جمال الدين الأفغاني والتحليل التاريخي .pdf
Nom original: جمال الدين الأفغاني والتحليل التاريخي.pdfAuteur: USER
Ce document au format PDF 1.5 a été généré par Conv2pdf.com, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 29/08/2019 à 18:56, depuis l'adresse IP 41.92.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 121 fois.
Taille du document: 23.6 Mo (666 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
رشيد بلواد 1440ه2019 -م
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق'}(األنبياء)18
2
المسلمون والتاريخ
تنويه :طبيعة هذا العمل كما غايته تحقيقية ،ليست هي من صنف اإلبداع الشعري
واألدبي؛ فنحن في فضاء منطقي صرف مبناه على الحقائق والميزان ،ومن ثم تحتم إيراد
ما استوجب من هذه الحقائق كمعطيات مقررة في بحوث وأعمال سابقة.
3
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
المحتوى
الصفحة
مقدمة
11
قضايا َمنهج ّية في المفاهيم واأل عب ََا
الباب األولَ :
25
الفصل األول :من "الوطنية في شعر شوقي" إلى "االتجاهات الوطنية في األدب
26
المعاصر" التغيّر األ عْب اعادي
الفصل الثانيْ :بُعع د ما 'فوق -الوطنية' لقضية جمال الدين األفغاني
32
الفصل الثالث :عضل في المنظار :الواقع ْبين المضمون والقراءة
وثوق العدالة ال يوجب صحة األحكام
42
الفصل الراْبع :العامل النفسي ْبين اإلخْبار والقراءة
اإلشكال المفاهيمي عند محمد حسين
الفصل الخامس :مفهوم "التغريب" السلْبية والخطورة
الباب الثاني :تطبيق ال َمنهج ،تقويم الرجال= تقويم ال َُقول االستخالفية
48
58
68
ُصادرة القصوى ومعايير األحكام
الفصل األول :الم ا
الميزان االستخالفي للعقول الجمعيَّة
الفصل الثاني :العقل الفقهي أو الرْبانية
4
69
المسلمون والتاريخ
79
خطر وضالل مقولة 'عصمة اإلجماع'
الباب الثالث:الموازنة من جهة الَقي ة والتمكين
85
الفارابي والغزالي
الفصل األول :مِعيار العقيدة
89
-1قانون التفصيل وح ّل عقال علم الكالم
90
ُ -2
الخلق العلمي وتزكية النفس
96
-3اْبن الوزير ومحارة علم الكالم
99
-4الغزالي وسلم الحكمة (العقل)
106
الفصل الثاني :مِعيار القوّ ة والتمكين
110
-1ال فقه لمن افرّ ق ْبين العقل الفقهي والعقل الصّناعي
-2األْباطي ُل واألسمارُ ال تنحصر في قضيتي المتنْبي والمعرّ ي
111
116
-3المفعولية والفاعلية أو التسويغ والمقاومة في الفكر السياسي
ْبين اْبن خلدون والفاراْبي :سرّ الترويج
119
الباب الرابع :المنهاج اإلسالمي وسنن التاريخ
127
الفصل األول :حلف القومية :من التحرف إلى االنتكاس
128
-1القومية العربية وتوهين قوة األمة اإلسالمية
129
-2الجامعة العربية سالح مزدوج وكمين
150
5
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الفصل الثاني :الدين والعلمانية ،وحدة العلم والدين والفلسفة
158
-1العقل العربي بين خيبة التجربة العلمانية وإشكال تصوره للدين
159
-2أستاذية المسيحية الصّليْبية للعقل العرْبي اإلسالمي الحديث
و ع
حوض العلوم اإلنسانية!
165
-3ضرورة الحوار :الوعي بحصول التبديل وباستنباتية العقول
وحوضيَّة المفاهيم
170
-4وحدة الدين والعلم والفلسفة وتحتم إعادة بناء مفهوم العلمانية
173
الفصل الثالث :التاريخ يكتب ويتكلم
181
الفصل الرابع :الوعي التاريخي وتشكل «المثقف المستع َمر»
201
-1الوظيفة الشهودية مرتكز القوة الوجودية للعرب
202
-2مفهوم العلم في الحوض االستعماري
208
-3الحوْ ض العلماني الغربي والوعي الوجودي
214
استبدال وحي األرض بوحي السماء
الفصل الخامس :رائز د .فرج فودة وأكذوْبة االستقالل
221
الفصل السادس :الدجل العلماني ،الدولة الدينية والدولة المدنية
235
الفصل السابع :األصل الديني للثقافة والدوستورانية الغربية
244
6
المسلمون والتاريخ
الفصل الثامن :مفارقة العلمانية والديمقراطية ،الدولة اإلسالمية والحزب اإلسالمي 259
260
-1تناقض جمال البنا في الجمع بين الشريعة وتحييد اإليمان
-2د .إياد القنيبي وحزب العدالة والتنمية التركي
وقفو المرء ما ليس له به علم
270
الباب الخامس :العالمية ووبال العقل الالتاريخي
315
الفصل األول" :العالمية" و"علمية" قوة التاريخ
المفهوم القوي -الصحيح -لالستخالف
-1العالمية سنة نظماتية قاهرة
316
317
-2لماذا ابن خلدون وابن رشد وليس الفارابي وابن سينا؟!
323
-3العلماء العقل الجمعي لألمة هم المسؤولون ومصدر الهزيمة
331
-4أباطيل وأسمار ..وأغالل
354
-5عقل الغزالي ومعيار البناء بالعلم أو معيار االستخالف القوي لألمة
365
الفصل الثاني :دولة االستخالف والمفهوم الحق للعمل الصالح
368
-1بطالن ثنائية (الدولة الدينية ،الدولة المدنية) والمفهوم الحق للعمل الصالح
369
-2االستْبداد واالجتماع األناني حاجزا الطور التاريخي المؤسساتي
376
المصدر الوحيد للقوّ ة
الباب السادس :الماسونية بمصر قبل األفغاني بمائة عام
7
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
384
استكناه الماسونية
الفصل األول :الماسونية والعمل واالستخالف
385
-1داللة الكوس والبركار عند الماسونية
386
-2الدعاء هو العبادة والبناء – حقيقة االستخالف -موطئ قدم الدعاء
402
-3حرب العُقول :الد اجل والتضليل
401
-4الرّ مز الماسوني :التمويه والحقيقة
وتداخل منظمة الصّليب الوردي والماسونية
404
صعود الغرب التاريخي في عقل
ِ -5م انصة فلورنسا ل ُ
422
سعادة الدارين لمحمد الفاراْبي
الفصل الثاني :مِعيارية الرياضيات وحقيقة االستخالف
426
-1الغرب يأخذ المفتاح والرقم السِّرِّ ي في تسخير قوى االستخالف
427
في األرض من المسلمين
439
-2االستخالف
الفصل الثالث :ج اهاد الدكتور رشدي راشد وفريق عمله
446
-1الدكتور رشدي راشد وندا ُء أصحاب ال ّسمرة يوم حنين
447
-2دجاجلة على العقل الصناعي (الكوس والْبركار)
454
كما دجاجلة على اللغة والثقافة
8
المسلمون والتاريخ
-3أصل القوّ ة االستكشافية لمحمود شاكر ورشدي راشد
460
466
الباب السابع :اآلن واإلنسان نتاج التاريخ
الفصل األول :دليل الهيمنة الكونية للمِعيارية الرياضية
467
470
الفصل الثاني :اكتساح زنجي رهيب! مناورة تاريخية أم هي سكين صليْبية؟
ّ
التنزل الخلقي لإلنسان أو القضاء والقدر
الفصل الثالث:
478
الفصل الراْبع :تأصيل علم النفس ومحدودية فلسفة اإلنسان
التع ّدد ال اعوالمي للطفل
491
الفصل الخامس :قراءة نقدية لتوطئة الشيخ أْبي عْبد الرحمان
ل"مصادر األحكام عند اْبن حزم"
500
529
الفصل السادس :الحسم في سؤال أصل اللغة
الفصل الساْبع :فطرة مخارج الحروف وعلمية عالقة الصوت ْبالمعنى
534
الفصل الثامن" :التذوّ ق" عند محمود شاكر وآلية التحليل والتركيب
541
الفصل التاسع :علم تأويل األحالم وآلية التحليل والتركيب
وخطأ اْبن حزم في مسألة الضّمير
الفصل العاشر :قضية المتنْبي وآلية التحليل والتركيب
الفصل الحادي عشر" :التذوّ ق" في مرجع المعجمية ومِعيار العلمية
الفصل الثاني عشر :المقاْبر واألكواخ الكئيْبة
9
545
553
557
561
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الباب الثامن :هاء األفغاني والماسونية أو مشاكلة السالح
570
الفصل األول :األفغاني في بيت أبيه براء
571
من تدهور مصر وهوان األمة
الفصل الثاني :العين التاريخية لصقر أفغانستان
580
الفصل الثالث :ال ّدهاء السياسي حكمة وليس خيانة
مُصادرة األفغاني للماسونية سالحا في المواجهة
الباب التاسع :المَيار البَ ي في قضية جمال ال ين األفغاني
الفصل األول :المعيار ال ُْبعدي دليل السرقة الصّليْبية للعمل العرْبي الرياضي
602
611
612
الفصل الثاني :المعيار البعدي والحكم بالحق في قضية جمال الدين األفغاني
627
استنباط:
648
661
المصادر والمراجع
10
المسلمون والتاريخ
مقدمة
الحمد هلل الذي خلق اإلنسان في أحسن تقويم وشرفه بالحجا خليفة مكرما على في
األرضين ،والصالة والسالم على رسول هللا النبي العربي األمين المرسل رحمة للعالمين،
أما بعد...
ذات يوم كنا نقول بأن حصوننا مهددة من داخلها1؛ إنها اليوم ما عادت مه َّددة من
داخلها فحسب ،فالعد َّو أمسى هو مالكَها وسيدها والمتحكم في رقاب أهلها ،يولي منهم
من يشاء ويعزل من يشاء ،ويحل لهم من شريعتهم ويحرم ..بيده مقاليد األمور؛ والرفع
عند فقهاء اللغة في صيغة المضارع إفادته سيرورة حدوثية من غير مقاومة جديرة أن
تذكر .وكذلك جعل ربك – سبحانه وتعالى! البيان صورة طباقا لما يقع وما يحكى،
واللسان العربي لسان القرآن المجيد على اختالف األلسن له ميزة التناسق مع بعد الزمن،
ب َّينا من قبل على مشكاتها 2خطأ ما استقر عليه قومنا في تقعيد النحو العربي ،وألزمنا عليه
التقويم وحددنا صحيح أنساق اإلعراب .أما اإلبانة فهي كما قال محطم قداسة المذهبية ابن
حزم -رحمه هللا! -ال ميز فيها بين لغات البشر.
الحصون التي كانت باألمس حصونا ،هي اليوم بمن فيها لغة وثقافة وبرامج تعليم
ودساتير ،أمست نمطا علمانيا فسوقا عن الدين مفروضا ...ومن يقل منهم إني مسلم فذلك
داعشي 3يدعو لدولة شريعتها اإلسالم ،الدين الذي ال تقبله األمم المتحدة في النظام العالمي
الجديد وتقبل ما سواه أن يكون دينا.
1
هذا عنوان لكتاب للدكتور محمد محمد حسين رحمه هللا
2
في كتابنا "نقض مقولة التقسيم وتصحيح النحو العربي"
3
نسبة 'داعش' اختزال' :دولة اإلسالم في العراق والشام' .وما خرقت داعش لشيطنة كل ما له صفة اإلسالمي انتماء وسياسة،
للتنكيل باألمة وبالحرائر واألحرار من الثوار ،إال من بعد سقوط مشعل الثورة العربية البوعزيزية المجيدة ،من اليد المصرية التي أسكرتها
صفارة "شعب مصر العظيم" ومن بعد االنقالب .ولقد كان درسا جليا يمأل آفاق االعتبار ،درس فشل االنقالب على الحكومة المسلمة في
تركيا ،حكومة الرجل القائد المغوار رجب الدين أ ردوغان ،مثل القائد الذي يشعر ويدرك مسؤولية من وراءه ،وأن سالمته من بعد هللا هي
11
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
ال ،بل انظر! إن الشطر المقاوم عن دينه الحق اتباعا لمن سبق باإليمان بإحسان،
كأفغانستان والشام والعراق ذبح وقتل تقتيال ،ومن استبقوه في هذه الجهة ،في البالد التي
تسمى بالغرب اإلسالمي ،يسومونه سوء العذاب من الذل عيانا ،تأنيث البالد والمجتمع
تأنيثا فائقا معتاد درجة العلمانية من حيث النسبة األنثوية في األجور وكثافة الحركة
النسائية المرورية (بالسيارة) -كأنما األصل في العمل والخروج من البيت هو للمرأة
وليس للرجل.-
ال ْبل إنّ اإلذالل للمسلمين ا
ْبلغ ح ّدا أن تصْبح أوطانهم ُم املكة لغيرهم وْبسعي صليْبي
ظاهر واضح؛ ُي اهجرُ المُسلمون والعرب من ديارهم ْبمخططات منظمات ْبل وأممية،
و ُي اوطن ْبمؤتمرات حفظ حقوق األقليات والهجرة األغراب والعلوج من األفارقة في الْبالد
العرْبية وفي مغرْبها ْبشكل خطير! وما ْبقي وطن في التاريخ محفوظا إال ْبدماء الوطنيين
من رجاله ونسائه وأرواح شهدائه ،وأيّ شاهد هو يوم غدرة الزنوج ْبالْبصرة ألولي
الْبصائر.
إنّ المسلم ال يكون عنصريا ،فتلك جاهلية من الجاهلية األولى ،ليست من اس ِويِّ الخلق
اإلنساني حتى .المسلم يكون رحيما ويكون إنسانيا أكثر من غيره ،مع المسلم ومع غير
المسلم ،ليس يكون إنسانا إذا لم ينظر إليه كونه أخاه ،ويقتسم معه غذاءه إذا اقتضى الحال.
لكن حين ترى ْبأم عينيك عملية التقتيل والترحيل القسري إلخوانك يخرجونهم من ديارهم
وأوطانهم يموتون غرقى في اليم أو مشردين في الغرب ،مخططا صهيونيا وصليْب ّيا ساريا
على قدم وساق ،ونسق االستنْباط هو من األنساق الفطرية األولية في العقل اآلدمي
السوي ،فْبعد الشام والعراق وليْبيا واليمن لم تْبق إال أنت ،ومن لم ُيْبصر وال يعقل وال
يسمع فذلك جزاؤه.
أمانة على عاتقه ،التي بسالمتها سلمت األمة اإلسالمية أكيدا.
-من غير تثقيف وال تدبيج ،وروح الكلمة أبلغ من ذلك-
12
المسلمون والتاريخ
إن العشر ْبل أدنى ْبكثير من عشر هؤالء األفارقة الذين اكتسحوا المغرب األقصى شاء
هللا تعالى أن يكشف لنا أمرهم ومعدنهم في الديار الليْبية إْبان أحداث الثورة (الْبوعزيزية)،
حين طفقوا يقتحمون على الناس دورهم ،ولم يْبالوا ْبما كانوا يقدمون لهم من الحسنى،
ولكنها الطْبيعة الحيوانية الكامنة السريعة إلى التحول في أي لحظة من اللحظات ،في كل
ْبشر ،كما في رواية أكيرا سيزيكو (السرب العاوي) أو الذئاب العاوية ،4وليس يرد قدرها
الماثل في األفق كأنه سحاْبة ريح ْبدماء ممطر إال ما ْبثه هللا تعالى في الشعوب من فطرة
حب األوطان والموت من أجلها – ومن لم يذد عن ع
حوضه ْبسالحه يهدم -فشْبر من
الوطن أعز من األرض ذهْبا ،وقد اتحد حكم الفقهاء والقانون الوضعي في حرمة
التصرف للحاكم والمحكوم فيما هذه صفته ،حكما ال يحتمل تأويال وال يُلحق ْبتقييد تأْبيدا.
ولنكن أكثر إْبانة عن الحقيقة الخطيرة التي يعيش في وضعها المغارْبة وهم عنها الهون
وغافلون لشروطهم وخاصة وعيهم السياسي وظروفهم الحياتية ،إنه ال يخدعنكم مظهر
التقوى والمسْبحة (السْبحة) ،فإن ما سجله تاريخ المغرب على غرار العرب في ظل مقولة
آلية التغالب لتعيين الخلف من ْبعد موت اإلمام أو حدوث خالفات ومنازعة حول الحكم،
وكثيرا ما كان أيضا ْبين الملك وأوالده ،ما حدث من تقتيل وهتك ألعراض العذارى في
خدورهن ،وسْبي للنساء واألطفال وما إلى ذلك من الئحة أْبشع األعمال وأكثرها دموية
ووحشية ،ما كان ذلك إال ْبين مسلمين يصومون ويصلون ويحملون مسْبحات وإن كانوا ال
يحملونها على صدورهم كما يفعل األفارقة .ولكنها الطْبيعة الْبشرية وقانون التغالب هذا
الذي يدل داللة واضحة على الموقع والطور التاريخي .وهذا الوضع والشرط األخير هو
الذي يمثل هالكا يوشك أن يحين أوانه .وإنه ال عذر للجاهل ْبسنن التاريخ وناموسه .وأشد
هللا حافظ هذه الْبالد ،وكذلك كان في سوريا من يقول قولهم
الناس جهال هو الذي يقول :إن ا
وفي اليمن وفي ليْبيا ،وهل أرض أشرف وأعظم حرمة من ْبيت هللا الحرام؟ وهذا نْبأ
التاريخ نسوقه ْبالحق:
4
LA MEUTE HURLANTE LES NightHowlers ABYSSES- AKIRA SUZUKO-HACHETTE LIVRE.1998.
LIBRAIRIE DES CHAMPS- ÉLYSÉES
13
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
"وقد سار أْبو طاهرْ 5بجيشه إلى مكة النتزاعها من عامل العْباسيين فانتهى إليها في 7
ذي الحجة من عام 317فخرج إليه أمير مكة يومها اْبن محارب في جماعة من األشراف
يسألونه أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فهزمهم ووضع سيفه في الطائفين والمصلين
والمتفرقين في مكة وشعاْبها وصاح ْبه الناس أتقتل جيران هللا؟ فقال :ليس ْبجار من خالف
أوامر هللا .وظل كذلك حتى قتل ما يرْبو على ثالثين ألفا ،دفن كثيرا منهم في ْبئر زمزم،
كما دفن ْبعضهم في المسجد الحرام ْبغير غسل وال تكفين وال صالة ،ونهب جيشه أموال
الحجاج وأهل مكة .6وكان ممن قتل ْبمكة أميرها اْبن محارب والحافظ أْبو الفضل محمد
ْبن الحسن الجارودي وهو متعلق ْبْباب الكعْبة ،وقتل إمام الفقهاء الحنفية أْبو سعيد
الْبردعي وكثير من العلماء الصوفية .وممن هرب قاضيها يومئذ يحيى القرشي إلى وادي
رهجان .وقد نهب القرامطة داره وفيها ما قيمته مائة ألف دينار وخمسون ألف دينارا.
وشمل النهب الْبيوت حتى أصْبح أهل مكة يستعطون الناس.
وركض أْبو طاهر وهو سكران شاهرا سيفه راكْبا فرسه ،ودخل المطاف فْبالت فرسه
وراثت ،وصعد إلى ْباب الكعْبة وهو يقول:
أنا ْباهلل وْباهلل أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وفي 14ذي الحجة قلع الحجر األسود من مكانه وذهب ْبه إلى ْبالده هجر .وْبقي
موضعه خاليا يضع فيه الناس أيديهم للتْبرك نحو اثنين وعشرين سنة .ثم أعاده القرامطة
7
ْبعد ذلك قائلين :أخذناه ْبقدرة هللا ورددناه ْبمشيئة هللا".
هذا في حرمة المكان ،أما من جهة حرمة اإلنسان؛ فهذا ذو النورين من المْبشرين
ْبالجنة رضي هللا عنه ،حرموه حتى الماء وتسلقوا عليه الجدران وأحرقوا الْباب وقتلوه
وهو يقرأ القرآن ويناشدهم هللا! أية فعلة أشنع من هذه تنفذها أيدي ونفوس أْبناء الساْبقين
5
أبو طاهر القرمطي
6
شفاء الغرام للفاسي 218/2وقال صاحب درر الفوائد المنظمة (وقتل في المسجد الحرام ألفا وسبعمائة ،وقيل :ثالثة عشر
ألفا من الرجال والنساء وهم يتعلقون بالكعبة ،وردم بهم زمزم ودفن بعضهم في المسجد ص -235المرجع-
7
تاريخ مكة :تأليف أحمد السباعي -مطبوعات نادي مكة الثقافي -الطبعة السابعة – ص172..170
14
المسلمون والتاريخ
من المهاجرة واألنصار؟! قتلوا هذه النفس الزكية ظلما وعدوانا في الشهر الحرام والْبلد
8
الحرام لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثالثين!
ما كان هذا الوقت مناسْبا وال مالئما للضيافة على اإلطالق ولو كان طالب الضيافة
يحمل خمسمائة سْبحة في يمينه وألفا ْبالشمال! وكم هو مهين أن يطرق هؤالء على أهل
الدار أْبواب مساكن (وللْبيوت حرمتها عرفا وقانونا) كل صْباح كأنهم وهللا جْباة
الضرائب! فوا ضيعة غيرة الخطاْبي وعزة الزرقطوني! آستقواء على الشعب العزيز وال
زال ظل الْبوعزيزي التاريخي وْبالحق لم يذهب .فتوى كتاب األمير صادف غرضا
مترْبصا للصليب؟!! وهنا أقولها صادعا ْبها قْبل يوم الحساب للمستقوين على أْبناء أحياء
القصدير من حديثي النعمة والسمنة من المتتْبعين وإن يشأ هللا تعالى أفصل في هذا األمر
الخطير تفصيال – حاشا أْبناء الناس منهم والصّالحين – المتتْبعين الذين ال زالت أقدامهم
ْبها آثار السقي من عيون وأنهار الْبوادي ،من هو الفاعل ومن المفعول ْبه ،وهناك نظرية
علمية على هذا التأصيل ،تأصيل الظواهر الوجودية والسياسية ْبالخصوص ْبميز الذكر
واألنثى على من يملك القوّ ة ،فصال ْبين المتحكم والمتحكم فيه .وهكذا قالها التاريخ
سأوريكم دور من يْبيعون أوطانهم ويتركون الْبالد مترعة يدخلها الداخل ويفعل ما يشاء
ويخرج سالما ال حارس للدار إذاْ .بعد قضية السكاح هذا ْبلد الخطاْبي والزرقطوني لكم
معشر أفارقة وزنوج مؤتمر مجلس دول شمال األطلنطي مستْباح .لكن يا حسرة على
ضياع أمانة الْبوعزيزي العظيمة في مصر ْبالذات وسقوط المشعل التاريخي ،وكل ما
يعيشه كل ثوري عرْبي من ْبعدها وما ْبكى رضيع في وسوريا واليمن لفقدان من ترضعه
إال من هذا السخف المصري ،سخف العقل الحامل لمسؤولية ثورة الخامس والعشرين،
التي هي في ذات اآلن أمانة ثورة العرب جميعا .وما انقلْبت فرحة الثورة إلى اضطهاد
السجون إال جراء القنوع ْبإطراء كقصة الثعلب والغراب.
8
إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء تأليف المرحوم الشيخ محمد الخضري بك المفتش بوزارة المعارف ومدرس التاريخ
اإلسالمي بالجامعة المصرية -الطبعة التاسعة 1383ه1964 -م – ص205
15
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
إذن فْبعد إذالل االستْبداد لقرون ْبالفقه السياسي إياه ،فقه الماوردي وإحكام القْبضة
السلطانية ،تأتي الصّليْبية لتجهز على الرّ وح ،فال الحصون ْبقيت وال أرواح من ْبداخل
الحصون ،وروح األمة هو دينها وعرضها.
اِعلم أخي ،أن الذي يقول ْبأن العقل مصدر التشريع أقول :هذا حكمه في الشرع أنه
كافر لم يْبلغ ْبعد مْبلغ علم الحق وليس له من الفلسفة الحق حكمها وصفتها.
واعلم على درجة هذا العلم ،أن من جعل العقل عدوا له ،فهو سفيه العقل خادم
للشيطان ،أزرى ْبنعمة هللا عليه ،ساهم ويساهم في هدم حصون المسلمين ،فال تْبقى لهم
في الدين والدنيا ْباقية؛ فإنّ العقل ْبه العم ُل وْبه الصّناعة وْبه التقدي ُر .فالعق ُل ْبهذا هو
القنطرة والعقل هو الطائرة والعقل هو الْبارجة الحرْبية والعقل هو الصاروخ والعقل هو
القنْبلة النووية والعقل هو الذي ْبحول هللا وقوته ْبه األمنُ .ولسنا في حاجة للقول ْبأن
المنطق كذلك على نفس التمايز وجب إدراكه وتصوّ ره ،على مْبدإ االختالف لْبنية قوله
لق ك امنع ال اي عخ ُ
تعالى {أف امنع اي عخ ُ
ون
توي
الذين ايعع ل ُم ا
ا
لق' أ افال تذكرُ ا
ون'}(النحل )17و{ق عل اه عل ايسع ِ
ون'}(الزمر )10وأيضا الفلسفة ،فهي في الطور األول كان ينضوي تحتها
ين ال ايعع ل ُم ا
اوال ِذ ا
الرياضيات والهندسة وعلوم الصّناعة ،التي هي المنتجة للعتاد الحرْبي ،كما هو من أهم
المرتكزات – لعلك ال تعلم هذا األمر -في نظمة الْبناء الفلسفي العلمي الصّرف ألْبي نصر
الفاراْبي.
وهذه العقل -فوْبيا أو العداء للعقل ،ليس يرى إال خدمة وكيدا صليْبيا نجح في ْبثه أعداء
األمة كيدا مْبيتا ،وْبطرائق محمكة شتى ،ور ّسخت في عقول المسلمين علمائهم وعامتهم،
وها هو اليوم الدليل الشاهد المشهود؛ وإال فما السّْبب الجلي المادي في الهزيمة وهدم
الحصون والتس ّيد على أمر األمة؟!
إن أْبعدا الناس عن العلمية وعن العدل واإلنصاف الذي يمكث على حال المجادلة في
ترجيح عقلين ومنحيين؛ ال يفيء إلى الحق سجيس عجيس ،وهو يرى أمامه كفة أشالها
الميزان على األخرى وترجحها كل الرجحان .وهذا هو حال المكذْبين المنكرين الذين ال
16
المسلمون والتاريخ
يعيرون معايير تحري الصدق اهتماما وال يحفلون ْبدالئله حتى يروا العذاب األليم ،كما
يقول هللا عز وجل في كتاْبه العزيز:
ير'}(الملك)10
{وقالوا لا عو كنا انسع امعُ عأو انعع ِق ُل اما ُكنا ِفي أصع احا ِ
ا
ب الس ِع ِ
ون'}()29
{ ِا عن اطلِقُوا إلى اما ُك عن ُت عم ْب ِه ُت اك ِّذ ُْب ا
ون'}(المطففين)17
{ثم يُقا ُل اه اذا ال ِذي ك عن ُت عم ْب ِه ُت اك ِّذ ُْب ا
ون'}(الدخان)47
{إن اه اذا اما ُك عن ُت عم ْب ِه اتمع ات ُر ا
ْبزغ فجر أمريكا "لما أسرفت إنجلترا في استغالل المستعمرات ضد مصلحة أهلها
ولمصلحة إنجلترا وحدها لم يطق األحرار صْبرا على ذلك ،رغم داعي القراْبة والعصب،
وحارْبوا ْبريطانيا وهم في ثالث عشرة مستعمرة فقط ،وهزموها ْبفضل إيمانهم ْبعدالة
قضيتهم وْبفضل اتحادهم .وجاء في إعالن استقاللهم «نتعاهد فيما ْبيننا على ْبذل أرواحنا
9
وأموالنا وشرفنا المقدس ،معتمدين وثيق االعتماد على حماية العناية اإللهية ورعايتها»"
وانفجر غضب الشعب الروسي أو قل العقل التاريخي الروسي وشيد في عشرين سنة
ما عطلته القيصرية لقرون ،ألن أنظمة في االجتماع الْبشري ال تجتمع والتطوّ ر
التاريخي؛ الج اهاد ْبالنفس والمال نقيض األنانية والرْبوْبية االجتماعية والسياسية؛ هل ذهب
ترامب ْبل هل فكر في غصب إال قوما ظالمين!
ونهضت الياْبان والصين والهند ْبعزيمة فوالذيةْ ،بعقل تاريخي كاسح لألوهام مفرق
فرق ،وهاهي اليوم من ْبعد ما
ْبين الحق والْبااطِ ل من غير عقدة تاريخية ،وال ذعر وال ا
كاْبدت -واإلنسان خلق في كْبد -ها هي أمم ْبثقافاتها مستقلة ولها من القوّ ة ما إن شاءت
تحكمت في النسق الوجودي العالمي..
9
التيارات السياسية في الشرق العربي :محمد عبد الباري – سلسلة اخترنا لك -...دار المعارف،مصر -1957ص61
17
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
وإن أمع ار قومي يا رب لمريب ،هم ليسوا من هذا كله في شيء ،ليس عندهم للعقل
التاريخي وال للنقد الذاتي وال للج اهاد ْباألرواح والمال ،ليس ذلك عندهم ْباعتْبار؛ إنما
عدوهم هو الماسونية ،ال يعرفون عدوا غيرها ،على طرف لسانهم! ،ويا رب سْبحانك لم
خلقت الماسونية كما كان سؤال الذين من قْبلهم :رب لم خلقت الشيطان ولم لم ُترع ِد ِه قتيال؟!
إن قومي يقولون إن الماسونية ْبيدها مقاليد تحرّ رهم ،فإن هي تركتهم وشأنهم استقام
أمرهم وحصل لهم نوال ما يتوقون إليه ويرضاه هللا تعالى لهم ورسوله صلى هللا عليه
وآله وسلم ،وإن كانت األخرى -وكأن مقاليد السماوات واألرض – والعياذ ْباهلل– ْبيدها،
كانت هي القاضية! هذه هي النظرية المسلم ْبها تسليما ألن الناس ال يكادون يتحرّ رون من
خطاْبها.
فإذا كانت الماسونية اخترقت كل شيء ،فاعلم أن الكل يستخدمها لحساْبه؛ قال رسول
10
ْبس اف ِه امنع ينحو ْبهذا إلى معنى
هللا صلى هللا عليه وآله وسلم" :الحرب خدعة" .وأعع ظِ عم ا
دعوة االنضواء .إن المانع عن التحرّ ر والعزة وحماية الحدود والولد واألوطان ليس هو
الماسونية يقينا؛ كل األمم تحمي أوطانها وهي حامية حانية على أْبنائها ،ولم تحل ْبينها
وْبين عزتها وسيادتها وحرية دينها ال األمم المتحدة وال الماسونية .وكذلك قالوا ويقولون
إن اليهود هم الذين وراء المأساة الكْبرى والحدث الجلل لنهاية وحل الخالفة العثمانية؛ إنما
هي عوامل مفعلة على شرط اختالالت المسؤول فيها هو عقل الكيان ،عقل الخالفة
كمؤسسة تاريخية..
ولما جاء رجل من أقصى الشرق يسعى في التاريخ وْبعلم الحق لم تأت أمة العُرب
والمُسلمون ْبمثله منذ قرون ْبشاهد الفعل واألثر ال مجرّد الدعاوى والوهم كما عند قوم؛
وما أظن إال أنه علم وذروة سامقة للعلم والحكمة إليها يقاس عظام الرجال من مثل غاندي
ونهرو ال هو يقاس إليهم؛ قال يا أمتي ويا قوم إن األمم يأتمرون ْبكم ليغزوكم ويقتسموكم
فهْبوا من غفلتكم وأعدوا العدة لمالقاة عدوكم وأنا لكم ناصح أمين! كان يكفي ألذكياء
الصّليْبيين والصهيونيين – وأذكياؤهم ليسوا كأذكيائنا -أن ال يهملوا وهم يدونون مذكراتهم
10
البخاري ( )3030عن جابر بن عبد هللا ،ومسلم ( :)4637شبكة السنة النبوية وعلومها
18
المسلمون والتاريخ
– ألنهم يعلمون أن أذكياءنا يقرؤون ما يكتْبون -أن يذكروا أن جمال الدين األفغاني انتظم
في الماسونية ،كان يكفيهم ذلك للقضاء على روح خصمهم ومنع قفو طريقه التحرري من
ْبعده ،خصمهم الذي فكر في استعمال جميع األسلحة الممكنة إلنقاذ أمته من مخالب
الوحوش والكواسر ومنها الماسونية ،ورد سهامها أو ْبعض منها إلى نحر العدو ،وكذلك
كان كافيا إلْب اععاد أقوى وأنجع السالح الممثل في األنساق العلمية والفكرية ،ألنها ْبالذات
من رأي هذا الرجل الغريب كما يقول من ال يفقه ما معنى القول في تقويم وجود
المخلوقات من الحيوان واإلنسان ،وْبالطْبع سيكون هذا الجسم موضوع القضية مقضيا
عليه ،إال من وهم في تمثيل اإلسالم وتمثيل عقل األمة اإلسالمية.
إن جمال الدين األفغاني رحمه هللا ليس فقط عنوان طور لألمة العرْبي اإلسالمية ،رجل
ْبقدر أمة لم يصارع سمك القرش كما في رائعة هرنست همنغواي "الَجوز والبحر" ْبل
واجه امْبراطوريتين استعماريتين ْبل أكْبر اإلمْبارطوريات االستعمارية ،هو ليس ْبهذه
آثار ُه عم' او ُكل اشيع ء
الداللة في األرض والسماء{ :إنا انحع نُ ُنحع يي عال ام عو اتى او ان عكتبُ اما قد ُموا او ا
ضعف العقل
ص عي اناهُ ِفي إ امام ُمْبين'}(يس'ْ )11بل هو أيضا دليل في التاريخ على ا
أاحع ا
الجمعي المصادر لتمثيل عقل األمة ،لكنه عقل نظام أمة مْبدلة أذهب هللا تعالى نورها،
ومن لم يجعل له نورا فما له من نور .وإن األمة التي ال تصنع وال تعد العدة هي أمة غير
تقية ،وأنها تعيش في التاريخ على غير المفهوم الحق لالستخالف ،وعلى غير تالوة حقة
ت}.
وفقه صحيح لمعنى
{الذين آ ام ُنوا او اع ِملُوا الصّالحا ِ
ا
لئن كان جمال الدين األفغاني ،هذا الرجل العظيم ْبقدر الفعل والتاريخ ،والرجال يسمون
رجاال ْبميزان السماء واألرض وليس فقط ْبالْبعد التوالدي الذي تشاركهم فيه الحمر
والدواجن والعجماوات .لئن كان علما ْبقي ويْبقى شاهدا ،فهذا شاهد اليوم على الوجه
المقاْبل ،أمسى فيه العرب يفتقدون لرجل وقائد مثل صالح الدين األيوْبي وجمال الدين
األفغاني وأردوغان ،وإال فما تأويل وما تفسير هذا السقوط ْبمصر لمشعل ثورة األمة،
ثورة ْبذلت دونها المهج وفداها الرجال والنساء في تونس أْبي قاسم الشاْبي وسوريا
19
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
واليمن ،وليْبيا عمر المختار ْبرجال أْبهروا العالمين ،وأظهروا الصّورة الحقيقية للعرب
في إعالم أمريكا والغرب..؟؟؟
يقول علي عزت ْبيجوفيتش رحمه هللا – وأهل الرْباط والثغور أحق ْبالفتوى -ولوال أن
ليس ُْبد من التفصيل لوددت أنني استغنيت ْبكلمته هاته عن الكالم؛ وما إخالها إال ْبركة من
ْبركات كتْبها هللا للمجاهدين في سْبيله ،ذكرا حسنا في الدنيا وشفاعة تعطى لسْبعين يوم
قلوْبهم مرض في ريْبهم يترددون؛ يقول من له
الدين ،كما جاء في الخْبر ،وذر الذين فِي ِ
حق القول:
«يواجه المُسلمون اختيارا صعْبا ينْبغي عليهم أن يتجنْبوا فيه اختيار أحد طرفين
متعارضين :الرفض التام للحضارة الغرْبية أو اتْباعها اتْباعا أعمى فكالهما خطر على
نفس المستوى ،ذلك ألننا إذا لم نتعاون ْبإيجاْبية فإن ضعفنا سوف يمتد إلى ما ال نهاية،
وإذا قْبلنا هذه الحضارة ْبال تمييز ْبين ما فيها من خير وشر فسوف نخسر هويتنا ...نحن
ال نستطيع أن ننعزل ونقطع أنفسنا عن العالم ،ويجب علينا أن نهتدي في هذا ْبقول نْبينا
الكريم" :الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق ْبها".
كما يجب أن نعي حقيقتين رْبما يغيْبان عن أذهاننا :الحقيقة األولى هي أن هذه الحضارة
هي نتاج مشاركة عالمية لعدد كْبير كمن العلماء ينتمون إلى قوميات وأديان مختلفة،
والثانية هي أن قوّ ة الغرب ليست في اقتصاده وقوته العسكرية فحسب ،فهذا هو الجانب
الخارجي منها ،ولكن القوّ ة الحقيقية للغرب تكمن في النقد الفكري ،وهذا ما ينْبغي أن
نفهمه وأن نمارسه في حياتنا».
روح النقد الفكري هي روح "أطيعون ما أطعت هللا فيكم!" و"أصاْبت امرأة وأخطأ
عمر" ولكن روح الماوردية و"األحكام السلطانية" ال تْبقي على هذه الرّ وح وال تذر منها
شيئا.
و ُيحذر عزت ْبيجوفيتش مما س ّماه ْبالتقليد الطفولي للمظهر الخارجي للحضارة الغرْبية
ألن هذا المظهر يحمل في طياته ْبطانة ثقافية غير مشهودة ،ولكنها ممزوجة ْبكراهية
20
المسلمون والتاريخ
عميقة واحتقار شديد لإلسالم والمسلمين موروث من زمن الحروب الصّليْبية ..وهذا ما
يفسر لنا كيف أن أْبناءنا عندما يحتكون ْبهذه الحضارة وينْبهرون ْبها يشعرون ْبعقدة
النقص تجاهها ،ويتشرْبون روح العداء لإلسالم وقيمه وتاريخه ومن ثم ينشأ عندنا ذلك
الصراع األزلي ْبين دعاة الحداثة والتْبعية للغرب وْبين المحافظين المتصلْبين على التقاليد
11
..وقد مزق هذا الصراع كثيرا من المجتمعات المسلمة وأدى إلى نتائج كارثية.
إنها لألسف نتائج كارثية حقا ،تسير ْباألمة على منحى تفاعل منهك وممزق لكيانها كل
ممزقْ ،بفعل حقل احتقان مفعل ْبالغرب االستعماري الذي لم تزل ْبيده مقاليد األمور ،حقل
لوحتاه الزاويتان العلمانية والسّلفية.
إنها قضية شائكة ،قضية من كْبريات القضايا التاريخية والفكرية التي احتد الخالف
فيها؛ ولما كانت الميزة الخاصة للحق عدم االختالف ،فْبقدر ُْبعد الذوات ومناهجها عن
الحق تفاقم واشتد خالفها.
لكن القضية الموازية ،أو صلب القضية ،هي تحري الحكم ْبالحق وذلك ليس يكون إال
ْبالوضع الصحيح األقوم للقضية ،الوضع الذي لها في ميزان السماوات واألرض ال على
األهواء ومالءمات السياسات والمذاهب ونزوعات األشخاص ،وكل ما ليس على الوضع
ا
الحق والميزان فهو يقينا من هاتيك األهواء .يقول هللا تعالى{ :فإنع
تنازعع ت عم فِي اشيع ء فرُ دوهُ
تأويال'}(النساء)58
ون ْبا ِ
ول إنع ك عنت عم عتؤ ِم ُن ا
إلى ِ
هللا اوالر ُس ِ
هلل او عال اي عو ِم اآلخ ِِر' ذل اِك اخ عي ٌر اوأحع اسنُ ِ
{و اما ع
هللا'}(الشورى )8ويقول ّ
عز مِن
اختل عفت عم فِي ِه مِنع اشيع ء افحُ ك ُم ُه إلى ِ
ويقول سْبحانه :ا
{و اما تفرقوا إال مِنع اْبعع ِد اما اجا اء ُه عم عالع عِل ُم' اْبغيا اْبيعن ُه عم'}(الشورى )12ويقول سْبحانه:
قائل :ا
ت ْب اما أ عن از ال ِمنع ِك اتاب اوأ ِمرع ُ
ت اوال اتتْبعع أهع اوا اء ُه عم' اوق عل آ ام عن ُ
{فلِذل اِك ع
فادعُ اواسع ت ِق عم ك اما أمِرع ا
ت أنع
أعع ِد ال اْب عي انك عم' هللاُ ارْب انا او ارْبك عم' ل انا أعع امال انا اولك عم أعع امالك عم' ال حُ جة اْب عين انا او اْب عينك عم' هللاُ ايجع ام ُع اْب عين انا'
اوإل عي ِه عال امصِ يرُ '}(الشورى)13
11
مذكرات علي عزت بيجوفيتش الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك -ترجمة وإعداد محمد يوسف عدس مستشار
سابق بهيئة اليونسكو -كتاب المختار – ص150-149
21
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
وعليه فما من سْبيل أوفق في تحري الحق هو الصدور عنه والسير على نوره والحكم
ْبه ،ووجوْبه في ما اجل من المختلف فيه وعظام األمور أولى وأدعى ،ومن خالفه كان من
صنف النفوس المجادلة ْبغير علم وال هدى وال كتاب منير ،ثانية عطفها تضل عن الحق
ولو كانت تعد في نفسها أو يعدها مريدوها وأتْباعها من المشيخة التقية المهدية المهتدية،
فإن لكل شيء حقيقة ،فالسيف ْبرهانه ساحة الوغى ،والتقوى رْبنا عز وجل أعلم ْبما في
الصدور .أْبو ْبكر الصديق رضي هللا عنه قامع الردة كان حتى وهو خليفة رأس أمة
رهْبان الليل وفرسان النهار يحلب للعجائز واأليتام شياههم وما كان لعمله ذاك شاهده إال
هللا.
إن ما نجعله نورا لمنهجنا هو كتاب رْبنا تعالى الذي له الحمد كله أن ال إله إال هو لم
يجعل له شريكا في ملكه وحكمه سْبحانه ،وسنة نْبينا محمد ْبن عْبد هللا صلى هللا عليه
وسلم أحب إلينا من أنفسنا؛ فهذا مرجع نهجنا :العلم والحكمة.
فأعظم قانون ال نهج يصح من دونه وال اعتداد ْبقول من قائل من ْبعده ،هو قانون تْبعية
الحكم على مطلق أْبعاد القيمة الحقائقية للسعة العلمية منصوصا أصال صريحا ثاْبتا في
تحاجو ان انا ِفي هللاِ او ُه او ارْب انا او ارْبك عم اول انا أعع امال انا اولك عم أعع امالك عم' او انحع نُ ل ُه
القرآن المجيد{ :ق عل أ ا
قولون إن إ عْب ارا ِهي ام اوإسع اماعِ ي ال اوإسع اح ا
قوب اواألسع اْبا اط كانوا ُهودا
ون' أ عم اي
ُم عخلِ ُ
اق او ايعع ا
ا
ص ا
هللا' او اما هللا ُ ا
ْبغا ِفل
صا ارى' ق عل أأنت عم أعع ل ُم ِأم هللاُ' او امنع أظل ُم ِممنع كت ام اش اهادا ة عِ عندا هُ ِم ان ِ
أو ع ان اَ ا
ِب اعليعك عم القِتا ُل اوه اُو ُكرع هٌ لك عم'
لون'}(الْبقرة )139-138وقوله عز وجلُ { :كت ا
اعما اتعع ام ا
تكرهُوا اشيعئا اوه اُو اخ عي ٌر لك عم' او اع اسى أنع ُتحِْبوا اشيعئا اوه اُو اشر لك عم' اوهللاُ ايعع ل ُم' اوأ عنت عم
او اع اسى أنع ا
ُون'}(الْبقرة)215
ال اتعع لم ا
فإذا كان لودفيغ فتنشتاين( )1951-1889وهو ينهج الصرامة قد أحال الفلسفة انطْباقا
تحليال لغويا ،12أي أن ينْبغي أن ننظر إلى الفيلسوف اْبتداء ،ليس قائال ولكن مستنطقا
ورد كل التعقيدات واإلشكاالت
ومستنطقا للواقع والوجود كفضاء عالئقي وقائعي ،ا
12
انظر :المنطق وتصور فتجنشتين للفلسفة ،د .عبد هللا الجسمي-عالم الفكر -المجلد التاسع والعشرون -العدد األول-
يوليو /سبتمبر2000
22
المسلمون والتاريخ
الفلسفية ْبالضْبط إلى اعتْبار مناطات األْبنية المقوالتية المنطْبقة ْبالتصورات ،اعتْبارا غير
منطقي ،ألنها غير محددة تحديدا منطقيا جوهرياْ ،بل جوفاء فارغة من المعنى .ولقد سْبقه
إلى هذا القانون تحديدا اْبن الوزير رحمه هللا في علم الكالم من قْبله ْبخمسة قرون ،كما
سنذكره فيما ْبعد .ومنه أخرج أي فتنشتاين كل ما هو من المعتقد حسب تعْبير السياق.
فإذن يلزمنا االنتْباه إلى كون هذا القانون وتعْبيره – وعلى خطر التعْبير المؤدي إلى
المتصور -هو امتداد على منحى مْبدئه وفلسفته ورؤيته للرياضيت مما سميناه ْبمْبدإ
ْبروور -فتنشتاين ،مْبدإ الوجودية والواقعية الرياضية .وعلى ضوء هذا فشرطه لتحصيل
تفلسف من غير ما تشهده الفلسفة من إشكاالت ال مخرج لها ،ليس له خلفية دينية ،وإنما
خلفية محض معاييرية ومنهاجية قوية ،للصعود إلى رْبوة الرؤية النقية الحقة من غير
شوائب المْبهم والالمحدد والْبشري والنسْبي واالنتمائي ما دون الحق في الواقع والوجود.
إننا في هذا الجهد المتواضع االْبتدائي األولي لما يشاء سْبحانه أن يتلوه ،الذي نرجو فيه
رْبنا عز وجل ْبلوغ المراد ،على هذا النسق المنهاجي نؤسس ونْبني ،وْبتوسيع أو ْبسديد
اللفظ ْبالصعود المنهاجي على المستويين:
-1مستوى المعطيات ْبجعل أوالها شهادة أن ال إله إال هللا محمد رسول هللا ،فهي شهادة
لها صيغة محددة جوهريا ،ألن كل ذراتها الْبيانية محددة ،فاهلل تعالى أول المعارف،
والمكافي الفلسفي والعلمي والفقهي لذات هللا العلي العظيم األول واآلخر سْبحانه وتعالى
الذي ليس كمثله شيء وهو السميع الْبصير ،هو عين روح المنطق وروح قانونه ألن
المنطق ما هو إال إسقاط للحق؛ فمصداقية المنطق ْبقيومية الحق.
-2مستوى سعة النسق ْبالصعود واالتساع من التمثيل المنطقي الخطي والْبياني
الطْبيعي إلى االعتْبار الجوهري ،المجلي ألْبعاد العناصر والوقائع الممثلة منطقيا.
هو إذا نسق التحليل والتركيب على المعيارية الرياضية والهندسية الجوهرية مستوفيا
ْبذلك أعلى درجات التحقيق .فهذه المعيارية هي قصارى إمكان تحري الحق في العلم
والعمل اإلنساني ،ولنكون على الصراط المستقيم وعلى أقوم الطريق تالوة لقوله تعالى
23
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
تتْبع
اس ا
القوي العزيز { :ايا دا اوُ ُد إنا اج اعل ان ا
اك اخلِي افة فِي األرع ِ
ض فاحع ك عم اْبي اعن الن ِ
ْبالح ِّق اوال ِ
{وأقِيمُوا
هللا'}(ص )25وقوله عز وجل وهو العزيز الحكيم :ا
ْبيل ِ
عال اه اوى فيُضِ ل اك اعنع اس ِ
عال او عز ان ع
ْبالقِسع طِ اوال ُت عخسِ رُ وا عالم ا
ان'}(الرحمان)7
ِيز ا
24
المسلمون والتاريخ
الباب األول
قضايا َمنهج ّية في المفاهيم واأل عب ََا
َ
25
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الفصل األول
من "الوطنية في شعر شوقي" إلى "االتجاهات الوطنية في األدب المعاصر"
التغيّر األْب اععادي
يقول محمد محمد حسين -رحمه هللا! -مستهال مقدمة كتابه "االتجاهات الوطنية في
األدب المعاصر":
«كان اتجاهي أول األمر إلى أن أكتب عن الوطنية في شعر شوقي .ولما اجتمعت لي
مادة البحث ،رأيت أن الذين كتبوا عن هذا الشاعر قد ظلموه ظلما بينا في وطنيته.
ونظرت فإذا شوقي ليس وحده هو الذي مدح السلطان عبد الحميد ،فقد كان ذلك اتجاه
شعراء العصر جميعا .ونظرت فإذا شوقي لم يكن وحده الموالي لتركيا ،فقد كانت
مغاضبة تركيا وقتذاك ال تعني إال مواالة أعدائهم وأعداء مصر األنجليز .ونظرت فإذا
الرجل لم يكن وحده الذي مدح عباسا – وإن تكن صناعته ووظيفته قد اقتضته ذلك – فقد
كان عباس في الفترة األولى من حياته موضع مدح كل الشعراء ،بل وموضع حب
المصريين جميعا وآمالهم.
ورجعت إلى كتابات العصر وصحفه وتاريخه ،فإذا كل ذلك يوحي بأن وطنية هذه
الفترة لم تكن هي وطنيتنا ،وأن قيمها لم تكن هي قيمنا ،وأن تفكيرها لم يكن هو تفكيرنا،
فالخطأ في الحكم يرجع في معظمه إلى تغير مفهوم (الوطنية) على مر األيام .فالذين
يدرسون أدب الصحراء والفطرة في الجاهلية ال ينصفون إذا وزنوه بموازين الحضارة
والمدنية في القرن العشرين .والذين يدرسون شعراء ما قبل اإلسالم يظلمون إذا وزنوهم
بموازين اإلسالم .والجيل الذي يولد في هذه األيام يخطئ إذا درس آداب آبائه بعد عشرين
عاما أو ثالثين فحكم على الذين مجدوا (الملكية) بالخيانة ،وكذلك كان شأن الدارسين مع
شوقي .الموه لميوله التركية حين كانت الرابطة العثمانية حديث كل األمم اإلسالمية.
26
المسلمون والتاريخ
وغضوا من قدره ألنه كان رجل القصر حين كان عباس ساكن القصر موضع أمل
الوطنيين من المصريين وقدوتهم في مقاومة االحتالل في شطر حياته.
وعند ذلك خطر لي أن ال أقصر تاريخ الوطنية على شوقي ،وأن أؤرخ لالتجاهات
الوطنية في الشعر العربي في مصر جملة ،ورأيت أن مثل هذا البحث قد يصحح كثيرا
من األحكام السابقة العاجلة ،وقد يعين على وضع مقاييس صحيحة للقيم الوطنية
وتطورها .فليس من اإلنصاف أن يحاسب الناس على أسس مباينة كل المباينة أو بعض
المباينة ألسس العصر الذي عاشوا فيه وعبروا عن قيمه واتجاهاته.
وليس من البحث العلمي أن يدرس الشاعر منفصال عن بيئته التي استمد منها تجاربه.
ومن هذا يبدو أن البحث في لبه يستهدف تصحيح القيم الوطنية والقيم النقدية في دراسة
13
الشعراء المعاصرين».
ض أخيه هو عم ٌل صال ٌحْ ،بل هو من خير األعمال التي
ال شك أن اذب المرء عن عِ رع ِ
يرجى لها عند هللاِ تعالى عظيم الثواب؛ فعن أْبي الدرداء رضي هللا عنه ،عن النْبي صلى
ار اي عو ام القِ ايا امة" 14وفي
ض أخِي ِه ارد هللا ُ اع ِن اوجع ِه ِه الن ا
هللا عليه وسلم قال " :امنع ارد اعنع عِ رع ِ
15
ض أخِي ِه ع
هللا أنع يُعع تِق ُه م اِن النار"
لى ِ
ْبال اغ عي اْبة اكانّ احق اع ا
صحيح الجامع " :امنع ارد اعنع عِ رع ِ
ان
ض أخِي ِه اك ا
وفي صحيح وضعيف الجامع الصغير لأللْباني وصححه " :امنع ارد اعنع عِ رع ِ
16
ار اي عو ام عالقِ ايا امةِ"
لا ُه ح اِجاْبا م اِن الن ِ
وحسن أيضا أن تتمخض فكرة الكتابة عن الوطنية في شعر شوقي -رحمه هللا! -وتربو
مساحتها فتتسع إلى الكتابة في شأن أعظم هو التأريخ لالتجاهات الوطنية في الشعر
13
االتجاهات الوطنية في األدب المعاصر – الجزء األول – من الثورة العرابية إلى الحرب العالمية األولى – بقلم الدكتور/
محمد محمد حسين -الناشر مكتبة ابن تيمية – ص ( 9-8مقدمة الطبعة األولى)
14
صحيح رواه الترمذي وأحمد – موسوعة األحاديث النبوية المترجمة و موقع اإلسالم :أخرجه الترمذي وحسنه ()1439
وألحمد من حديث أسماء بنت زيد نحوه
15
طالئع المسند لإلمام أحمد بن حنبل – حديث -6262تحقيق أحمد شاكر .ملتقى أهل اإلسالم
16
-11208تخريج السيوطي والبيهقي في السنن الكبرى :انظر حديث رقم 6263 :في صحيح الجامع -الموسوعة الشاملة
27
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
العربي في مصر ،الذي من شأنه عالوة أو باإلضافة إلى غرضه التصنيفي البحت ،يقول
الكاتب إنه يرى فيه ويبتغي من ورائه تصحيح كثيرا من األحكام السابقة العاجلة ،حسب
تعبيره ،وقد يعين على وضع مقاييس صحيحة للقيم الوطنية وتطورها.
واضح أن هذا البحث والتقصي باعتباره نظرا في موضوع محدد بغاية تصنيفية
لمادته ،هو من حيز الدراسة والعمل النقدي ال يخرج عنه .ومنه إذا أريد له أن يكون
علميا حقيقا وجديرا بهذه الصفة أن يط َّبق عليه ما يطبق على حيزه ونظيره من المعيارية
أو المعايير .هذه المعيارية أو الحيز المنهاجي الذي هو بمثابة حجر الزاوية فيه والشرط
األساس في ذات قيمته ومصداقيته في الحق ،قد أواله األستاذ محمود محمد شاكر رحمه
هللا من االهتمام ما يناسب قدره وخطره ،واستجاله من كل جوانبه ،حتى تجلى فأضحى
واضحا سابغ الوضوح ،ماثال ألهل العلم وأولي البصائر ال يضامون في حقيقته .بل وكان
ذلك المرتكز العلمي الحق الذي ر َّد به رحمه هللا الكيد الصليبي على جبهة قلب وروح
العرب كذات وأمة وتاريخ ،في لغتها وشعرها وأدبها ،ثم ال يغربن عنك أن اللغة هي
حاملة ثقافة األمة.
نوجز القول بأن ما سماه محمود شاكر ب"ما قبل ال َمنهج" هو مبطل بالحق لمطلق
التناول والمأخذ االستشراقي وما يلحق به وتابعه وأوصاله من األدب العربي؛ فاألدب
العربي ال ينبغي وال تستكنهه إال المورثات أو الجينات العربية أصال ومنشأ .وأرى أنَّ كل
ما ذكره األستاذ شاكر مسندا إياه إلى شبه -مفهوم "ما قبل ال َمنهج" هو من حقيقة المنهح
ذاتها بالمعنى الذي له في القاموس العلمي والمنطقي ،وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه
شامال كامال غير منقوص .لكن الذي أضطره إلى هذه المعالجة البيانية وألزمه إياها ،إنما
هو الوضع المحدث في العملية الدراسية والنقدية بعامل حادث دخيل ،ممثل لعنصر وركن
الدارس والناقد ،مختلف جوهريا وعالئقيا في شروطه مع نظمة المنهج بمفهومه الساري
وتصوره السَّائد والشائع .فاألصل أنَّ ركن ال َّدارس والناقد هو من موضوع مكونات
شروط المنهج ومكوناته ،إال أن الذي اعتبره و نظر إليه شاكر هنا هو إشكال الحيثيات
والشروط الطارئة والخطيرة من حيث الموضوع المتص َّدى له ،وإليها ينبغي أن يصمد
28
المسلمون والتاريخ
الرد الحاسم ،والمحافظة أو باألحرى إكراه الحفاظ على المفهوم الساري المحيَّد فيه هذا
الشرط الحادث أو الشروط الدخيلة والحادثة .فال جرم أن يحصل تداخل عنده بين
"ال َمنهج" وما جعله وسمَّاه "ما قبل المنهح":
«ولفظ «المنهج» يحتاج مني هنا إلى بعض اإلبانة ،وإن كنت ال أريد به اآلن ما
اصطلح عليه المتكلمون في مثل هذا الشأن ،بل أريد «ما قبل المنهج» ،أي األساس الذي
ال يقوم المنهج إالَّ عليه .فهذا الذي سمَّيته هنا «منهجا» ينقسم إلى شطرين :شطر في
تناول المادة ،وشطر في معالجة التطبيق .ويؤسفني أن أكتب هذا في مخاطبة أستاذ
جامعيٍّ .
ف اش عطرُ المادة يتطلب ،قْب ال كل شيء ،اجمع اعها من امظا ِّنها على وجه االستيعاب المتيسر،
ف هذا المجموع ،ثم تمحيص مفرداته تمحيصا دقيقا ،وذلك ْبتحليل أجزائها ْبدقة
ثم تصني ا
متناهية ،وْبمهارة وحذر ،حتى يتي ّسر للدارس أن يرى ما هو ازيعفٌ جل ّيا واضحا ،وما هو
صحي ٌح مستْبينا ظاهراْ ،بال غفلة ،وْبال اهوى ،وْبال تسرع .أما شطر التطْبيق فيقتضي
إعادة تركيب المادة ْبعد انفي از عيفها وتمحيص جيِّدهاْ ،باستيعاب أيضا لكل احتمال للخطأ أو
الهوى أو التسرّ ع ،ث ّم على الدارس أن يتحرّى ْبكل حقيقة من الحقائق موضعا هو ّ
حق
ٌ
خليق أن يشوّ ه
موضعها ،ألن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها،
اعمُودا الصّورة تشويها ْبالغ القْبعح والشناعة.
وهذا شي ٌء واضحٌ ،فيما أظن ،ما كان أغناني عن ترداده على مسمع أستاذ جامعيّ .
ولكن يْبقى شي ٌء هو مفروضٌ اْبتداء ،ال يصلح شي ٌء مما قلته إال ْبه ،اْب عيدا أنّ الناس قد
ُي عخدا عون عنه أو يتجاهلونه لهوى غالب على النفس ،أال وهو الدارس الذي يعالج ال امنهج
17
ْبشطريه .فالدارسُ ينْبغي أن يكون قد ملك األسْباب التي تجعله أهال لمعاناة ال امنهج».
فالشروط التي ساقها محمود شاكر في شطري ال امنهج :المهارة -الحذر -التمحيص
الدقيقْ -بال غفلةْ -بال هوىْ -بال تسرع ...هذه كلها تتوقف على عنصر الدارس من حيث
17
أباطيل وأسمار ،الجزءان األول والثاني :أبو فهر محمود محمد شاكر ،ص - 20-19الناشر :مكتبة الخانجي بالقاهرة
29
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
التذوق" المفروض في هذا
هو ذات علمية .والمختلف هنا هو أن شرط ما أسماه ب" ّ
الوضع ،والذي يؤول إلى شرط المنشأ العرْبي ،ليس من معتاد الشروط وشائعها في
معهود المواضيع ُم احي ٌد فيها.
التذوق" الذي أْبرزه األستاذ محمود شاكر ،والذي ذهب في حقيقته
شرط أو امنهج " ّ
مذهْبا إلى اح ِّد أنع جعله ينسحب ويسري إطالقا ال اقتصارا على أهل االستشراق والذين هم
آلثارهم مقتفون ،وتحديدا في ذ ِّْب ِه عن عرض المتنْبي -رحمه هللا! -شاعر العرْبْبة
والعروْبة ْبال منازع ،الذي هو في حقيقة األمر اذب عن عرض الهوية العرْبية والثقافة
العرْبية؛ فكما أن ليس كل من درس الفلسفة أو قرأ تاريخها يمكن له أن يترجم الْبيان
الفلسفي إلى الْبيان الطْبيعي ،فكذلك ليس كل من تعلم العروض وعرض إلى درس الشعر
وتاريخ الشعراء ،ليس في مكنته الغور واستكناه الحقائق واإلحساسات التي عجت في
مهجة الشاعر حتى كانت شعرا ،ال يختلف في إحساس النفس وعالمها عن هدير الْبحر
وموجه حينا ،وال هو في عينها دون رونق ما يكون في الطْبيعة من الجمال واألثر
الخالب األخاذ حينا تارة أخرى.
هذا الشرط الْبياني من ال امنهج الذي هو شرط النشأة أو المنشأ اللغوي يقاْبله في
موضوعنا شرط اآللية العقلية من المنهاج.
الهدف األو ال أو الموضوع أول ما
فإذا كان الدكتور محمد محمد حسين قد صرح أن
ا
رفع الْبغي الذي تعرّ ض
ْبدأ كان هو رصد الوطنية في شعر أحمد شوقي يهدف من ورائه ا
له هذا الرجل ْبغير حق فيما يراه ،وجمع أمره في التصدي له ْبالكشف عن جملة من
األدلة ،من إْبراز دالة ْبيانية ْبين العنصر المعجمي ل"القومية" ومفهومها أو ْبدقيق اللفظ
مفاهيمها حسب ال ِقطع التاريخية ْبفاصِ ل دا ِّل وج ِّد ها ّم "فاصل الحرب الَالمية األولى"،
وعالقة هذه المفاهيم الْبدلية ب"الجامَة اإلسالمية" و"الجامَة المصرية" و"القومية"
اتساع الموضوع اتساعا على نحو ودرجة ،نراها خرجت عن
وغيرها ،فإن هذا أدى إلى ا
طوق النسق الذي أْبقى الكاتب عليه االتساع الموضوعاتي كأنه لم يتسع ،من دون وعي
غير األول ْبالتأكيد ،ليس في سعته فحسب ْبل في ماهيته وطْبيعته!
أنه استحال موضوعا ا
30
المسلمون والتاريخ
31
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الفصل الثاني
ُْبعع د ما 'فوق -الوطنية" لقضية جمال الدين األفغاني
إنه لو كان محددا أمر الوطنية تحديدا ،وكانت اتجاهاتها كذلك محددة ،جاز حينها ْبل
كان ليس يحق وال هو ْبجائز إال اعتْبار الموضوع ذا صْبغة أدْبية خالصة .والحال أن
الوضع ليس كذلك .فالموضوع هو ْبحق موضوع الوطنية وسؤال كشف طيفها الخطوطي
كمجال .وهذا المجال مولد ومستحثة مُكوّ نات طيفه أو اتجاهاته ْبتحريض وأثر مولدات
أقطاب معينة ،هي المفعلة والفاعلة والمؤثرة في الموضوع ،متنافسة فيه ومحددة ْبقضاء
هللا وقدره وسننه لمصيره :اإلنجليز -الخالفة -القصر -فرنسا – جمال ال ين األفغاني!
الماهية والطْبيعة التاريخية السياسية لهذا الموضوع الذي وجد الكاتب الدكتور محمد
محمد حسين نفسه ْبداخله واتجاهه ْبغير سعي منه ،والسعي يكون عن تحديد ورسم مدرك؛
هذه الطْبيعة المخالفة تماما لطْبيعة الموضوع المتسع عنه أو منه ،لها من الدليل ما ْبه
القطع والحسم من جهة الْبنية ومن جهة المضمون أيضا .فأما الدليل الْبنيوي فهو امعع ل ُم
الكتاب الْب ِّين الذي هو "الما -قبل" و"الما -بَ " ْبالنسْبة إلى فاصل الحرب الَالمية
والمرجع عند
األولى .وأما من جهة المضمون ،فكون الكتاب أصْب اح الدلي ال المقو ال ْبه
ا
كثيرين في الحكم على جمال الدين األفغاني ،حكم ْبصيغة تقرير ماسونيته أو انتمائه إلى
المحفل الماسوني ،وْبُت في الحكم عندهم وقضي األمر!
الكتاب ْبقي في آليته األولى ونسقه األول المتناسب
لكن الذي ينْبغي أن ننتْبه إليه هو أن
ا
والطْبيعة األدْبية الْبيانية ،وما الْبيان في الموضوع المتسع إال كاشفٌ عن عناصر ونتاجات
جواهر في تمايزها واختالفها؛ وإنما ال ُمف ِّعل فيها هي األقطاب الواردة أعاله؛ فيحكم
ا
ويقضى في قطب منها ْبمثل هذا القول:
32
المسلمون والتاريخ
«وحقيقة األمر في حركة الشيخ محمد عْبده وأستاذه جمال الدين األفغاني الذي اقترن
اسمه ْبه في الشطر األول من حياته ال تزال تحتاج إلى مزيد من الوثائق التي توضح
موقفهما وتزيل ما يحيط ْبه من غموض ومن تناقض فيما اجتمع حولهما من أخْبار .فْبينما
ينزله رشيد رضا – ومعه كل أتْباع الشيخ محمد عْبده الذين ازداد عددهم على األيام –
منزلة االجتهاد في الدين ،ويرفعونه إلى أعلى درجات الْبطولة واإلخالص الذي ال تشوْبه
شائْبة ،كان كثير من علماء الشريعة المعاصرين له يتهمونه ْبالمروق من الدين
واالنحراف ْبه وتسخيره لخدمة العدو .فإذا تركنا هؤالء وهؤالء ممن قد يجد الطاعنون
سْبيال إلى رميهم ْبالتحيّز والمحاْباة ،أو التحامل والتزمت ،وجدنا كثرة من النصوص في
كتب ساسة الغرب ودارسيه تصوّ ر رأيهم فيه وفي مدرسته وتالميذه ومكانه من الفكر
الحديث .وهي جميعا تتفق على تمجيده واإلشادة ْبه وْبما أداه لالستعمار الغرْبي من
خدماتْ ،بإعانته على تخفيف حدة العداء ْبينه وْبين المسلمين ،وهو عداء يستتْبع آثارا
سياسية تضر مصالحه وتهدد ْبإذكاء الثورات التي ال تفتر وال تنقطع.
وإلى جانب ذلك كله نجد إشارات صريحة في كتاب ألحد كْبار رجال الماسونية في
مصر – ومن المعروف أنها دعوة تخدم الصهيونية العالمية -تؤكد أن جمال الدين
األفغاني كان رئيسا (محفل كوكب الشرق) الماسوني ،كما تؤكد أن محمد عْبده كان
عضوا في هذا المحفل؛ إذ يقول:
"وقد ظهرت الماسونية في سورية في مظهر اإلخالص والمحْبة أثناء الحوادث العراْبية
سنة 1882فإن اإلخوان المصريين والمهاجرين الذين جاءوا سورية قاْبلهم إخوانهم
ْبالترحيب العظيم ،ودعوهم إلى محافلهم ومنازلهم .وكان األفاضل الشيخ محمد عْبده
وإْبراهيم ْبك اللقاني وحسن ْبك الشمسي وجماعة المرحوم السيد جمال الدين األفغاني
وغيرهم يحضرون معنا في محفل لْبنان ويخطْبون ،فيشنفون أسماع السوريين ْبخطْبهم
33
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
النفيسة وأحاديثهم الطلية .ونال األستاذ الشيخ محمد عْبده رتْبة الْبلح والصدف من
18
المندوب األمريكي الذي حضر إلى محفل لْبنان".
ومما يؤكد هذه النصوص ويزيد قيمتها أن الشيخ محمد رشيد رضا – وهو أكثر تالميذ
19
محمد عْبده تعصّْبا له – قد أيدها في كتاْبه (تاريخ األستاذ اإلمام)».
لئن كان منطلق الدكتور محمد محمد حسين هو الدفاع عن وطنية شوقي والذبِّ عن
عِ رع ضِ ِه ،ورأى بأنَّ مثل هذا البحث قد يصحح كثيرا من األحكام السابقة العاجلة؛ فإنَّ
الموضوع بتطوره االتساعي أضحى موضوعا آخر لم يعد شأن شوقي فيه وال شأن األدب
فيه إال بمثابة الغطاء على ما تكون القشرة من القلب والنواة المنطبقة في األقطاب األربعة
المولدة للمجال .ومنه فلم يعد األمر تصحيح األحكام السابقة العاجلة -على تعبير الدكتور
– بل أصبحنا والوضع هذا حيال عدم مالءمة منهجية من حيث التقدير في المكونات
والبنية؛ فتقرير حكم أو إسناد صفة لمكون موضوعاتي ليس أي مكون بل من هو قطب
خطير من مولدات حقيقته ومجاله؛ وال يظننَّ امرؤ أننا هنا بصدد الدفاع عن جمال الدين
األفغاني وال عن غيره؛ فإنَّ هللا تعالى هو الحق المبين ،وهللا ج َّل جالله غني عن العالمين.
وسوف يأتي يوم وما هو ببعيد{ :يوم هم بارزون' ال يخفى على هللا منهم شيء' لمن الملك
اليوم' هلل الواحد القهَّار' اليوم تجزى كل نفس بما كسبت' ال ظلم اليوم' إنَّ هللا سريع
الحساب'}(غافر .)16وجمال الدين األفغاني ليس بمعجز في األرض وال في السماء ،هو
ومن وااله ومن عاداه ،كلهم إلى ربهم يحشرون ،وعند ربهم يختصمون ،وكلهم يوفى
حسابه ،ال ظلم يومها ،وما ربك بظالم للعبيد.
هذا كالم حتى يعلم موقعنا من الموضوع؛ ثم إنَّ هذه الخالل من التحامل والتعصب
ونحوها ،هذه ال قيمة وال دخل لها في العلمية وفي ميزان الحق وهللا خبير بما يعملون:
18
فضائل الماسونية ص .119وراجع كذلك مقدمة الكتاب ،وقد أصبح ذلك ثابتا ثبوتا قطعيا من مجموعة الوثائق التي
نشرتها جامعة طهران مصورة سنة 1963تحت رقم ،841نقال عما عثر عليه من أوراق جمال الدين تحت اسم (جمال
الدين ،مشهور به أفغاني).
19
االتجاهات الوطنية في األدب المعاصر – الجزء األول -ص381-380
34
المسلمون والتاريخ
{إنَّ هللا يأمركم أن تؤدوا األمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين ال َّناس أن تحكموا بالعدل'
إنَّ هللا نع َّما يعظكم به' إنَّ هللا كان سميعا بصيرا'}(النساء)57
{يا أيها الذين آمنوا كونوا َّقوامين بالقسط شهداء هلل ولو على أنفسكم أو الوالدين أو
األقربين' إن يكن غنيا أو فقيرا فاهلل أولى بهما فال تتبعوا الهوى أن تعدلوا' وإن تلووا أو
تعرضوا فإنَّ هللا كان بما تعملون خبيرا'}(النساء)134
{يا أيها الذين آمنوا كونوا َّقوامين هلل شهداء بالقسط' وال يجرم َّنكم شنآن قوم على أال
تعدلوا' اعدلوا هو أقرب للتقوى' واتقوا هللا' إنَّ هللا خبير بما تعملون'}(المائدة)9
أقول :الحكم بهذا المرجع من القول الذي يعده أصحابه دليال أو أدلة ،هو حكم مردود
على البداهة ،لنقضه باإلبطال معنى الحكمة في العقول ،فهو ال يتوافق والقضية سواء في
القدر أو في وعاء التناول والمأخذ الذي تتناول وتؤخذ به األمور ،ال لقدر جمال الدين
األفغاني كرجل وإنسان ،ولكن للبعد الذي يتناول فيه الموضوع وتطرح عليه القضية
ويوضع عليه اإلشكال .وذلك ما يدحض ضالل المأخذ بميزان السماوات األرض كما
سوف يستبين ويتجلى؛ وهذه هي الغاية التي ننهض بها بحول هللا تعالى وقوته في هذا
الكتاب.
فإذا كان سْبيل الْبطش واإلمساك المادي ْباألشياء المجسمة الصلْبة هو اليدين ،واإلمساك
ُدركا وعددا هو العدد أو األعداد؛ فمقاْبل وجوب صناعة الوعاء الذي يحمل
ْبها ك ّما م ا
جملة ذرات التراب أو القدر من السائل كالماء حيث ليس يكفله الكفان ،كانت عْبقرية ثاْبت
ْبن قرة 20رحمه هللا في أول صناعة الوعاء العقلي الحق من ذات ُسلم األعداد وخصائصها
ليحمل ويمسك العقل ْبالمقادير غير الْبسيطة سواء على المساحة أو األحجام قْبل أن ينجلي
ويتْبلور حساب التكامل مع رياضيات منتهى الصغر.
20
ثابت بن قرة هو عنوان ودليل أن التقدم العلمي لألمم مصدرا لقوة كيانها وتمكينها إيجابا وسلبا مناطه العقل الجمعي
السياسي والفقهي المؤسساتي ،فهذا هو بعد التعليل لتقدم األمم وانحطاطها وعزها وذلها
35
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
وكذلك هنا ال يمكن أن يحمل الموضوع على اإلمكان العقلي الحق والصّحيح إال ْبنسق
وعاء متناسق وكفل للموضوع الذي لم يعد يقتصر على الوطنية في شعر شوقيْ ،بل
استحال مركْبا في ْبنيته ليس على ْبساطة الموضوع األول ،وال على ُْبعده ،إنما على متعدد
من األْبعاد .ومنه استلزم لحمله عقليا في أدنى ما يلزم تعميل وتطْبيق السلم الْبياني في
تصريف معنى الوطنية ْبحسب ال امواطن ،تعميله وتطْبيقه على األْبعاد الهامة الكافية
للموضوع ممثلة ْبالطْبع في المفاهيم والحقائق أو العناصر المحورية والموجهة لهاتيك
األْب اععاد ْبالتحديد.
نعني إذا نحن صمدنا إلى هذا المِعيار الحق ،وكان ْبذلك نهجنا في الدفاع عن شوقي
وعن وطنيته نهجا من حيث المِعيار أقو ام ،فإننا إنع لم نأخذ ْبه وْبمِعيار التناسق له مصاحْبا
منتظما ،أي ليس مقتصرا على مفهوم الوطنية ْبل على أْب اععاد الموضوع غير الْبسيطْ ،بكل
المفاهيم الموجهة األساس المضافة إليه من "الجامَة اإلسالمية" و"الجامَة المصرية"
و"القومية" و"الماسونية" ،إن لم نعمل ْبه سوف لن نكون في حكم الدفاع ْبل في وضع
الْبغي والظلم للعدل والحق وْبالطْبع للعلمية ،ليس يكون فيه جمال الدين األفغاني وال
غيره ،وسواء أكان مسلما حقا أو منافقا أو ماسونيا أو شيطانا في إهاب رجل أو غير ذلك،
ليس هو في ذلك إال مادة وموضوعا لعملية الحكم الذي هو المعني ْباالهتمام عندنا؛ وإن
اس ْبالْبرِّ او ات عن اس عو ان أ عنفُ اسك عم اوأ عن ُت عم
ُرُون الن ا
هللا عز وجل يقول على وجه العظة واإلنكار{ :أتأم ا
لون'}(الْبقرة)44
اب' أ افال اتعع ِق ا
تتلون عال ِك ات ا
ا
فإذا كان صحيحا ،وكان ْبذلك الدفاع عن شوقي ذك ّيا وقو ّيا ،كان صحيحا ْبأن الوطنية
لم تكن مستقرة في مدلولها ومعناها ،وال ثاْبتة المفهوم والمأخذ حسب المسارات أو القطع
الزمنية السياسية وفي مصر وحدها ولمُكوّ ناتها ،وأن حقيقتها في هذه القطعة ليست هي في
ما ْبعدها وال التي قْبلها ،وأنها عند هذا المُكوّ ن ليست هي في تصوّ ر المُكوّ ن أو المُكوّ نات
أليس يكونُ مُروقا عن النهج
غيرها .إذا كان هذا من النظر السديد الذكيّ والشاهد القويّ ،
ا
العلمي الكيل ْبمكيالين ،وفسوقا عن الحق ْبأن تعتْبر الموجهات التي لها نفس القيمة الْبنائية
كما هي أو هو مفهوم "الوطنية" حين كان الموضوع ْبسيطا مقترنا ومقتصرا فقط على
36
المسلمون والتاريخ
شوقي لقصد الدفاع عنه والذبّ عن عرضه ،أن تعتْبر هذه المفاهيم ويُنظر إليها في
الموضوع ال ُمتسِ ع ،سكونية ثاْبتة على قيمة واحدة وتصوّ ر ومفهوم واحد مستقرة ال تتغيّر.
وْبمعنى آخر قريب :هل كان لعناصر "الجامَة اإلسالمية" و"الجامَة المصرية"
و"القومية" و"الماسونية" نفس القيمة ونفس العملة أو اآللية السياسية عند جميع
األطراف ،هي نفسها في االعتْبار والتوظيف؟؟! هل ل"القومية" في سوريا نفسه المعنى
والمأخذ الغائي الوظيفي والمقصود الذي كان في الحجاز؟ ونفس األمر ْبالنسْبة ل"الجامَة
المصرية" لدى شركاء الوطن والوطنية في مصر؟ وهل كانت عالقة "الماسونية"
هو عند فرنسا وعند اإلنجليز وعند ولي عهد القصر وعند األفغاني
ومأخذها وتوظيفها هو ا
هي نفسها واحدة في حقيقتها وواحدة في الغاية منها؟؟؟
وهنا أسوق تذكيرا ومدارسة ،فإن آفة العلم النسيان وال يزال العلم ينفع صاحْبه ما دام
يعمل ْبه ،نسوق ما يروى من قصة قضاء شريح الكندي رحمه هللا في قضية الدرع ْبين
اإلمام علي رضي هللا عنه واليهودي أو النصراني ،على ما هي عليه من الضعف من
جهة الصحة في ذاتها على ميزان أهل التحقيق ومعايير الرواية وعلم الحديث ،ولكن
نسوقها من حيث هي في مضمونها وأثرها وداللتها ،التي ليست إال داللة تعلق اإلنسان،
ْبله اإلنسان المؤمن الذي يخاف رْبهْ ،بله اإلنسان الذي يلْبس لْباس العلمية -والعلم ال يقوم
اس أنع اتحع ك ُموا ع
ْبال اع عد ِل'}(النساء)57؛
إال على الميزان -تعلقه ْبالعدل :ا
{وإذا احكمع ت عم اْب عي ان الن ِ
«روى الْبهيقي رحمه هللا في "السنن الكْبرى" في ْباب إنصاف الخصمين في المدخل
عليه واالستماع منهما واإلنصات لكل واحد منهما حتى تنفد حجته ،وحسن اإلقْبال
عليهما" ورواية القصة عن اإلمام الشعْبي حيث يقول:
خرج علي ْبن أْبي طالب إلى السوق ،فإذا هو ْبنصراني يْبيع درعا ،قال :فعرف علي
الدرع فقال :هذه درعيْ ،بيني وْبينك قاضي المسلمين .قال :وكان قاضي المسلمين شريح،
كان علي استقضاه .قال :فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء ،وأجلس
عليا في مجلسه ،وجلس شريح قدامه إلى جانب النصراني ،فقال علي :أما يا شريح لو
كان خصمي مسلما لقعدت معه مجلس الخصم ،ولكني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه
37
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
وسلم يقول( :ال تصافحوهم ،وال تْبدءوهم ْبالسالم ،وال تعودوا مرضاهم ،وال تصلوا
عليهم ،وألجئوهم إلى مضايق الطرق ،وصغروهم كما صغرهم هللا اقض ْبيني وْبينه يا
شريح .فقال شريح :ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال علي :هذه درعي ذهْبت مني منذ
زمان .قال فقال شريح :ما تقول يا نصراني؟ قال :فقال النصراني :ما أكذب أمير
المؤمنين ،الدرع هي درعي .قال فقال شريح :ما أرى أن تخرج من يده .فهل من ْبينة؟
فقال علي رضي هللا عنه :صدق شريح .قال فقال النصراني :أما أنا فأشهد أن هذه أحكام
األنْبياء ،أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه ،هي وهللا يا أمير المؤمنين
درعك ،اتْبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك األورق ،فأخذتها ،فإني أشهد أن ال إله إال
هللا ،وأن محمدا رسول هللا .قال :فقال علي رضي هللا عنه :أما إذا أسلمت فهي لك وحمله
على فرس عتيق ،قال فقال الشعْبي :لقد رأيته يقاتل المشركين.
(وفي الحلية ألْبي نعيم (:)4/139
«فقال شريح :صدقت وهللا يا أمير المؤمنين .إنها لدرعك ولكن ال ْبد من شاهدين،
فدعى قنْبرا مواله والحسن ْبن علي وشهدا إنها لدرعه .فقال شريح :أما شهادة موالك فقد
أجزناها ،وأما شهادة اْبنك لك فال نجيزها .فقال علي :ثكلتك أمك ،أما سمعت عمر ْبن
الخطاب يقول :قال رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم :-الحسن والحسين سيدا شْباب أهل
الجنة .قال اللهم نعم .قال :أفال تجيز شهادة سيد شْباب أهل الجنة؟ وهللا ألوجهنك إلى
22
(ْبانقيا) 21تقضي ْبين أهلها أرْبعين يوما ثم قال لليهودي :خذ درعك)».
قال (لجنة اإلفتاء من دار اإلفتاء) :وقد ْبحثنا في هذه القصة فتْبين أنها تشتمل على ما
يضعف الثقة ْبتفاصيلها:
أما من حيث اإلسناد ،فقد قال اْبن الملقن رحمه هللا" :في إسناد هذا الحديث ضعفاء،
أولهم أسيد ْبن زيد الجمال .قال يحيى :هو كذاب .الثاني عمرو ْبن شمر الجعفي وهو
21
اسم بلدة في العراق (النص)
22
األلوكة -المجلس العلمي ،الموضوع :قصة شريح القاضي مع سيدنا علي رضي هللا عنه ...ما مدى صحة الرواية؟؟؟؟
38
المسلمون والتاريخ
ضعيف جدا .وقال الشيخ تقي الدين ْبن الصالح :هذا الحديث لم أجد له إسنادا يثْبت" انتهى
من "الْبدر المنير (.)599/9
وأما من حيث المتن ،فال يستغرب هذا العدل واإلنصاف الذي عاشته الرعية في زمان
الخلفاء الراشدين والسيرة مليئة ْبمثل هذه النماذج السامية من صور تحقيق العدل
واستقالل القضاء الشرعي .وال نستْبعد أن يكون للقصة أصل قائم .غير أن المتن في
رواية الْبيهقي يشتمل على حديث مرفوع إلى النْبي صلى هللا عليه وسلم يخالف األحاديث
الصّحيحة .فقوله في الحديث( :وال تصافحوهم( لم يثْبت في السنة النْبوية .وقوله( :وال
تعودوا مرضاهم) يخالف هدي النْبي صلى هللا عليه وسلم الذي كان يعود أهل الكتاب»...
ْبالنسْبة للقضية التي نحن ْبصددها ،وإن لم تشخص ْبع ُد في كليتها توافقا امنهج ّيا مع ما
الحد األقصى والمنتهى فكرا وعمال ْبخصوصها ،هو ْبالتحديد
ُيرى
األنسب لطْبيعتها ،فإن ا
ا
والتعيين وكامل التمثيل عرض الدكتور محمد محمد حسين في كتاْبه "اإلسالم والحضارة
الغربية" ،ونحن على وفاق تام مع تنويهه:
«وقْبل أن أْبدأ الحديث عنها أحب أن ألفت النظر إلى أمرين يجب أن يضعهما الْباحث
في هذا الموضوع نصب عينيه ،لكي يأمن الزلل ،ولكي ال يضل الطريق ،ولكي ال يُخدع
عن حقائق األمور.
أحد هذين األمرين هو حاجتنا الشديدة إلى إعادة النظر في تقويم الرجال ،ألن كثيرا
ممن نعتْبرهم دعائم النهضة الحديثة لم يُصْبحوا كذلك في أوهام الناس إال ْبسْبب الدعايات
المغرضة ،التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة ،لتحقق ْبذلك أغراضها في نشر
مذاهْبهم والتمكين آلرائهم ،وألن كثيرا من اآلراء المنحرفة التي لم تكن تستطيع أن تجد
طريقها إلى الفكر اإلسالمي وإلى مجتمعاته ،قد أصْبح قْبولها ممكناْ ،بنسْبتها إلى هذه
الزعامات وإلى هؤالء األئمة ،الذين ال يتطرق إلى الناس شك في إخالصهم وعلمهم.
والواقع أن كثيرا من هؤالء الرجال قد أحيطوا ْباألسْباب التي تْبني لهم مجدا وذكرا ْبين
الناس ،ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم ،ولكن الغرض منه كان وال يزال هو خدمة
39
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
المذاهب واآلراء التي نادوا ْبها والتي وافقت أهداف االستعمار ومصالحه .فقد أصْبح
يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل اإلسالم -كما الحظ جب في كتاْبه 23أن يقال:
إنه يوافق رأي فالن أو فالن من هؤالء األعالم .ويكفي في التشهير ْبأي رأي سليم أن
يُنسب إلى ضيق األفق ،الذي ال يالئم ما اتصف ْبه هذا أو ذاك من سعة األفق والسماحة
وصحة الفهم لروح اإلسالم ،على ما تزعمه الدعايات .وليس مهما أن يكون ذلك عن
حسن قصد منهم أو عن سوء قصد ،وليس مهمّا أن يكون االستعمار هو الذي استخدمهم
المذاهب واآلراء ،أو أن تكون هذه اآلراء قد
لذلك ،ووضع على ألسنتهم وأقالمهم هذه
ا
نشأت ْبعيدا عن حضانته ورعايته ،ثم رآها نافعة له ،فاستغلها وعمل على ترويجها .المهم
في األمر هو أن هذا المجد الذي يُنسب لهؤالء األفراد ليس من صنعهم وال هو من
الشعوب التي عاشوا فيها ،ولكنه من صنع القُوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن
تستغلهم ،سواء كانت هذه القوى هي االستعمار أو هي الصهيونية العالمية ْبمختلف
وسائلها وأجهزتها.
...
ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال ،ال نريد أن ننقص من قدر أحد،
ولكننا ال نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنا ٌم جديدة معْبودة ألناس يزع ُم الزاعمون أنهم
معصومون من كل خطأ ،وأن أعمالهم كلها حسنات ال تقْبل القدح والنقد ،حتى أن
المخدوع ْبهم والمتعصّب لهم والمُروِّ ج آلرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماما
من أئمتهم ْبالخطأ في رأي من آرائه ،في الوقت الذي ال يهيجون فيه وال يموجون حين
يوصف أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ْبما ال يقْبلون أن يوصف ْبه زعماؤهم
24
المعصومون»
نحن إذا متفقون تمام االتفاق على هذا المِعيار القيمي والتقويمي المتن ّْبه والنْبيه .أوال
لوجود مثل هذه الطريقة لدى محرفي الحقائق ممن يلْبسون الحق ْبالْبااطِ ل من شياطين
24
Modern Trends in Islam
اإلسالم والحضارة الغربية – ص49..47
40
23
المسلمون والتاريخ
الجن واإلنس .والعنصر الثاني الذي يدل ويؤكد على هذا الن اْباهة والقيمة المِعيارية العلمية،
هو أخذه مْبدأ أنع ال عصمة على اإلطالق إال للوحي الكريم .والعلم الحقيق ْبهذه الصّفة،
وكذلك أهله ،ال يهتمون ْبهذا الصنف من الناس الذين ذكرهم الدكتور الكريم في الشطر
األخير من كالمه ،ممن يتعصّْبون لألشخاص .ومن ال يحفظ مقام رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ومقام صحْبه رضي هللا عنهمْ ،بما يحق من التوقير واإلجالل وما ينْبغي لهم
من المنزلة في الحق ،ومن يضعهم موضع غيرهم من الخلق – وهم المصطفون من رْبهم
الخالق العليم لصحْبة نْب ّيه األمين صلى هللا عليه وسلم -من ُيساويهم و ُيقحمهم في إشكاالت
وكالم على سْبيل الدعامات في الخطاب الشعري أو الجدلي فهذا على أدنى التقييم إما
سفيه أو رجل ال خالق له .فال تعصّب في العلم ولكن سلوك الحق والقول ْبه ولو على
نفسك واألقرْبين .الحق يكون ليس للشخص ْبذاته ولكن للقول الذي يقول ْبه وللحكم الذي
يقضي ويحكم ْبه؛ فأ عقْبحع ْبالتعصب هذا خلة و اشقحا له ولقحا!
ذلكم هو نهجنا في هذا الجهد ،الذي نرجو فيه من هللا ولي التوفيق الحسن والتسديد .وال
ْبد من التذكير والتسطير ْبقوّ ة على أننا أو األكثرين منا ُيفرق ْبين القول والعمل أو ْبين
القول والتصديق؛ فنحن دأْبنا على الْبدء واإلعالم ْبهذا المِعيار أو ذاك من المعايير ْبل
الكثير واألعظم منها ،من قول الحق ليس إال الحق وتحريه والحكم ْبه والنزول على حكمه
ومقتضاه ،ولرْبما ْبالحلف واليمين ،ولكن ما ُيعتم حتى ُيكذب حالنا دعوانا ،كأننا لسنا
الرجل الذي تكلم آنفا وحرص على أن ُيصدر كالمه وكتاْبه ْبذكر هذه المعايير ،وْبأن في
خالفها ومخالفتها الزلل والضّالل؛ وما أضرّ على العْباد من الزلل في ما يخص حقيقة أو
أقْبح من الضّالل حين يكون هذا الضّالل في األخطر من
حقائق تهم أمة ْبأكملها ،وما ا
المقامات ومعاليها!
41
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الفصل الثالث
عضل في المنظار :الواقع ْبين المضمون والقراءة
وثوق العدالة ال يوجب صحّ ة األحكام
اْبن القيم
اْبن تيمية و ا
وعالِ ٌم اعلا ٌم من األعالم ،وإن ا
إن أْبا حامد الغزالي إما ٌم من األئمة ا
وغيرهم ممن ْبلغ درجتهم هم كذلك من أئمة هذه األمة وعلمائها وأعالمها رحمهم هللا
ص ّديقين والشهداء والصّالحين! وحسْبهم أن هللاا تعالى
جميعا وجزاهم عن أمتهم جزاء ال ِّ
نو اه ْبأولي العلم ْبأكثر ما نوه وفضل ْب ِه خلقا من عْباده على ْبعض؛ ونزل في ذلك كثير من
اآليات وأيضا في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؛ وذلك فضل هللا تعالى يؤتيه من
يشاء .لكن عندما يجنح الكثيرون ممن ألمحنا إليهم إلى عدم قْبول الخطإ فيهم وال
يتصوّ رونه قط ساريا عليهم ،فقد أمسوا يتصوّ رونهم على غير صفة الْبشر ،أحالوهم
معصومين ال يخطئون؛ والنْبي صلى هللا عليه وآله وسلم هو آخر النْبيئين ،فال نْبي ْبعده
وال معصوم ْبعده عليه الصالة والسالم! فهذه الحقيقة هي التي ينْبغي أن تستقر في خلد
األكثرين ممن ال يفوتهم أن يصدروا ْبها خطْبهم وكتْبهم ،ثم ال يعتم أن يكذب حالهم
دعواهم .واألنكى من ذلك وهذا من طريف العجائب وعجيب الطريف ،أنهم يرمون
غيرهم ْبالتعصب لألشخاص وهم في عماية عن حالهم ،والحمد هلل تعالى ،له الحكم يوم
الدين ال يشرك في حكمه أحدا .والتْبعة الخطيرة لهذه النحلة في المعرفة والمذهب في
ال امنهج ،المكوث على أحكام خاطئة قاصرة ال يْبغون عنها حوال ،ألنها صدرت عن هذا
العالم ،وهو في ذلك ال يخرج عن كونه رجال من الناس يصيب حينا ويخطئ فيجانب
الصواب حينا آخر وأحيانا أخرى؛ وقد جاء في العلم الحق والخْبر اليقين من غير تحامل
التحذير من زلة العالم .والمثال العظيم في هذا الضّالل شاخصا لمن حد ْبصره وهو شهيد
فينظر فيكون من المستْبصرين ،وكذا في جرمه الذي وجد فيه المستشرقون والصّليْبيون
غرضهم في ضرب الجناح القوي للمسلمين وأمتهم ،أمة الشهود ،وضرب رسالة اإلسالم
42
المسلمون والتاريخ
التي قرن سْبحانه وتعالى القوي العزيز إنزالها ْبإنزال الحديد والْبأس الشديد ،المثال في
ذلك هو الحكم القاصر الخاطئ للغزالي واْبن تيمية وما ْبينهما وما ْبعدهما ،ممن يعتْبرون
هم العلماء المصادرين تمثيل منْبر وعقل المسلمين واألمة ،حكمهم ودعواهم ْبأن اْبن سينا
كان يقول ْبأن هللا -سْبحانه عما يصفون! -ال يعلم الجزئيات ،وإن هم في ذلك إن هم إال
متقولون وإن هم إال مفترون ،ويلقون السمع لشراحهم من الصّليْبيين وأذناْبهم
ومسترضعيهم أو من قصور عقولهم الذي دل عليه مآلهمْ ،بأن الفاراْبي رحمه هللا يْبوِّ ئ
الفيلسوف منزلة أعلى من النْبي -كذْبا وجهال ماحقا ْبأنفسهم -مما سوف نعود إليه الحقا
ضرورة امنهجيّة واستداللية ولو ْباقتضاب.
وكذلك هنا فرق ْبين اإلخْبار والتقييم عن الثقة العدلْ ،بل وْبين اإلخْبار ومطلق القول؛
فال يجب الخلط الْبتة ْبين هذه الدرجات واألصناف .وفي كل ال قيمة وال مصداقية لمطلق
الدعوى قوال أو حكما عند هللا تعالى والراسخين في العلم إال ْبسلطان ،والسلطان هو الدليل
والْبرهان؛ يقول هللا تعالى في محكم التنزيل ْبلسان عرْبي مْبين{ :ق عل اهاتوا ُْبرع اها انك عم إنع
ين'}(الْبقرة )110ويقول عز من قائل{ :يا أيها الذين آمنوا كونوا َّقوامين بالقسط
صا ِد ِق ا
ك عنت عم ا
شهداء هلل ولو على أنفسكم أو الوالدين أو األقربين' إن يكن غنيا أو فقيرا فاهلل أولى بهما
فال تتبعوا الهوى أن تعدلوا' وإن تلووا أو تعرضوا فإنَّ هللا كان بما تعملون
خبيرا'}(النساء)134
فهذه آيات هللا تعالى أنزلها علينا ربنا بالحق ،ليس الغاية منها علمها أماني ،وما كان
نصح كتاب ربنا أن يتخذ ترانيم ،إنما تالوته بمعنى اتباعه والعمل به حق العمل فذلك
حقيق اإليمان ،والصحابة والسلف الصالح رضي هللا عنهم كانوا ال يتجاوزون اآلية حتى
يفقهوها حق الفقه ويعملوا بها.
يكاد اإلشكال ْبخصوص الموضوع الكْبير الذي عرض له الدكتور محمد محمد حسين
في مؤلفه "اإلسالم والحضارة الغربية" ْبل كنه هذه القضية الشاغلة الشائكة حقا ،يكاد
يكون مستقرا متواجدا في نفس عنوان الكتاب ،ألننا لو أنعمنا النظر ْبالخروج عن الذات
المكلومة والمأزومة التي ال ترضى ْبالسفلية والدونية ألمتها ،وهذه هي النفس الحية
43
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
والتاريخية التي تأْبى الهزيمة ،وتصرّ على هذا اإلْباء وال تني فيه ن افسا من أنفاس
وجودها ،وهذا المؤلف في نقده التكويني وأصله كما ذكر في مقدمته مثل جليّ وواضح
لها؛ لو أنعمنا النظر وقرّ رنا ْبما يقتضيه شرط الموضوعية العلمية وجاوزنا هذا العائق
النفساني ،لرأينا أن الصّواب في العنوان ليس "اإلسالم والحضارة الغربية" ولكن
"ال ُمسلمون والتاريخ"؛ فلئن كان المضمون من جهة اإلخْبار هو صحيح ْبال شك ،هذا
المضمون الذي عرضه الدكتور إجماال في مقدمته:
«وموضوع هذا الكتاب هو هذه الحلقة األخيرة من صالت الشرق والغرب ،التي جرت
أحداثها خالل القرنين األخيرين ،في جانْبها الثقافي ،وفي أثرها في اإلسالم ْبصفة خاصة.
وهي صالت تميزت عن الصالت األخرى التي ت ّمت من قْبل ْبطاْبع معيّن ،يرجع إلى
ظروف هذا االتصال التي تغاير كل ما سْبقها من ظروف ومالْبسات ،فقد كان اتصال
اإلسالم ْبغيره من الحضارات والثقافات دائما اتصال الغالب ْبالمغلوب ،أو اتصال الن ِّد
ْبالن ِّد .أما اتصاله ْبالغرب في هذه الفترة األخيرة ،فقد كان اتصا ال المغلوب ْبالغالب.
ب في شعاره وزيِّه ُ
وْبخلقه وسائر أحواله وعوائده)
والمغلوب (مُول ٌع أْبدا ْباالقتداء ْبالغالِ ِ
كما يقول اْبن خلدون.
والموضوع طويل متع ّدد الجوانب ظهرت فيه عشرات الكتب التي كتْبها المستشرقون
في تطوّ ر الفكر اإلسالمي الحديث ،وفي تتْبع أثر التغريب ،أو ما يسمونه 25في مختلف
ْبالد المسلمين ،يعينون ْبذلك المخططين من رجال االستعمار على التقدير الصّحيح ،وعلى
مراجعة ما كان ،ورصد ما سيكون ،من مخططاتهم .ولم يكن قصدي في هذه الفصول إلى
قص عد ُ
ت
أن أستقصي ذلك الموضوع المتشعب ،وال أن أحصي مراحله ومجاالته ،ولكن ا
الع اربُ والمُسلمون ،ول عم يتنْبهُوا إلى أهمّيته ا
طرهِ ،على
إلى فتح هذا الْباب الذي ل عم ايلِجع ُه ا
وخ ِ
كثرة ما شغل الغرب وْباحثيه في نصف القرن األخير على الخصوص ،وفيما تال الحرب
العالمية على األخص .وقد تتْبعت في هذه الفصول ما طرأ على الفكر اإلسالمي الحديث
من تطوّ ر نتيجة اختالطه ْبالفكر الغرْبي ،وْبالحضارة الغرْبية منذ ْبدء المرحلة األولى
Westernization
44
25
المسلمون والتاريخ
على يد رفاعة طهطاوي ،وخير الدين التونسي وجمال الدين األسد ْبادي المشهور
ْباألفغاني وتلميذه محمد عْبده ،إلى ما تال ذلك من مراحل وتطوّ رات ْبعد الحرب العالمية
صورع ُ
ت هذا التطوّ ر من جانْبيه :من جانْبه اإلسالمي :الذي سعى إلى اقتْباس
الثانية .وقد ا
صالح من الفكر الغرْبي المعاصر ليستعين ْبه في نهضته التي يحاول فيها أن يلحق
ال ّ
ْبركب الحضارة ،ومن جانْبه الغرْبي :الذي يحاول أن يطْبع العالم اإلسالمي ْبطاْبعه
الحضاري ،وأن يُشجع على إيجاد فكر إسالمي متطوّ ر ُي اْبرِّ ر األنماط الغرْبية ،التماسا
لمحو الطاْبع المميّز للشخصية اإلسالمية ،ليستعين ْبذلك على إيجاد عالئق مستقرة ْبينه
26
وْبين الْبالد اإلسالمية تخدم مصالحه».
هذا المضمون من جهة اإلخْبار هو صحيح ْبإطاره ال ُعدولي الموثوق ،فنحن نتخاطب
في إطار إيماني ،والمؤمن كما جاء في الخْبر الشريف المؤمن ال يكذب؛ ْبل ُنجل من أ ّمتنا
من اهتم وهمه حالها وأمرُ ها .وإن قيمة هذا الرجل الدكتور محمد محمد حسين هي ْبالذات
ُصدقا فيه:
هي ما عْبر أو ْباألصح ما قاله م ا
قص عد ُ
الع اربُ والمُسلمون ،ول عم يتنْبهُوا إلى
ت إلى فتح هذا الْباب الذي ل عم ايلِجع ُه ا
«ولكن ا
أهمّيته ا
طر ِه»
وخ ِ
وأ ّما الصّفة اإلخْبارية لهذا المضمون فهي التي دل عليها قوله:
صورع ُ
ت هذا التطوّ ر من جانْبيه»
«وقد ا
فالْبيان تصويري = إخْباري وهذا هي العالقة الحقة والصّحيحة لهذا المضمون وْبهذا
الْبيان ْبالواقع والفعل التاريخي.
نصرنا أخانا ظالما أو مظلوما،
ومن أجله وْبناء عليه ،فكما أن من واجب نصيحة الدين
ا
كان واجْبا علينا نصرُ ه مُخطئا أو مصيْبا؛ فتصديقنا ليس يمتد وال ينسحب على ما يتجاوز
ا
26
اإلسالم والحضارة الغربية – ص8-7
45
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
المؤمن
المضمون كإخْبار ،فإنا نرى شيئا ْبخصوص قراءة هذا المضمون وتفسيره .وإن
ا
صد ٌق في شهادته ولكن في تعليله وتفسيره متحتم عليه اإلدالء ْبحقيقة ذلك.
العد ال ُم ا
فلئن كان قول محمد حسين:
«من جانْبه اإلسالمي :الذي سعى إلى اقتْباس الصّالح من الفكر الغرْبي المعاصر
ليستعين ْبه في نهضته التي يحاول فيها أن يلحق ْبركب الحضارة»
إن كان له قيمة استداللية ارتكازية عندنا كما سوف يتضح ،فإن قوله:
«ومن جانْبه الغرْبي :الذي يحاول أن يطْبع العالم اإلسالمي ْبطاْبعه الحضاري ،وأن
يُشجع على إيجاد فكر إسالمي متطوّ ر ُي اْبرِّ ر األنماط الغرْبية ،التماسا لمحو الطاْبع المميّز
للشخصية اإلسالمية ،ليستعين ْبذلك على إيجاد عالئق مستقرة ْبينه وْبين الْبالد اإلسالمية
تخدم مصالحه»
إن فيه ل عينا من الكالم ومن جهة الْبيان اختالال.
أما األول فالكالم واللفظ المطاْبق المْبين هو أنه من الجانب الغرْبي امتدا ٌد للحرب
الصّليْبية في أعتى صورها وشرِّ ما يكون من مرسوم أهدافها؛ فهي تْبغي إلى شيء واحد
ص ّممت عليه وأقسمت أن ال تحيد عنه ،هو تمزيق األمة اإلسالمية كل ممزق ،كما هو
التعْبير أو ما عْبر عنه محمود شاكر رحمه هللا .ولو عاش محمد حسين إلى اليوم لوقف
على هذه الحقيقة ْبأم عينيه ،هو الواقع اليوم في تطْبيق جار على قدم وساق لمخطط ْبرنار
لويس ْبالشاهد والمشهودُ ،م ِح اي شط ُر الدول العرْبية على مرأى العالمين ْبعد أن تحكمت
الصّليْبية ْبمكرها وسْبقها في العدة والْبأس الشديد في كل المرافق والمؤسسات المسيرة
لشريعة الغاب العالمية ،فنشْبت مخالْبها في الجسم العرْبي تفتك ْبه فتكا ،وتقطعه إرْبا إرْبا،
وتمزقه وتحيله مسخا .ومنه فال مضارعة وال تزامن الوجودينْ ،بين حدث التمزيق وكيان
الدول اإلسالمية؛ وهذا ْبالطْبع هو االختالل الثاني الذي سطرنا عليه.
46
المسلمون والتاريخ
ودائما ْبخصوص هذا المفهوم للمضمون الذي هو ْبحق مفهوم محوري هنا امنهج ّيا ،فال
شك أن القارئ أو القارئة المتْبع لْبناء هذا الحديث ْبعقل واع ملقيا السمع وهو شهيد ،لن
يحجب عنه أن هناك عالوة على ما تم ّي از من صنفي المضمون ،اإلخْباري والقراءاتي أو
التفسيري ،أن هناك صنفا ثالثا مما هو في تقاطعهما وتداخلهما؛ وذلك مع االعتْبار لمْبدأ
التسديد والتقريب؛ فالتغليب واإلهمال والترجيح كل ذلك من المِعيار األساس فيما هو من
قياس وأحكام تخصّ مجا ال أْب اععاد العمل الْبشريّ الطْبيعية.
وكذلك مما ال ينْبغي إغفاله ،وهو يدخل في إحقاق الحق ،أن كون تميز الدكتور محمد
محمد حسين ْبأوّ ل من يلج هذا الحقل إنما هو ْبحسب الواقع على التقريب األوحد في وقته
أو من ضمن القلة التي حققت وتميزت ْبتحقيق شرط هذا االقتحام والولوج؛ وذلك ليس
يحصل إال ْبشأو من العلم ْبعيد ،من حيث أسسه ومناهجه ودروْبه ،وعلى درجة من سعة
االضطالع والخْبرة ْباآلخر اهتماما ْبشأن األمة وتأكيدا ْبجهد مجاهد ،جعله في الواقع
أميرا لسرية من جند األمة على آخر وأخطر الجْبهات.
47
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
الفصل الراْبع
العامل النفسي ْبين اإلخْبار والقراءة
اإلشكال المفاهيمي عند محمد حسين
سنْبدأ ْبحول هللا تعالى ْبذكر ما يمثل المضمون الذي لسنا نقف فيه احد التصع ديق ْبالنسْبة
لصنفه األول ،فحسبْ ،بل ينْبغي التنويه ْبهذا الجهد الجليل الجهيد الذي أنفقه الكاتب ْبغاية
الوقوف عليه ،سواء على المستوى المادي العملي أو من الناحية الفكرية ،التي يتطلب فيها
هذا العمل في خطره وحجمه استغراقا فكريا ووجوديا ،يضحي من أجله المرأ ْبأغلى ما
يهم ويهتم ْبه عموم الناس ويجعلونه الرفاه والحظ الذي ال ينْبغي فواته من هذه الحياة .ثم
سنعرض منه للصنف الثاني الذي ينطْبق ْبه مركز ثقل الموضوع؛ كما أن ثمة مُكوّ نا ْبيانيا
سوف يشاطرني القارئ أن ال سْبيل للتغاضي عنه وعن التفاوت الْبنيوي الناتج عنهْ .بل
سيكون من حيث ما تمثله النظماتية من المصداقية والنجاعة العلميتين امنهجا ونسقا،
سيكون ْبذلك هو الوليجة قريْبة الشقة والطريق األقرب ،للدخول إلى الموضوع من كل
أْبواْبه ونواحيه ،حيث يهم مناطات ومرتكزات ْبيانية ونقطا ْبؤرية للموضوع متصوّ را
مقارب.
كمضمون عند الكاتب ْبنحو محدد ،وعند من هو أو من هم في تصوّ ره على نحو ِ
وْبالطْبع ال عالقة لهذا ْبالفن األدْبي وال الْبالغي منه في جانْبه وتجليه األسلوْبي .وإن يكن
منها شيء فهو وظيفة اللغة التعْبيرية كإعراب عما ي ُِريد المتكلم شفها أو كتاْبة اإلفصاح
واإلْبانة عنه .لكنه مرتْبط ارتْباطا متماسكا ْبالموضوع كواقع وكحقيقة وكجوهر .ومن ثم
فهذه النقاط الْبؤرية والمرتكزات اللغوية ،لها كامل الصّفة التمثيلية والتعيينية لتصوّ ر
الواقع؛ فهي ْبالتالي تنحو ْبنا منحى يمكن من خالله اْبتداء الحكم على مدى متانة ورصانة
هذا الْبناء والتصوّ ر إن نحن عرضناه على مِعيار التناسق واالنتظام.
أثاره والحظ في مؤلف
القارئ
لعل
المستْبصر الذي يقرأ لِيفه ام ،يقرأ ْبتْبصر ،ال شك قد ا
ا
ا
"اإلسالم والحضارة الغربية" من االختالالت المتكرّ رة في لفظة "اإلصالح" ،االختالالت
48
المسلمون والتاريخ
التي ال تستقيم ال على الْبعد المعجمي أو الْبعد الْبالغي على الس اواء .لكن األسوء في
التصريف وكان فيه من التفاوُ ت وفساد الْبيان المهيكل للتصوّ ر ما هو جلي ومْبينٌ ،والذي
ال ينْبغى أن نغضى أو نغض الطرف عنه ،هو العنصر الْبياني العظيم الخطر والشأن
"اإلسالم" .ومعه استتْباعا شْبه المفهوم الملتْبس ج ّدا "تطوير اإلسالم" ،كما هو األمر
واضحا كذلك ْبالنسْبة ل"الحضارة الغربية" و"التغريب" و"االستَمار".
أيضا ،وفي نفس المُكوّ ن الْبياني الهيكلي ،هناك تعاْبير ْبعيدة عن السداد وغير سليمة
قطعا ،قد يجوز مع ذلك التساهل فيها وإهمالها إن هي لم تمس الْبناء الجوهري للقضية،
لكن في عكس ذلك كما هو الحال هذه ،في وضع الكاتب إطار الموضوع في النسق:
«كل ذلك يْبين ْبوضوح قوّ ة سلطان العادات والتقاليد على الناس ،وأن النفس إذا ألفت
27
شيئا لم تكد تتحول عنه إال ْبصعوْبة ْبالغة ،وْبْبطء شديد».
العالقة التمثيلية التي ساقها الدكتور هي ْبكامل الوضوح ليست على منحى استنْباطي
ْبقانون األحرى أو التضمن ،وإنما هي على التطاْبقْ .بيد أن أمر الدين وحقيقته ،ليس ذلك
من العادات وال التقاليد ،فال االستنْباطي يجوز والتطاْبقي أشد عسفا .والذي يزيد المثل
سوءا هو أن التحول –انظر قوله! -وإن طال أمد عالجه ولو اشتدت صعوْبته ،فإنه
حاصل ال محالة؛ وهذه هي الطامة الكْبرى في فكر عْبد الرحمان ْبن خلدون ال ُم ارو ِج له،
والذي لألسف نجد الكاتب يجعله مرجعا في قوانينه إلى ح ّد التفاقم والتناقض في ْبعضه.
فالدين هو من الحق العلي الحكيم ،أما التقاليد والعادات ف ِمما تذ ُروه الرياح مع هشيم
التاريخ!
فمن المضمون الخْبري الجليّ :
«في مختتم القرن الثامن عشر ومع مطلع القرن التاسع عشر الميالدي كان عصر
النهضة في أورْبا قد آتى ثماره في كل قطاعات الحياة العلمية والتطْبيقية واالقتصادية،
27
ن م – ص12
49
جمال الدين األفغاني والتحليل التاريخي
وكان من آثار ذلك تعاظم نفوذ كثير من الدول الغرْبية وانتشارها في اآلفاق ،وتطلعها إلى
ْبسط نفوذها عن طرق الغزو الحرْبي والتوسع االستعماري .وْبمقدار ما كانت الدول
الغرْبية آخذة في التقدم والصعود ،كانت الدول اإلسالمية وفي مقدمتها الدولة العثمانية
آخذة في التدهور واالنحالل ،وكان اكتشاف قوى الْبخار والكهرْباء والْبترول والالسلكي
في القرن 19ذا أثر في توسيع المسافة ْبين قوّ ة الغرب وضعف الْبالد اإلسالمية... .
وكانت الْبالد العرْبية موضع طمع االستعمار اإلنجليزي واالستعمار الفرنسي اللذين
ينتظران انحالل الدولة العثمانية وسقوطها لينقضا عليها ويقتسماها ْبينهما.
...
وأمام هذا الشعور ْبالخطر ْبدأ اإلحساس ْبضرورة تعزيز الجيوش في الْبالد اإلسالمية،
وتطلع المُسلمون إلى األخذ ْبأساليب الْبالد الغرْبية في تنظيم جيوشها وتسليحها ،ولكنهم
حين تطلعوا إلى ذلك ،وجدوا أن هذا الهدف الحرْبي ال ْبد أن تصاحْبه نهضة علمية.
أدركوا أن الغرب قد سْبقهم ْبآماد ْبعيدة ،وأن األمر ليس ْبالسهولة التي يتصوّ رونها ،فقد
كانت الجيوش الحديثة تعتمد على خْبرات علمية في الهندسة ،وفي العلوم الطْبيعية
والكيميائية ،وكانت ترعاها خْبرات طْبية وْبيطرية ،وكانت هذه الخْبرات جميعا تحتاج إلى
إعداد طويل في نماذج من المدارس تختلف عن النماذج التي انتهى إليها التعليم في الْبالد
اإلسالمية ،حين أصْبح مقصورا على العلوم الشرعية وما تحتاج إليه مما كان معروفا
ْبعلوم الوسائل ،أي أن العلوم األخرى لم تكن تدرس إال لكي تكون وسيلة لفهم العلوم
28
الشرعية وتطْبيقها».
ومما هو متقاطع فيه الصنفان الخْبري والقراءاتي .إن ههنا كما هو في غالب وج ّل
الفصل األول من المؤلفْ ،باعتْبار أن الخْبري فيه هو من المجمع عليه من األخْبار
واألحوال والوقائع ،من غلب المسلمين وتخلفهم ،وغلْبة الصّليْبيين ْبل وكل أمم األرض
وسيرهم قدما في التاريخ واألرض المسخرة للعْباد ْبناموس الخلق والعلم ،والترْبص
28
ن م – ص15-14
50
Télécharger le fichier (PDF)
جمال الدين الأفغاني والتحليل التاريخي.pdf (PDF, 23.6 Mo)