط كل هذا الرعب الذي‬
‫نعيشه‪.‬‬

‫ومن هذه األعامل القصيية التي أتناولها اليوم بالدرس املجموعة القصصية‬
‫الثانية للقاص عيىس جابيل‪.‬‬
‫من واقع تونيس مرعب‪ ،‬من ذات مهشمة ومسحوقة‪ ،‬من تناقضات مجتمع ال‬
‫يأبه ملاضيه وال يعنيه الحارض وال املستقبل‪ .‬ال رموز يحفظها وال غد يؤسس له‪.‬‬
‫من النفيس واالجتامعي والسيايس التونيس واإلنساين‪ .‬من املوت هادم اللذات‬
‫والعد ّو األول للبرشية التي تتخبط يف معاناة وجودها الثقيل‪ .‬من املوت الذي‬
‫يعيش فينا وداخلنا وبنا‪ .‬من اإلحباط الذي صار يسكننا ويعصف بنا كل لحظة‪،‬‬
‫تأيت رائعة عيىس جابيل «كأن أميض خلف جثتي» الصادرة عن دار زينب للنرش‬
‫والتوزيع تونس ‪ .2016‬والحائزة عىل جائزة القصة مبعرض الكتاب هذه السنة‪.‬‬
‫تضم ‪ 13‬قصة بإمكان أي قارئ أن يتبني‬
‫مجموعة قصصية متوسطة الحجم ّ‬
‫مالمحها األوىل وعواملها من خالل عنوانها «كأن أميض خلف جثتي»‪.‬‬
‫· العنوان‬
‫منذ العتبة األوىل وهي عنوان املجموعة»كأن أميش خلف جثتي» بإمكانك أن‬
‫تتحسس العامل الجنائزي والغر ائبي الذي سيقودك إليه الكاتب‪.‬‬
‫كيف سيميض خلف جثته من هو ميت أصال؟ وهل هو ميت حقا أم نحن هم‬
‫املوىت؟ كيف سنتبع ميتا يتبع جثته؟‬
‫أسئلة كثرية وجدت نفيس غارقا فيها وأنا أتصفح الكتاب ألول مرة‪ .‬وقد ورطني‬
‫الكاتب يف عوامله املرعبة أميش خلف جثته‪ .‬ستجد أيها القارئ يف هذا الكتاب‬
‫أنّ حدسك مل يخنك حقا‪.‬‬
‫أما عناوين النصوص والتي جاءت عن النحو التايل ‪:‬‬

‫«زكريا تامر يف اليوم‬
‫السابع»‪« ،‬بروكوست‬
‫يف املدينة»‪« ،‬مدّ اد‬
‫يده»‪« ،‬أبقار عن غري‬
‫قصد»‪« ،‬أنك حامل»‪،‬‬
‫«كأشباح املوىت أو‬
‫أدىن قليال»‪« ،‬املوت‬
‫«متاريس‬
‫خلسة»‪،‬‬
‫العتمة»‪»،‬ميتة تلقائية»‪« ،‬خذين معك»‪،‬‬
‫«درس ختامي»‪« ،‬املسدس األسود والشالل»‪« ،‬عراجني املوت»‪.‬‬
‫عناوين تؤكد املنحى الذي ذهب إليه الكاتب عيىس جابيل يف هذه املجموعة‬
‫التي ال تكاد قصة واحدة تخلو من الغرائبي والجنائزي‪ .‬بل هي تنقسم إىل‬
‫حقلني دالليني وهام املوت والغرابة‪.‬‬
‫يحرض املوت يف ‪ 6‬عناوين تقريبا وبالتايل يف ‪ 6‬نصوص قصصية‪ .‬وتحرض الغرابة‬
‫يف ‪ 7‬نصوص الباقية ولكنك حني تتوغل يف املجموعة تجد نفسك داخل الحقل‬
‫نفسه‪ .‬إذ يتداخل املوت والغرابة مع الطقوس الجنائزية املرعبة والعوامل‬
‫السوريالية حيث تربز قدرة القاص العجيبة ومهارته يف تحويل اليومي والعادي‬
‫والهاميش يف حياتنا إىل أفكار خارقة وعجيبة يصوغها عيىس جابيل بلغة شعرية‬
‫سلسة ال زوائد أو شوائب فيها‪ .‬إنه ال يكتب بل يفكر يف األشياء والعامل‪ .‬يف ذاته‬
‫التي تربز أحيانا عىل شاكلة منلة وتتجىل أحيانا كإله‪.‬‬


Aperçu du document p01hab04.pdf - page 1/16

 
p01hab04.pdf - page 2/16
p01hab04.pdf - page 3/16
p01hab04.pdf - page 4/16
p01hab04.pdf - page 5/16
p01hab04.pdf - page 6/16
 





Télécharger le fichier (PDF)


p01hab04.pdf (PDF, 11.6 Mo)



Sur le même sujet..





Ce fichier a été mis en ligne par un utilisateur du site. Identifiant unique du document: 00443649.
⚠️  Signaler un contenu illicite
Pour plus d'informations sur notre politique de lutte contre la diffusion illicite de contenus protégés par droit d'auteur, consultez notre page dédiée.