ضلالُ المَقَاضديّين .pdf
À propos / Télécharger Aperçu
Ce document au format PDF 1.3 a été généré par http://www.convertapi.com / http://www.convertapi.com , et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 20/10/2016 à 02:37, depuis l'adresse IP 197.253.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 350 fois.
Taille du document: 11.2 Mo (417 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
ضالل المقاصديين
ي
الفقيه ال ر ّ بان ّ
إ ْب طال ف ْ
ص ل األ ص ول و ضَ الل ال َ
ص د ي ّين
م قا ِ
الجزء الثاني
َ
صدي ّين
ضالل المقا ِ
رشيد بلواد
1438ه – 2016م
1
ضالل المقاصديين
ضالل المقاصديّين
رشيد بلواد
1438ه – 2016م
2
ضالل المقاصديين
د من التّنبيه إلى ّ
'ولكن ال ب ّ
أن هذا العلم قد أصبح عند بعض النّاس ليس
في حالة م ّ
ّ
الشريعة
د فحسب بل في حالة طوفان وفيضان رب ّما أودى ب
ّ
والفض ،وقادهم إلى التّطاول على
وبمقاصدها وعاد عليها بالنّقض
ُّ
النصوص اإللهية واألحاديث النبوية ،والبعض اآلخر ينادي ببناء علم جديد
1
ّ
الشريعة'.
مستقل عن علم األصول هو علم مقاصد
1
دين بن المختار الخادمي :االجتهاد المقاصِد ّ
د .نور ال ّ
ي ،حجيته..ضوابطه..مجاالته ،ج ،1ص ،144كتاب األ َّمة،
جمادى األولى 1419ه
3
ضالل المقاصديين
الباب األول
صد ّ
ي
فساد المكوّن البيان ّ
ي المقا ِ
ب ْؤرة الجويني
ل عقدة َّ
ي في ح ّ
ال َ
التعليل
م ْنظَم الثالث ّ
4
ضالل المقاصديين
الفصل األول
ي
أصحاب المقاصد والبيان العلم ّ
أو
صدي ّون وميزان البيان
المقا ِ
5
ضالل المقاصديين
ي
-1حقيقة العلم والبيان العلم ّ
إ ّ
ن هللا ج َّ
ّ
للحق من ذاته
الحق ،وجعل
ل وعال كفل قيام السماوات واألرض ب
ِّ
ّ
بحق من جنده عزّ وج ّ
ل -وما يعلم جنود
ذوادا؛ وذلك من خالل قوانينه التي هي
ربِ ّك إال هو -يقول سبحانه وتعالى{ :قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين'}(البقرة ،)110برهان صدق المقول والدعوى أو الم ّ
دعى؛ و الصّدق مطابقة
الح ّ
ة مجالِه.
قِ واالنتظام فِي نظمتِه والتوافق مع دال ّ ِ
وقصدا في القول لن نستطرد في تفصيل معنى االنتظام والتوافق البنيو ّ
ي
ي حقيقة عند أهل العلم والمناطقة؛ فذلك في مظانه ألهله،
كخاصّة للبناء العلم ّ
ومن ابتغى الورد من معينه فلك ّ
ل مشربه .ولقد سبق أن عرضنا لهذا الحي ّز من
شرط العلمي ّة ووثوقها والرّسوخ فيها في ج ّ
ل ما شاء هللا لنا بتوفيق وهدي منه أن
َّ
وإن من خير
نعرض له ونكتبه ،وخاصّة في كتابنا 'د .طه عبد الرحمان في الميزان'.
ما قاله أبو حامد الغزالي رحمه هللا:
د» و«البرهان» .ونذكر شرط الح ّ
<مدارك العقول ،وانحصارها في «الح ّ
د
ي ،وأقسامهما ،على منهاج أوجز مما ذكرناه في
ي ،وشرط البرهان الحقيق ّ
الحقيق ّ
كتاب «مح ّ
ك النظر» ،وكتاب «معيار العلم».
وليست هذه المق ّ
دمة من جملة علم األصول ،وال من مقدماته الخاصّة به ،بل
2
هي مق ّ
دمة العلوم كلها ،ومن ال يحيط بها فال ثقة له بعلومه أصال>.
ورحمة بالذين يعقبون على الغزالي وغيره في هذه الكلمة والمبدإ تحديدا،
يقفون ما ليس لهم به علم ،فإن ّه إن كان المنطق ليس إال المجموع القوانيني
الحق؛ فإنا نزيدهم بيانا بأ ّ
ّ
ن هذا االنتظام ال يعدو ما
المنتظم لمقتضيات انتظام
يتلى في قوله تعالى{ :الذي خلق سبع سماوات طباقا' ما ترى في خلق
الرحمان من تفاوت' فارجع البصر هل ترى من فطور' ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب
إليك البصر خاسئا وهو حسير' ولقد زي ّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما
َّ
السعير'}(الملك)5..3
للشياطين وأعتدنا لهم عذاب
2
المستصفى من علم األصول لإلمام الغزالي -تحقيق وتعليق الدكتور محمد سليمان األشقر
ّ
مؤسسة الرسالة – ج – 1ص45
6
ضالل المقاصديين
ّ
حصنا .ومنه،
على ميزان ومعيار
الحق إذا يكون االنتظام لألبنية العلمي ّة جنّة و ِ
وهذا مسلك أوّلي عند المناطقة والرّياضيين ،يكفي فساد إسقاط على أ ّ
ي اتجاه
أو دال ّة ،للحكم بفساد وخطإ الك ّ
ل.
هكذا وإذا تقدم أحد من النّاس يزعم أنه أتانا يحمل علما ينتفع النّاس به ،قلنا
له هات العلم هذا الذي تزعم ،لننظر أعلم هو ح ًّقا ،أم أنت واهم فيه من
دعين؟! ون ِقفه أ ّ
ّ
الم ّ
الحق والمنطق كمنظومة مفاهيميّة ومجموع
ن العلم في
ع ْل َ
م من دون وجود
ي؛ فال ِ
ي نظريات ّ
معرفي مترابط منطقي ًّا ،له أساس هيكل ّ
على األق ّ
ل ولو نظريّة واحدة يقوم عليها بناؤه وينتظمه هيكلها وال يكون
ّ
ي إلى حقيقة النظري ّة ،التي أهم أركانها:
إال بها .ومنه يؤول
الشرط العلم ّ
-1المسل ّمات
-2الفرضيّة
-3المبرهنات
-4سريان الفرضيّة نتاجا في المجال
ولهذا ال ينبغي خلقا علمي ّا وأدبي ّا اإلسراف في استعمال لفظ النظري ّة أو النظري ّات
علما للرّسوم واأللفا
حيث ال وجود لحقيقتها إال في األلفا ! وكأن َّما العلم أضحى ِ
ة الرّسو ِم واأللفا .
ال لح ِقيق ِ
ي ،وهو كذلك متميّز بالتداخل البنيو ّ
ي المشاكل:
ويبقى أهم وجه إسقاط ّ
ّ
ي ،للبنية
ي في بنيته الكليّة المشاكلة للعناصر أو
بأدق التعبير العلم ّ
الوجه البيان ّ
ّ
المنطقي ّة ،والمتض ّ
المختص ،الذي ليس يلزم فيه ابتداء سوى خاصّة
من للقاموس
االنتظام.
7
ضالل المقاصديين
صدي ّين
- 2تطبيق على زعم المقا ِ
وال زال البحث جاريا عن تعريف المقاصد 3المفقود!
بِ ْنت العجائب كل ّها ألن ّها نالت من عجبها كلها ،وإن شئت قلت َّ
أم
العجائب كلها ألنها بزّتها جميعا ،هي أ ّ
ّ
ي
ن
الشرط األوّلي في القاموس العلم ّ
ّ
ي
كمعجم أساس في بيان البناء،
ي في جوهري ّة العنصر البيان ّ
الشرط البداه ّ
ي لفظ
ي ،شرط التّحديد غير متوفّر في المرتكز والمناط البيان ّ
المنطق ّ
'المقاصد'.
يقول د /محمد سعد بن أحمد بن مسعود اليوبي في الفصل األول من الباب األول
ّ
الشريعة باعتبارها علما على علم معين':
في المبحث الثاني 'تعريف مقاصد
<لم أعثر على تعريف للمقاصد بهذا االعتبار في كتب المتقدمين من
األصوليين حتى عند من له اهتمام بالمقاصد منهم كالغزالي و ّ
الشاطبي وإنما
ّ
الشريعة ،أو ال َّتقسيم ألنواعها فنجد مثال
يكتفون بالتنصيص على بعض مقاصد
ّ
ّ
الشرع من الخلق خمسة وهو أن
الشريعة بقوله« :ومقصود
الغزالي يذكر مقاصد
يحفظ عليهم دينهم ،ونفسهم ،وعقلهم ،ونسلهم ،ومالهم ،فكل ما يتضمن حفظ
هذه األصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوّت هذه األصول فهو مفسدة ودفعها
4
مصلحة ». . .
ومن الواضح أن الغزالي هنا لم يرد بكالمه أن يعطي تعريفا دقيقا للمقاصد،
وإنَّما أراد حصر المقاصد في األمور المذكورة.
وقد رأى بعض الباحثين أن الغزالي قد تع َّرض لتعريف المقاصد في «شفاء
الغليل» حيث قال« :فرعاية المقاصد عبارة حاوية لإلبقاء ودفع القواطع وللتحصيل
6
على سبيل االبتداء»>.5
3
نحتفظ باللفظ 'مقصد' أو مقاصد' رغم خطأ استعماله ضرورة جدليّة منهجية
4
المستصفى ص251
5
شفاء الغليل ص159
6
ّ
الشريعة وعالقاتها باألدلّة الشرعيّة ،دار الهجرة والنشر للتوزيع ،ط ،1الرياض ،ص :34..33د /محمد سعد
مقاصد
بن أحمد بن مسعود اليوبي
8
ضالل المقاصديين
≈
بالطّبع فكالمه 'ومن الواضح . .المذكورة' غير سديد؛ فهنا ليس ينبغي إال
ي الذي تبنى عليه
ي والمنطق ّ
النّفي أو اإلثبات لحقيقة التّعريف بمعناه العلم ّ
ي .وكالم الغزالي أعاله من جهة الصّيغة هو صيغة
العلوم؛ فقوله هذا غير علم ّ
ي ،قسم التّعريف باإلدراك
تعريفية علمي ّة جامعة بين قسمي التّعريف المنطق ّ
وقسم التّعريف بالتّفصيل؛ ذلك أنه أتى بتفصيل وذكر العناصر ،المنطبقة باألصناف
المع َّرفة باإلدراك{ :كل ما يحفظ ال ّ
دين}{ ،كل ما يحفظ النفس} . .لكنها غير
منطبقة بالجوهر موضوع التّعريف كما سوف يتّضح.
ّ
الشريعة'
كذلك نبدأ تصفحنا لمؤلف أ .د /أحمد الريسوني 'مدخل إلى مقاصد
على ما يلي:
'المق ّ
دمة
وفيها مسألتان:
ّ
الشريعة.
األولى :في مصطلح مقاصد
ّ
الشريعة.
الثانية :حاجتنا إلى مقاصد
المسألة األولى
ّ
الشريعة»
في مصطلح «مقاصد
المقصود أو المقصد :هو ما تتعلق به نيتنا وتتجه إليه إرادتنا ،عند القول أو
الفعل.
ّ
ّ
الشارع – هي المعاني والغايات
الشريعة – أو مقاصد
وعلى هذا فمقاصد
ي ،ويريد من
ي والتّكليف الشرع ّ
واآلثار والنتائج ،التي يتعلق بها الخطاب الشرع ّ
َّ
السعي والوصول إليها.
المكلَّفين
ف ّ
الشريعة تريد من المكلَّفين أن يقصدوا إلى ما قصدت هي ،وأن يسعوا إلى
ما هدفت وتوخت.
ّ
الشرع من جهة ،والمكلَّفين من جهة
وهذا يجعلنا أمام مصدرين للمقاصد:
أخرى.
ولكن يجمعهما اتحاد المصب ،بحيث يجب أن تصب مقاصد المكلَّف حيث تصب
ّ
الشارع.
مقاصد
9
ضالل المقاصديين
ّ
الشريعة ومقاصد المكلَّفين ،فإن
وبالنظر إلى هذا التّرابط والتداخل بين مقاصد
ّ
الشاطبي للمقاصد ،هو تقسيمها إلى صنفين:
أول تقسيم وضعه اإلمام
ّ
الشارع ومقاصد المكلَّف.
مقاصد
وإذا كان الصّنف الثاني ال يعنينا كثيرا في هذا المدخل ،ويكفينا منه أن نعلم أن
ّ
الشرع ال يمكن أن تتحقق إال عبر مقاصد المكلَّف ،وبشرط أن تكون الثانية
مقاصد
7
موافقة لألولى ،فلنقف قليال مع الصّنف األول '. . .
≈
ي من القول والصّحيح من الوصل؛ بل هو
إنَّنا في مقام ال يسع فيه غير العلم ّ
مقام من أشرف وأخطر ما يكون من مقامات القول؛ وهل يعقل حقا وهل له من
حقيقة الرّسوخ في العلم شيئا من ال يخشى الزيغ بعد الهدى ويؤتى من حيث
يظن أنه يحسن صنعا؟ وإن ّه ما خشي الزيغ وال كان ِم ّ
من يعقل من عدا قدره
وتجاوز ما ليس له تجاوزه؛ ف ّ
الشريعة في أحكامها وبيانها هي من األصول التي ال
يح ّ
ق التصرّف فيها؛ ومن فعل ذلك فهو أبعد عند هللا تعالى من أن يكون من أولي
ّ
ّ
الشريعة.
الحق يقينا للقول في علم
الحكمة والرّسوخ في العلم ،وليس أهال في
'أال إن األمر هنا يهم اليقين والمحكم من المسل ّمات التي إن اخت ّ
ل شرطها
اختل علم ومقول العالم بعدها مهما بلغ علمه وشأوه! أال إن بيان ال ّ
دين وتعبير
هذا البيان وألفا ه هو من األصول العليا للكتاب والس َّنة! فاهلل تعالى اختار للفظه
من سائر األلفا كما اختار أنبياءه ورسله من خلقه؛ فاهلل تعالى نزّل أحسن
الحديث ،وما كان ألحد الخيرة من بعد هللا تعالى ورسوله األمبن الكريم في هذا
8
الشأن العظيم .فإن ّما هؤالء يستدركون على الح ّ
ق وهم ال يشعرون!'
َّ
إن العنوان هنا للمسألة مقصده اصطالح المقاصد ،العنوان البارز المكرور في
ّ
الشريعة'؛ ولكن
صفحتين متتاليتين' :المسألة األولى :في مصطلح مقاصد
ما تحته غير ذلك إطالقا .ولعل ذلك واضح كل الوضوح إال للكاتب صاحب العنوان وما
ّ
الشارع ،مقاصد المكلَّف).
كتبه تحته ،الذي إفادته تقرير المقولة الفاسدة (مقاصد
عدم الوضوح هذا سوف يف َّ
سر وتظهر حقيقته إذا ما عدنا إلى كتابه 'نظريّة
ّ
الشاطبي' ،وتظهر في النسبية غير المقبول بها منطقيًّا في
المقاصد عند اإلمام
التّصوّر للحقائق ،غير أن الخطب هنا جلل ،ألن هذه الحقائق موضوع التّصوّر
7
ّ
الشريعة – أ .د /احمد الريسوني ،دار الكلمة للنشر والتوزيع ،ط1434 ،1ه 2013م – ص11..8
مدخل إلى مقاصد
8
انظر كتابنا 'نقض مقولة ال َّتقسيم وتصحيح النّحو العربي' ص275-274
10
ضالل المقاصديين
ي غير الموضوعي الخاطئ ،هي بالذات االصطالح والنظري ّة والعلم؛ إذ يقول
النّسب ّ
في أول ما استهل به كتابه:
' تمهيد
في معنى المقاصد ونظريّة المقاصد
ّ
ّ
الشريعة ،والمقاصد الشرعي ّة ،كلّها عبارات تستعمل
الشارع ،ومقاصد
'مقاصد
بمعنى واحد .وهو المعنى الذي أريد تعريفه وتحديده في هذا التمهيد.
الشاطبي» فإنه لم يحرص على إعطاء ح ّ
ّ
أ ّ
د
ما شيخ المقاصد «أبو إسحاق
وتعريف للمقاصد الشرعي ّة .ولعلّه اعتبر األمر واضحا ،ويزداد وضوحا بما ال مزيد
عليه بقراءة كتابه المخصص للمقاصد من «الموافقات» .ولعل ما ز ّ
هده في تعريف
ّ
الشريعة .وقد نب ّه على
المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء ،بل للراسخين في علوم
ذلك بصراحة بقوله . . .« :وال يسمح للنا ر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد
ّ
الشريعة أصولها وفروعها ،منقولها ومعقولها،
أو مستفيد ،حتى يكون ريان من علم
غير مخلد إلى التقليد والتعصيب للمذهب.»9
ومن كان هذا شأنه ،فليس بحاجة إلى إعطائه تعريفا لمعنى مقاصد
ّ
ّ
الشاطبي بقرون.
الشريعة ،خاصّة وأن المصطلح مستعمل ورائج قبل
وكذلك لم أجد تعريفا فيما اطلعت عليه عند األصوليين وغيرهم من العلماء
10
الذين تعرّضوا لذكر المقاصد قديما'.
ولم يفت الكاتب الدكتور أحمد الريسوني أن يضيف قائال:
ّ
الشريعة .وأعني
'إال أني وجدت عند بعض علمائنا المحدثين تعريفات لمقاصد
كال ّ من العالّمة التونسي الشيخ «محمد الطاهر بن عاشور» ،والعالّمة المغربي
األستاذ «عالل الفاسي» ،رحمهما هللا.
ّ
ّ
الشريعة
للشريعة بقوله« :مقاصد
فالشيخ ابن عاشور يعرّف المقاصد العا ّمة
ّ
للشارع في جميع أحوال التّشريع أو
العا ّمة هي المعاني والحكم الملحو ة
ّ
الشريعة.
معظمها ،بحيث ال تختص مالحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام
ّ
الشريعة ،وغايتها العا ّمة ،والمعاني التي ال يخلو التّشريع
فيدخل في هذا :أوصاف
9
ّ
الشاطبي)
الموافقات( 1/87 ،نظريّة المقاصد عند اإلمام
10
ّ
ي للفكر اإلسالمي 1416ه 1995م
نظريّة المقاصد عند اإلمام
الشاطبي :أحمد الريسوني ،المعهد العالم ّ
ص1711
ضالل المقاصديين
عن مالحظتها .ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحو ة في سائر
أنواع األحكام ،ولكنها ملحو ة في أنواع كثيرة منها.»11
وقد ذكر وبيّن من هذه المقاصد العا ّمة :حفظ النظام ،وجلب المصالح ،ودرء
ّ
الشريعة مهابة مطاعة نافذة ،وجعل
المفاسد ،وإقامة المساواة بين النّاس ،وجعل
األ َّمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال . . .
وفي قسم آخر من كتابه ،تعرّض للمقاصد الخاصّة ،ويعني بها« :الكيفيات
ّ
للشارع لتحقيق مقاصد النّاس النّافعة ،أو لحفظ مصالحهم العا ّمة في
المقصودة
تصرفاتهم الخاصّة . . .ويدخل في ذلك ك ّ
ل حكمة روعيت في تشريع أحكام
تصرفات النّاس ،مثل :قصد التوثق في عقدة الرهن ،وإقامة نظام المنزل والعائلة
في عقدة النكاح ،ودفع ال ّ
ضرر المستدام في مشروعية الطالق.»12
ّ
الشريعة – العا ّمة منها والخاصّة – في تعريف
وقد جمع األستاذ عالل مقاصد
ّ
الشريعة :الغاية منها ،واألسرار التي وضعها
موجز واضح ،قال فيه« :المراد بمقاصد
ّ
الشارع عند كل حكم من أحكامها »13فشطره األول (الغاية منها) ،يشير إلى
المقاصد العا ّمة .وبقيته تعريف للمقاصد الخاصّة ،أو الجزئية.
وغير بعيد ع ّ
ما نص عليه ابن عاشور من مقاصد التّشريع العا ّمة ،يقرّر عالل
ّ
للشريعة اإلسالمية هو عمارة األرض ،وحفظ نظام
الفاسي أن «المقصد العام
التعايش فيها ،واستمرار صالحها بصالح المستخلفين فيها ،وقيامهم بما كلفوا به
من عدل واستقامة ،ومن صالح في العقل وفي العمل ،وإصالح في األرض،
واستنباط لخيراتها ،وتدبير لمنافع الجميع.»14
وبعد استعراضه لمجموعة من اآليات المتضمنة والمشيرة لمرامي الشرائع
الرّبّانية ،قال« :فمجموع هذه اآليات القرآنية يبيّن بوضوح أن الغاية من إرسال
األنبياء والرسل وإنزال الشرائع ،هو إرشاد الخلق لما به صالحهم وأداؤهم لواجب
التّكليف المفروض عليهم.»15
ّ
الشريعة لكل من ابن عاشور
وبناء على هذه التّعريفات والتوضيحات لمقاصد
وعالل الفاسي ،وبناء على مختلف االستعماالت والبيانات الواردة عند العلماء
11
ّ
الشريعة اإلسالمية.50 ،
مقاصد
12
ن م .154 ،
13
ّ
الشريعة اإلسالمية ومكارمها لعالل الفاسي (إضافة مني).3 ،
مقاصد
14
ن م .42-41 ،
15
ن م .43 ،
12
ضالل المقاصديين
ّ
الشريعة هي
الذين تحدثوا في موضوع المقاصد ،يمكن القول :إن مقاصد
16
ّ
الشريعة ألجل تحقيقها ،لمصلحة العباد'.
الغايات التي وضعت
ابن عاشور وعالل الفاسي
وقد أشار المؤلف إلى التّبنّي الحرف ّ
ي لتعريفي ِ
17
من طرف الدكتورين وهبة الزحيلي وعمر الجيدي دونما تنويه وتنبيه.
≈
صدي ّين في تصوّرهم للمقاصد مرتكزا ومنواال ينسجون
هذا هو ما جاء عند المقا ِ
عليه شيئا يزعمونه علما ،هذا هو الذي عندهم ولم نظلم منه شيئا.
أال إنَّهم إن كانوا يريدون بألفا االصطالح والنظري ّة والعلم حقيقتها العلمي ّة
والمنطقي ّة ،وما نراهم إال أنهم إياها يريدون ،فما بهذا يورد إليها ،وال هكذا يكون
إليها الورود!
واختزاال للجهد وقصدا ،والذي يه ّ
منا هو البرهان ،نأخذ المادّة البياني ّة
َّ
فإن هذه العناصر البياني ّة:
لالستنباط الذي خلص إليه الكاتب؛
التّعريفات التّوضيحات االستعماالت البياناتي ،وهو منها إشهادا في الح ّ
ق هو
هذه المواد ال صلة لها باالصطالح العلم ّ
منها براء .وإنَّما هذه كلها من حظيرة ما قبل االصطالح ،هي في حظيرة الحقل
ي ،الذي يكون تحديده باستعمال أهل اللغة وقومهاِ ،م ّ
ال ّ
ما هو
ي المعجم ّ
دالل ّ
مستمد من الشواهد والمدونات اللغوية ونحوها.
وقبل هذا وذاك ،ينبغي التذكّر – والمعرفة تذكّر والجهل نسيان – والبيان جعله
الرحمان خير معيار في الميزان ،فإ ّ
ي وحده يكفي لحسم هذا
ن التّحليل الجهات ّ
ال ّ
ضالل في تصوّر حقيقة االصطالح ،حتى نرى أنه وأسرته القريبة في القاموس
ي {النظري ّة ،العلم} على طرف لسان كثير من الناس من غير استكناه وال
العلم ّ
ّ
حق.
تمثّل
16
ّ
الشاطبي ،ص19-18
نظريّة المقاصد عند اإلمام
17
ن م ،أسفل ص19
13
ضالل المقاصديين
َّ
إن لفظ 'اصطالح' مصدر لفعل 'اصطلح' الطاء مبدلة فيه من التاء؛ فهو في
سنخه 'اصتلح' بالتاء على وزن 'افتعل' .وهذه الصّيغة 'افتعل' من الصّيغ
االنعكاسية المحددة بقانون االختالف باختالفها عن نظيرها االنعكاسي 'انفعل'
ّ
الحق مثاال استشهادا في هذا هو قوله
االنطواعي باإلرادية .وأحسن ما يورد في
تعالى{ :والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم'}(محمد )18وهو ذاته المعنى
الجهاتي الوارد في قوله ع َّز وج َّ
ّ
الحق{ :ويزيد هللا الذين اهتدوا
ل العدل الحكم
هدى'}'مريم )77على تقابل بقوله جل دالله وهو العزيز الحكيم في الجوار القبلي
السياق القرآني العظيم{ :قل من كان في ال ّ
ّ
ضاللة فليمدد له الرحمان
من
مدا'}(مريم )75وهذا في حكمنا بال ّ
ي تفسير جهتي إثبات وسلب التاء
دليل العلم ّ
في قوله تعالى في اآلية من سورة الكهف{:فما اسطاعوا أن يظهروه وما
استطاعوا له نقبا'}(الكهف )93فاإلرادة و َّ
ي في األولى
السعي في اإلحداث منف ّ
(اسطاعوا) لالستيئاس من هور الجدار لعلوه و هور استحالة أمره ،ومثبت في
الثانية (استطاعوا) إلمكانه والطمع فيه .وليس كما شائع من القول للتخفيف
ونحوه.
ي ،المنطبق بالحقل العملي
هكذا ،وباعتبار بعد أو عنصر الحقل الفاعالت ّ
ي بالميزان لهذه المادّة 'اصطالح' كونها
للفاعل المجت ِ
مع ،يتم التّحديد العلم ّ
االتّفاق ،الدال عليه أو المستمد من المكوّن اإلرادي في الصّيغة ومن
مادة 'صلح' ال ّ
دالّة على الوفاق المضادّ للخالف.
ولهذا كله ،ول ّ
ي أساسه النظري ّة في ماهيتها المنطقي ّة
ما كان البناء العلم ّ
والرّياضية ،وكل األبنية الرّياضية الصّحيحة منذ ما تجلى التفكير الرّياضي في العقل
اإلنساني ،مبنية على مبدإ االختالف ،النسق المخنزل للمنطق كله .وهو مبدأ
الخلق واألمر كله ،كان االصطالح عنصرا بماهيته المنطقي ّة ،وال يحق في
السماوات واألرض اعتباره إال بها .وما كان غير ذلك فإنما هو عين اقتفاء المرء ما
ليس له به علم؛ فكيف إذا سيكون الخطر إذا ما تج ِرّئ به في مقام من القول عند
هللا عظيم.
فهذا مثل مما جعله هللا تعالى العزيز الحكيم ج َّنة للح ّ
ق تدفع عنه ما ليس
بحق؛ فإذا رأيت رجال يزعم أو يتحدث عن التعدد واالختالف في االصطالح ،فليعلم
أن ما يتحدث عنه ليس باالصطالح العلمي في شيء ،ومتى أمكن أن يجتمع
الضدان؟!
ّ
ّ
أحق أن
الحق ،وهللا تعالى
وحاصل ما نودّ اإلعراب عنه ،والعلم ال يكون إال ب
يطاع ويخشى ويتقى ،وال يؤمن الرجل ًّ
حقا ح َّتى يكون هللا ورسوله أح َّ
ب إليه ِم ّ
ما
سواهما ،ونرجو من هللا تعالى أن ال يجعل في قلوبنا غال ّ للذين آمنوا وأن يغفر لنا
ي ذلك عز ّوج َّ
ل وقادر عليه!
سبحانه ،إنه ول ّ
14
ضالل المقاصديين
أقول حاصل األمر أن ما جاء عند الكاتب الدكتور أحمد الريسوني ليس ينبغي
ي كما هو عند الراسخين في العلم ،وال هو ينبغي له .ونعني هنا
للمجال العلم ّ
ي لم للعباد ،أ ّ
تحديدا وتحييدا أل ّ
ن ألفا 'االصطالح' كما 'النظري ّة' و'العلم'
فيما يأتي على طول الحديث والكالم ،أنها كلها لم تأت إال أماني وال حقيقة لها.
بل وهذا هو الذي جعله في تسويغه لهذا ال ّ
ّ
الشاطبي يجمع ما
ي عند
ضابط العلم ّ
ال ينجمع وال يجتمع من األحوال واألكوان فيقول:
'ومن كان هذا شأنه ،فليس بحاجة إلى إعطائه تعريفا لمعنى مقاصد
ّ
ّ
الشاطبي بقرون.
الشريعة،خاصّة وأن المصطلح مستعمل ورائج قبل
وكذلك لم أجد تعريفا فيما اطلعت عليه عند األصوليين وغيرهم من العلماء
الذين تعرّضوا لذكر المقاصد قديما'.
≈
ي صريح ال يحتمل إال الحقيقة غير التأويل :إنه لم يجد تعريفا
يقول بلفظ قطع ّ
وأن المصطلح رائج؛ واالصطالح بميزان الرحمان في البيان ال يكون إال بالتّعريف
على ات ّفاق؛ فإن كان مجاله حي ّزا علمي ّا كان اصطالحا علمي ّا ،وإن كان دون ذلك
ي ،كأسماء األعالم.
كان حقيقته اصطالحا لكن غير علم ّ
هذا بالح ّ
ق والميزان حاسم ،وليس بعده إال التّفصيل والتبيان؛ هو حاسم على
افتقاد التعريف ل'المقاصد' الذي ال حديث من بعده على العلم والعلمية.
نبدأ بالطّبع بما ورد من كالم الكاتب الدكتور الريسوني مما استدرك به على ما
أقر به من انتفاء إعطاء تعريف للمقاصد؛ استدرك على هذا بالتذكير على أنه عثر
على شيء ينفي هذا االنتفاء ،وهو ما ساقه من تعريفي ابن عاشور وعالل
الفاسي رحمهما هللا تعالى ألحقنا هللا بهما مسلمين غير مب ِّ
دلين!
ي
لنعتبر عنصري التّعريفين إذا مثنى وفرادى ،ثم لننظر بالتّحليل المنطق ّ
األوّلي ما هما!
َّ
ّ
الشريعة أو معظمها' هو من التّركيب
إن قول ابن عاشور' :في جميع أحوال
الشرطي المنفصل ال يجوز في الح ّ
ّ
ّ
د إال غير
الشرطي المنفصل؛ والتّركيب
ي ،أي ليس مانعا للجمع ،ألن من طبيعة الح ّ
د التّحديد المنافي لإلبهام .أي
حقيق ّ
الساعي إلى نفيه .وهذا مما جاء متميّزا عند الجويني رحمه هللا في قوله:
15
ضالل المقاصديين
'وذوو البصائر ال يودعون مقاصد الحدود إال في عبارات هي قوالب لها ،تبلغ
18
الغرض من غير قصور وال ازدياد ،يفهمها المبتدئون ويحسنها المنتهون'.
ومنه وجب اعتبار إمكان التّعريف ساريا على حالة 'معظمها'
واعتبارا لقوله' :بحيث ال يختص مالحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام
ّ
الشريعة' يهم النوع ال المعين من األحكام،
ي 'مقاصد
فإنه ال يمتنع خروج أحكام عن المجال ،وهذا مناقض للعنصر البيان ّ
ّ
الشريعة' المفيد التّعريف والتّحديد واالستغراق.
ونجد بيانا أو قل تعريفا ثانيا آخر مخالفا عند ابن عاشور كما ساقه مؤلف كتاب
ّ
الشريعة عند ابن تيمية' الدكتور البدوي ،مردفا إلى التعريف األول:
'مقاصد
'هي األعمال والتصرّفات المقصودة لذاتها ،والتي تسعى النفوس إلى
19
َّ
السعي إليها امتثاال'
تحصيلها ،بمساع شتى أو تحمل على
وهذا التّعريف في اختالف مبين مع تعريف عالل الفاسي في قوله' :واألسرار
ّ
الشارع عند كل حكم من أحكامها' باعتبار عدم حقيقية االنفصال
التي وضعها
ّ
الشرطي في التّعريف ،وقصد النفوس وسعيها إلى التحصيل؛ فإن القصد ال يكون
إال لمعلوم ال سرّ من األسرار.
ثم إنه ال يحتاج إال للبصيرة للوقوف على حقيقة ما يع ّ
ج به الكالم أعاله من
االختالل والفساد؛ االختالل والفساد النّاجم عن اقتحام ما ال يحق من الحمى بغير
علم وال ضابط من تخوف الزيغ وال ّ
ضالل ،كال َّتقسيم في شأن هام من األصول ،بل
ّ
الحق.
أعلى مما هو في اتصال بعلم
إنه يكفي لتبيان هذا قوله في المقاصد العا ّمة' :وإقامة المساواة بين النّاس'
ّ
للشارع لتحقيق
ثم قوله في المقاصد الخاصّة' :ويعني بها الكيفيات المقصودة
مقاصد النّاس النّافعة'
وهل يباين 'إقامة المساواة بين النّاس' أو هو خارج عن 'مقاصد النّاس النّافعة'؟!
ّ
ّ
الحق والميزان لما يبنى على
النص الثاني فاسد ،وال قبول في
إذا فكالمه في
الباطل؛ فكل ما يبنى على الباطل باطل.
18
البرهان للجويني ،)70( ،ص20
19
ّ
الشريعة :تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي ،دار النفائس للنشر والتوزيع ،األردن
ابن عاشور ،مقاصد
،ص146
16
ضالل المقاصديين
17
ضالل المقاصديين
ش ْرك الم َ
قاصد:
- 3ضالل ِ
الشارع ،م َ
(م َ
ّ
قاصد المكلَّف)
قاصد
ّ
النص األوّل؛ فقوله:
نعود إلى
'المقصود أو المقصد :هو ما تتعلق به نيتنا وتتجه إليه إرادتنا ،عند القول أو
الفعل.
ّ
ّ
الشارع – هي المعاني والغايات
الشريعة – أو مقاصد
وعلى هذا فمقاصد
ي'.
ي والتّكليف الشرع ّ
واآلثار والنتائج ،التي يتعلق بها الخطاب الشرع ّ
≈
هذا القول أو المادّة البياني ّة منعدمة القيمة المعلوماتية ،وذلك بديهي عند كل
عاقل من غير لزوم لدراية القواعد المنطقي ّة .فالتّعريف على اقتضابه هو معطى
ّ
ي لغو ّ
الشريعة هي إضافة لغوية وبياني ّة ليس إال َّ.
ي ،وإضافته إلى
معجم ّ
وبناء على المقصود المراد ،أي ما هو في موضع المسألة ،والمنحو قصدا
ّ
الشريعة' ال يبقى أمر التقييم
بالمادّة االستنباطية في قوله' :وعلى هذا فمقاصد
منحصرا في عدم الفائدة المعلوماتية ،ولكن في حقيقة بطالن الجواب كونه كلية
محض اللغو والحشو.
وكذلك بادئ الحكم في قوله' :ف ّ
الشريعة تريد من المكلَّفين أن يقصدوا إلى ما
قصدت هي ،وأن يسعوا إلى ما هدفت وتوخت'.
ي عنه ،وهو في حقيقته ين ّ
م عن عدم التّصوّر
فهذا محض التكل ّف المنه ّ
َّ
فإن األمر والتّشريع ال يكون
ي عموما؛
ي والقانون ّ
الصّحيح لحقيقة الخطاب التّشريع ّ
في سنخه وأصله إال مستوفى البيان والتّحديد.
ولنتوقف م ِلي ًّا عند هذه اإلضافة البياني ّة في الح ّ
ق والمنطق ،ولننظر ما إفادتها
وما حقيقتها!
َّ
ّ
الشارع هنا هو هللا سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة،
إن
والمقاصد هنا هي مقاصده ع َّز وج َّ
ل الذي له الخلق واألمر .وهذه المقاصد
لكي يحصل أدنى أو اهر التأطير لها عند أهل العلم ،بل أعلمها هللا تعالى
خطابا مجيدا لمن يتدب ّر آياته في قوله سبحانه{ :جعل هللا الكعبة البيت
18
ضالل المقاصديين
الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقالئد' ذلك لتعلموا أن هللا
يعلم ما في السماوات وما في األرض وأن بكل شيء عليم'}(المائدة)99
قال القرطبي رحمه هللا في تفسيره:
'{ذلك لتعلموا} ذلك إشارة إلى جعل هللا هذه األمور قياما؛ والمعنى
فعل هللا ذلك لتعلموا أنه يعلم تفاصيل أمور السماوات واألرض ،ويعلم
مصالحكم أيها النّاس قبل وبعد ،فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم'.
ولعله من األكثر إفادة في فقه هذه اآلية من القرآن العظيم ما جاء في
تفسير ابن عاشور رحمه هللا تعالى ،تفصيال لما جاء في معرض ذلك من
قوله:
'ووجه جعل داللة الكعبة قياما للناس وما عطف عليها ،على كونه
تعالى يعلم ما في السماوات وما في األرض ،أنه تعالى أمر ببناء الكعبة
في زمن إبراهيم ،فلم يدر أحد يومئذ إال أن إبراهيم اتخذها مسجدا ،ومكة
يومئذ قليلة السكان ،ثم إن هللا أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة
القاصدين إليها ،ووقّت للناس أشهرا القصد فيها ،وهدايا يسوقونها إليها،
فإذا في جميع ذلك صالح عظيم وحوائل دون مضار كثيرة بالعرب لوال إيجاد
الكعبة ،كما بيناه آنفا .فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء هللا باإلسالم.
فال شك أن الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمة كبيرة ،وأن
ستحمد تلك األ َّمة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها .وكان ذلك تمهيدا
لما علمه من بعثة محمد صلى هللا عليه وسلم فيهم ،وجعلهم حملة
شريعته إلى األمم ،وما عقب ذلك من عظم سلطان المسلمين وبناء
حضارة اإلسالم'.
≈
ّ
الحق وبالفقه ،وعلى هدى ،وبالكتاب المنير ،للمعنى الذي
هذا إذن تأطير ب
ينبغي لقول الريسوني' :المعاني والغايات واآلثار والنتائج ،التي يتعلق بها الخطاب
ي'.
ي والتّكليف الشرع ّ
الشرع ّ
وجلي لمن يعقل من أهل العلم وغيرهم أن ليس إلبراهيم عليه السالم وما
ينبغي له أن يعلم كل 'مقاصد' (مقصودات وحكمة) هللا تعالى في أمره ببناء الكعبة
ّ
ّ
الحق؛
الحق لهي
ورفع القواعد من البيت وإسماعيل عليه السالم؛ وإن 'مقاصد'
وإن كل ما احتواه مجال الكعبة البيت الحرام من قيام للناس والدواب والشجر وكل
لقطة حبة منقار طائر هي من 'مقاصد' آثار وهيمنة حكمة األمر.
َّ
السعي
وإذا انتبهنا أو تقرّر لدينا أن قول الريسوني' :ويريد من المكلَّفين
والوصول إليها' يخرج عن احتمال العلية فيه بالجملة بعدها' :ف ّ
الشريعة تريد من
المكلَّفين أن يقصدوا إلى ما قصدت هي ،وأن يسعوا إلى ما هدفت وتوخت-'.
19
ضالل المقاصديين
وهذا ما جعلنا نفصله عما قبله -وأن الضمير في 'إليها' يعود على المقاصد ،أي
المعاني والغايات واآلثار والنتائج' تبين لنا واتضح على ما تتضح به الواضحات ألولي
ي مدى هو في ال ّ
األبصار مدى فساد هذا القول وأ ّ
ضاللة.
وبناء عليه وتوافقا مع شائبية قوله' :ف ّ
الشريعة تريد من المكلَّفين أن يقصدوا
إلى ما قصدت هي ،وأن يسعوا إلى ما هدفت وتوخت '.وأن المقصد متضمن في
ّ
للشارع ال للمكلَّف؛ بل إن المنطق يكفي لوحده ردّ هذا التّناقض،
األمر ،واألمر
فالمكلَّف مأمور ،والقصد إرادة خارج إرادة الطاعة والعصيان؛ وهما ،أي إرادة القصد
والتّكليف ،ضدان متنافيان؛ فهذه شائبة في بنية القول يفقد معها شرط النقاء
ي ،الذي هو ضمان علمي ّته وصبغته العلمي ّة ،وهو في كل ذلك
والقوام المنطق ّ
ّ
الحق ،التي ليس دونها إال التخرّص .وهذا طبعا متناسق
شرط لقيمة الصّدقية و
ومفسر منطقيا الفتقاد التعريف ل'المقاصد'.
بناء على هذا كله يحكم حكما بات ًّا قطعي ًّا ببطالن ثنائية المقصد في األمر
ّ
الشارع ،مقاصد المكلَّف)
ي( :مقاصد
التّشريع ّ
ومنه يستنبط بطالن ك ّ
صدي ّين وبنائهم؛
ل على ما بني عليه من مقول المقا ِ
فهذا يأتي بناءهم من القواعد.
وهذا يبين الهراء والفساد البي ّن في قوله:
ّ
الشرع ال يمكن أن تتحقق إال عبر مقاصد
'ويكفينا منه أن نعلم أن مقاصد
المكلَّف'
أوال لما تجلى من حدود إرادة المكلَّف في الطاعة والعصيان ،قيمتي موقف
المكلَّف من األمر الذي المقصد مكوّن جوهر ّ
ي والقانوني.
ي فيه باالعتبار التّشريع ّ
وثانيا لما يؤول إليه من توقف إرادة هللا تعالى المنطبقة هنا بكل وضوح
بمقاصده على مقاصد المكلَّف التي هي من إرادته.
ّ
يم ،وطاعة أو عصيان
وإنما النّسق هنا في
ي الحكِ ِ
الشريعة هو أمر من العلِ ّ ِ
َّ
ّ
الشارع؛ هو من مكوّنات
عند المكلَّف .أ ّما قصد المكلف هنا فهو غير مساوق لقصد
الفعل والسلوك ،إذ النّي ّة تدخل ضمن جوهر وحقيقة إ ّما موقف الطاعة وإ ّما موقف
العصيان.
ّ
الشاطبي' رغم وصله حقيقة
والريسوني في كتابه 'نظريّة المقاصد عند اإلمام
ي وفعل المكلَّف،
مقصد المكلَّف بالنية ،لم يبصر بتفاوت وتباين حقلي األمر الشرع ّ
وأ ّ
ن النية مكوّن في فعل المكلَّف كموقف إحدى قيمتي الطاعة أو العصيان؛ وهو
20
ضالل المقاصديين
ّ
الشاطبي ليس جدة من العلم وإن ّما
لذلك كله لم يدرك أن ما ذهب إليه
هو اختالط مبين؛ يقول الريسوني:
'مقاصد المكلَّف
ّ
الشاطبي ،ذلك أن «مقاصد
وهذا جانب من جوانب اإللهام واإلبداع في نظريّة
ّ
الشارع» ال تتم وال تتحقق إال بتصحيح مقاصد المكلَّف .فكان من شدة عناية
ّ
ّ
الشارع أن اهتدى لتتويج الكالم فيها بالكالم في مقاصد
الشاطبي بمقاصد
المكلَّفين .وهذا أمر جديد تمام الجدة في الموضوع ،أعني إلحاق الكالم في
ّ
الشريعة ،وربط هذا بذاك ،وبيان ما بينهما من
مقاصد المكلَّفين بالكالم في مقاصد
تالزم وتكامل.
ولقد تكلم العلماء – علماء التوحيد ،وعلماء التربية( ،أو التخلق) ،وعلماء الفقه
– تكلموا في هذا الموضوع تحت باب النية ،واعتنوا به العناية الالزمة ،حتى قال
ابن أبي جمرة ،األندلسي المالكي« :وددت لو كان من الفقهاء من ليس له
شغل ،إال أن يعلم النّاس مقاصدهم في أعمالهم ،ويقعد إلى التدريس في أعمال
النيات ليس إال ،فإنه ما أتِي على كثير من النّاس إال من تضييع ذلك».20
ّ
الشاطبي قد استفاد مما كتبه العلماء في موضوع النيات
وال شك أن
21
والمقاصد ،وبنى عليه'.
≈
ي إلهام وإبداع يتح ّ
عن أ ّ
ي
دث هنا الريسوني؟ ومتى كان اعتبار الال ّزم الجل ّ
ج ّ
دة'؟
للحاصل إلهاما وإبداعا بل و'جديدا تمام ال ِ
ّ
الشاطبي
صدي ّة والمصالحي ّة ترجع إلى ما قبل
فلئن كانت ال َّتقسيمات المقا ِ
بعدة مئات السنين بضعة قرون ،إلى طو ِر بيان الجويني رحمه هللا تعالى ،فإن
ّ
الشاطبي في حقيقة األمر لم يكن سوى ناقال حتى اللفظ والحرف بوصل مثبت
بن محمد اآلمدي شيخ العزّ ابن عبد السالم
في معايير التوثيق واالتصال لعل ّ
ي ِ
صدي ّة
رحمهما هللا تعالى؛ وإنه لم يضف إلى فاسد ال َّتقسيم أو ال َّتقسيمات المقا ِ
والمصالحي ّة إال إسرافا في التّفريعات رجعت عليه بكل ما هو في العقل يعد من
ل ما في معنى الهراء وال ّ
ضروب الهراء وال ّ
ضالل ،وبك ّ
ضالل .وليتخذ من بعده سجال
صدي ّين ،ألِ ّ
البن تيمية أم
لشاطبي أم
وتنازع إلى من تسند له مشيخة المقا ِ
ِ
20
ّ
الشريعة
أورد هذا النص الدكتور عمر سليمان األشقر في كتاب مقاصد المكلَّفين ،. . .ص( 97عن مقاصد
ّ
الشاطبي)
عند اإلمام
21
ّ
ّ
الشاطبي – ص242-241
الشريعة عند اإلمام
مقاصد
21
ضالل المقاصديين
لغيرهما ممن انتهت إليه رؤية مرجع إصدار األحكام كما قال من انتهت رؤيته عند
العز بن عبد السالم في كتابه القواعد الكبرى' :هو أوّل من فتح باب نظريّة
المقاصد في هذا الكتاب الذي ليس أحد مثله22'.؟ ليتخذ هذا السؤال وجها آخر
هو حقيقته؛ الحقيقة التي تتحدد وال وقوف عليها إال بالتمييز بين أمرين ،األول
صد ّ
ي وتقسيماته المتضاربة التي تفي وحدها للحسم
البيان المقا ِ
ي والمصالح ّ
في عدم علمي ّتها؛ والثاني تفاقم هذا األمر وتداعياته وبلوغه بتصوّر ال ّ
دين وأركانه
تصوّرا حرجا ليس يبقي على ال ّ
دين الذي بعث به هللا تعالى رسوله محمدا صلى
ّ
الشريعة عن ابن تيمية'
هللا عليه وسلم حقيقته األولى .يقول مؤلف كتاب 'مقاصد
د .يوسف أحمد محمد البدوي:
الشاطبي في علم المقاصد ،وأنه م ّ
ّ
ؤسس
'لقد أشار أكثر من واحد إلى دور
هذا العلم وشيخ المقاصد.
فأما إنه م ّ
ؤسس علم المقاصد ومبدعه ،فهذا ال يسلم على ما مر في تاريخ
المقاصد.
صدي ّين ،فهذا إن سلم من النّاحية النظري ّة التأصيلية ،فإنه
وأما إنه شيخ المقا ِ
ال يسلم بإطالق ،إذ استبان من خالل هذه الرسالة ،وما سيأتي في المباحث
التالية ،أن ابن تيمية قد بلغ شأوا بعيدا ،وغاية سامية ،في تأصيل هذا العلم،
وبيان أصوله وأقسامه وإقامة دعائمه وبيان وسائله وضوابطه ،وإثرائه بالتطبيقات،
ّ
ّ
الشاطبي وبالؤه
الشريعة ،ومع كل هذا فال ينكر جهد
وتو يفه في شتى مناحي
العظيم في لم شتات هذا العلم وإخراجه على النّحو الذي نظمه .هذا على
مستوى النّاحية التنظيرية ،أما على مستوى النّاحية التطبيقية التو يفية فابن
صدي ّين وقائدهم ،وهو رائدهم وأستاذهم ،ال سيما وأن
تيمية هو شيخ المقا ِ
ّ
الشاطبي قد انتقد من البعض ،وممن درس المقاصد عنده خصوصا ،بأنه تطوح في
مسائل المقاصد إلى تطويالت وخلط ،وغفل عن مهمات من المقاصد ،وأنه
استطرد كثيرا ،وفرع فروعا خارجة عن المقصود ،مما سبب تشتت وحدة
الموضوع ،وأضفى على كتابه الموافقات روح الجدل الممل ،يسبب االعتراضات
والردود ،مما جعل عمله يتخذ طابعا تعليميا ،ال يتيح للعقل أن يفكر ،وإنما يتيح
للذاكرة أن تنقل فتتفخم.
22
مق ّدمة التحقيق للقواعد الكبرى ،ج :1المح ّققان مزيه كمال ح ّ
ماد وعثمان جمعة ضميرية ،ص – 34دار القلم
دمشق22
ضالل المقاصديين
ّ
الشاطبي إلى هذه المنزلة في علم المقاصد أنهم لم
ولعل العذر لمن رفعوا
ّ
الشاطبي
يطلعوا على ما كتبه ابن تيمية وما قعده وأصله في هذا الباب .وإذا كان
23
النجم فابن تيمية الشمس'.
≈
فأ ّ
ما األمر األوّل ،أمر تقسيمات وبيان المقاصد فيمثله قوله:
'فأما إنه م ّ
ؤسس علم المقاصد ومبدعه ،فهذا ال يسلم على ما مر في تاريخ
المقاصد'.
وهذا التاريخ ليس يرجع إلى ابن تيمية بل يتجاوزه إلى ما قبله مئات من
السنين عددا.
ّ
للشريعة التي جاء بها
وأ َّما تفاقم األمر حتى الفسوق عن الحقيقة األولى
م أمر ال ّ
الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وقبض عليه الصّالة والسالم وقد ت ّ
دين
واستكمل؛ تفاقم أمر المقاصد وبلوغه الوضع الحرج بالفسوق عن حقيقة ال ّ
شريعة
وال ّ
دين؛ فهذا قد سلِم منه ابن تيمية بما آتاه هللا تعالى من نظر نفاذ ومن عقل
ممي ّز وازن بعيد الغور يبلغ مداه البعيد و ال ّ
دقيق من القول ،ليس يلفظ بالكلمة
حتى يرى موضعها وبيانها في الميزان؛ فال يمكن أبدا لرجل مثل ابن تيمية أن
والسجود من مك ّ
ّ
مالت الصّالة ،أو أن
يخرج من لسانه منكر القول كون الرّكوع
ّ
حس من فقدها
يخاطب النّاس ابتداءا على اإلطالق أن شارب الخمر في الدنيا ال ي
في اآلخرة من ألم أو حرمان!
ّ
السليم والصّحيح ،التّصوّر المقرّر
فابن تيمية إن قال بالمقاصد فعلى التّصوّر
بداهة في العقول كون ك ّ
ل منظومة قانونية لها مقصود وغايات وضعت هذه
القوانين من أجلها؛ وهللا تعالى أحكم الحاكمين ووصف كتابه ع َّز وج َّ
ل بأن ّه عزيز
ّ
للشريعة غايات ح ّقة على أبلغ ما يكون من
حكيم ،مجيد حكمه وبالغة حكمته؛ ف
وجه العلم والحكمة؛ هي عند العقالء من أول وأعظم المسلمات .بل إن القانون
كما جاء في بعض تعريفاته ليس إال معيار السلوك المناسب لبلوغ غاية معينة
وأغراض محددة ،ومن هنا كانت مقولة توما األكويني أن القانون إنتاج وعمل
ي ،ألن العقل هو الذي تتحدد عنده األهداف والغايات وهو ال ّ
دليل والمحدد
عقل ّ
للوسائل .24بل إننا نجد تقريرية المقاصد (المقصودات أو الغايات) القانونية عند
23
ّ
الشريعة عند ابن تيمية ،الدكتور يوسف أحمد محمد البدوي ،دار النفائس للنشر والتوزيع األردن،
مقاصد
ص506-505
24
¶
La loi. Fiche pratique de Philosophie Politique – Renouveau Français
23
ضالل المقاصديين
شيشرون إذ جعل موضوع القانون وو يفته حفظ المساوات في العالقات
االجتماعية بين األفراد والعدالة وتمنح كال ما هو أجدر به وأحق مع مراعاة الصالح
العام .وهذا جامع لكل المصالح 25.بيد أن ابن تيمية جعل بين المرجعين
صديين أو قل ال ّ
داللتين المقاصديتين ،جعل بينهما حاجزا؛ وذلك من أهم ما
المقا ِ
ّ
الشريعة عند ابن تيمية' د .يوسف أحمد محمد
سطره صاحب كتاب 'مقاصد
26
البدوي ،إذ يقول:
'تعريف المقاصد عند ان تيمية:
أعرض هنا بعضا من عبارات ابن تيمية توضح مراده بالمقاصد ،ومن ثم نخلص
إلى تعريفه لها.
– 1الغايات المحمودة في مفعوالته ومأموراته سبحانه – وهي ما تنتهي إليه
مفعوالته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة.27
– 2إن لفعله سبحانه غاية محبوبة وعاقبة محمودة.
28
– 3الفالسفة أكثر النّاس كالما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع
29
والمقاصد والحكم الموافقة لإلنسان وغيره.
– 4فإن هللا ضرب للناس في القرآن من كل مثل ،وبين باألقيسة العقلي ّة
المقبولة بالعقل الصّريح من بيان المطالب اإللهية والمقاصد الرّبّانية ،ما ال تصل
إليه آراء هؤالء المتكلمين.30
– 5الحكمة :التي هي الغايات والمقاصد في أفعاله سبحانه.
25
31
Denis Touret : LES GRANDS IDEOLOGUES et les autres- Ie système normatif de
CICERON
26
ّ
الشريعة عند ابن تيمية :د .يوسف أحمد محمد البدوي ،دار النفائس للنشر والتوزيع األردن،
مقاصد
ص51-50
27
ابن تيمية ،مجموع الفتاوي ،ج ،3ص19
28
ابن تيمية ،منهاج السنة ،ج ،1ص465
29
ابن تيمية ،بيان تلبيس الجهمية ،ج ،3ص203
30
ن م ،ج ،1ص326
31
ابن تيمية ،شرح الفهانية ،ص161
24
ضالل المقاصديين
– 6الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات
المحبوبة . . .فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه
الشرعي ّة.32
– 7فإن قيل :المقاصد في األقوال واألفعال هي عللها التي هي غاياتها
ونهاياتها . . . ،وهذه العلل التي هي الغايات هي متقدمة في العلم والقصد
متأخرة في الوجود والحصول.33
ّ
الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد
– 8ومن أنكر ما اشتملت عليه
التي للعباد في المعاش والمعاد . . .فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله
بال ّ
ضرورة.34
– 9إن أمره وتشريعه سبحانه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما
يضرهم.35
– 10والخلق صالحهم وسعادتهم أن يكون هللا هو معبودهم ،الذي تنتهي إليه
محبتهم وإرادتهم ،ويكون ذلك غاية الغايات ونهاية النهايات ،وهو الذي يجب أن
يكون المقصود بالحركات'.36
≈
صدي ّين وبيان فساد منظارهم وضاللهم أن يكون كله مجموعا
يكاد إشكال المقا ِ
في هذه الكلمات أو في بعض منها إذ يالحظ تطابق بينها وتداخل .وأيضا هو يكفي
ي الحسم بناجز الحكم على هذا الفساد العظيم ،وال ّ
ضالل
على وجه البرهان الجل ّ
ي الضا ّ
صد ّ
ل أكيدا ويقينا.
المبين للبناء المقا ِ
ي على المعنى االصطالح ّ
ما من مرجع من مراجع الفقهاء القانونيين إال وهو على ضرورة وعادة منهجية
ي للقانون كمنظومة تنظيمية لكيان م ّ
ؤسساتي
من أن يذكر التأصبل الفلسف ّ
معي ّن سواء أكان دولة أو مجتمعا أو كيانات خاصّة.
وليس له أن يم َّر على هذا التأصيل دون يس ِل ّم في نهاية أمره بعالقة القانون
بنظمة العقل والغاية التي من أجلها يستوجب هذا القانون ال غيره ،و ّ
الشرط في
32
ابن تيمية ،منهاج السنة ،ج ،1ص141
33
ابن تيمية ،بيان ال ّ
دليل ،ص239-238
34
ابن تيمية ،مجموع الفتاوى ،ج ،8ص167
35
ابن تيمية ،منهاج السنة ،ج ،3ص36
36
ابن تيمية ،درء التعارض ،ج ،9ص373 -372
25
ضالل المقاصديين
ّ
ي
ذلك العلم والخبرة .إذن فهذه النظمة الثالثي ّة هي المنتج
الحق والمنطق ّ
للقانون ،وليس العقل وحده ،وليس العلم وحده ،والعقل ليس متضمنا في جوهره
ي الح ّ
م.
المنطق ّ
ق لِل ِعل ِ
هنا ينتهي األمر ويحسم الحكم؛ فإنه ليس ينبغي اإلحاطة العلمي ّة لغير هللا
سبحانه ،بل والسعة األنساقية العقلي ّة؛ فاهلل تعالى هو خالق العقول وهو ع َّز
وج َّ
ل أحكم الحاكمين وهو العليم الخبير.
وإذن فاإلشكال الحقيقي موضعه وكنهه هو الكفر واإليمان على أول الوضع ثم
مدى تحقق الرّبّانية في العقل الفقهي .ومخطئ يقينا من يزعم أن العقل
37
ّ
والشرط في االستخالف؛
اإلسالمي الفقهي اليوم هو محقق لهذا المطلوب
ّ
ّ
الحق ال يجوز فيه إطالقا أن تتخلف فيه أمة ربانية وعقل
الحق والمنطق
فميزان
ي عن شروط التّمكين والحفا على هذا التّمكين في األرض ،وال
فقهي ربان ّ
التخلف عن ركب الحضارة اإلنسانية ،بل عن ركب العقل التّمكيني لكل أمم
األرض ،اليهود والنصارى والمجوس وعبدة األوثان.
ج ًّدا ،وهو أن اإلسالم دين ال يتب ّعض في شريعته وفي
وهنا يلوح أمر عظيم ِ
بنائه ،فالثلج ال يوجد في غير شروطه الفيزيائية ،وهل الكسروية يبقى معها
معنى لشريعة اإلسالم وال السير بال ّ
دين على منهاج رباني ،كال وكال ،فلكل عطل
في اآللة سبب موضوعي ،وما كان الفقه ترفا وزينة وهدفا للتزلف ومرقاة للشهرة
وال هدفا لذاته؛ فال حقيقة للفقه إال مع كيان مؤ ّ
سساتي إسالمي يعمل جوهري ّا
للحق؛ فهذه هي وجهة أعمال النّاس في المجتمع اإلسالمي الذي أرسل هللا
تعالى رسوله صلى هللا عليه وسلم ليقيمه على واقع األرض والتاريخ ،وليس أن
يكون مركز األعمال مو ّ
جها لرضى الحاكم؛ فهذا شر ّممن يخدمون لبالدهم فصنعوا
في بضعة عقود من العدة ومن رباط الخيل ما ليس لمن يزعمون اإلسالم
ويخدمون حياتهم كلها للقصر ،ما ليس لهم إمكان ووضع حتى للتفكير فيه .فمن
لم يصنع سالحه ومن لم يطور علم الصناعة لحظ التّمكين لأل َّمة فال فقه له وكأنما
حبط كل فقه عنده .أي خير في فقهاء هكذا يسمون وبالدهم مستباحة وأعراض
نسائهم مهتوكة.
ّ
الحق هو في هذا العقل الفقهي ،في هذا اإلنسان الذي
وإذن فاإلشكال
الشريعة لها نظمتها الم ّ
ّ
ؤسساتية التي أنزلت لها .هم تكلموا على
نسي أن
المناسبة في كل شيء حتى أسرفوا في ذلك أي ّما إسراف ،ولم يتكلموا بها فيما
37
هذا هو الردّ على السؤال المغرض لد .جاسر عودة 'أين هي الشريعة؟' الممثل حقيقة لموقفه واتجاهه
الفكري واالنتمائي ككل ،كما سيأتي بيانه.
26
ضالل المقاصديين
هو أول ما وجب من ذكرها فيه ،ما هو المناسب من األنظمة االجتماعية أو لنقل
للتفهيم على توافق اللسان ،ما هو أو ما هي األنظمة السياسية أو النظام
السياسي المتناسب ومعايير العقل المتفق عليه في عقول اآلدميين وعقول
الجن وما شئت من العقول ،المتناسب وشريعة ر ّ
ب العالمين؟
أو بسبيل آخر من القول ما هي األنظمة السياسية والعالقات االجتماعية
اإلنسانية التي لبعض التجمعات والكيانات البشري ّة ولو هي سميت مجتمعات و
ّ
الشريعة اإلسالمية ألنها ال تنبغي
دول وأوطان التي ال يمكن أن نتحدث فيها عن
لها وال وجه لالتفاق بينهما وال االتساق؟
ّ
الحق ،وإن كثيرا ممن يعدون أنفسهم علماء أو أكادميين اتخذوا
هذا هو الوضع
إشكاالت فقهية وعقلي ّة وصدقية بل اتخذوا العلم والفقه ترفا ،وكأن الشيطان
وضعهم مدركين أو غير مدركين لتلبيسه ،وضعهم وضع من اتخذ آيات هللا هزؤا .بل
هر أيضا ما بات له حقا أن يسمى بالمذهب االعتذاري ،وكما هو لالعتذار في
اللغة تع ّ
ديان ب'من' و'إلى' ،فهذا االعتذار يعتذر أصحابه إلى الغرب من شريعة
اإلسالم ،شريعة هللا تعالى ر ّ
ب العالمين! كما سوف نرى له هنا في الدرس في
الباب األخير من هذا الكتاب مثال.
وابن تيمية إن قال بالمقاصد فإنه لم يكن طوفيًّا (نسبة إلى مذهب نجم ال ّ
دين
ّ
النص ،وإن ّما جعل
الطّوفي كما سيأتي بيانه بعد حين) فقدم المصلحة على
موضعها وحي ّزها المصالح المرسلة التي معلوم ضيق حيزها في ال ّ
ي
دليل الشرع ّ
عنده:
'والقول بالمصالح المرسلة يشرع من ال ّ
دين ما لم يأذن به هللا [غالبا] .وهي
ي والرأي ونحو ذلك.
تشبه من بعض الوجوه مسئلة االستحسان و التّحسين العقل ّ
فإن االستحسان طلب الحسن واألحسن كالستخراج ،وهو رؤية الشيء حسنا
كما أن االستقباح رؤيته قبيحا ،والحسن هو المصلحة ،فاالستحسان واالستصالح
ي قول بأن العقل يدرك الحسن ،لكن بين هذه فروق.
متقاربان ،و التّحسين العقل ّ
ّ
الشريعة ال تهمل مصلحة قط ،بل هللا تعالى قد أكمل لنا
والقول الجامع أن
38
ال ّ
دين وأتم النعمة'.
ي على بعد البيان ،حيث ليس
وبناء على هذا ،وتوافقا مع االنضباط المنهاج ّ
ي للمقاصد إال المعنى الطّوفي الضّال؛ فابن تيمية لم
للمقا ِ
صدي ّين من إمكان دالل ّ
يكن طوفيًّا ،بله أن يكون شيخا للطوفيّة والضّالل!
38
مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية ،ج ،11مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف 1415ه ،ص344
27
ضالل المقاصديين
صدي ّين ،فهذا إن سلم من النّاحية النظري ّة
كذلك فقوله' :وأما إنه شيخ المقا ِ
التأصيلية ،فإنه ال يسلم بإطالق ،إذ استبان من خالل هذه الرسالة ،وما سيأتي
في المباحث التالية ،أن ابن تيمية قد بلغ شأوا بعيدا ،وغاية سامية ،في تأصيل
هذا العلم ،وبيان أصوله وأقسامه وإقامة دعائمه وبيان وسائله وضوابطه ،وإثرائه
ّ
الشريعة ،ومع كل هذا فال ينكر جهد
بالتطبيقات ،وتو يفه في شتى مناحي
ّ
الشاطبي وبالؤه العظيم في لم شتات هذا العلم وإخراجه على النّحو الذي
نظمه'.
≈
فهذا فاسد أي ّما فساد ،ألننا في إشكال خطير عن سؤال علمي ّة هذا الك ّ
م
المتراكم من األقوال إيجابا وسلبا؛ فال يجوز إطالق لفظي العلم والنظري ّة إال على
ّ
الشعرية والمجازية؛ ومتى كان عند العلماء والمناطقة طرّا أن
الحقيقة العلمي ّة ال
يسبق العلم نظري ّته وتتأخر هذه عنه حتّى يكون لهذا الكالم معنى وموضع قبول؟!
الشاطبي نظريّة بل هو ال ّ
ضالل ،وال ابن تيمية أصّل لعلم فال ب ّ
ّ
د
فال الذي عند
للعلم من هيكلة نظريّة!
والح ّ
صدي ّون من تداخل الحقول الحقائقي ّة وأبعادها ،وهذا ال
ق إنما أتِي المقا ِ
ّ
الشارع ومصالح المكلَّف على االعتبار
يقتصر على المقولة الفاسدة مصالح
المتساوق ،والتي تكفي ببطالنها على الحكم ببطالن مذهبهم وفساد بنائهم .بل
سوف يتّضح ذلك ويجلّيه البرهان الساطع والح ّ
ق األبلج المبين في ال َّتعليل ،وفي
َّ
وإن الباطل كان
مقولة المصالح والمفاسد ،ومسألة الحسن والقبح العقلي ّين،
زهوقا.
والمفارقة هنا عند الريسوني ،مفارقة عجيبة ًّ
حقا! هو قوله بأنه ال يعنيه كثيرا
أمر مقاصد المكلَّف في هذا المدخل ،والحال أن االرتباط كائن والتداخل حاصل ،بل
ّ
الشارع كما زعم متوقف عليها!
وأمر مقاصد
واالختالط بالوصف المبين الذي أشرنا إليه ليس تدرك حقيقته حتى يعلم َّ
أن
صد ّ
ي
القرافي 39الذي يعتبر عندهم ركنا مرجعا في هذا ال َّتقسيم الثنائي المقا ِ
الباطل (حق هللا ،حق المكلَّف) الموصول بعنصر مقاصد المكلَّفَّ ،
أن القرافي كما
سوف نبينه ال يأخذ أو لم يأخذ هذه المادّة البياني ّة والتّركيب ال َّتقسيمي من
صدي ّين؛ بل
شيخه العز بن عبد السالم على ذات المعنى الذي هو عند المقا ِ
بالمعنى النّاقض والنقيض لزعمهم وضاللهم.
39
القرافي شهاب ال ّ
دين أبو العباس أحمد بن إدريس المصري المالكي (626ه684 -ه)،
28
ضالل المقاصديين
ي في عالقة الدا ّ
ل
وإذا كان ما تقدم يخص الفحص من جهة التّحليل البيان ّ
بالمدلول في مادة 'االصطالح'؛ وهو كما رأينا وتبين كاف كفاء ناجزا للحكم في
دحض هذا الزعم الضال في مقام ال موضع فيه للزعم؛ وهذا حيزه علم البيان؛ فإن
الحق إال تجليا ووضوحا؛ ذلك أ ّ
ّ
ن
النظر والفحص على معيار اإلمكان ال يزيد
االصطالح ليس مطلق اإلمكان ،وأبرز ما ليس يصح فيه هو بيان األصول العليا
ّ
لل ّ
الشريعة هو منها .ومخالفة هذا الضابط العظيم،
دين ،والتي ال شك كل ما يهم
ضابط العلماء ًّ
حقا ،مخالفته ال يخرج قيد أنملة عن حقيقة اللغو في الح ّ
ق والخوض
عمها وضالال.
29
ضالل المقاصديين
الفصل الثاني
صدي ّة للجويني
الب ْؤرة المقا ِ
وسؤال َّ
التعليل
30
ضالل المقاصديين
- 1م ْع َ
جم أصحاب المقاصد مرجعه إلى الجويني
'وقد أكثر المح ّققون في وجوه ال َّر ِدّ على أصحاب الطرد .وحاصل ما ذكروه يئول
إلى وجوه منها أن أقيسة المعاني لم تقتض األحكام ألنفسها ،وإنما هر لنا من
دأب أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم التعلق بها إذا عدموا متعلقا من
الكتاب والس َّنة؛ فكان مستند األقيسة الصّحيحة إجماعهم على ما سبق تقريره.
والذي تحقق لنا من مسلكهم النظر إلى المصالح والمراشد واالستحثاث على
ّ
الشريعة؛ فأما االحتكام بطرد ال يناسب الحكم ال يثير شبها ،فما
اعتبار محاسن
كانوا يرونه أصال .فإذا لم يستند الطرد إلى دليل قاطع سمعي .بل يتبين أنهم
كانوا يأبونه وال يرونه .ولو كان الطرد مناطا ألحكام هللا تعالى لما أهملوه وعطلوه.
فقد استمرت الطريقة قاطعة من وجهين:
أحدهما أنا أوضحنا أنه ليس للطرد مستند معلوم وال مظنون ،وليس هو في
نفسه مقتضيا حكما لعينه.
واآلخر أنا نعلم إضرابهم عن مثله في النظر في أحكام الوقائع ،كما نعلم
40
إكبابهم على تطبيق األحكام على المصالح الشرعي ّة؛ وهذه طريقة واقعة'.
≈
يكفي هذا إثباتا للمادّة البياني ّة ماثلة شاخصة عند الجويني رحمه هللا تعالى،
بيانا طافيا يغمر ك ّ
ل كالم الجويني كما سوف يتراءى ملء أفق الرؤية ويتضح بقوة
للنّا ر.
'وعندي أن األشباه المغلبة على الظن وإن كانت ال تناسب األحكام ،فهي
تناسب اقتضاء تشابه الفرع واألصل في الحكم؛ فهذا هو السر األعظم في الباب.
فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلي ّة
ّ
الشريعة .فإن كل مصلحة ال تنتهض
واألصل؛ يعني النحصار المصلحة في أصول
41
علة ،والشبه لو ج ِرّد ال يقتضي الحكم'.
الشرع متض َّ
ّ
عل ّة.
فالمصلحة في أصول
منة ،وكل مصلحة ال تنتهض ِ
40
البرهان للجويني – ص176-175
41
ن م – ص201
31
ضالل المقاصديين
32
ضالل المقاصديين
- 2تقسيمات أصحاب المقاصد مرجعها عند الجويني
'الباب الثالث
في تقاسيم العلل واألصول
ّ
الشريعة ونحن نقسمها خمسة أقسام:
– 901هذا الذي ذكره هؤالء أصول
أحدها :ما يعقل معناه ،وهو أصل ،ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري
ال بد منه ،مع تقرير غاية اإليالة الكليّة والسياسة العامية .وهذا بمنزلة قضاء
ّ
الشرع بوجوب القصاص في أوانه؛ فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة،
والزجر عن التهجم عليها .فإذا وضح للنا ر المستنبط ذلك في أصل القصاص،
تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه ،وهو الذي يسهل تعليل
أصله .ويلتحق به تصحيح البيع فإن النّاس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ ذلك ضرورة
اهرة .فمستند البيع إذا أيل إلى الضّرورة الراجعة إلى النوع والجملة .ثم قد تمهد
ّ
الشريعة أن األصول إذا ثبتت قواعدها فال نظر إلى طلب تحقيق معناها في
في
آحاد النوع .وهذا ضرب من الضروب الخمسة.
– 902والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العا ّمة ،وال ينتهي إلى حد ال ّ
ضرورة.
وهذا مثل تصحيح اإلجارة؛ فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع
القصور عن تملكها وضنة مالكها بها ،على سبيل العارية .فهذه حاجة اهرة غير
بالغة ال ّ
ضرورة المفروضة في البيع وغيره .ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة
ّ
الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال
آحاد الجنس ضرار ال محالة ،تبلغ مبلغ ال ّ
ضرورة في حق الواحد .وقد يزيد أثر ذلك
في ال ّ
ضرر الراجع إلى الجنس ما ينا ل اآلحاد بالنسبة إلى الجنس .وهذا يتعلق
بأحكام اإليالة .والذي ذكرناه مقدار غرضنا اآلن.
– 903والضرب الثالث ما ال يتعلق بضرورة حاقة وال حاجة عامة ،ولكنه يلوح
فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها .ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس
طهارة الحدث وإزالة الخبث .وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا :ما الح ووضح
الندب إليه تصريحا كالتنظيف .فإذا ربط الرابط أصال كليا به تلويحا ،كان ذلك في
الدرجة األخيرة والمرتبة الثانية في المقاييس ،وجرى وضع التلويح فيه مع االمتناع
عن التصريح وضع حمل المكلَّفين على مضمونه مع االعتضاد بالدواعي الجبلية،
ّ
السابقة والصور الممثلة.
كما سبق تقرير هذا في المسالك
33
ضالل المقاصديين
– 904والضرب الرّابع ما ال يستند إلى حاجة وضرورة ،وتحصيل المقصود فيه
مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي.
وبهذه المرتبة يتميّز هذا الضرب من الضرب الثالث.
وبيان ذلك بالمثال أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق ،وهو مندوب إليه.
والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن أمورا خارجة عن األقيسة
الكليّة كمعاملة السيد عبده ،وكمقابلة ملكه بملكه .والطهارات قصاراها إثبات
ّ
السبب وجوبا إلى إيجاب ما ال تصريح بإيجابه .وليس فيها اعتراض على أصل آخر
ّ
الشرع النكاح على
سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح .وقد مثلناها بوضع
تحصين الزوجين.
– 905والضرب الخامس من األصول ما ال يلوح فيه للمستنبط معنى أصال ،وال
مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة .وهذا يندر تصويره جدا؛ فإنه
إن امتنع استنباط معنى جزئي فال يمتنع تخيله كليا .ومثال هذا القسم العبادات
البدنية المحضة ،فإنه ال يتعلق بها أغراض دفعية وال نفعية .ولكن ال يبعد أن يقال:
تواصل الو ائف يديم مرون العباد على حكم االنقياد ،وتجديد العهد بذكر هللا
تعالى ،ينهى عن الفحشاء والمنكر؛ وهذا يقع على الجملة .ثم إذا انتهى الكالم
في هذا القسم إلى تقديرات ،كأعداد الركعات وما في معناها ،لم يطمع القايس
في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما ال ينقاس أصله.
فهذا بيان ضروب األصول على الجملة'.
42
≈
من هنا بدأ الضّالل:
'وال مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة . . .
ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة ،فإنه ال يتعلق بها أغراض
دفعية وال نفعية'
ُّ
صد ّ
ي
فهذه هي البؤرة
السوء ،البؤرة التي سيخرج منها الضّالل المقا ِ
كما سيأتي تفسيره.
ّ
النص أعاله الذي يعود للجويني ،نالحظ ونرصد
هكذا إذا نالحظ في
َّ
صد ّ
التقسي َ
ي بحذافيره .يقول الدكتور أحمد الريسوني في مؤلفه
م المقا ِ
ّ
الشاطبي'!:
'نظريّة المقاصد عند اإلمام
42
ن م – ص215-214
34
ضالل المقاصديين
'استفادته من األصوليين
لقد رأينا األصوليين – منذ الجويني والغزالي – يقسمون المصالح إلى ضرورية
وحاجية وتحسيني ّة .ويحصرون الضروريات في خمس ،وهي :ال ّ
دين ،والنفس،
ّ
الشاطبي.
والعقل ،والنسل ،والمال ،وعلى هذا سار
...
كما أن األمثلة التي يوردها لتوضيح المراتب الثالث :الضروريات والحاجيات
والتحسيني ّات ،ولبيان حفظ الضروريات الخمس ، . . .هي نفسها تقريبا التي
نجدها عند سابقيه ،وخاصّة الغزالي.
...
أما الجويني – وهو أقدم هؤالء – فقد رأينا سبقه في وضع لبنات أولى لصياغة
نظريّة المقاصد .ف ّ
الشاطبي – كغيره – مدين له في هذا ،بشكل مباشر وغير
مباشر .وباإلضافة إلى هذه االستفادة العا ّ
مة من أفكار الجويني في المقاصد ،فإنا
ّ
الشاطبي ،يمكن إرجاع أصلها إلى كالم الجويني.
نجد مسائل معينة عند
من ذلك ما سبق من القول بأن أصول الفقه قطعي ّة ال نّية .وهي المسألة
ّ
الشاطبي الموافقات ،وهي أيضا في الصّفحات األولى من
التي افتتح بها
«برهان» الجويني . . .
ّ
الشاطبي من كون األحكام تختلف بحسب الكليّة
ومن ذلك ما تقدم عند
والجزئية .فقد يكون الفعل مباحا بالجزء ،لكنه واجب أو مندوب بالكل . . .وبهذا
الميزان قرر -في كتاب المقاصد – أن مجموع الحاجيات و التحسيني ّات ،ينتهض أن
يكون ك ّ
ل واحد منهم كفرد من أفراد الضروريات.
وشبيه بهذا النظر ،نجده عند إمام الحرمين ،حيث يرى – مثال – أن البيع يعتبر
من الضروريات بالنظر إلى العموم ،بحيث «إن النّاس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ
ذلك ضرورة اهرة .فمستند البيع إذا ،آيل إلى ال ّ
ضرورة الراجعة إلى النوع
والجملة» .أي إنه من حيث الجزء (بالنسبة للفرد الواحد) إنما هو من الحاجيات،
ولكنه بالنسبة إلى مجموع النّاس أمر ضروري.
ّ
الشاطبي صقال وتوضيحا ،وتطويرا وتوسيعا .فهي
ولكن هذه الفكرة عرفت عند
43
ّ
الشاطبي شجرة'.
عند الجويني بذرة ،وعند
43
ّ
الشاطبي ،ص320..318
انظر :نظريّة المقاصد عند اإلمام
35
ضالل المقاصديين
يقول الدكتور يوسف أحمد محمد البدوي:
ي للعلماء الذين وضعوا أركان
'الذي يهمنا في هذا المقام االستعراض التاريخ ّ
هذا العلم وثبتوها ورعوها ،فال داعي لدراسة 44من جاء على لسانهم ذكر أسرار
ّ
الشريعة أو العلل الجزئية ،ألن السمة البارزة لعلم المقاصد هي العناية بالمقاصد
الكليّة الضرورية والحاجية و التحسيني ّة .وعلى هذا فدراسة من قبل الجويني هي
45
من باب التّحسين والتزيين ال من باب التأصيل والتقعيد'.
≈
إذا كان المنوال الذي نسج عليه أصحاب المقاصد هو هذا ال َّتقسيم الباطل
لمس َّ
مى المقاصد الكليّة الذي تجاوز به أصحابه ما ال ينبغي لهم من الحمى
المخصوص لشريعة ر ّ
ب العالمين -وما قدروا هللا حق قدره – وهذا يكفي في
الح ّ
ق والميزان لدحض وبطالن ما س ّ
موه من األسماء من عندهم ،إذا كان كذلك
ّ
الشاطبي شجرة علم لبذرة فكرة! بل كان ضالال كبرت
فإنه لم يكن ما جاء به
زاويته وعظم تفاقمه واتسع خرقه ،حتى انتهى بهم األمر جميعا إلى جعل ال ّ
دين
بعضه للمكلف بزعمهم وبعضه هلل تعالى هللا عما يقولون! وحتى أمست أركان
الصّالة من القيّام والركوع والسجود والجماعة كل ذلك عندهم أمسى آية بينة،
ّ
الشاطبي بعد أن كان
لمن يعقل ويبصر ،على تفاقم الضّالل الذي تفاحش عند
بذرة عند الجويني .وكان حقا علينا حجة بالغة أن نأتي على هذا بالبيان
والبرهان .ولنبدأ أوال بما عند إمام الحرمين رحمه هللا في ال َّتعليل ،الرّكن األساس
المعتمد فيما خاض فيه من خاض من أهل المصالح .يقول في 'مقاصد
ّ
الشريعة عند ابن تيمية':
' المبحث األول
مسألة َّ
التعليل
هذه القضيّة هي ل ّ
ب علم المقاصد ،وركنه الركين ،وهي تمثل الرّكن األول
46
ّ
الشريعة عند ابن تيمية ،والرّكن الثاني هو المصالح والمفاسد'.
لمقاصد
ّ
أدق تحديدا:
ويقول على نحو
44
ّ
الشريعة عند ابن تيمية)
انظر في ذلك :الريسوني ،نظريّة المقاصد ،ص( 47-40مقاصد
45
ّ
الشريعة عند ابن تيمية – ص75
مقاصد
46
ّ
الشريعة عند ابن تيمية – ص139
مقاصد
36
ضالل المقاصديين
'فمن الحديث عن المناسب وحقيقته وأقسامه ومراتبه نشأ علم المقاصد،
47
بقضه وقضيضه'.
ي منطقي ّا لتقريره:
وذلك مع لزوم ِاعتبار آنِ ّ
'قال الشوكاني في المناسبة« :هي عمدة القياس ومحل غموضه
48
ووضوحه»'
47
ن م – ص60
48
ن م – ص59
37
ضالل المقاصديين
الفصل الثالث
الجويني وإشكاله ْ
ي في َّ
ج ِّ
د ّ
التعليل
ال ِ
38
ضالل المقاصديين
ْ
ي عند الجويني
–1
اإلشكال المنطق ّ
علّة بمحضِ الباطل
وجداله في باب ال ِ
عجيب قول الجويني:
<تعليل الحكم بعلتين ليس ممتنعا عقال وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكليّة
ولكنه ممتنع شرعا .وآية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور .فلو
كان هذا ثابتا شرعا لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر؛ والنادر ال بد أن يقع
على مرور الدهور .فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة ،وإن لم يتشوف إلى طلبه
طالب ،الح كفلق اإلصباح أن ذلك ممتنع شرعا ،وليس ممتنعا عقال وال بعيدا عن
49
المصالح .وهذه نهاية ال تتعدى في هذا الفن>.
≈
هذا االستدالل ال يقبل عند أحد من العالمين أبدا ،ومتى كان عدم هوره
دليال؟! بل وما معنى وقوعه وطلبه كليهما؟!
ّ
الحق ،الذي
والذي يدل ّك على مجرّد تحكّم الجويني وقوله بغير سلطان من
ك في نفسك من باطل قوله في هذا الباب المحور ّ
يدلك عليه فال يبقى ش ّ
ي ،باب
ال ِعلّة مرتكز القياس ،ذلك هو كينونته في ال ّ
دور يدور فيه في كل هذه الصّفحات:
<فإن قيل :لو أبدى الخصم معنى آخر مخيال ،قلنا هذا ال يكون أبدا .وإن صح
فيما أبداه أشعرنا باالختالل لإلخالة األولى؛ إذ لو فرض جريان اإلخالة فيهما أدى
50
إلى تعليل الحكم بعلتين؛ ولو كان ذلك سائغا التفق وقوعه>.
فهو هنا يستدل المتناع الوقوع بعدم الوقوع ،وضمنه المتناع الحكم بعلتين
بذاته باعتبار عدم الوقوع على تصوّره!!
ويظهر لك أن مستند الجويني هنا في باب ال ِعلّة ليس إال مجرّد العناد اللجوج
وباطل التحكّم هو قوله الذي جعله آخر ما في جعبته وما يركن إليه ومخرجه:
49
البرهان في أصول الفقه لللجويني :ص189..188
50
ن م – ص189
39
ضالل المقاصديين
<ويبقى وراء هذا موقف آخر وهو تجويز تقابل مخيلين مع ترجيح أحدهما على
الثاني؛ وهذا من أدق مواقف النظر في الترجيح .وال ينبغي لإلنسان أن يتعب
نفسه في هذا التقدير ،فإن أرباب النظر ،وإن ذكروا في مسألة الربا طرق الترجيح،
فذلك شعبة من الكالم في المسألة ،ومعظم االعتناء بإبطال كل فريق علة من
يخالفهم؛ ولكن الترجيح يدل على اعتقادهم امتناع اجتماع العلل.
فقد نجز مرادنا من هذا الفصل ،وقد ابتدأناه ابتداء من يجوز اجتماع العلتين،
ّ
الحق
وأردنا أن نفيد النا ر بهذا المسلك كيفية النظر ووجوه ازورار الطرق حتى يقر
51
في نصابه ،ويتبين تقرير المختار عندنا والتنصيص على لبابه>.
≈
هذا كالم جلل خطير حقا ًّ ،وليس هو فحسب كالما أ ّ
ي كالم؛ بل هو تصوّر مراد
به قوال في العلم حكما ناجزا.
ك ِري القياس وردّ الجويني تحديدا هو قوله:
أال إنَّه إن كان الردّ على من ِ
<فإن قيل كيف يكون إجماع القائسين حجة وقد أنكر القياس طوائف من
العلماء ،قلنا :الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا ال نعد منكِ ِري القياس من علماء
ّ
الشريعة ،فإنهم مباهتون أوال على عنادهم فيما ثبت استفاضة
األ َّمة وحملة
وتواترا .ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه .وأيضا
ّ
الشريعة صدر عن االجتهاد .والنصوص ال تفي بالعشر من معشار
فإن معظم
ّ
الشريعة .فهؤالء ملتحقون بالعوام .وكيف يدعون مجتهدين وال اجتهاد عندهم،
52
وإنما غاية التصرّف التردد على واهر األلفا >.
إذا كان هذا الردّ في منحاه صحيحا وإإلنكار فيه شديدا حتّى جاوز الح َّد
باعتبار العامل الرئيس في اإلصرار على المواقف ولو من بعد هور بطالنها واتضاح
فسادها ،هو المذهبيّة وربوبي ّة المذاهب ،وما من عالم وفقيه إال وهو تحت لواء
مذهب إال من رحم ربك من المخلصين؛ إذا كان هذا اإلنكار على منكِ ِري القياس
له في الح ّ
ّ
الشريعة حتما كما أخطأ في تعبيره
ق سلطان ومعظم األحكام ،وليس
الجويني ،اجتهاد ،فما أجدر اإلنكار منه أن يكون مستنده وهو من صلب منهاج
ّ
الشريعة تأكيدا ،مجرد االعتقاد المصرح لفظا في
األ َّمة في معظم األحكام وليس
قوله' :اعتقادهم امتناع اجتماع العلل'
51
نم–نص
52
ن م – ص184
40
ضالل المقاصديين
ولسنا بحاجة طبعا للتنبيه على فساد بيانه وكأنه يراد به سفسطة مستهدف
بها أغرار العلم وقاصرو العقول ،بالبناء في االستدالل على الخاصّة العا ّمة بالمفرد
المعي ّن.
وجامع القول هنا في إيضاح اإلشكال وحل ّه حتّى يقرّ الح ّ
ق في نصابه على
ّ
الحق وانتظامه ،في
تعبير الجويني ،هو بناء القول كله ال بعضه على أساس
قوانينه ونسقه الح ّقة وفي بيانه؛ وما اختل واحد من هذه األنحاء إال كان االختالل
في جميعها ،وليس يكون بعده إال ما هو مناقض للحق خارج عن إهابه من العناد
ّ
الحق وهو أبلج ،كما هو الحال والحاصل عند
والتحكّم إلى درك المجادلة في
الجويني هنا في ال ِعلّة.
َّ
ي ،مركز ثقله في
ي والمنطق ّ
إن المشكل عند الجويني ،وإن جمع بين البيان ّ
ي بخالف الجصّاص من قبله.
المنطق ّ
وقصدا في القول والجهد نقول بأن نسق القياس ال ينبغي في الح ّ
ق َ
م ْيز
ّ
الحق كون القول بامتناع تعدد
فيه بحسب موضوعاته وحقوله؛ فلزم اتباع
العلل مناقض للحق في السماوات واألرض ،ويكفي هنا زاجرا التباع التحكّم في
دين و ّ
أمر خطير بغير حق ،أمر نهج األ َّمة في االجتهاد صلب ال ّ
الشريعة ،يكفي
ّ
الحق أهواءهم لفسدت
زاجرا لمن ينزجر وتذكرة لمن يتذكر قوله تعالى{ :ولو اتبع
السماوات واألرض ومن فيهن'}(المؤمنون)73
َّ
إن المنطق ينفي بأن تكون مجموعة القضايا المنتجة لقضية أو حكم معين
أحادية قصرا .وهذا في تنزيله وسريانه في الحقل الفقهي مبطل للطرد ،ألن الح ّ
ق
ي للنازلة في كليتها وآنها في اعتباره للمق ّ
دمة
يعتبر اإلطار المعطياتي والحدوث ّ
المنتجة للحكم؛ بمعنى أن ال دخول لما ليس مناسبا من الطرد في مجموعة
العلل.
ومنه يستبط أن:
السبر و َّ
ّ
علّة إال
ال اإلخالة وال
التقسيم طريقان ومسلكان في تحديد ال ِ
مع معطى مجموعة العلل المعدودة المحصورة المنصوصة.
وأيضا فإ ّ
ن األصول المعلّلة تختلف من جهة هذا التّحديد؛ فقد يكون األصل من
خالل بيانه ونصه داال على أحادية ال ِعلّة أو على انتمائها إلى مجموع متعدد من
العلل محدد أو غير محدد.
وأه ّ
ي هنا هو أن:
م استنباط علم ّ
41
ضالل المقاصديين
دالّة على الواحدية جامع لل ّ
علّة' ال ّ
داللة على إشكال
إطالق لفظ 'ال ِ
ل الجهات .ف َّ
ّ
القوم وخاصّة الجويني من ك ّ
الحق إنَّما هو
التعليل في
بمجموعة العلل كلها كمجموعة ح ّ
ل للقضايا والمقدمات أو الحوادث
المنتجة للقضية والحكم ،وليس بتعيين واحدة بسبيل اإلخالة ونحوه.
ّ
السبب في هذا اإلطناب والعوج والمجادلة واللجاج
ومنه ،أو هكذا يتبيَّن ويتّضح
للجويني في سؤال تعدد ال ِعلّة حتى جادل في الح ّ
ق وهو بيّن؛ فالقتل كحكم
ليس أحادي ال ِعلّة وشاهده نصّا -ومن أقوم من القرآن إشهادا! -قوله تعالى:
{كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في األرض فكأنما
قتل النّاس جميعا'}(المائدة )34فجاء ال َّتعليل هنا بِ ِعل ّتين ،أو صنفين من مجموعة
العلل عامين؛ فالبيان هنا بيان الرّحمان منتظما والح ّ
ق بالميزان ،ثم يمعن الجويني
في عناده ومجادلته فيقول بخصوص العكس:
<فالحكم الثابت مع انتفاء ال ِعلّة إن لم يستند إلى نص أو إجماع فهو مساو
للحكم األول في االسم ومخالف له في المأخذ والحقيقة .وهو كتعليلنا تحريم
المحرمة بإحرامها ،ثم إذا حلت وكانت حائضا فهي محرمة وإن زال اإلحرام .ولكن
تحريم الحيض مخالف لتحريم اإلحرام في وصفه وكيفيته .وكذلك إذا علل المعلل
إباحة الدم بالقتل الموجب للقصاص ،ثم لم تنعكس ال ِعلّة لمكان الردة أو غيرها من
مقتضيات القتل ،فليس هذا من عدم االنعكاس ،فإن القتل الواجب بالقتل ينتفي
53
بانتفاء القتل>.
≈
فانظر كيف كانت عاقبة عناده أن تكلف تكلفا غير الئق ليقحم مادة بياني ّة
شعرية 'إن لم يستند إلى نص أو إجماع' وليجعل الشيء غير مساو لنفسه،
فجعل الحكم الواحد أحكاما متعددة مخرّقة بزائد مختلق؛ وهو عند هللا تعالى وفي
ّ
الحق
كتابه حكم واحد له حقيقة واحدة .وهذا حقيقة ليس إال عين المجادلة في
ّ
الحق ال ليستدل به ،ولكن ليجادل فيه بنحو
وهو ب ِي ّن؛ ذلك وأنه أول ما بدأ به ذكر
ي ،فقدم قوله بما يلي:
في العناد مصر وقصد في المماراة جل ّ
'ومما ارتبك فيه الخائضون في هذه المسألة ،أن الذين سوغوا تعليق األحكام
بعلل تعلقوا بتحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض واإلحرام للصالة والصيام؛ وقالوا قد
يجب قتل الرجل بأسباب ،كل واحد منها لو انفرد لثبت علة على االستقالل.
53
ن م – ص196
42
ضالل المقاصديين
وقال من يخالف هؤالء :إنما يناط بالمحل تحريمات ،ولكن ال يظهر أثر تعددها.
وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتا؛ وهذا بيّن في القتل؛ فإن من
استحق القتل قصاصا وحدا ،فالمستحق قتالن ،ولكن المحل يضيق على
اجتماعهما .ولو فرض سقوط أحدهما لبقي الثاني.
وال يكاد يصفو تعليق حكم واحد بعلتين تصوّرا .فهذا منتهى المطالب في
54
النّفي واإلثبات'.
≈
أليست هذه مجادلة صريحة في ما تلونا من القرآن العظيم وفي قوله صلى
ّ
الشيِ ّب الزاني،
هللا عليه وآله وسلم " :ال يحل دم امرئ مسلم إال بإحدى ثالث:
والنفس بالنفس ،والتّارك لدينه المفارق للجماعة"55؟!
54
ن م – ص187
55
متفق عليه ،األربعين النووية
43
ضالل المقاصديين
- 2مسألة الطرد والعكس بين رسوخ علم القاضي (الباقالني)
ومجرّد مجادلة وعناد الجويني
ّ
الحق بمحض الباطل
هذا الذي رأيناه من اإلصرار والمجادلة اللجوج في
والعناد ،سيكون له تبعة التمسك بالباطل الصّريح في قضية الطرد والعكس؛ وبعناد
حاد على غير بصيرة من األمر ال يلوي على شيء:
'وما ذكره القاضي من كون الطرد متنازعا فيه ،وكون العكس مستغنى عنه،
56
فمن التشدق والتفيهق الذي يستزل به من ال يعد من الراسخين'.
ن ال ّ
ق هو القاضي ،وأ ّ
دليل بالح ّ
لكن الذي يشهد له ال ّ
ن
ذميمتي ِ
ن هاتين الصّفتي ِ
ال وسع لهما إال أن تعودا على صاجبهما .وهذا هو القول الذي قال به القاضي كما
أورده حكاية عنه:
'وقال القاضي في معظم أجوبته :ال يجوز التعلق بالطرد والعكس في محاولة
إثبات ال ِعلّة ،فإن الطرد ال يعم في صور الخالف على وفاق ،إذ لو كان يعم لما ثبت
الخالف في المحل الذي يدعي الطارد الطرد فيه؛ والعكس ليس شرطا في ال ِعل ّة
التي تجري دليال وعالمة .فقد صار الطرد واقعا في محل النزاع وبعد اعتبار العكس
من جهة أنه غير معتبر كما سنذكره على أثر هذا الفصل .ومن التزم نصب شيء
علما لم يلتزم نصب نفيه علما في نفي مقصوده ،كما سيأتي الشرح عليه في
مسلك العكس إن شاء هللا تعالى.
فالطرد إذا متنازع فيه ،والعكس ليس من مقتضيات نصب األعالم والعالمات.
وقال أيضا :معتمدنا في قاعدة القياس تأصيال وفيما يرد ويقبل تفصيال ،ما يصح
عندنا من أمر الصحابة رضي هللا عنهم؛ فما تحققنا ردهم إياه رددناه ،وما تحققنا
به عملهم قبلناه .وما لم يثبت لدينا فيه ثبت تعديناه؛ فإنا على قطع نعلم أن
جميع وجوه النظر ليست مقبولة وال مردودة ،والعقول ال تحتكم فيها مصححة وال
مفسدة؛ فإنها إنما تحكم على األنفس وصفاتها ،وما هي عليه من حقائقها،
والعلل السمعيّة ال تدل لذواتها.
56
البرهان – ص191
44
ضالل المقاصديين
فإذا ثبت هذا ،فقد رأينا الصحابة رضي هللا عنهم ينوطون األحكام بالمصالح
على تفصيل لها .فأما الطرد والعكس فلم يؤثر عنهم التعلق به ،وليس هو من
معنى طلب المصالح في شيء حتى يقال استرسالهم في طريق الحكم
57
بالمصالح من غير تخصيص شيء منها يقتضي التعلق بالطرد والعكس'.
≈
ّ
بالطّبع ال ب ّ
ي بخصوص لفظ
د من التّنبيه على عدم
السداد في البيان العلم ّ
'العكس'؛ ذلك أن هذا اللفظ 'العكس' أو القضيّة العكسيّة في علم المنطق ال يراد
ي في
بها المعنى المستعمل فيه هنا؛ فإن القضيّة العكسيّة هي المنحى العكس ّ
الشرطية بتبادل موقعي المق ّ
ّ
دمة والنتيجة .وأيضا لزم التّنبيه كون المعنى
القضيّة
ّ
الشرطية بنقيض عكسها ،هو
المو ف فيه هنا هو مكافئ منطقي ّا لتكافؤ القضيّة
ي .لكن نحن هنا عمليا ومنهجيا
مكافئ للعكس في صحيح االصطالح المنطق ّ
وللرد ،نساوق هذا البيان وإن كان كما بيناه.
ي لهذا الكالم أو النص يحدد مقوله الجوهر ّ
ي في قوله:
التّحليل المنطق ّ
'معتمدنا في القياس . . .ال تدل لذواتها'
ي مع دليله:
فهذا هو النّسق المنهاج ّ
ن؛
فالقياس يكون على األصول النصّية ،أي ما كان الحكم بمناطه منصوصي ِ
وهذا موصول بيانا في نهج الصحابة رضي هللا عنهم في قوله' :ما يصح عندنا . . .
قبلناه'
ي في
وما خرج عن هذا كان واردا في القبول والرد على التّفصيل والرأي العقل ّ
شروط الحالة ،التي هي المحددة في الح ّ
ق وواقع األمر للحكم ،وليس العقل؛ إن ّما
صر وراء.
العقل مب ِ
وأ ّ
ما قول الجويني فهو:
'وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر عندي؛ فإن الغاية القصوى في
ّ
الشارع .والمصالح التي تعلق بها صحب
مجال الظنون غلبتها متعلقة بقصد
الرسول صلى هللا عليه وسلم لم يصادفوا في أعيانهم تنصيصا من رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم وتخصيصا لها بالذكر .ولو صادفوا ذلك لما كانوا
متمسكين بالنظر والرأي؛ فإن معاذا حبر األ َّمة لم يذكر الرأي في القصة
المشهورة إال بعد فقدان كل ما يتعلق به من الكتاب والس َّنة .وال نراهم
كانوا يرون التعلق بكل مصلحة؛ فالوجه في تحسين الظن بهم أنهم ،كانوا
57
ن م -ص190
45
ضالل المقاصديين
يعلقون األحكام بما يظنونه موافقا للرسول عليه السالم في منهاج شرعه،
وكانوا يبغون ذلك في مسالكهم .وال يكاد يخفى على ذي بصيرة أن الطرد
ّ
الشرع.
والعكس يغلب على الظن انتصاب الجاري فيهما علما في وضع
فمن أنكر ذلك في طرق الظنون فقد عاند ،ومن ادعى أن الصحابة رضي هللا
ّ
الشارع ،وكانوا
عنهم كانوا يأبون التعلق بطريق يغلب على الظن مراد
58
يخصصون نظرهم بمغلب دون مغلب فقد ادعى بدعا'.
≈
فهذا ال يعدو ما قاله القاضي إال قوله' :وال يكاد يخفى على ذي بصيرة .
. .فقد ادعى بدعا' فهذه دعوى خاطئة ،وليس النزاع إال فيها!
والقاضي رحمه هللا لم ينف الطرد إطالقا ولم ينكره ،وذلك ما ضمنه
الجويني كالمه أو قل استدالله وهو سفسطة منطقي ّة:
ّ
الشرع . .فمن أنكر'. .
'وال يكاد يخفى . . .الطرد والعكس . .في وضع
وإنما نفى عمومها في صور الخالف ،أي في غير حيز األصول من وضع
ّ
الشرع:
'الطرد ال يعم في صور الخالف على وفاق'
ويؤكده قوله:
'فإذا ثبت هذا فقد رأينا الصحابة . . .على تفصيل لها . . .بالطرد
والعكس'.
وإذن فمسلك الجويني وخطابه هذا سفسطة جلية يزيدها صبغتها
السفسطية تردد البيان بذكر الصحابة رضي هللا عنهم مما فيه من المسحة
ّ
الشعرية ،فكأنهم رضي هللا عنهم أصبحوا طرفا في القضيّة ،وإن
الخطابية
للبيان سلطانا على المخاطب ،وإن من البيان لسحرا!.
وإذا كان اهر النزاع بارزا في الطرد والعكس على المعنى غير الصّحيح
عند القوم في اصطالح علم المنطق ،والعكس أحد موضعيه ،أي موضعي
النّزاع ،فإ ّ
ن ضالل الجويني ثابت في اشتراط العكس ورسوخ القاضي في
علم المنطق اهر في كالمه ودال عليه كل مقوله ،وخاصّة منه اختزاال
استيعاب حقيقة عدم لزوم العكس في ال َّتعليل بالمعنيين ،معنى القوم هنا
والمعنى االصطالحي الح ّ
ق -وهما متكافئان.-
58
نم–نص
46
ضالل المقاصديين
ّ
السبر إشكال المنطق
- 3في اإلخالة و
علّة عند الجويني يتجلى
وفساد تصوّر ال ِ
لكن ال ِعلّة أ ّ
م ال ِعال ّت عندهم جميعا ولئن تحي ّدت وارتفعت تحي ّد شطر
كالمهم في عموم الفقه وارتفع؛ هذه ال ِعلّة هي مفهوم ال ِعلّة ذاته كما
هدنا القول فيه .وذلك هو المنطوي المكنون في ما يتو ّ
م ّ
هم من التّناقض في
قول القاضي' :فأما الطرد والعكس . . .التعلق بالطرد والعكس'.
أ ّ
ما القيمة والحقيقة المحوري ّة وخطر مفهوم ال ِعلّة وشأنه العظيم
والخطير ،فليس أد ّ
ي:
ل عليه من قول الجويني في تقاسيم النظر الشرع ّ
علّة:
'القسم الثاني قياس ال ِ
ي استنباط المعاني المخي ّلة
والقسم الثاني من أقسام النظر الشرع ّ
المناسبة من األحكام الثابتة في مواقع النصوص واإلجماع .ثم إذا وضح ذلك
على الشرائط التي سنشرحها ،وثبتت تلك المعاني في غير مواقع النص،
وسلمت عن المبطالت ،فهذا القسم يسمى قياس ال ِعلّة؛ وهو على
التحقيق بحر الفقه ومجموعه ،وفيه تنافس النظار .وأكثر القول في هذا
الكتاب يتعلق ببيان صحيحه وفاسده ،وذكر االعتراضات الصّحيحة والفاسدة
59
عليه'.
وإذا كانت المناسبة تعنى بالبحث عن علة الحكم المناسبة «ويعبر عن
60
المناسبة باإلخالة والمصلحة واالستدالل ورعاية المصالح وتخريج المناط».
'فمن الحديث عن المناسب وحقيقته وأقسامه ومراتبه نشأ علم المقاصد،
61
بقضه وقضيضه'.
وذلك مع لزوم اعتبار آني منطقي ّا لتقريره:
'قال الشوكاني في المناسبة« :هي عمدة القياس ومحل غموضه
62
ووضوحه»'
59
ن م – ص175
60
ّ
الشريعة عند ابن تيمية59 ،
مقاصد
61
ن م – ص60
62
ن م 59 ،
47
ضالل المقاصديين
≈
أوّال ليس في الحقل النظر ّ
ي حين استنباط المعاني المخيّلة المناسبة وجود
لعنصري الطرد والعكس ،ألنهما ال يتواجدان إال بتواجد ال ِعلّة والحكم معا ،كما هو
في نصوص األصول .وهنا نحن في حي ّز ما قبل تواجدهما .وهذا هو الذي يرفع ما
يتوهم من التّناقض في كالم القاضي آنفا .ولكن بالطّبع بعد التّواجد يتواجدان.
واإلخالة هي عين الحدسِ كطريق للح ّ
ل في إيجاد ال ِعلّة ،عل ّة ضمن مجموع
العلل الحلول التي قد تكون محصورة أو غير محصورة:
'فإذا هرت اإلخالة وسلم المعنى من المبطالت ،وغلب الظن ،كان ذلك من
سبيل ما يتعلق به األولون قطعا.
وأنا أقرب في ذلك قوال فأقول :إذا ثبت حكم في أصل ،وكان يلوح في سبيل
الظن استناد ذلك إلى أمر ،ولم يناقض ذلك األمر شيء؛ فهذا هو ال ّ
ضبط األقصى
الذي ال يفرض عليه مزيد'.
≈
بالطّبع هنا الحدس المثير للوجود الذي يلوح ثم البرهان عليه وتقريره.
وكذلك لما كان للحق جند والباطل قريب العطب ،فإن الجويني وفداء لعناده
مجرد العناد في قوله بأحادية ال ِعلّة وبالطّبع موافقتها في وجوب الطرد والعكس،
ّ
ّ
السوية أن تقبله ما دامت
السبر وال َّتقسيم ما ليس للعقول
نجده يقول في طريق
السماوات واألرض؛ يقول الجويني:
ّ
السبر وجدواه
'سنبين اآلن معنى
وإن كان ال َّتقسيم الظني مرسال بين معان ال يضبطها حصر كما ذكرناه في
المعقوالت ورددناه فيها ،فقد قال بعض األصوليين :إنه مردود في المظنونات أيضا.
فإن منتهاه إحالة السابر األمر على وجدانه؛ وهذا غير سديد .فإن هذا الفن من
ال َّتقسيم إنما يبطل في القطعي ّات من حيث ال يفضي إلى العلم والقطع .وإذا
استعمل في المظنونات فقد يثير غلبة الظن .فإن المسألة المعروفة بين النظار إذا
كثر بحثهم فيها عن معانيها ثم تعرض السابر إلبطال ما عدا مختاره ،فقال السائل:
لعلك أغفلت معنى عليه التعويل.
قيل هذا تعنت؛ فإنه لو فرض معنى لتعرض له طالب المعاني والباحثون عنها،
والذي تحصل من بحث السابرين ما نصصت عليه .والغالب على الظن أنه لو كان
للحكم المتفق عليه علة ألبداها المستنبطون المعتنون باالستثارة .فتحصل من
48
ضالل المقاصديين
مجموع ذلك ن غالب في مقصود السابر؛ وهو منتهى غرض النا ر في مسائل
63
الظنون'.
≈
الجويني هنا ذهب في الخطأ والتّناقض ك ّ
ل مذهب.
ّ
الحق وال بصيرة،
فأما الخطأ الظاهر هو تحكّمه بعين الباطل على غير هدى من
تحكمه بأحادية ال ِعلّة الموجبة للحكم؛ وهذا بالطّبع بي ّناه.
وأما تناقضه فهو أن هذه ال ِعلّة المتوصّل إليها ب ّ
ة ليست تعني إال
السبر أو اإلخال ِ
عدم االسترسال مع المصالح؛
وهذا هو عينه المعنى المنطبق بالردّ األول القاضي للطرد ،ونفيه الشتراط
العكس معناه عدم اقتصار الحل على هذه ال ِعلّة ،وذلك خطأ مبين ،الخطأ الذي
أصرّ عليه الجويني إصرارا ليس يؤدي إال لحقيقة واحدة ،وهي ضالل مذهب
الجويني كله في ال َّتعليل وفساده واختالله .وهذه الحقيقة أو قل هذا األمر الخطير
على مستوى التّصوّر والمنظار الفقهي للجويني ،وفيه عظة بينة لمن يتعظ ،و
عبرة بليغة لمن يعتبر؛ هذا األمر في قوله خالصة للباب تجلى وغاية إليها انتهى:
ّ
السبر وتنويعه ،وما يفيد منه وما ال يفيد ،فنرجع
'وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى
اآلن إلى غرضنا في إثبات معنى األصل فنقول:
ّ
السبر من أقوى الطرق في إثبات علة األصل؛ وهذا مشكل
قد عد القاضي
جدا .فإن من أبطل معاني لم يتضمن إبطاله لها إثبات ما ليس يتعرض له بالبطالن.
فإنه ال يمتنع أن يبطل ما لم يتعرض له أيضا .فإنه ال يتعين تعليل كل حكم .فعد
64
ّ
السبر وال َّتقسيم مما تثبت به العلل بعيد ال اتجاه له'.
≈
ي يعم وليس يف َّرَق فيه بين
فهذا ضالل وضالل مط ِبق ،ألن ّه نسق منطق ّ
ه لمن يفقه ضالال!
ظم ب ِ
ي ،وأع ِ
ي والقطع ّ
الظن ّ
63
البرهان للجويني – ص183
64
ن م – ص184
49
ضالل المقاصديين
س ْنخ الضّالل العظيم:
ِ -4
علّة إلى َّ
اِنتقال الجويني من َّ
التعليل بال َ
مصالح
التعليل بال ِ
لكن األض ّ
ل من هذا الذي سبق كله هو عدم انتباهه وعدم رجوعه مما أفضى
إليه قوله بأحادية ال ِعلّة مما قرّره عنده:
'وعندي أن األشباه المغلبة على الظن ،وإن كانت ال تناسب األحكام ،فهي
تناسب اقتضاء تشابه الفرع واألصل في الحكم .فهذا هو السر األعظم في الباب؛
فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلي ّة
ّ
الشريعة ،فإن كل مصلحة ال تنتهض
واألصل ،يعني النحصار المصلحة في أصول
65
علة ،والشبه لو جرد ال يقتضي الحكم'.
≈
هذا كالم كله خبط ،وإن من جند الح ّ
ق حرزا منيعا له ،أنه من استنكف عنه
ركبه الخطأ وخرج عن طور سوي القول.
ّ
لتمسكه بالباطل عنادا
وبيانه ،أي بيان خبطه ،ولم يكن له عنه مصرف
ومجادلة ،هو إساره وارتهانه في عالقة التقابل بين العلل واألحكام ،مما هو نفس
سر والمبيِ ّن تحديدا لداللة هذا
مقول أحادية ال ِعلّة ووجوب العكس .وهذا هو المف ّ ِ
التّركيب المعقد أي ّما تعقيد:
'فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكليّة
ّ
الشريعة؛ فإن كل مصلحة ال تنتهض
واألصل ،يعني النحصار المصلحة في أصول
علة'
فهو في بيانه وتعبيره يعتبر قضيتين متضادتين متنافيتين ممثلتين بياني ّا:
(غير فرض ذكر أصل ،األصل)
لكن االعتبار الكلي يقرر الوجود بوجود الحكم للعالقة التقابلية المتحكم فيها؛
ّ
يفسر االضطراب واالنتقال من لفظ
وذلك ما يرتفع أو بأصح التعبير يتّضح و
65
ن م – ص201
50