منارات اكتوبر .pdf
Nom original: منارات اكتوبر.pdf
Ce document au format PDF 1.7 a été généré par Adobe InDesign CC 2015 (Macintosh) / Adobe PDF Library 15.0, et a été envoyé sur fichier-pdf.fr le 10/10/2020 à 10:26, depuis l'adresse IP 196.224.x.x.
La présente page de téléchargement du fichier a été vue 426 fois.
Taille du document: 846 Ko (9 pages).
Confidentialité: fichier public
Aperçu du document
في انتظار الحياة لكمال الزغباني
متعة الفن وحرقة األسئلة
محمد ّ
الجابل
كمال الزغباني :
الملحق الثقافي لجريدة الشعب
املثقف املُشتبك واملولع
بالتأسيس واملبادرات
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 85
كمال الزغباني
أحمد بن صالح
فقيدا السياسة واألدب
جلّول ع ّزونة
حوار يف العمق حول ال ّثقافة
الزغباين
واإلرهاب مع كامل ّ
2
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
كلمة العدد
ماذا تراكم فاعلون؟
سعدية بن سامل
تعود املنارات يف موسم ثقايف جديد بكثري من
األسئلة التي باتت تحتاج ال إىل إجابة فقط وإمنا
إىل مرور عاجل إىل الفعل ،إىل انخراط فع ّيل يف
واقع يتفلّت يوما بعد آخر يف ظلّ ترشذم عام
يف كلّ املجاالت وما الثقافة إالّ مظهر من مظاهر
االنهيار املسترشي تعليام وص ّحة ومرفقا عموم ّيا
وقيام أخالق ّية واقتصادا وسياسة .طالت لحظة الرت ّدد والتجارب املنعزلة ،طالت
لحظة التخبّط بحثا عن ذات تفي إىل قيمها التق ّدميّة املبدئيّة وتجد أرضا صلبة
يؤسس لغد أفضل.
لتغرس فيها مرشوعها اإلنسا ّين الذي ّ
نؤسس لثقافة فاعلة يف بلد تغلق فيه دور الثقافة،
وقد تستب ّد بنا الحرية ،كيف ّ
نؤسس لثقافة يف بلد تُستبدل فيه
وإن فٌتحت فهي خاوية عىل عروشها ،كيف ّ
قاعات السينام مبحالّت لبيع املأكوالت الرسيعة ،يف بلد توضع يف ساحات مدنه
نؤسس للثقافة يف بلد تسيطر عىل قطاعات ثقافية
منحوتات منفّرة؟ كيف ّ
نؤسس لثقافة «منقذة» يف مجتمع
فيه عالقات املحسوب ّية واإلخوان ّية؟ كيف ّ
نؤسس لثقافة مواكبة للعرص يف
استرشى فيه العنف والفوىض والتفكّك؟ كيف ّ
بلد مل يراجع مفاهيمه للثقافة بعد ومل يضع لنفسه تص ّورا لإلنسان الذي يريد
بناءه ،يف بلد ينجح دامئا يف إبعاد املثقف حامل املرشوع عن مواقع القرار؟
هل هناك ما يرجى من سلطة اإلرشاف يف ظلّ صمت الهياكل الرسم ّية وتواطئها
املخصصة للثقافة كل سنة ويف اعتبارها نشاطا من
بالتقليص من االعتامدات ّ
درجة ثانية ويف ظلّ العمل املفكك بني هياكل ال ّدولة لكأ ّن كلّ وزارة جزيرة
منعزلة عن غريها هل ينتظر الوضع العام يف البالد مبادرات سلطة اإلرشاف
ومشاريعها أم أ ّن الثقافة فعل متم ّرد بطبعه ال يخضع ملشاريع مسطّرة؟
ث ّم ،هل مازلت املحامل التقليديّة تفي بالغرض وتجذب الر ّواد؟ هل مازال لدور
الثقافة وهجها القديم ولنوادي السينام مريدوها؟ هل مازال الكتاب يجذب
القارئ ويُتبادل يف ساحات املعاهد بذات الشغف الذي كان؟
إ ّن بناء واقع ثقا ّيف جديد يتستلزم ،بدءا ،تشخيصا دقيقا للواقع ويف ضوء ذلك
التشخيص توضع خطط العمل وتوضع الربامج ويبدأ التنفيذ وهذا عمل هياكل
وجامعات ال عمل افراد ،عمل جامعات تؤمن أ ّن الثقافة هي منقذة الشعوب
وبانية اإلنسان ومهذّبة الطبيعة ،أ ّن الثقافة هي الحصن املنيع أمام الرداءة
وانعدام الذوق وغياب اإلرادة وسيادة ثقافة القطيع ،جامعات تعمل وتق ّيم
متغيات العرص وتقرتب من العدد األوفر
عملها دوريّا وتشذّب وتط ّور لتواكب ّ
من الفئات االجتامعية .جامعات تجرؤ عىل الحلم وتجرؤ عىل خوض غامر
املعركة ،معركة بناء اإلنسان ،وتجرؤ عىل نفسها فتطورها .تجرؤ أن تلتحم بالناس
فعال وال تكتفي بالتنظري والخطب الحامسية يف الفضاءات املغلقة ،تجرؤ عىل
خاصة بعد سنوات
خوض الحرب ،فلن تجد الطريق مهادا وال السبيل بساطا ّ
عديدة من الهدم والتشكيك والتمييع لكلّ القيم والتجريء عىل كلّ جميل وكلّ
اعتبار ّي.
الساسة،
أمام املثقف اليوم معركة حقيق ّية وهو األمل األخري إلنقاذ ما أفسده ّ
وإنقاذ ما ميكن إنقاذه بعد استرشاء األم ّية والعنف وفقدان املعنى .فامذا تراكم
فاعلون؟
اتحاد العام التونسي للشغل
تأبني كمال الزغباني
شكرا بيت الرواية
ما فتيء «البيت املعمور» مجددا ،مواكبة عميقة وطريفة لروح
الفقيد املبدع كامل الزغباين ،وهو ملن عرفه يكره ملناسبات
الرسمية – يف حياته أو بعد رحيله -حفلة الحياة خيار مبدع
وصائب يتالءم مع الفقيد الذي استهلك الحياة قبل أن تستهلكه،
واستنزفها قبل أن تستنزفه وهو يف ذلك سليل مبدعني رحلوا
قبل املواعيد املألوفة وأقدمهم أمري الصعاليك طرفة ابن العبد
...منارات
10:00االفتتاح :فقرة موسيقية يؤمنها الفنان «مروان األزرق»
بعنوان صب حان 20دق
كلمة السيد وليد الزيدي وزير الشؤون الثقافية أو من ميثله. كلمة السيد كامل الرياحي مدير بيت الروايةتجربة كامل الزغباين األدبية والفكرية :إدارة الروائية سعدية بن
سامل
الروايئ محمد الجابيل :مداخلة حول رواية :يف انتظار الحياة الناقد أرشف القرقني :مداخلة حول رواية مكينة السعادة القاص األسعد بن حسني :قراءة يف مخطوط كامل الزغباين األخري«سباحة حرة»
الناقد محمود طرشونة :قراءة يف رواية «يف انتظار الحياة» الفيلسوف سليم دولة :كامل الزغباين املتوغل املفكرة حياة حمدي :كامل الزغباين قارئا لدولوز أوالفلسفةض ّد البالهة
13:30الشهادات :إدارة اإلعالمية سندس زروقي
الشاعر النارص الردييس :كامل الزغباين وسنوات الجمر املخرج املرسحي واملمثل غازي الزغباين :كامل الزغباين املتعدد املخرج السيناميئ واملمثل نرص الدين السهييل :حلم الجامعةالشعبية
الناقد جلول عزونة :قراءة يف تجربة رابطة الكتاب األحرار الناقد نور الدين الخبثاين :كامل الزغباين األديب والفيلسوفواإلنسان
محور العدد القادم
14:30أمسية شعرية مهداة إىل روح كامل الزغباين :إدارة الشاعر
جامل الجاليص
الشاعرة آمال موىس الشاعرة فاطمة بن فضيلة الشاعر الطيب بوعالق الشاعر املنصف الوهايبي الشاعر النارص الردييس الشاعر رحيم جامعي الشاعر آدم فتحي الشاعر محمد الهادي الوساليت الكاتب توفيق العلوي : 15:30اسرتاحة
من طقوس كامل الزغباين أنه يعيد قراءة رواية «دون كيشوت»
مليغيل دي رسفانتس» كلّ سنة لذلك يهدي له بيت الرواية
مرسحية« :دون كيشوت كام نراه»
« 16:00دون كيشوت كام نراه» دراماتورجيا وسينوغرافيا
واخراج :الشاذيل العرفاوي
نص :ميخائيل بولغاكوف
مخرج مساعد :لطفي الناجح
متثيل :عبد القادر بن سعيد محمد املنصف العجنقي
محور العدد القادم :
في ظل واقع مأزوم هل من سبيل إلى مبادرات تستعيد
تفعيل األبعاد القيمية المعرفية الثقافية...
البريد االلكتروني manaratculturel@gmail.com :
المدير المسؤول
نورالدين الطبوبي
3
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
المدير
سامي الطاهري
أسرة التحرير
منتصر الحملي -حسني عبد الرحيم -إشراف وتنسيق :محمد الجابلي -سعدية بن سالم
منارات فلسفية إعداد األسعد الواعر
اإلخراج الفني :محمد كريم السعدي
السحب :مطبعة دار األنوار -الرشقية -تونس
املقر 41 :شارع عيل درغوث -تونس - 1001الهاتف / 71 330 291 - 71 255 020 :الفاكس - 71 355 139 :
العنوان االلكرتوين - manaratculturel@gmail.com :الحساب الجاري بالربيد 300 - 51 :
الله أكرب الله أكرب الله أكرب
نو ّدع اليوم الرفيق كامل الزغباين الوداع األخري ،نو ّدع أستاذ الفلسفة والكاتب الروايئ والفيلسوف
املتم ّرد عىل التفاهة والرداءة واملفكّر الح ّر املنطلق بال قيود ..ونحن نو ّدعه نس ّجل خسارة أخرى
للجامعة وللفلسفة عىل وجه التحديد بعد فيصل الكشو ومصطفى كامل فرحات ومحمد نجيب عبد
املوىل وعيل لجنف وخسارة أخرى للحقل الثقايف عموما وكأ ّن هذه السنة حطّت مبآسيها لتزيد آالمنا
وتع ّمق جراحنا.
ولد رفيقُنا كامل الزغباين يوم 6سبتمرب ،1965بوادي الزيتون بحامة قابس ،وزاول تعليمه االبتدايئ
تحصل عىل
مبدرسة الدغباجي مبسقط رأسه ،وواصل تعليمه الثانوي باملعهد املختلط بالحامة ،أين ّ
بكالوريا آداب يف جوان , 1984ليلتحق بعدها بكلية اآلداب منوبة وينال األستاذية يف الفلسفة يف
.1989
ويف أثناء دراسته الجامعية ناضل يف صفوف االتحاد العام لطلبة تونس وظلّ عنرصا قاعديا مل يطلب
موقعا أو مسؤولية.
وتول تدريس الفلسفة باملعهد النموذجي للفنون بالعمران ومل ينقطع عن تحصيل
زاول مهنة التعليم ّ
العلم بنهم ورشاهة فينجح سنة 1991ويفوز بشهادة الكفاءة يف البحث ،وينتقل بعدها إىل الدراسة
ويتحصل فيها عىل شهادة التربيز يف نفس االختصاص سنة 1992ث ّم يحصد
بكلية اآلداب 9أفريل
ّ
شهادة الدكتوراه يف الفلسفة سنة .2011
الله أكرب الله أكرب الله أكرب
لقد مت ّرس فقيدنا عىل النضال صلب االتحاد العام لطلبة تونس ومنه انتقل إىل ساحات النضال
النقايب والعاميل والثقايف ،ولقد أسهم مبقاالته السجاليية العميقة يف جريدة الشعب لسان حال االتحاد
العام التونيس للشغل يف طرح إشكاليات فكرية عديدة ح ّركت جدال متواصال عىل امتداد سنوات ث ّم
تول عضوية هيئة تحرير ملحق منارات بجريدة الشعب ولك ّنه ،وهو الكاتب الح ّر ،فّضّ ل أن يلعب دور
ّ
الكاتب عىل أن يدير التحرير ،فكان يسهم ،يف ط ّيات صفحات منارات ،بأعمق الكتابات وأكرثها تح ّررا
وجرأة ،فأثرى مضمون العديد من األعداد حتّى صار غياب مقاالته عنها أمرا ملحوظا.
لقد كانت التجربة الثقافية والفكرية لفقيدنا متن ّوعة وثرية ،ولن أقف يف هذا الحيز الض ّيق عند
تفاصيلها إذ ساهم الفقيد يف تأسيس “رابطة الكتاب األحرار” بالتعاون مع عدد من املثقفني التونسيني
يتقصونها
سنة 2001وأثرى الساحة األدبية التونسية مبجموعة من اإلصدارات موكول للباحثني ّ
ويدرسونها ،ولك ّني سأتوقّف عند مبادرة فريدة كان لكامل دور رئييس يف انبعاثها وهي الجامعة
الشعبية محمد عيل الحامي التي شكّلت نقلة نوعية لثقافة القرب يف األحياء الشعبية وبني الفئات
املفقّرة وكانت تجسيام فعليا لشعار الجامعة الشعبية والتعليم الدميقراطي وتفعيال ملموسا لدور
املثقّف اليساري يف مقاومة الجهل والتط ّرف وقد رحل كامل ويف نفسه حلم أن تتج ّدد هذه املبادرة
الثورية وتستم ّر لتكون بديال عن سياسات اإلقصاء والتهميش والحيف والتجهيل.
فإن باسم مناضالت ومناضيل االتحاد العام التونيس للشغل وباسم أعضاء
وأمام هذا املصاب الجللّ ،
الجامعة العامة للتعليم العايل والجامعة العامة للثقافة وكل نقابات الفنون داخل االتحاد أنعى رفيقنا
املثقف العضوي والكاتب الح ّر كامل الزغباين الذي قال عنه الشهيد شكر بلعيد « :إنّه ضم ُرينا الحي
ومرآتُنا الصادقة».
كام أتق ّدم يف األخري أتق ّدم وببالغ األىس واللوعة إىل ابنيه عائلته وأصدقائه ورفاقه بأصدق عبارات
التعزية واملواساة راجيا لهم جميعا جميل الصرب والسلوان.
وداعا كامل الزغباين ..سنح ّيي كينونتك بعد انقطاع الجسد عن االشتغال يف شهر مولدك بأجمل ما
نستطيع ..ومنيض يف عشق الحياة حتّى الثّاملة كام عشقتها أنت ..نعدك لن تتعطّل ماكينة السعادة..
محور خاص بالفقيد ...
كمال زغباني
ماذا سأكتب عنك حبيبي ؟
غازي الزغباين
كامل العم أو األخ أو الصديق أو العشري و هو الذي كتب يف فن العرشة ؟
كامل زغباين الروايئ الفيلسوف الشاعر الفالّح النديم القاص املعلّم األستاذ الناقد الرفيق الساخر الف ّنان
اإلنسان املنصت املو ّجه النصوح املحب املجنون ...
سأكتب عن كامل زغباين كمنهج و طريقة عيش .
كنت محظوظا بوجوده جانبي يف كل مراحل تق ّدمي يف هذه الحياة وكان تأشرييت األوىل للولوج لعوامل
العاصمة الليليّة يف سن مبكّرة فجالست رفاقه و تشبّعت بنقاشاتهم و دافعت عن أحالمي املراهقة
امليض يف طريقي .
باملرسح والسينام و كان دامئا يحثّني عىل ّ
من الحامة لصفاقس لسبيطلة للمحرس لقرنبالية للمهديّة محطات عديدة كان فيها
و أحيانا ع ّمي و صديقي يف كل األوقات ،كانت له طاقة عجيبة
كامل أخي األكرب
لنرش الحب و القيم و جعل اآلخرين يتقبلونه رغم االختالفات االيديولوجية فكانت
عالقاته مبحيطه و جريانه شديدة الطرافة و تنتهي دامئا بالتعايش و بتق ّبلهم لبشاشته و
جنونه و يف كل مدينة نزل فيها كامل إالّ و ترك بصمة و جعل الناس يتذكرونه ويحبونه
فكان مروره مبدينة املحرس التي أحبها كامل كثريا و كان منزله فيها عبارة عن ناد ثقا ّيف
و متنفس للمبدعني و املثقفني بالجهة فكان يختار دامئا منزال ذو حديقة و كان الزوار
يشاركونه االبداع و اإلعتناء بالنباتات و هنا سأتحدث عن زغبانيا كمفهوم لجعل مكان
ما مساحة مثمرة لإلبداع و الفن و الجامل.
الكل يعرف زغبانيا هذه املساحة التي استأجرها كامل قاحلة و أنبتها و جعلها مثاال
مصغرا لزغبانيا األم أو زغبانيا األصل « السانية » التي ترعرع فيها و اشتغل فيها يف
الحا ّمة ،هذه السانية كانت لسنني طويلة صورة الج ّنة يف مخ ّيلتي .
خاصة فكان يحادثها و يس ّميها و يغمرها حبّا
كان كامل محبّا للنباتات و يعاملها معاملة ّ
فتثمر .فزغبانيا التي عرفها الكثري يف منزله األخري بجهة املروج سبقتها زغبانيات حتى و
إن مل يس ّميها كزغبانيا املحرس و زغبانيا صفاقس و زغبانيا املهديّة .
كامل و رغم انشغاله الكبري و انغامسه يف الكتابة و البحث كان قادرا عىل إعطاء موجات كبرية من الحب يف العائلة كلام كانت له إطاللة
امليض يف اختالفهم .
و كان حاضنا لكل شبابها مح ّفزا الجميع عىل ّ
القصص ّية األوىل « اآلخر » عىل جعل الغالف من رسم سليم ابن أخيه الذي مل يتجاوز
رص عند نرشه مجموعته ّ
كان مرهف اإلحساس و أ ّ
حينها سن العارشة إميانا منه مبوهبته .
كانت هداياه كتبا و اسطوانات و لن أنىس ذات شتاء عندما أقمت مبستشفى األطفال بباب سعدون ملدة ثالثة أسابيع و كانت الزيارات
ملدة ساعة واحدة من خالل البلور ،كان لحضور كامل اليومي طاقة سحريّة لتجاوز هذه التجربة الحياتيّة القاسيّة وكانت هديّته يل
الثالث ّية العظيمة فاكتشفت عوامل نجيب محفوظ صغريا و تغلّبت عىل الخوف و االنتظار بفضل ابتسامة كامل.
أنت دامئا هنا « حبيبي »
من مدونة الفقد واألحزان
وداعا صديقي بل صديق الجميع عبدالرحمان عزيّز
تتعاقب أخبارنا الحزينة يف عامنا هذا ،أحبة رحلوا تباعا محمد بن صالح ،محمد
الزريبي ،محمد صالح لخمريي ،عبالحميد الورغي ،حسني لزهاري وأخريا كامل الزغباين
وعبدالرحامن عزيّز...
كل الذين رحلوا تشابهوا كل من موقعه يف رسم مالمح جيل -بسوابقه ولواحقه -يحلم
ويفكر ويشتاق اىل الفعل الخري النري...جيل بعيد االستقالل ذاك الذي تطلع للحلم
والبناء لكنه واجه الخيبة وما يشبه االستحالة...
جيل احرتم االنسان يف ذاته بعيدا عن التطرف أو التعصب ،وتاق اىل آفاق انسانية
أرحب...
رحم الله عبدالرحامن عزييز ...منذ الثامنينات مل ينقطع حبل الود بيننا ،كان دائم
السؤال عن األحوال وغالبا ما يكون الشأن العام ومنه ممكنات الفعل يف واقع مفروض
لكنه مرفوض ،كنت اسأله عن أحوال صفاقس وأهلها وعن زماليئ املميزين يف تلك
الربوع وكان رحمه الله دائب النشاط والتطلع كصندوق أحالم تعاقبت منذ عرشيات
وأجيال ...
برحيله نفقد وجها مميزا ذكيا فطنيا ...رحمك الله يس عبدالرحامن ورزق أهلك
وذويك وأصدقاءك الكثريين جميل الصرب والسلوان م/ج -منارات -
الفقيد عبد الحميد الورغي « املاتر» مبناسبة تكرميه بعد التقاعد
4
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
5
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
محور خاص بالفقيد ...
محور خاص بالفقيد ...
في انتظار الحياة لكمال الزغباني
متعة الفن وحرقة األسئلة
محمد ّ
الجابل
رحل كام الزغباين لكنه معنا وبيننا ،نصا مبدعا وفكرا
جامحا وخياال خالقا...
املبدع هو من وهب الجانب األكرب من حياته
لرؤيته وفنه و ُمقاربتة لذاته واآلخرين انطالقا من
موقع مخصوص ُمتميز بصدقه وثرائه يف صلة بلحظة
يختلط فيها الذايت باملوضوعي كام تتداخل فيها االبعاد النفسية واالجتامعية
والحضارية التاريخية...
رواية يف انتظار الحياة نص مميز يف تعبريه عن الذات الكاتبة مبا تحمله من أبعاد
عميقة -فنا وحياة – وأعتقد أن مقاربة النص هي أفضل ما به نكرم روح ُمبدعنا
الذي سيظل حارضا بيننا فكرا ووجدانا ...
الشخصية ووجهات النظرتبدأ الرواية بفصل أول موسوم بسمة الفن «تحليق» وهي
اللوحة اللغز أو اإلثارة التي تفصل بني الحياة بفجاجتها والفن
بانسيابه فينقلنا الكاتب من سؤال الفن اىل سؤال الحياة وتبدأ
املشاهد من تعارض عاملني انطالقا من وعي مجروح وعاطفة
ُمكتظة و ُمختنقة عند لحظة حائرة من شخصية خائرة هي
شحصية «فادية» التي جعلها الكاتب بوابة الجحيم وامل ُتعة :جحيم
الحارض بغموضه و ُمتعة املايض بتألقه فكانت املراوحة بني الكشف
واألنكشاف :كشف يف الخارج ووظيفته تنضيد الكون الروايئ
وتحديد العالقات بني فواعله ومن أهمها تحديد اويل لشخصية
«فادية» يف عالقتها بشخصية البطل من خالل إطار مشحون
بالدالالت التي تستبق تطور الحدث وتهيئ له املرجعية األساس
ونعني بها مرجعية العشق والفن والجنون ومن هذا الكشف
يتجىل املكان ويتحدد الزمان ونعني به الزمن الداخيل الحاضن
للحدث فإذا باللحظة الحارضة تنفتح عىل ما يزيد عن السنة من
خالل التذكر أو األسرتجاع ويضعنا الكاتب مبهارة وذكاء نادرين
عىل حافة أسئلة تنطلق من القمة املوتورة يف وعي الشخصية
الحارضة وتجرنا قرسا اىل عوامل أخرى فيها حضور شفاف ومبهم
لشخصية غائبة هي شخصية البطل «عيىس الرشقي» الذي يحرض
من زاويتني األوىل من ذاكرة فادية ومن حركتها الباحثة والثانية
من منت مبارش يف صلة بالظرف الحاوي لتداعيات البطل ورؤاه...
فالبطل أصيل الجنوب التونيس ومن «الرشاقة» بدأت خطاه ويف
الجامعة تشكل وعيه كام تشكلت المباالته وبعض عدميته ويرد
تحديد شخصية البطل عىل لسان» فادية» فرتتسم معامل دالة
بتناقضها فهي شخصية تجمع بني «الشيطانية ،الالأخالقية ،الجنون،
املالئكية ،البشاعة ،الرعب ...توليفة عجيبة من العنارصاملتنافرة
التي ميثل اجتامعها يف شخص واحد خرقا لكل القواعد« ...أن يكون
عيىس الرشقي قد ُوجد فذلك يُشكل صفعة للنوع البرشي برمته...
ص »29ومن هذا التنافر تكتسب شخصية البطل خصوصية يف
مستويى الوعي والالوعي لتكون خري شاهد إدانة وإثبات عىل
واقع أساسه التعدد والخديعة وتكتسب من ذلك مهابة الحقيقة
املغيبة :حقيقة الوضوح املؤمل الذي هو من بعض القداسة،
قداسة الصلب عىل خشبة الوعي األنساين يف واقع مرفوض لكنه
مفروض بآليات متمكنة الطاقة لألفراد عىل مواجهتها فكانت
شيطانبتة «تنطوي عىل رضب فريد من القداسة ومن الجاملية
الساحرة ...جاملية نصل سكني حاد مرهف وشديد اللمعان...
ص »29شخصية ممحونة بالدواخل ومشحونة بحركتني متداخلتني
و ُمتناقضتني إحداهام يف ظاهر الفراغ واألخرى يف باطن العدم –
ظاهر الفراغ يواجه بالسخرية الفاجعة سخرية األنفصال والتباعد
والقرف وباطن العدم يواجه بشوق ُمبهم إىل املطلق ومنه اإلنتحار
والجنون...
شخصية طفل «ميور رأسه بطفولة رشيرة» وشاب مسكون بهاجس
املعرفة ومترد الثورة وألق الفن يجد ذاته بكل طاقاتها حبيسة
عمل هو أقرب إىل الدجل منه إىل أي يشء آخر – ان يرد عىل
أسئلة املراهقني يف صحيفة مغمورة أو قل ُمبتذلة – ص – 151بعد
أن عمل فرتة نادل مقهى ما كان لهذه الشخصية أن تقاوم لوال
سالح السخرية و» مل يكن يدخر جهدا يف إظهار المباالته الجذرية
بكل ما كان يجري يف البالد ويف العامل من أحداث سياسية لكنها مل
تعتقد يوما يف صدق تلك الالمباالة ...ظلت موقنة أنه مل يكن يوما
ُمحايدا تجاه ما كان يحدث حوله قد يكون استبد بروحه رضب من
اليأس العميق بسبب ما عاشه وما عايشه من إحباطات ونكسات
فردية او جامعية وجعله يعزل نفسه داخل قوقعة ُمعتمة من
العدمية امل ُستهرتة»ص205
و»عيىس الرشقي» مبا هو يعكس واجهتني إحداهام واجهة جيل
إنكرست أحالمه وخابت تطلعاته ،واألخرى واجهة أكرث إيغاال
وإيالما هي واجهة األنسان يف إحساسه بعدم األكتامل ووعيه
الحاد بعبثية وجوده وانسحاقه داخل الحدود...
ومن جوانب اإلمتاع يف الكشف الروايئ أن نعرف مالمح البطل
من خالل تداعيات فادية لحظة حريتها إزاء الظرف وإزاء اختفاء
عيىس املفاجىء ...ثم ينفتح النص عىل نص آخر هو منه قريب
وكأن الرواية قدت من منت وهامش لتكون لعبة الكشف مرايا من
خاللها تنعكس الشخصيات متآلفة او متنافرة ومنها يتنزل الحدث
يف دوائر لولبية تتسع فتضيق حسب تشابك العالقات بني فواعل
النص «قررت الذهاب اليه وجدت نفسها عاجزة عن تحديد الغاية
األساسية من ذلك».
مل تعد تدري مالذي ستفعله عندما تجده وما سيكون رد فعلها
عندما تعرف مصريه .هل كانت ستقتله أم سرتمتي بني أحضانه.
هل كانت سرتمي بالظرف يف وجهه أم ستبيك عىل صدره أو عىل
قربه ؟» ص 157-وتبدأ املتاهة من دوائر البحث :فادية تبحث
عن عيىس ماديا ومعنويا وفيه تبحث عن ذاتها وعيىس يبحث
عن نفسه يف ُمعابثة اآلخرين ويف أقنعة السخرية ويف إتحاده
أو يف أزدواجيته مع إسامعيل يف وضوحه وثورته أو يف تناقضه
وجنونه ...ويتداخل كل ذلك بأوراق عيىس التي هي منت روايئ
قائم بذاته فيه تزداد املكاشفة توغال يف األقايص ومعها تزداد متعة
الكشف من خالل حركتني متوازيتني وأحيانا ُمتناقضتني :إحداهام
يف الوعي واألخرى يف الواقع ،ويحيلنا الكاتب بخبث فني إىل هذا
املنت املوصوف واملوسوم بالفوىض والتداخل عىل لسان فادية «عدد
من النصوص املتداخلة ...عبارة عن جملة من املقاطع القصرية أو
املطولة ...شكل سرية ذاتية قامئة عىل اإلعرتاف املفصل والحميمي
أو عىل التداعي الحر...ص»39
ولنئ احتل الفن إحد الفضاءات املميزة يف النص من خالل
شخصيتي فادية وعيىس يف حسهام املشرتك واملجسد يف صلتهام أو
يف تحليقهام صمتا كان أم حوارا ،فإن للحب الحيز األكرب بل يكاد
يحتل املساحة املشهدية يف فضاءات النص ضمن تعاود أو إلحاح
يجعالن منه املبحث األهم الحاضن لوجهات النظر واملولد للرؤية
األكثف التي منها أو من حاللها تتناسل الرؤى األخرى يف الرواية...
فالحب ومنه اللذة ينفتحان عىل الرغبة يف تحققها أو يف استبصارها
خياال خلبا أو يف خيبة عدم اكتاملها ،الرغبة املتلفعة برداء العاطفة
أو املوتورة تحت حجاب الحياء أو املتقدة تحت برقع العفة أو
العارية الجامحة الجانحة الفجة والفاجرة واملنفجرة .
فلسفة اللذة هي ألق يشد النص يف نسيج حريري شفاف فيه ُمتع
مع عذابات القدرة عىل تفكيك الرغبة اإلنسانية ووضع الذات
تحت مجهرها الفاضح وتتبعها يف لحظاتها املرتاكبة من الحلم إىل
اإلنجاز ومنهام أحيانا إىل القرف أوامللل أو الألشمئزاز والتقزز...
وغالبا ما تومض الرغبة من شوق العاطفة وتتقد يف لهيب الجسد
وتنطمس يف لظى الفكر «كانت تقف صامتة تعانقه بعينني تبللتا
ولها وتحنانا ...بدا لهام ذلك الصباح مبكيا من فرط جامله»ص66-
«كان يرعبها ان تدرك معنى الشهوة وعذاب التطلع إىل اللذة
القريبة النائية ...هذا الجسد كم متقته كم تعشقه تلمست مواضع
األمل حتى استقرت عىل أشدها حدة ,أعىل البطن أسفل الصدر
حيث كانت األرنب الصغرية تخبط خبط عشواء...ص»72
وغالبا ما يرسم الكاتب للذة إطارا حافا فيه كشف لخفايا الذات
ويصلح مدخال لفلسفة الجنس يف ذلك اللقاء املبهم بني النقائض،
ويف ذلك التامس الشفيف بني اإلدراك والشعور ،ويف ذلك اإلنتقال
املؤمل من إنشداد الرغبة إىل خيبة التباعد وحموضة اإلنتهاء ،وتكاد
كل املشاهد الجنسية رغم تألقها تؤول إىل إحساس ُمتعاود بسأم
النهايات وباحتقار شديد التخفي لرجفة اللذة وصبوة الجسد:
«ضاجعها قبل النوم دعها تنام قبلك إستمع إىل شخريها الذي يشبه
صفري الريح يف قصبة مهملة شم رائحة كريهة إستمع إىل رضاطها
إندم إلنك جعلتها تنام قربك ...أتركها تغادرك تنفس الصعداء...
«ص.167
ويف هذا اإلعرتاف الوارد يف شكل بيان تتبدى إستحالة التعويض يف
الجنس أو يف اللذة وتعود الذات إىل سأمها األزيل ُمتعايشة معه
أو رافضة له إال أنها حالة فيه بشجاعة وجرأة نادرتني ...ويتحول
الجنس من الرغبة والحاجة إىل قصدية بليغة الداللة قصدية تبديد
العبث وتخفيف اإلغرتاب يف محاولة يائسة لرتميم الدواخل ورأب
تصدعات الكيان ورتق خروق الكون ...قصدية صنع لحظة انتشاء
ومحاولة اإلمساك بها محاولة عابثة صورها “كافكا” يف رواية القرص
بقوله “كان جسامهام املضطربان ال يجعالنهام ينسيان واجبهام بل
يذكرانهام به كانا ينهشان يف جسميهام كام تنبش الكالب البائسة
يف األرض وكانا يجران بلسانيهام كل عىل وجه اآلخر إلتامسا
لسعادة أخرى يف يأسهام وعجزهام ”...ص 72-ومن عبث الحب
أن تتجدد الصبابة كام الحياة ومن عبث الشهوة أن تتقد كلام
خبت هو الجنس يف الرواية ظاهره حياة وباطنه عدم بدايئ يف
تألقه كام يف إنطفائه منزع حياة دون أن يكونها ظأم إىل الكيان
وشوق الينتهي ورغبة التشبع...
ومن تفكيك الرغبة تجىء األسطورة مكملة لألبعاد لتكون “عائشة”
مدخال يراوح بني اللذة واألمل هي “عشتار” بابل أو البغي املقدس
من خاللها استطاع الكاتب األنتقال من فلسفة الجنس واللذة إىل
إجتامعيتهام مبعنى املحمول الوظيفي الجديد ،ويف جسد عائشة
يتقاطع الكون الروايئ بل ينفتح عىل فضاءات وفضاعات مرسومة
مبهارة فنان وبخربة إيديولوجي ماكر فنستعيد أزمنة داخلية
مفتوحة عىل ذاكرة حية تنقلنا من فضاء مدين إىل فضاء ريفي كان
قد لفظ عائلة األختني “فادية و عائشة” لتتشبث األوىل بالدرس
ومنه الفن ولتتلبس الثانية بالجسد ومنه العهر ويف فصل”جسد
عائشة” تنعرض مبهارة فنية مأساة أرسة ومنها مأساة طبقة ويف
كل ذلك أزمة مجتمع ،وقد استطاع الكاتب الغوص الدقيق يف
الشخصيات ظاهرا وباطنا لريصد ظواهر اإلنسحاق واملهانة
من خالل ردود األفعال املرتاوحة بني الوعي
والالوعي واملتجلية يف عالقات أفراد األرسة
ببعضهم البعض أفرادا جمعهم الدم وشتتهم
الوزر الطبقي واإلصطدام بنقائض الواقع سواءا
يف بساطة الريف أو يف تعقد العاصمة...
ومن جسد عائشة تبدأ املأساة :من نضجه
امل ُبكر ومن تفتح مسامه ومن شبق مدير
مدرسة إبتدائية يف أرياف “تالة” ومن عيون
أهل القرية املُ شتهية واملتهمة ترحل األرسة بل
تفر إىل ضباب العاصمة وضياعها ،حيث يوغل
كل يف تطرفه :تطرف مداره الواقع وجسد عائشة
كرد فعل إزائهام معا :فادية تنكر جسدها
وتكره أنوثتها كنقيض لجسد عائشة وأخ يتحول
من التسكع إىل تطرف ديني يحتمي به ،وأب
يحتجب خلف الخمرة والعنف ،وأم تنطمس
خلف الهزال واملرض ...عامل يرزح تحت عهرين :
عهر عائشة ،رسمته الطبيعة وغذاه الواقع:
“ تخرج من بني طيات ثيابها قطعة مرآة
صغرية وترشع يف تأمل وجهها وشعرها عىل
مرآة البرتول ...وتبدأ يف الدوران املحلق ...كانت
تتدرب عىل ترقيص عجيزتها الصغرية وعىل
جعل نهديها الناشئني يهتزان ...ص”88
وعهر املدينة النهمة لكل ىشء جعال الكل
يرتنح بطريقة ما ،لكن املأساة املوغلة تتكاثف
بل تجتمع يف شخصية األب الذي نزل السلم
درجا درجا وتحول من العنف إىل الخنوع
وأصبح متواطئا مع الحضيض بل متمعشا منه “
واستبدل فقرا أبيا يف الريف بفقر ذليل يف املدينة
“ واستطاع “الزغباين “ أن يصور تدحرج روحه
وأن يرصد ردود أفعاله املتناقضة من خالل عني
إبنته” فادية “ فتصور املعاناة من منظور داخيل
ضمن إنفصال واتصال ومشاركة هي إىل البوح
أقرب “ كان الخمر ميكنه من تحويل القهر إىل
عنف ،وكنا نحن وخصوصا أمي وعائشة املجال
األمثل لترصيف تلك الشحنات...
لكن الخمرة كانت تتطلب املزيد من املال...
وكانت عائشة صاحبة الحل ...تغيبت يوما كامال
ثم عادت تسلم أيب نقودا ..لحظة رأيته يدافع
عنها ويشكر لها تفكريها يف البحث عن شغل
ملساعدته..رأيته ينحدر روحيا إىل قاع ال قرار له
من الذل وانعدام الكرامة ص”93
وتتجسد درامة ساخرة يف سلوك األب وتناقض
ردود أفعاله بني ذل الحاجة وانتفاض البقايا
فيشجع عائشة ويتكل عليها لكنه يعنفها وينكل
بها بني الحني واآلخر ،فيكون جسد عائشة مجاال
الستقطاب آخر ينفجر فيه ومن خالله مترد
عاجز ألب مهزوم ،ومن الطرافة أن تتعايش
عائشة مع ذلك الوضع بل أن تنتظر تعنيف
األب بعد أخذه النقود التي غالبا ما تكون ورقة
من فئة العرشين دينارا ...
حيل النص ومكر الكتابةكل رواية هي مزيج من العنارص وبلغة أهل
الكيمياء كلام استطاع الكاتب استعامل الخليط
ووفق يف تركيب عنارصه كلام كان نصه أمتع
وأكرث إقناعا عىل اعتبار أن الرواية خرب وخطاب
فهي خرب من جهة الرؤى ووجهات النظر وهي
خطاب من جهة حيل التبليغ ووسائط اإلتصال
ويف هذا املزج يتحدد مصري النص يف تكامل بني
وجاهة املضامني وجاملية التواصل وال تغليب
لطرف عىل آخر ألن النص بجمعه ووحدته
ومنهام يكتسب تفردا ويحل يف املتعة باعتبارها
املؤسس األوحد للفن ...وتبدأ حيل النص من
وضعية الراوي كاختيار أويل من خالله تتحدد
مالمح األجزاء األخرى يف بناء النص ألنه املحدد
لوجهات النظر يف بنيتها السطحية كالضامئر أو
يف بنيتها العميقة كالشخصيات واألفعال وقد
استطاع «الزغباين» أن يترصف يف وظيفة الراوي
وأن ينقله من الوحدة إىل التعدد يف فصول
النص كأن يجعل الرواية مرايا تتعدد بتعدد
الشخصيات فتكون البداية مع راو تقليدي
عليم فينساب الرسد مع ضمري الغائب « هي
فادية يف حريتها إزاءه أي إزاء البطل املختفي
« ثم ننتقل إىل راو مندمج مع البطل فينساب
الرسد بحرارة أنا املتكلم يف رضب من املكاشفة
أو اإلعرتاف ثم يعود إىل نحن يف رسد فادية
لحكاية عائلتها ثم يفاجئنا الكاتب بحيادية ما
أو يفرضها يف مراوحة بني الظاهر والباطن من
خالل تداعيات يف ذات الشخصية عىل أن الحيلة
األهم واألكرث طرافة يف املستوى األول هي حيلة
التامهي بني شخصيتي عيىس وإسامعيل فاألول
وجه للثاين جمعهام وعي حاد وفرقتهام سيل
ُمواجهة التناقض فحل األول يف عدمية ساخرة
وحل الثاين يف مطلق الجنون وهام ذات واحدة
بني نزعتني ُمتناقضتني .
ومن حيلة املضمون العميق إىل حيلة أخرى
تجمع بني الراوي والبطل والكاتب لنتوهم أن
البطل الذي اختفى هو الكاتب املعلوم واملسمى
والذي يُفاجئنا يف مناسبتني ليتسلم الظرف ومنه
يختط املنت الروايئ هو «كامل الزغباين «يرسل
خيط اللعبة فيتحرك عامل الشخصيات كالدمى
فينعتق فرتة ثم يعود إليه ص 85و ص259-
ومن هذه اللعبة الفنية متكن الكاتب من تجاوز
الحدود التقليدية املعلومة للراوي واستطاع وأن
مييز نصه بسيامت الطرافة والجدة فيام ميكن
أن يسمى بامليتاروايئ :أن ينقد النص ذاته وأن
يُفصح عن بعض خباياه ومن ذلك اإلفصاح – إذا
أحسن الكاتب توظيفه – تخلق أبعاد مجازية
وفنية تزيد النص إرشاقا وإمتاعا كام نجد يف
هذه الرواية ...
ومن حيل الكتابة فضاء آخر هو فضاء التعبري
وهو من أهم الفضاءات إذ من خالله ينعرض
النص ويتمظهر بجمعه يف اللغة مبختلف
وظائفها اإلبالغية أو اإلنفعالية سواءا يف الرسد
أو يف الوصف أو يف الحوار فبدت لغة الرواية
ُمحققة ملقاصدها وتألقت خاصة يف الوظيفة
اإلنفعالية التأثريية ومنها الشعرية :وظيفة
الزمت الرواية يف كل فضاءاتها :من شفافية
الرسد إىل انسيابية الوصف ومنهام إىل كثافة
وألق الحوار»- :كانت أغلب الربك الصغرية قد
اختفت بعد من الساحة تاركة عىل اإلسفلت
آثار بللها والتامعها وجد القمر إليها مدخال
بعد أن تحرر نهائيا من مضايقة بقايا السحب
،ظهر ضياؤه أكرث فتنة وهو ينبجس من سواد
اإلسفلت وميد إىل السامء أشعته املبللة ليجر
نحو األعامق صورته األوىل ...رأى الشمس تنبت
يف أعامق البرئ ذات قيلولة شديدة الحر كان
النداء املنطلق من قمر اإلسفلت أكرث عنفا
وروعة من أن يقاوم ...و ...ص .»245واستطاع
الكاتب أن يصوغ نسيجا تتكامل وظائفه بني
شفافية اإليحاء وعمق الداللة...
ومن متع التبليغ ما تطلعت إليه الرواية من
عمق فكري جعلها تعيد إنتاج املعرفة يف
حوارات مطولة حول املصري واملسؤولية واإللتزام
والعبث والفن والحياة والالجدوى ...
-
خلود
إلى روح كمال الزّغباني.
قصة :نادية الذوادي
تح ّدث ال ّناس طويال عن ال ّرجل الخالد الذي ال ميوت والذي يسكن يف سفح جبل
السعيد .مل يره أحد مييش يف األسواق ،وال اقرتب أحد من بيته
شاهق يف اليمن ّ
الكبري الذي اعتكف فيه ال يغادره منذ قرون مل يحصها إنسان.
السبعة التي تحرس خلود
وغري بعيد عن البيت ،يف أعىل ذلك الجبل توجد ال ّنسور ّ
ش ّداد .فقد كان ش ّداد رجال خالدا كتب عليه الّ ميوت.
السحيقة كان ملكا إلرم ذات
قالت العرب أ ّن هذا ال ّرجل الذي ولد يف العصور ّ
وتجب ونيس ال ّناس يف عهده الله،
العامد التي نافست ج ّنات عدن .وقد طغى ّ
ومتسكوا بلذاتهم التي
منه
سخروا
الشور .حني أرسل الله لهم هودا
فاقرتفوا ّ
كل ّ
ّ
صنعوا لحراستها أصناما يعبدونها.
جاءهم هود يدعوهم إىل إله عظيم ال يرونه ،فسخروا منه ونبذوه .اشتىك ال ّنبي ربّه فأرسل عىل عاد ريحا محت
إرم ذات العامد.
حني وجد ش ّداد مدينته خرابا تعشّ ش فيها الغربان ،سأل الله الخلود عساه يعيد بناء إرم ذات العامد .قال إللهه
إ ّن يف رأسه أحالما لقومه ولن يكفي ما تبقّى من عمره لتحقيق هذه األحالم .ولسبب مل يعلمه ال ّناس منحه الله
الخلود ،وسخّر له سبعة نسور عظام يحرسون خلوده فال يقربه املوت.
لك ّن ش ّداد طلب الخلود وابتعاد املوت ونيس أن يطلب معه الشّ باب الدائم والعافية األبديّة .ومل يفكّر يف أن
يأخذ معه يف طريق الخلود أح ّبته.
ومضت الحياة به حارب وملك وحكم وامتلك نساء كثريات أنجنب له أبناء أنجبوا له أحفادا .لك ّن إرم ذات العامد
مل تستعد أمجادها .كرب ال ّناس حوله ،مات الكثريون وبقي هو يعيش يف سفح جبل ميني تحيط به نسوره التي
متنع عنه املوت.
شاخ ال ّرجل .مل يعد قادرا عىل ال ّنزول إىل القرى القريبة منه واالختالط بال ّناس الذين كان ملكا عىل آبائهم
وأجدادهم يوما .كان األ ّولون يوصون أبناءهم خريا بال ّرجل الخالد .ويويص األبناء من يأيت بعدهم بالعجوز.
وظلّت ال ّنسور تحلّق بعيدا وتعود إىل الجبل الذي تحرس منه ش ّدادا.
أصبح العجوز يواجه الفراغ حوله وعتمة ال ّزمن بال ّنوم طويال يف بيت كبري ال أحد يعرف من بناه ومتى بني.
يتمش قليال حول البيت العتيق ،تطالعه من بعيد أبنية مختلفة ويسمع
وعندما يستيقظ وينظر من ال ّنافذة أو ّ
تتغي وظلّت رابضة يف مكانها.
ألسنة ال يفهمها .وحدها ال ّنسور مل ّ
أحيانا كان ال ّرجل الخالد يرى نريانا تشتعل ويستمع إىل عويل يغرق قلبه .كان يعرف أن أحفاده يقتتلون.
تغيت مالمحهم .لك ّنهم تغيّبوا زمنا
كثريا ما زاره األحفاد .أصبحوا يأتون ليتف ّرجوا عليه وعىل ال ّنسور ،لشد ما ّ
تغيهم.
طويال .وكلّام تق ّدم ال ّزمن كلّام اشت ّد ّ
ومبرور القرون ،أصبح ش ّداد ينام كثريا وكان نومه يطول .ويف نومه الطويل ،أصبح يحلم بطائر املوت ويتح ّدث
معه .وذات نوم سأله :أما من سبيل إىل ال ّرحيل؟
السامء متاحا لل ّرجل الخالد ليطلب ال ّنوم األبدي كام طلب ذات يوم خلوده.
مل يعد طريق ّ
والسامء ،زار ملك املوت ال ّرجل العجوز يف منامه م ّرة ،ومل يكتف بإرسال طائر
األرض
تسعها
ال
وأل ّن رحمة الله
ّ
املوت نائبا عنه.
سأله ملك املوت ماذا فعلت يا شداد يف حياتك الطويلة عدا ال ّنوم وال ّنسيان .تذكّر العجوز الوحيد أنّه كان يريد
السابقة .قال له ملك املوت« :أين إرم ذات العامد؟ ها أنت يف سفح جبل
إعادة إرم ذات العامد إىل أمجادها ّ
منيس ،يزورك أبناؤك للتّع ّجب من رؤيتك وينسون وجودك عند أول منحدر يعرتضهم وهم يغادرون .أنت قابع
ّ
يف بيتك ال تغادره منذ فجر اإلنسانيّة».
أفاق من سباته الطّويل ونظر من ال ّنافذة فإذا ال ّنسور عىل حالها كام كانت مذ آالف السنني.
تذكّر أنّه رجل هرم ال يقوى عىل الخروج والعيش مع ال ّناس الذين أصبحوا يع ّمرون األرض ،وتذكّر أيضا أنه لن
يكون قادرا عىل املوت وال ّنسور تحرس خلوده.
السابع ،ولك ّنه مل يعد .وبينام كانوا
ذات يوم أفاق حارس الغابة ،فوجد ال ّنسور قد نقصوا نرسا .انتظر ال ّناس ال ّنرس ّ
ينتظرون عودته ،بدأ ال ّنسور يختفون واحدا تلو اآلخر ،وبدأ ال ّناس يتح ّدثون عن نفوق نسور الجبل باستغراب
وامتعاض أحيانا.
يتوصلوا إىل سبب واضح.
بحث الكثريون يف األمر ومل ّ
بعد زمن قصري من نفوق ال ّنرس األخري ،عرف ال ّناس من حارس البيت الكبري الذي يقع يف سفح الجبل أن ساكنه
الخالد نام ومل يستيقظ .قال الطّبيب الذي جاء لفحصه»:هذه امل ّرة لن يستيقظ .إنّه ليس نامئا .لقد رحل ع ّنا».
قال الحارس حائرا:مات مثلنا؟».
أي طقوس يدفن ال ّرجل الخالد ،فهم مل يعرفوا عنه سوى أنّه رجل من عصور
نعم مات مثلكم .مل يعرف أحد وفق ّ
سحيقة نسيه املوت.
وتبسم .ذكر
بعيد
ميني
جبل
سفح
يف
يعيش
كان
الذي
العتيق
جل
ر
ال
ة
قص
قدمية
جريدة
بعد سنوات ،قرأ يف
ّ
ّ
ّ
ّ
الكاتب أن أحدا مل يعرف لل ّرجل عمرا أو لغة ،وذكر أيضا أن نسورا كبرية كانت تعيش يف ذات الجبل سبقت
ال ّرجل إىل املوت .مأل الكاتب مقاله بأسئلة عن ال ّنسور عن ال ّرجل الذي نسيه املوت .تساءل عن عالقة موته
بنفوق ال ّنسور واحدا إثر اآلخر .لك ّنه مل يكن ميلك اإلجابة.
6
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
محور خاص بالفقيد ...
املثقف املُشتبك واملولع بالتأسيس واملبادرات
عبدالحليم ملسعودي
تطول الحياة أو تقرص يف عدد األيام ...لكنها تقاس باملنجز فيها
كامل الزغباين الجامع بني الفكر واالبداع عاش حياة فنان حقيقي...
استنفذ أيامها فكرا ومعايشة ومنها هاجس املبادرة والتأسيس...
يف رابطة الكتاب األحرار سنة 2001
كان من املبادرين املؤسسني لرابطة الكتاب األحرار منذ سنة ألفني
مع أصدقاء ورفاق جلول عزونة سليم دولة الحبيب الحمدوين
الجابل ،والقت املبادرة صدى كبريا
ّ
نورالدين الشمنقي ومحمد
يف ذلك الفراغ حيث التف حولها عدد كبري من املثقفني النريين
ووقعوا عرائض مساندة مفتوحة تجاوزت إمضاءاتها امليئات...
مام فرض فتح حوار وجدل معلن يف الجرائد القليلة « كجريدة
الصدى» حيث كان الصحفي محسن بن أحمد صاحب املبادرة يف
فتح صفحات الجريدة لتحقيقات واستبيانات يستقيص من خاللها
آراء الكتاب واملثقفني يف شأن التعدد الثقايف وتأسيس رابطة
الكتاب األحرار...
يف الجامعة الشعبية محمد عيل الحامي بسيدي حسني سنة 2016
لِ َم الجامعة الشعبية؟ كامل الزغباين
يأيت مرشوع الجامعة الشعبية تأسيسا عىل مبدأ استحقاقي أسايس
ال تل ّبيه مختلف أشكال وهياكل التعليم األخرى عمومية كانت أم
الحق الكوين واملطلق يف اكتساب
خاصة (بفعل طبيعتها ذاتها) ّ :
ّ
وتبادل وتداول املعرفة النظرية والعملية بشتّى أبعادها دون
أيّة معايري أو رشوط إقصائية مهام كان نوعها (العمر ،املستوى
التعليمي ،الوسط االجتامعي ،الوضعية االقتصادية….).
وهو يل ّبي أيضا حاجة مل ّحة إىل تبادل معريف مغاير للتعليم
رشط باعتبارات سياسية واقتصادية مرتبطة مبقتضيات
النظامي امل ّ
النظام الرأساميل املعومل .بذلك تكون الجامعة الشعبية مرشوع
خروج من الفعل التعليمي باعتباره فعل هيمنة عىل األجساد
والعقول من خالل إحداثيات سلطوية ظاهرة أو خفية (معامرية،
زمانية ،برامجية…) لجعله تبادال معرفيا تفاعليا ح ّرا من شأنه
املستقل للذات واملساهمة املوجبة يف
ّ
توفري ممكنات البناء
الوسط املهني واالجتامعي.
كام يل ّبي مرشوع الجامعة الشعبية حاجة لدى جموع مختلفة
(ال س ّيام يف األحياء الشعبية والقطاعات املفقّرة وامله ّمشة فيها)
استُبعدت لسبب أو آلخر من مواصلة التعلّم ضمن النظام
التعليمي الرسمي يف مستوى ما من مستوياته .وهي تحتاج إىل
زاد معريف يف عالقتها مبعيشها اليومي ويف عالقاتها مبحيطها املهني
واملوسع عىل ح ّد سواء.
والعائيل واالجتامعي املض ّيق
ّ
لِ َم هنا واآلن؟
الحي الشعبي “سيدي حسني السيجومي”
ونعني بالـ”الهنا”
ّ
الذي سرتكّز به النواة األوىل ملرشوع الجامعة الشعبية .هذا
الحي ،كغالبية األحياء الشعبية بتونس الكربى وبغريها من املدن
ّ
محور خاص بالفقيد ...
زغبانيا
كمال الزغباني :
كام بادرت جريدة الوحدة الشعبية بتشجيع من الصديق عادل
الحاج سامل فتح فضاءات للجدل حول رضورة التعدد الثقايف
ووجاهة التأسيس ...وكان أن اقرتحت ندوات حوارية مفتوحة بني
الكتاب وسائر املعتنني بالشأن الثقايف...
وكذا الشأن مع مجلة الطريق الجديد والحقا «مواطنون» ...منابر
قليلة لكنها شديدة الخصوصية والفاعلية سعى املثقفون من
خاللها التعريف باملبادرة وذلك االلتفاف مهد السبيل ألن تشق
الرابطة طريقها رغم العراقيل القانونية أن تفرض التعامل الجدي
مع بادرة تأسيسها وأن ال تهمل مطالبها املرشوعة – كام تعود
النظام -بل أن يستجاب لطلبها بالرفض املوثق واملعلن...ثم بعد
سنوات من التقايض يف املحكمة اإلدارية بتطوع من املحامي
الصديق املثقف «لزهر العكرمي» أن يلحق الرفض بتعالت واهية
غري مقنعة لكنها عىل كل حال تعترب خطوة يف اتجاه فرض تعامل
قانوين يحرتم إرادة الكتاب واملثقفني وال يلقي مطالبهم املرشوعة
يف سلة امل ُهمالت...
والتفاف املثقفني حول رابطة الكتاب األحرار مكنها من فرض
نشاطات متقطعة رغم املنع والحصار ...ندوات عديدة وملتقيات
بإسناد معنوي من منطامت قليلة كرابطة حقوق االنسان واتحاد
الطلبة ومنطمة التالري...ومن ذلك االرصار تم الغاء اجراء االيداع
القانوين الذي كان يعرقل الكتب ومينع بعضها ويفرض أن ينتظر
بعضها يف أقبية املطبعات اإلذن بعد أشهر – ...منارات-
7
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
()1
اكع عىل ركبتيه متاما كأفلوط ني �Plo
كأنه اآلن ر ٌ
tinالفيلسوف األسيوطي يتأمل العامل من خالل
السية يف تعاليم البهجة و
زهرة يف حديقته ّ
الجامل يف « التاسوعات « .هو كامل ال ّزغباين
الباحث عن السعادة يف ما بعد امليكانيكا ,و
يبدو أنه قد وجدها ناظرا إليها يف أفق مغلق
يبرش بالعناية اإللهية يف الح ّبة األوىل ,البذرة
الصفر ,الواعدة بالجنة األرضية ,أو لنقل تحديدا الجنة عىل األرض البوار ,يف
األرض الحجرية الضحضاح الجاحدة بنفايات البناء و اإلسمنت و شظايا القرميد
و البلور املكسور ...كامل ال ّزغباين املثقف الفيلسوف اليائس من «املشاريع
التونسية» والهارب من ضيق الفكر عىل جادة اليسار ,و من «البهيموقراطيا
التونسية» الخاصة التي تقلل من األعامر واإلمعان يف الحط من األقدار قد
تو ّجه مبارشة إىل « التدبري « ,لكنه تدبري متو ّحدٌ إىل حني ,ليعيد إلينا رسدية
االكتفاء الذايت بالنفس أو عىل األقل االقتصار يف أوقات قائظة عىل االحتفال
بالفردانية بوصفها الطريق الوعرة الوحيدة للحرية واالنفالت من النكد اليومي
الذي ال مثيل له يف تونس ,ذاك النكد اليومي الذي تح ّول إىل قيمة ال مثيل لها
يف اإلقتصاد السيايس للمعنى يف هذا املناخ العكر القرسي و القهري الذي ابتلينا
به يف هذه البالد ,ذاك النكد اليومي الذي مينعك من اجرتاح أية داللة استعالئية
النتحار فلسفي ممكن يليق بالراهن ال ّذهبي املنفرط بني أناملنا -نحن البلهاء
-كال ّزبد يف ما بعد 14جانفي.
التونسية الكربى ،يتوفّر إيجابا وسلبا عىل خصائص تجعله حاضنة
حي ذو كثافة
أوىل للمرشوع مستجيبة لدواعيه وأهدافه .فهو ّ
سكّانية عالية يوجد به عدد من املصانع واملدارس واملعاهد .لك ّن
به أيضا نسب ال بأس بها (سيكون من مها ّم الجامعة التدقيق فيها
عرب مركز الدراسات الذي سيت ّم تركيزه بالتوازي) من االنقطاع
املدريس ،يف مراحل ومستويات متع ّددة ،ومن البطالة .كام أ ّن
أبناء األحياء الشعبية عموما يعيشون حاالت مركّبة من اإلحباط
والتهميش واإلقصاء املؤدية إىل شتّى أصناف االنحراف والنقمة
والهروب إىل حلول انتحارية غالبا (اإلدمان بأنواعه والهجرة
التعصب الديني للوقوع ضحية عصابات إجرام
الرسية و/أو
ّ
وتهريب أو جامعات إرهابية) .وليس أفضل من التفاعل املعريف
الح ّر سبيال لتقليص تلك النزعات السلبية والخطرة.
أ ّما “اآلن” فنعني به ما وصلت إليه “الحالة التونسية” بعد
خمس سنوات من اندالع املسار الثوري وشتّى املظاهر املوجبة
والسالبة التي رافقته وتفاعلت ضمنه .وقد ب ّينت أغلبها أ ّن
امليض بذلك املسار إىل أقىص ممكناته وانتظارات الناس منه ال
ّ
مي ّر بالعمل السياسوي الحزبوي محدود األفق وإنّ ا بفعل نضايل
أفقي وموضعي قائم عىل التقاسم( ( )partageوالقرب (�proxi
)mitéمن أجل اإلنصات املنتبه لتمكني العدد األقىص املمكن من
الخاص
تلك القطاعات من أدوات فهم وتحليل وفعل يف واقعهم
ّ
والعا ّم عىل ح ّد سواء -....منارات-
()2
قص أظافره فهو لن يخدش إال فروة الرأس
يهمل
من
عىل
تخافوا
ال
ّ
حني تلتم ُع أو تتوقّ ُد يف ذهنه فكرة طائشة قد يح ّولها إىل حلم و
قص
يح ّو ُل الحلم إىل انتكاسة للحزن ...ال تخافوا عىل من يهمل ّ
أظافره لعله بستعملها يف التقاط حصاة أو نواة يح ّولها إىل مفهوم
...ال تخافوا عىل من درس جول دلوز Gilles Deleuzeيربّ ُت عىل
الحجر بالتحنان حتى يحوله إىل فكرة ثم إىل مفهوم ...ال تخافوا
عىل من خرب أرسار النسغ و العروق و الجذامري ( )Rhizomes
التي هي عروق العروق الالمتنهية يف تفرعات األفكار واملفاهيم و
تأثرياتها املتبادلة ...ال تخافوا عليه ...هذا الكامل ال ّزغباين و هو
الخفي
يكتفي بنفسه عائدا إىل تربة األسالف يقلب أدميها و دفأها
ّ
وقض فيها ما أمكن من سعادة االكتفاء الذايت ُمبتهجا بن ّوارة
و يُ ُ
تح ّولت إىل مثرة ستتحول إىل ما يشد الكائن ألمل ممكن ضد اليأس
وضد العقر والجحود و ض ّد ما أفسده عليه و علينا املتهافتون يف
هذا البلد ...قد يسأل سائل هل يستأهل مربع الزغباين األخرض كل
هذا الحديث ؟ أقول أجل ...ألن ما قام به ال ّزغباين بيان عميل عىل
ما ميكن أن نقوم به من أجل مجابهة هذا الخراب املع ّمم يف البلد
,هذا البلد الذي حلمنا كجيل بأن يكون أكرث بهاء و رحابة و أقل
جحودا و تهميشا ,و ألن « زغبانيا « فكرة أو نظرية فبامكانها أن
تكون صالحة بدءا بقدرة صاحبها و هو فيلسوف سارد عىل تفعيلها
كامنيفستو ,بيان مستقبيل ملقرتح عميل .
()3
كامل ال ّزغباين ليس من الجيل املرتفّه أو املرتف الذي بإمكانه أن
يقض العطلة يف « املنزل الريفي « أو يف منتجع خاص ,و ال هو
ّ
من يسار أخرض إيكولوجي تنصل عن طواعية من «طاوية» النضال
يف الرصاع الطبقي ,لكن املؤكد أنه تخلص من بؤس االيدولوجيا
و سخافة الشعارات و اتجه بحدس أكرث صفاء ووضوحا يف تدبري
الخاصة و العامة املختزلة يف اجرتاح األرض الضحضاح
شؤونه
ّ
يف مربع أريض وعر أمام سكناه كان ,كام ذكرت ,مصبا للنفايات
ليحوله إىل « زغبانيا « ج ّنة صغرية يوزّع ُصورها عىل الفايس بوك
كعالمة يائسة عن سعادة ممكنة ,لكنه يتباهى بدهشة ال متناهية
كمن اكتشف النار ألول م ّرة ...تلك هي ”زغبانيا“ ,هكذا يسميها
كامل مازحا ,لكنها يف الحقيقة مترين عىل اجرتاح « اليوطوبيا» أو
طوباويته الخاصة ,فــ ”زغبانيا“ يف الحقيقة ليست إال مفهوما عمليا
للتدبري ,شكل من أشكال املقاومة التي يبتكرها املثقف املطرود
من ثقافة القطيع و تربية الجموع لريتب أولويات شؤونه الخاصة
كمواطن صالح بشهادة دكتوراه يف الفلسفة و راتب بروليتاري ال
يفتق عبقرية و ال يرتّق كرامة .
لكن « زغبانيا « هذه هي انكفاء هرمي من أجل مت ّدد أفقي
جذموري ممكن ألنها مرشوع فردا ّين ميكن استيال ُدها ال استنساخُها,
يف مجاالت شتى مفتوحة عىل التدبري ” ...زغبانيا ” هي جمهورية
« مهاباد « دون أن تكون كرديا لكن بإمكانك أن تكون فردانيا من
أجل فردانية جامعية ممكنة ” ,زغبانيا ” استعارة لفكرة املبادرة
رسي
النفعية الغائبة اليوم يف فضائنا العمومي ,وهي أيضا مترين ّ
إلدارة الشأن الذايت تساوقا مع صورة املثقف النابتة يف « تدبري
املتوحد « الباجي ( ابن باجة ) ,أو هي التغيري يبدأ من عتبة الباب
السكني” .زغبانيا ” ح ّجة فردانية عىل مشاريع التنمية الظاهرة
ّ
الخفية ,الخطية و املوازية يف هذا البلد الذي أصبح فيه تدشني
رشكة تقشري الفواكه الجافة انجازا نوعيا يزاحم رهانات التجارة
العاملية .
()4
هل مثة اليوم مجال لليوطوبيات يف ظل هذا االنحصار ال ّرهيب و
الرتاجع املتزايد لهامش الحريات واالبتكارات واإلبداعات؟
هل بإمكان « املثقف التونيس « اليوم الذي يجد نفسه عىل هامش
الهامش ,خارج حسابات السياسة و مدامكها و األحزاب و مزالقها
و التّجمعات وتهافتها ,أن يرسم عىل األقل بقلم الرصاص عىل الورق
جزيرته املشتهاة وجمهوريته الخاصة بعد أن تم طرده بتعسف من
شؤون الجمهورية الثانية ليحل محله
السمسار
ّ
والشّ عبوي
واملافيوزي
وال ّزبوين
والخبري
و الفقيه
واملستخري (من االستخارة)
ومحرتفو « املجتمع املفتوح»؟
لكأن التاريخ يف حقيقته ال يتحرك يف بالدنا إال يف منطق هذا «الال
مكتمل األبدي « الذي يُعي ُدنا كل م ّرة إىل املربعات األوىل التي
تخفي بدورها مربعات أكرث قتامة خلناها قد ذهبت بال رجعة,
و عليه فإن هذا « املثقف» التونيس املستقل مضطرا يف لعبة
عبثية أن يعيد أسئلة مالذه املمكن خارج البذاءة و الرداءة و
االمتهان الرخيص بثمن خسارته الوجودية املحضة مستعيدا أسئلة
ما قبل الثورة الكوبرنيكية فيدرك أن الكرامة اإلنساني ة �Homi
nis dignitateكمفهوم ابتدعه بيكو دي مرياندوال Jean de la
Mirandoleليس إال مفهوما متخيال استلهمه صاحبه من ثقافة
عربية متخيلة ُر ّوات ُها ب ّحارة أو ت ّجار عرب متخيلون عىل ضفاف
أوروبية متخيلة ...إن حجم االرتداد واالنحطاط الفكري و األخالقي
والنكوصية املعرفية التي شهدها اليوم مثال يف استعداء مقرتحات
تقرير الحريات الفردية واملساواة عىل املجتمع التونيس استكامال
ملساره اإلصالحي لهو أمر مفزع حقا ومخيف يدفعك من حيث ال
تشعر إىل االستكانة و التقوقع و االنخراط يف نومة الدببة القطبية .
لكن يخطئ من يظن أن ابتكار « طوباوية « ما ,هو هروب أو
انسالخ عن الواقع ,و يخطئ من يظن أن ابتكار الطوباوية انخراط
يف التوحد املريض أو الرسية ,بل عىل العكس متاما الطوباوية هي
وعي حاد بالواقع ومعاناة دؤوبة يف محاولة تغيريه ,و الثابت ملن
يطلع عىل « اليوطوبيا « Utopiaلتوماس مور , Thomas More
سيدرك أن كتابه استعارة عىل إمكانية ميالد دولة الحرية البديلة
عىل دولة الجزيرة الربيطانية الحالكة امللتفعة باألسامل القروسطية
رغم انطالق تباشري عرص األنوار يف نهاية القرن السادس عرش ...
و أعتقد بجدية أن حان الوقت اليوم يف هذا السديم التونيس أن
نتجرأ عىل اإلفصاح عىل « طوباوياتنا « بشكل عميل و نظري .
()5
أنا شخصيا مل أزر « زغبانيا « رغم دعوة كامل املفتوحة لزيارتها من
أجل حديث مطول عن « اليوطوبيا « و عن « السعادة األرضية « و
عن « الجامعة الشعبية « و عن « األنغواصة « و هي أقىص درجات
ال ّرعب التونيس ,لكن مجرد ترصد أخبارها كمتلصص يحفزين عىل
التفكري يف ما ميكن تدبريه من « طوباويات « عملية ممكنة ,عىل
األقل عىل مستوى التفكري و التخمني و التأمل و الكتابة و حتى
الرثثرة .
و ال أدري وأنا أفكر يف « اليوطوبيا « أو يف ” زغبانيا ” أدرك أن
التاريخ يتق ّدم ألن بذورا طوباوية زرعها بعض من املتفردين كانوا
دامئا عىل الهامش فتحولت يف تربتها إىل أدغال ,و ال أدري ملاذا أفكر
اآلن يف ما بذره الطاهر الحداد و محمد عيل الحامي و الشّ ايب يف
الرتبة التونسية لنعيش اليوم كل هذه الفرص الضائعة التي تعيدنا
إىل الوراء النكويص ...رمبا ألننا انقطعنا عن أن نكون طوباويني
مثلام هو حال متوحد « زغبانيا « .
8
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
9
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
محور خاص بالفقيد ...
محور خاص بالفقيد ...
حوار يف العمق حول ّالثقافة واإلرهاب مع كمال الزّغباني
* يحيى املبدع بالكلامت والرؤى واألفكار...خلود أبدي يتقد لحظة غياب
الجسد...كامل ككل املبدعني عاش من أجل الرمز والقيمة واملعنى ...تلك
اإلعتبارات املتسامية التي تقاوم املوت والفناء...من أجل الحب والعدل
والخري والحرية...منارات تستعيد لحظات التألق وهي كثرية يف مسرية مبدعنا
...وتنرش حوارا محمال بالدالالت وهو من الحوارات األوىل يف سلسلة الحوارات
– منارات-
والسعي إىل الكامل:
كامل ّ
أبدا ،مل يخل لقاء من لقاءاتنا وال جلسة من جلساتنا ،عىل امتداد 25سنة
صداقة ،من الطّرافة وال ّتجديد وتكسري القواعد ومن كثري من الجنون .وهكذا
سيظل عالقا بذاكريت ما حييت.
كان لقاؤنا مبناسبة هذا الحوار الّذي ّ
فقد ك ّنا اتّفقنا من قبل م ّرات عديدة عىل االجتامع إلجرائه ولكن مل يتس ّن
لنا ذلك ،ألسباب عديدة ،إالّ قبيل 3أيّام من دخول الجريدة إىل املطبعة.
وحني التقينا أخريا يف قلب العاصمة ،وانتحينا ركنا قص ّيا يف فضاء ال تنزل
األحزان ساحته ،حدثت مفاجأة أربكتني شخص ّيا ألنّه كان ميكن أن يبطل
الحوار بسببها ويضط ّرنا -نحن أرسة تحرير املنارات -إىل تأجيل العدد الجديد.
السابقة والالّحقة ،كنت أعتمد
خالل هذا اللّقاء الجميل واملمتع ككل ّلقاءاتنا ّ
عىل تقنية ال ّتسجيل بلوحتي ،وبني مفصل وآخر من مفاصل الحوار ،كنت
أوقف ال ّتسجيل لنرتك العنان لتداعياتنا الح ّرة ،وألتث ّبت من أنّني قد س ّجلته
بالفعل قبل استئناف الحوار من جديد ...وهكذا دواليك عىل امتداد خمس
ساعات كاملة كانت كلّها نقاش وحوار وضحك ونوادر واستحضار لذكرياتنا مع
وخاصة منهم عبد الحفيظ املختومي وسنان الع ّزايب وشكري
أح ّبتنا ال ّراحلنيّ ،
بلعيد وعامد الحاج سايس ،وحديث عن مشاريع كتاب ّية واقرتاحات ملجابهة
المي واالنحسار اليسار ّي وال ّتقدّمي يف بالدنا ،ح ّتى فرغنا من الحوار
امل ّد الظّ ّ
مع فراغ آخر د ّن من دنان ديونيزوس.
حينها ،طلب م ّني كامل أن يعيد مشاهدة املحور األخري من حوارنا ،فضغطت
عىل ز ّر ال ّرجوع إىل الخلف ،وسلّمته اللّوحة وانرصفت لقضاء حاجة .عندما
عدت إىل طاولتنا ،نظرت يف وجه كامل فرأيت فيه تعبرية غريبة ،مل تكن
استغرابا بالضّ بط وال المباالة متاما ..كانت أقرب إىل ال ّتسليم بيشء رهيب
حححح ،ال ّتسجيل
ْ
وال ميكن ردّه ..نظر يل بدوره وقال يل بنربة شبه قدريّة «بَ
طار» ..ظننته ميزح يف البداية ،ولكن حني ك ّرر ما قاله منذ حني ،ساورين الشّ كّ
ح ّتى تأكّدت من «املصيبة» بنفيس حني أخذت اللّوحة وبحثت عن ال ّتسجيل
ومل أعرث عليه ...كنت محبطا متاما حني قال يل إنّه قد ضغط سهوا عىل ما
يبدو عىل ز ّر الحذف ،ث ّم حاول أن يه ّون ع ّيل األمر بأن طلب م ّني أن أرسل
ّ
سيتول ال ّتفاعل معها حني يعود إىل البيت ويرسل يل
له األسئلة مكتوبة وهو
إجاباته مكتوبة جاهزة...
وبالفعل ،مل ينم كامل ليلتها ،كدأبه يف أغلب ليايل عمره ،وأرسل يل إجاباته يف
الصباح الباكر ،وبدوري أرسلتها إىل صديقي مح ّمد ّ
الجابل بعد أن راجعتها
ّ
وقمت بتنظيمها وتقدميها.
ولك ّني ،بعد 3سنوات من ذلك اللّقاء ،مازلت أتساءل إىل اآلن« :هل سهوا
حقّا حذف كامل ال ّتسجيل ،أم أ ّن رغبته يف الكامل الّتي أعرفها عنه هي الّتي
جعلته يحذفه عمدا؟؟؟؟».
حاوره« :منترص الحميل»
مزيج رائع ومبدع هو بني املاركسيّة وال ّنيتشويّة وفلسفة التّفكيك ،متع ّدد املشارب
واالهتاممات واالختصاصات ،عميق يف تحليله ،رشيق ساخر يف أسلوبه ،رائق وراق يف
تخييله ،فاعل يف محيطه كتابة وجسدا وجنونا ،قلق كأ ّن ال ّريح تحته ال يستكني لثابت
وال يستق ّر يف مكان .مشاكس للمسلّامت ،مه ّدم للوثوقيات ،محفّز غريه عىل االنهامك
يف الفكر واالنهامم باآلخر وبالذّات .ن ّحات مفاهيم ،دبّاغ أفكار ،صبّاغ مشاريع من
روحه وعقله وتربته .ح ّر حتّى الثّاملة ،مرتبط بشعبه من أعىل رأسه حتّى أخمص
قدميه .هذا هو بإيجاز مخلّ صديقي وعشريي كامل ال ّزغباين الّذي تكفي ّربا لل ّداللة
عىل قيمته الفكريّة واإلنسان ّية شهادة ال ّزعيم الشّ هيد شكري بالعيد عنه قبيل اغتياله
ببضعة أيّام ،حني ذكره يف سياق حديثه عن املفكّرين واملصلحني التّونسيني الّذين قارعوا
مجتعي قائم عىل العدل والح ّريّة والتّن ّوع والتّع ّدد
ّالمي ودافعوا عن مرشوع
ّ
الفكر الظ ّ
واالختالف....ولنئ طالت يد الغدر اإلرها ّيب هذا ال ّزعيم فأردته شهيدا فإ ّن كامل ال ّزغباين
املبشين بالعودة
مازال ينحت وجوده املبدع ويع ّري سوءات ومؤامرات وخيانات كلّ ّ
إىل الوراء أو املهللّني لحداثة غفل من إنسانيتها ،سواء بسواء ،وذلك رغم كلّ ما يتع ّرض
له من تهديدات ومضايقات من هناك ومن هنا ....لهذا تواعدنا وألجله انتحينا مكانا
قصيّا ،وكان ثالثنا دينوزيس.
بعيدا عن التحليالت السطحية والتبسيطية لظاهرة
اإلرهاب السائدة في اإلعالم التونسي اليوم،
ومحاولة لفهمها في العمق ،هل لك أن تكشف
لنا عن آليات اإلرهاب؟ كيف يمكن أن يتحول إنسان
«عادي» إلى إرهابي؟
اإلرهاب ظاهرة مركّبة ومعقّدة ،من جهة بواعثها وأسبابها ،كام
من جهة البنى الذهنية والنفسية والحضارية واالجتامعية التي
كل مراحل
تنمو ضمنها ومتارس أعاملها التدمريية .لقد عرفت ّ
كل م ّرة
التاريخ اإلنساين مثل هذه الظواهر وإن كانت تتل ّون ّ
بتلوينات جديدة .إ ّن املرتكز الذهني والنفيس األ ّول للظاهرة
اإلرهابية ،لتح ّول إنسان “عادي” إىل “إرهايب” كام قلت ،هو
ذلك اإلميان –الذي ال أسباب عقالنية له -بإمكان وجود حقيقة
مطلقة وبإمكان امتالكها و”التبشري” بها ونرشها وفرضها بالق ّوة،
عرب “فتح” املناطق والبلدان التي ال تؤمن بها ،أو حتّى تلك التي
تؤمن بها ولكن “زاغت” عنها عىل هذا النحو أو ذاك .هذا اإلميان
يرتبط غالبا باملق ّدس ،املق ّدس الديني تحديدا (حتّى إن وجدت
بعض مظاهر أخرى ،إيديولوجية مثال ،تتّخذ تلوينات من القداسة
الدينية) ،الذي يحمل يف داخله رفضا عميقا للحياة باعتبارها
جرمية ،باعتبارها “خطيئة أصلية” .من مث ّة يصبح الجسد يف ح ّد
ذاته عبئا باعتباره مسكنا أ ّول للخطيئة .أ ّما مسكنها اآلخر فهو
العامل “الدنيوي” نفسه .من مث ّة تأيت تلك النزعة التدمريية القامئة
عىل الكراهية ،كراهية الحياة يف الذات كام يف اآلخر ،واالضطغان
( )ressentimentإزاءها .واالضطغان عند نيتشه هو ذلك
اإلحساس االنفعايل السلبي الذي يسكن عادة الكائنات املفتقرة
ملستطاعات إبداعية والتي تن ّمي بداخلها (بفعل رفض الحياة
والحب والفرح،
لكل ما يرمز إىل الحياة
وتجرميها) كراهية جذرية ّ
ّ
وعادة ما يكون االضطغان متل ّبسا باإلحساس (الالم ّربر) بالضيم.
ويزداد األمر تعقيدا ومدعاة إىل جهد تفكييك دقيق مل ّا تتلبّس
تلك األسباب الذهنية والنفسية ،عىل قاعدة رؤية أخالقوية للذات
واآلخر والعامل ذات خلفيات الهوتية وميتافيزيقية ،باعتبارات
حضارية وأخرى اجتامعية .إ ّن القهر الحضاري الذي تعيشه
الشخصية (الفردية والجامعية) العربية اإلسالمية اليوم (منذ انهيار
اإلمرباطورية العثامنية واحتالل القوى االستعامرية الصاعدة عىل
املناطق التي كانت تهيمن عليها تحت لواء «الخالفة) مثال متولّد
من رضب من الرنجسية الحضارية املجروحة :كيف لـ»خري أ ّمة
أخرجت للناس» أن تغدو عىل هذه الدرجة ومن الهوان والدونية
مقارنة بغريها من األمم؟
أ ّما البعد االجتامعي للظاهرة فهو مرتبط بتلك القطاعات الواسعة
من امله ّمشني واملقهورين ،يف األحياء الشعبية الكربى ويف املناطق
املفقّرة واملستبعدة من شتّى أشكال الحقوق االقتصادية والسياسية
والثقافية ،الذين أنتجتهم سياسات هذه الدول املرتهنة بالكامل
للدوائر االستعامرية بعد االستقالالت الشكلية التي مل تنتج سوى
نادرا حكومات وطنية مستقلّة فعليا .تلك األحياء واملناطق باتت
إذن مجاال خصبا لتنامي ظواهر االنحراف والتهريب والجرمية
كل
التعصب الديني الناتج عن اليأس من ّ
املنظّمة ،إىل جانب
ّ
إمكان ّ
كل الطاقات الحيوية
لرتق اجتامعي ،فيت ّم بواسطته تحويل ّ
إىل طاقات تدمريية للذات كام لآلخر.
ذكرت أن اإلرهاب ليس ظاهرة حديثة بل قديمة جدا،
فما الذي جعلها تتحول منذ بضعة عقود من الزمن إلى
وباء عالمي كوني؟
فعال .وهذا بعد آخر ينضاف إىل تلك املذكورة آنفا :خصوص ّيةكل سلطة
اللحظة التاريخية من تط ّور الرأساملية العاملية .تحتاج ّ
هيمنية دوما إىل عد ّو تص ّوره عىل درجة من الق ّوة ومن «الخبث»
الذي يجعله خطرا مطلقا عىل البرشية جمعاء .وتوظّف ذلك
الخطر ،والخوف املتولّد عنه ،يف تربير سياساتها عىل شتّى األصعدة
كل األفراد واملجموعات التي تناهض وتقاوم تلك
ويف تخوين ّ
سلمي .إىل حدود نهاية
ى
ت
ح
أو
عنيف
عىل
الجائرة،
السياسات
ّ
ّ
الثامنينات ،كان ذلك العد ّو الرضوري هو «امل ّد األحمر» .ومع
انهيار ما كان يس ّمى باملعسكر الرشقي ،كان الب ّد من «إنتاج»
عد ّو آخر ،عد ّو رهيب وقادر عىل تهديد األمن والسلم يف العامل
ورضب منط العيش عىل الطريقة الغربية...إلخ...ويحسن طبعا أن
األقل) وغري مح ّدد املعامل
يكون هذا العد ّو غامضا (تنظيميا عىل ّ
كل املامرسات مهام
حتّى يت ّم باسم «الحرب الشاملة» عليه تربير ّ
كانت فظاعتها ومهام كانت درجة تنافيها مع املبادئ والقيم
التي ت ّدعي الليربالية الدفاع عنها .لقد وظّفت الرأساملية العاملية
تصب
مختلف تلك العوامل التي أتينا عليها منذ حني ،لتجعلها ّ
كلّها ضمن اسرتتيج ّياتها الجديدة يف الهيمنة املطلقة عىل العامل
ومق ّدرات الشعوب بعد زوال «الخطر الشيوعي» .وال فائدة يف
بكل تلك األسلحة األمريكية واملع ّدات
التذكري ،تدليال عىل ذلكّ ،
كل م ّرة لدى اإلرهابيني ،ناهيك
والتجهيزات التي يعرث عليها يف ّ
عن شتّى أشكال الدعم واالحتضان التي حظي بها زعامء الحركات
أسايس مع
املسمة زورا «معتدلة» والحال أنّها يف تناغم
اإلسالمية ّ
ّ
التنظيامت األش ّد غل ّوا وعنفا.
يرى سامويل هنتنغتون ،هذا الخبير في مجلس األمنالوطني األمريكي ،في كتابه «صدام الحضارات» سنة
1996أن الشعوب ستتحد مستقبال حسب توافقاتها
الثقافية الحضارية ،وأن الصدام بين الحضارات ال مفر
منه...أال يعتبر هذا الموقف -الرؤية مؤسسا لما صار
يعرف اليوم بصناعة اﻹرهاب؟ أي أساس العولمة
الليبرالية المتوحشة؟!
هذا بالضبط ما كنت أحاول رشحه إجابة عىل السؤال السابق:إ ّن «مفكّرين» مثل راولس وفوكوياما وهنتنغتون وغريهم مكلّفون
كل م ّرة مت ّر فيها الهيمنة
بصياغة القوالب النظرية الجديدة يف ّ
الرأساملية عىل ثروات العامل ومق ّدرات الشعوب من مرحلة إىل
أخرى .ينتج هؤالء الفالسفة رضبا من «الرأسامل املفهومي»
(التعاقدية الجديدة...نهاية التاريخ...رصاع الحضارات...إلخ ).التي
وتوسع ومزيد
ترسخ يف العقول املتلقّية رشوط استدامة الهيمنة ّ
ّ
طغيان النظام الرأساميل عىل األصعدة االقتصادية والسياسية
والثقافية واإلعالمية.
تو ّقفت عند األبعاد الحضاريّة والنّفسيّة لظاهرة
اإلرهاب ،فماذا لو تحدّثنا بأكثر تفصيل عن العوامل
السّوسيولوجيّة .كيف تفسّر مثال المفارقة التّالية
وهي أ ّن عددا كبيرا من التّونسيين ممّن التحقوا
بالجماعات اإلرهابيّة غير المؤمنة بالدّولة المدنيّة
والحداثة هم من خرّيجيّ مدارسنا المدنيّة أو
الجمهوريّة؟
أبناء املدارس الحداثيّة م ّمن اعتنقوا هذه العقيدة التّكفرييّة
الحضاري .فانطالقا من
اإلرهاب ّية هم من تح ّدثنا عنهم يف البعد
ّ
النجسيّة الجامعيّة والفرديّة املجروحة ،تجعلهم يعتربون
فكرة ّ
أنفسهم ضحايا لنظام يسحق مرجعياتهم ال ّنفس ّية والحضاريّة
فيامرسون عليه وعىل ذواتهم أيضا نوعا من العنف األقىص فيصبح
املوت بال ّنسبة إليهم هو الهاجس الطّاغي .مبعنى أن التّاناتوس le
tanatosأي ال ّرغبة يف املوت هي الّتي تح ّركهم أكرث من إيروس
Erosأو بيوس Biosأي من ال ّرغبة يف الحياة .لك ّن الظّاهرة
األخرى امله ّمة الّتي الحظها الكثريون لكن الب ّد من تفكيكها هو
انتامء عدد كبري ج ّدا م ّمن يلتحقون بهذه العصابات اإلرهاب ّية
ويقع انتدابهم وتكليفهم بعمليات انتحاريّة إىل األحياء الشّ عبيّة
واملناطق املفقّرة واملقص ّية .فاملجموعة الّتي قيض عليها مؤ ّخرا يف
بن قردان ينتمي أغلب عنارصها اإلرهابيّة إىل األحياء الشّ عبيّة
والسيجومي..
كحي التّضامن واملنيهلة ّ
املحيطة بتونس العاصمة ّ
هؤالء هم أناس قد فقدوا األمل ومل يجدوا يف ال ّدولة التّونسيّة
عرب تاريخها الحديث ومنذ عهد البايات غري االستبعاد والتّهميش
سيايس ومن املشاركة يف الفعل
أي قرار
واإلقصاء بل أبعدوا متاما من ّ
ّ
كل حقوقهم االجتامع ّية واالقتصاديّة
يايس وحرموا كلّ ّيا من ّ
ّ
الس ّ
بالضورة إىل
الحق .هذا ما يفيض ّ
الحق يف ّ
بل مل يكن لهم أصال ّ
تنامي هذا الشّ عور باالستبعاد وعدم االنتامء إىل هذه األرض وهذا
املجتمع الّذي يعيش فيه هؤالء األشخاص عىل جميع املستويات
والصحيّة.
االقتصاديّة واملعيشيّة واالجتامعيّة والثّقافيّة واملعرفيّة ّ
هكذا تصبح مرجعياته مرجعيات أخرويّة ضف إىل ذلك الحركات
اإلسالمويّة الّتي ت ّدعي االعتدال والوسطيّة الّتي تشتغل بتسارعات
مختلفة .فهذه األخرية تركّز أنشطتها يف جوامع يف أحياء شعب ّية
وتنصب أميّة من أكرث ال ّناس تش ّددا يف نفس الوقت
وتسيطر عليها ّ
اإلعالمي ال ّرسمي بخطاب
الخطاب
مستوى
عىل
الّذي تنطق فيه
ّ
وعرصي الخ...
ووطني
معتدل
ّ
ّ
إذا كان القهر االجتماعي والنّفسيّ من العوامل
األساسيّة وراء الجنوح إلى اإلرهاب فماذا عن القهر
الوطنيّ ،وإرهاب الدّولة؟ كيف نميّز بين التجاء
مجموعات ما إلى العنف القاتل لفرض عقيدة مّا على
بقيّة مكونات المجتمع والتجاء شعب مّا كالشّعب
الفلسطينيّ مثال إليه لمقاومة المستعمر من أجل
التّحرّر خاصّة أمام عدم اعتراف أغلب الدّول الغربيّة
في تشريعاتها بحقّ المقاومة؟
بالفعل ،كانت فرنسا عىل سبيل املثال تنعت املناضلني يف تونس
والجزائر باإلرهاب (الفالّقة) ألنّهم ميارسون عمليات «تقتيل» ض ّد
بعض املع ّمرين أو الجنود م ّمن احتلّوا أرضيهم .إذن تصبح كلمة
كل طرف من أجل ابتذال
اإلرهاب نفسها كلمة غامئة يستعملها ّ
اآلخر وتدنيسه وتجرميه حتّى لو كان هذا اآلخر يدافع عن قض ّية
الوطني .لكّن من الجهة األخرى نجد
نبيلة مثل قض ّية التّح ّرر
ّ
الوطني
مناضلني فرنسيني أنفسهم كانوا يساندون حركة التّحرير
ّ
وطني بل وساهموا يف
يف الجزائر عىل اعتبار أنّها حركة تح ّرر
ّ
العمليات العنيفة ض ّد املستعمر .ففي اللّحظة الّتي تشعر فيها
السبل متاحة ومرشوعة من أجل
بأ ّن وطنك مغتصب تصبح ّ
كل ّ
تحريره .وهذه مقاومة وليست إرهابا كام يعتربها املستعمر
لتجريم املقاومني.
هل يعني هذا أ ّن القتل كفعل نفي للحياة يكون في
حاالت معيّنة مشروعا وفي حاالت أخرى مجرّما؟ أال
يتناقض هذا مع روح التّفكير الفلسفيّ واألخالق
الفلسفيّة المدافعة عن الحياة كقيمة غير قابلة
للنّقاش وعن الحقوق اإلنسانيّة السّامية؟
السلم
بطبيعة الحال إ ّن الغاية القصوى من فكر الفالسفة هو ّ
الصورة املثال ّية
والتّعايش .لك ّن التّاريخ ليس ج ّنة وعىل هذه ّ
اليوتوب ّية .إنّه أيضا رصاع ونزاعات فال ميكن أن تكون متسامحا
إزاء من اغتصب أرضك وحقوقك وخريات بالدك وإالّ فإنّك تقبل
بالهوان والذ ّّل وبأن تكون مستعبدا .انطالقا من هذا فإنّه منذ
اللّحظة الّتي تصري فيها تقايس من استعامر واستعباد لك ولشعبك
الحق يف أن تخرج عىل ذلك ال ّنظام وأن
ولخريات بالدك يكون لك ّ
األسايس
املبدأ
ن
أل
ر
ر
ح
ت
ال
أجل
من
بكل الوسائل املمكنة
تقاوم ّ
ّ
ّ ّ
ّ
واملق ّدس الوحيد يف تاريخ البرشيّة هو الح ّريّة واالستقالل ّية.
في هذا السّياق يقول جون بودريا ر �Jean Boudril
- lardوهو ّ
مفكك للعولمة وللعنف الّذي تمارسه -
في مقال مشهور بعنوان «روح اإلرهاب» نشره في
صحيفة لوموند بعيد أحداث 11سبتمر « 2001إنّهم
هم (يعني اإلرهابيين) من قاموا بهذه األحداث
10
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
11
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
محور خاص بالفقيد ...
اإلرهابيّة لكنّنا نحن (ويقصد الغرب اللّيبراليّ) من
أردناها» .أليست العولمة اللّيبراليّة إذن شكال من
أشكال اإلرهاب؟
مث ّة أشكال متع ّددة لإلرهاب .فإرهاب ال ّرأسامليّة املعوملة كام
تح ّدثنا عنه يف البداية يف أبعاده الثّالثة األساس ّية من سلعنة
يل وثاوي من اإلرهاب.
وتنميط أو رقمنة وتبهيم هو شكل داخ ّ
أن تنتج هذه العوملة جملة من اآلليات الّتي متحو وتفسخ بها
كلّيا خصوصيّة وفرادة وإبداعيّة أفراد أو مجموعات فهو شكل
من األرهاب .وأن تقيم نوعا من املق ّدسات مثلام تفعل ال ّدوائر
اإلمربياليّة مع ما يس ّمى «دولة إرسائيل» باعتبارها مق ّدسا
ومنوذجا وواحة من ال ّدميقراطية وسط صحراء من ال ّدكتاتوريات
والتّخلّف هو أيضا شكل من اإلرهاب املرتبط بالعوملة .ومن مث ّة
كل شخص ينتمي إىل هذه «ال ّدولة» يصبح مق ّدسا وتكون
فإ ّن ّ
قيمته مساوية لقيمة آالف األشخاص اآلخرين .فيكون ر ّد فعلها
يل» .هذا ناجم
بالتّايل قتل ألف فلسطيني مقابل فرد «إرسائي ّ
الصهيو ّين كيان مق ّدس
عن خلق صورة معيّنة هي أ ّن الكيان ّ
باسم ما كان قد تع ّرض له من محارق أو استثناء أو معاداة
للساميّة الخ فيصبح للمنتمني له قيمة أرفع من البقيّة وت ّربر
ّ
رشعي عن ال ّنفس .هذا إذن
دفاع
ّها
ن
بأ
ة
ي
الجامع
املجازر
تلك
ّ
ّ
شكل من اإلرهاب يقوم عىل إنتاج تفاوت عىل مستوى االنتامء
معي يعطيه قيمة مضافة
لألشخاص من منطلق انتامئه إىل كيان ّ
مقارنة بغريه من األشخاص.
رصح بوجود تخطيط أو اسرتاتيجيا غرب ّية
قولة بودريار ت ّ
لصناعة اإلرهاب تكون فيها الجامعات اإلرهابيّة أداة لل ّرأسامليّة
السياق أيضا يعترب سمري أمني أ ّن
العامل ّية املتو ّحشة .ويف هذا ّ
كل املجموعات والتّنظيامت واألحزاب الديّنيّة يف الوطن العر ّيب
ّ
دون استثناء إنّ ا هي ذراع لل ّدوائر اإلمربيال ّية العامل ّية ولسياساتها
ورشكاتها العابرة لألوطان .هل لك أن توضّ ح لنا أكرث هذه العالقة
وأهدافها؟
من املعلوم أ ّن اإلخوان املسلمني يف أ ّول نشأتهم يف مرص كانت
لديهم عالقات مبارشة تنظيم ّيا مع ال ّدوائر االستعامرية الربيطان ّية
أ ّوال ومع الوهابيّة الّتي كانت مت ّولهم ثانيا .إذن ال ّ
شك يف أنّهم
كل الحركات
ذراع من أذرع ال ّرأسامل ّية العامل ّية .وقس عىل ذلك ّ
اإلخوانيّة يف األقطار العربيّة مبا فيها تونس ،فهي قد نشأت يف
كل
عالقة مبامرسة هيمن ّية كانت متارسها ال ّدول يف ال ّداخل وض ّد ّ
األنفاس التّح ّرريّة والتّق ّدميّة .ففي تونس مثال من املؤكّد والثّابت
اإلسالمي الّتي صارت اليوم تس ّمى بحزب ال ّنهضة
أ ّن حركة االت ّجاه
ّ
ستوري ملقاومة
قد خلقت يف عالقة مبارشة بالحزب االشرتايكّ ال ّد
ّ
محور خاص بالفقيد ...
السبعينات .وقد ح ّدثني ال ّدكتور
امل ّد
ّ
اليساري يف الجامعة يف فرتة ّ
الشيف بواقعة لها داللة كبرية .فالحبيب بورقيبة كان يطّلع
مح ّمد ّ
عىل تحرير أفضل مقال يف الفلسفة الحائز عىل أفضل عدد خالل
السبعينات فهاله أ ّن أحدها كان مصبوغا متاما بالفكر األحمر.
ّ
السجن وبدأت الجامعة تفلت من
يف
آفاق
جامعة
كانت
حينها
ّ
البورقيبي .فاجتمع بوزرائه وتساءل عن كيفيّة
سيطرة ال ّنظام
ّ
معالجة هذه املسألة .فكان من بني االقرتاحات األساس ّية أن يت ّم
تعريب اإلنسانيات يف الباكالوريا وبرمجة التّفكري اإلسالمي للتّص ّدي
ملا يس ّمى االت ّجاهات الحديثة .ومن بني الربامج الّتي صارت تد ّرس
اإلسالم واالتّجاهات اإللحاديّة وعىل رأسها ال ّداروينيّة والفرويديّة
اإلسالمي
واملاركس ّية .ويف نفس الفرتة ت ّم تكني جامعة االت ّجاه
ّ
من مجلّة املعرفة الّتي ستطبع يف مطابع جريدة العمل ،كام ت ّم
الص ّياح الّتي كانت تالحق الطّلبة والتّالميذ
إلحاقهم مبيليشات ّ
وال ّناشطني اليساريني وال ّنقابيني .من مث ّة تك ّونت حركة االتّجاه
الإلسالمي الّتي تح ّولت فيام بعد إىل حزب ال ّنهضة الّذي كان يعلن
ّ
انتامءه رصاحة إىل تنظيم اإلخوان املسلمني رغم أنّهم يحاولون
اإلسالمي صار
اليوم إنكار ذلك .ولكن حني قوي نفوذ االتّجاه
ّ
السيناريو نفسه تك ّرر يف إفغانستان،
عد ّوا لل ّنظام
البورقيبي .هذا ّ
ّ
وفيتي
الس
د
امل
ملقاومة
طالبان
ة
ي
عود
والس
أمريكا
خلقت
فبعد أن
ّ
ّ ّ
ّ
ّ
صارتا تعتربانها عدوة وحركة إرهابيّة وهو ما يحدث اليوم أيضا
مع حركة داعش اإلرهاب ّية .إذن ،ليست هذه األحزاب والجامعات
اإلسالمويّة سوى ذراعا لل ّرأسامليّة املعوملة.
السياسة ال ّرسم ّية يف بالدنا عىل أ ّن الثّقافة هي
منذ فرتة ،تؤكّد ّ
اللّبنة األوىل واألساسيّة يف مقاومة اإلرهاب والتّط ّرف .لكن أال
ظل غياب
يصبح ذلك من باب املهاترات والكليشيهات الفارغة يف ّ
كل لسياسة تنمويّة شاملة؟
ّّ
من املؤكّد أ ّن ال ّدعوة إىل تنمية املعرفة والثّقافة والذّكاء واإلبداع
مجتمعي
باعتبارها األسس الّتي ميكن أن ينهض عليها بناء مرشوع
ّ
وسيايس جديد بإمكانه ان يص ّد هذه الظّواهر املرض ّية مثل
وثقا ّيف
ّ
اإلرهاب واالنحراف وغريهام هي دعوة صحيحة .لك ّن املحزن حقّا
والسياسة ال ّرسم ّية
هو أ ّن املنتوج الثّقا ّيف الّذي ير ّوج له اإلعالم ّ
الفولكلوري وطابع الكيتش .من ذلك
اليوم يغلب عليه الطّابع
ّ
أ ّن طريقة االحتفال مبرور ستّني سنة عىل استقالل تونس كانت
الحق الّتي ميكن أن تكون
فلكلوريّة متاما وال عالقة لها بالثّقافة ّ
ص ّدا لإلرهاب .فالثّقافة الحقيق ّية الّتي ميكنها أن تكون قادرة
باالجتامعي
عىل مقاومته هي أ ّوال املرتبطة ارتباطا عميقا ووثيقا
ّ
واملعييش يف حياة ال ّناس باألحياء الشّ عبيّة ،بحياة هؤالء املرتوكني
ّ
السياسيون إالّ عند االحتفاليات الفلكلوريّة
ّرهم
ك
يتذ
الّذين ال
ّ
البائسة أو قبل االنتخابات باعتبارهم أرقاما يف بطاقات تعريف
السلوك من تعايل واحتقار .بهذه
وأصوات تشرتى ّ
بكل ما يف هذا ّ
كل معنى إذا ج ّرد وفصل عن االجتامعي
الطّريقة ،يفقد الثّقا ّيف ّ
الحيوي املتعلّق بأجساد ال ّناس وعالقاتهم اليوم ّية فيام
واملعييش
ّ
ّ
ويظل الخطاب عن الثّقافة خطابا
بينهم ونفسياتهم ومعاناتهمّ .
إعالم ّيا فوق ّيا ومج ّرد شعار أجوف .من هنا انبثق مرشوع فكرة
الجامعة الشّ عبيّة الّتي تذهب إىل ال ّناس يف القسمة والقرب
واقتصادي ومعر ّيف وثقا ّيف وف ّن ّي
اجتامعي
واملشرتك .مث ّة مشرتك
ّ
ّ
تقاسم بني ال ّناس وأن يت ّم تثمينه والذّهاب به إىل
ينبغي أن يُ َ
األقىص دون تعايل ودون تعامل ودون تلقني ودون أيّة أبعاد
تسلّط عليهم وتجعلهم مج ّرد متلقّني مستهلكني ملنتوج ثقا ّيف
معي .كام ينبغي أن ندرك أ ّن ال ّنظام القائم
أو ف ّن ّي أو معر ّيف ّ
بكل اآلليات الّتي يشتغل بها هو أيضا مج ّرد منظومة وقع
حاليّا ّ
إنتاجها وتسويقها وتثبيتها عىل نحو أنّها تصبح نوعا من الواجهة
املوهمة بأنّها ض ّد اإلرهاب .فإذا كان من مك ّونات الحكومة
الحال ّية أشخاص تأكّد أنّهم ضالعون يف العمليات اإلرهاب ّية ويف
السالح وتخزينه وتسهيل أنشطة اإلرهابيني
تسهيل ترسيب ّ
ال ّدعويّة وغريها ويف اغتياالت سياس ّية ويف تصالح مع مافيات
تنتمي إىل الت ّجمع وورثته فكيف ميكننا تص ّور أن يكون هؤالء
ض ّد اإلرهاب؟؟ إذن ال ب ّد أن يدرك الجميع أ ّن مث ّة مغالطة
كربى يف هذا التّمييز بني أحزاب إسالمويّة معتدلة وجامعات
إرهاب ّية قادمة من الخارج .فهؤالء من إنتاج مك ّونات موجودة
اآلن يف نظام الحكم الحا ّيل يوزّعون األدوار فيام بينهم بني
متش ّدد وعنيف من جهة وبني معتدل هو يف املامرسة الفعل ّية
منخرط أصال يف تلك املنظومة التّي هي بدورها مرتبطة بال ّدوائر
ال ّرأسامل ّية املعوملة.
أنت مختص وكاتب في الفلسفة واإلنسانيات ومهتمّ
بالشّأن العموميّ وبالسّياسة في معناها الشّامل
والعامّ ومن مؤسّسي الجامعة الشّعبيّة ولكنّك
أيضا كاتب روائيّ صدرت لك مجموعة قصصيّة
«اآلخر» ورواية «في انتظار الحياة» وتستعد اآلن
لنشر رواية جديدة بعنوان «ماكينة السّعادة» .كيف
ترى دور الرّوائيّ والكتابة اإلبداعيّة ال فقط في
مقاومة اإلرهاب والتّعصّب بل كذلك في بناء هذا
المشروع المجتمعيّ واإلنساني الجديد الّذي تحدّثت
عنه آنفا؟
من الطّرائف أ ّن روايتي األوىل الّتي فرغت من كتابتها سنة
1998قد كتبت فيها أحداثا تقول بالضّ بط ما حدث يف 2005يف
سليامن .تح ّدثت عن مجموعة من اإلسالمويني تلتقي يف جامع
بنب عروس وينظّمون حركة ويستع ّدون للقيام بهجوم مسلّح
والشطة فتقع نفس األحداث تقريبا يف سليامن كام
عىل الجيش ّ
السعادة»
وصفتها ال ّرواية قبل سبع سنوات .ويف رواية «ماكينة ّ
أيضا أتح ّدث عن مجموعة من الّذين «ميارسون ال ّرياضة» يف
سمي ويصلّون جامعة
يني ال ّر ّ
الواحات ويخرجون عىل ال ّنظام ال ّد ّ
الصحراء ويتد ّربون عىل ال ّرياضات القتال ّية
وسط الغابة ويف ّ
السالح وهم أنفسهم الّذين سيامرسون فيام بعد عمليات
وحمل ّ
إرهاب ّية .كتبت هذا قبل فرتة من اكتشاف هذه املجموعات يف
السبعينات حتّى نهاية 2005
الواقع ووصفت نشأتها منذ بداية ّ
– 2006زمن نهاية أحداث ال ّرواية .مبعنى آخر ،إ ّن لدى اإلبداع
عري مقدرة عجيبة عىل
السينام ّيئ أو
املرسحي أو ال ّروا ّيئ أو الشّ ّ
ّ
ّ
يل لنبض املجتمعات ولفهم الظّواهر حتّى قبل أن
اخ
د
ال
االنصات
ّ
ّ
تحدث .كام ا ّن داخل اإلبداع ال ّروا ّيئ أو غريه مقدرة عىل التّعبري
عىل الفرادة وعىل االختالف واملغايرة يف ال ّن ّص نفسه .أل ّن يف
هذا األخري أصوات متع ّددة ورؤى مختلفة تتناقض جوهريّا مع
تلك الفكرة الّتي تح ّدثنا عنها يف البداية الّتي هي ا ّدعاء امتالك
عصب ومن ث ّم العنف األعمى
الحقيقة املؤ ّدية إىل شتّى أشكال التّ ّ
اإلبداعي يف ح ّد ذاته هو مقاومة من
واإلرهاب .بحيث إ ّن الفعل
ّ
جهة كونه يبدع من داخل رشوطه
ّ
الخاصة إمكانات وجود تذاويتّ
intersubjectivitéفيها تع ّدد وتغاير وتن ّوع ض ّد أشكال الواحديّة
بالضورة إىل تلك
واإلميان بالحقيقة املطلقة واإلطالقيّة الّتي تؤ ّدي ّ
الظّواهر العنيفة.
غوايات «الزغباني» األخرية
حسني عبد الرحيم
حيث اختلط الحلم بالكارثة!
سيتحدث القرن الواحد
والعرشين ك»ديلوز»هكذا
أعلن «ميشيل فوكو» ذات يوم
من القرن العرشين ومازلنا يف
العقد الثاين من القرن الواحد
الصامت!لكن
والعرشين
غوايات «ديلوز» الثالث تحدثت
لبعض الوقت يف «تونس»ثم
توقفت عن الحديث بفعل
أزمة قلبية يف «زغبانيا»
بضاحيةاملروج»بتونس العاصمة
«كامل الزغباين» ولد ب»حامة قابس»هو من اختارته غوايات
«ديلوز «ليتحدث بإسمها وبلسانه هو الذي عىل األرجح لن
ينطلق مجددآ بعد ان وافته املنية مساء أحد األيام من سبتمرب
يف ضاحية ال تُشبه بأى شكل «غابة الحامة» بنخيلها الوارف
وال ضاحية «سان ديني» الباريسية بحاناتها الحميمة حيث
تكلم «ديلوز» بينام كان يُدخن كام لوكان ياكل الدخان محاطآ
بتالميذه ىف «االمفاتياتر « Aالذي صار بهم ومعهم يشبه
«سقراط» املنتحر!
«أجورا»أغريقية مستحدثة وهو يف وسطها ُ
إختيار «كامل» ل «چيل ديلوز» لكتابة اطروحة جامعية
للدكتوراه يف الفلسفة ليس أمرآ غريبآ ملن ورثوا يوتوبيا حركة
1968سواء كانوا من سكان «الحي الالتيني» أو «حامة-
قابس»فوراثة الثورات املنهزمة هو أم ُر شائع بني املثقفني
!(التصدح منريڤا إال حني يحل الغسق)فأالب» ديلوز» نفسه
هو من كان املبرش ب ربيع 68ويف ذات الوقت املعلن
لنهايته يف خطاب ما بعد البنيوية وملحقاتها من تفكيكية
وعدمية جديدة التنفك أن تتجدد بإستمرار عقب كل هـزمية
تاريخيةمروعة! مل تكن نواتج « »68قد أستوعبت بعد كحركة
فكرية لتجديد أُطر النظام السائد لتُعلن نهايتها حتى من قبل
إنتحار «ديلوز» بزمان وبقلمه وعىل لسانه ويف نفس مدرجات
الجامعة التى أعلنت إنطالقها بشعار «فلنضع الخيال يف
السلطة»! ومل تكد الثورة يف تونس تبدأ حتى أُعلنت نهايتها
بانتخاب وزير داخلية بورقيبة «بطريريركآ «ورئيسآ!
كان «الزغباين» احد ممثيل شبيبة ثورية تعلقت كثريآ بحلم
تغيري شامل للحياة ودون إدراك بشكل كايف لصعوبة ذلك
دون توفر الطبقة وألحزب والتي اثبتت النتائج السوفيتية
نهاية صالحيتهم يف سياق التاريخ الذي مل ينتهي وإزاء هذا
الفراغ انبثقت السلوى الديلوزية وهي تعبري مزدوج عن نهاية
السياسة كمدى اسرتاتيجى والدخول يف «مثانينيات»الدرجة
صفر من السياسة! و»نفاذ صرب الحرية» بحسب «ميشيل فوكو
«والذي يف معناه الواضح االنتقال من سياسة اإلستيالء عىل
السلطة ل»السياسة»معاكسة السلطة!Anti-pouvoire
«چيل ديلوز» فيلسوف محرتف واستطاع التعبري عن هذا
االنقالب يف الواقع بخطاب تحلييل فلسفي اليستهدف أن يكون
الحكمة اإلبتدائية وال النهائية بل مجرد تدخل يف املنتصف!
الثاليث (فوكو -ديلوز -نيجري) مثلوا هـذا التحول من ثورة
مهزومة إلمكانيات التمرد الجزيئ غري اإلسرتاتيچي يف مجرى ال
«ال حدث»بثالثة أقانيم تحليلية هيكلية!
التستدعي الفلسفة الحديثة بدايات مؤسسة فأملهم هواإلندماج يف حركة وتظهر طبيعة العملية نفسها يف املنتصف
( ديلوز وجوتاري -ألف هضبة) ووظيفة الفلسفة ليس انتاج
املعني بل املفهوم.
الحركةاالفقية «الريزوم -الجذربون -وليست الرأسيةالشجرية-هي عملية تشكل كل جديد يف الفكر والفنواملجتمع دون جذر بل عملية إمتداد وتوزع للرغبات أفقيآ.
امللتيتود(املتنوع) (نيجري -هاردي)-التعبري التكويني الزماينللذات التاريخية الفاعلة.
الثقايف باستقالله عن السلطه وكان انتاج كامل يف هذه املرحله
غري تدريسه للفلسفة هو عمل روايئ واحد! «يف إنتظار الحياة»
وبعد الثورة رواية «ماكينة السعادة» الذي فاز بجائزة «البشري
خريف»يف معرض الكتاب وظهر يتسلم الجائزة وهو يرتدي
قميص «موش مسامح»وكذلك تحريره لكتاب تذكاري عن
صديقه أستاذ الفلسفة الراحل «سنان العزايب»(فن العرشة)
وكذلك تجميع ملقاالته النقدية بعنون( أخالط يف البهيمو
قراطية والثورة)! خالل ذلك كانت مبادرة الجامعة الشعبية
ب»سيدي حسني»والتي انسحب منها رسيعآ!
«ديلوز» وفوكو» مبرشين ومعلنني وعالمات رمزية ألزمة مركبة
ثالثية األبعاد :أزمة التاريخانية الحداثية وأزمة إلسرتاتيچية
التحرر وأزمة للنظرية النقدية!بتعبري آخر ازمة سالح النقد
ونقد السالح(«دانييل بن سعيد»-عظمة وبؤس ديلوز -فوكو)..
ومبعنى آخر االنتقال من سياسة( الشعب -الطبقة -٠املواطنه-
الحدود -السيادة) إيل ىش انتقايل عرب عنه «نيجرى-هوليداي»
ب»املتعدد»! وهى مظاهر إلفول «براديجم» الحداثة بفروعها
املختلفةدون بزوغ جديديَستدعى قبل كل شئ حدث مؤسس
مل تكونه العملية الثورية الشاملة يف 1968كام كانت الثورة
القارية !1848وهذا هو الرس يف عودة املكبوت الديني كام
أنبثق بعد الثورة اإليرانية والتى تحمس لها «ميشيل فوكو»بهذا
املعنى الفرويدي.
من املمكن إعتامد املفهوم «البهيموقراطية» كإنجاز
لل»ألزغباين» يف املجال الديلوزي النتاج املفاهيم وهو مايعني
يف املقام األول ان هناك عملية ممنهجة من نرش الجهالة
وكذلك لتحويل االفراد ملجرد تابعني محدودي املقدرة عىل
التمييز!ولكن الحركة الفعلية يف تكوينات أفقية كانت هي
املحك الفعيل الختياراته الديلوزية من حيث انتامء هذه
الحركات لطابع هو «املتنوع» Multitudesالذي يتشكل و
يتحرك أساسآ ىف شبكات افقية وليس تراتبية شجرية وهذا
هو املعنى املتضمن يف ظهوره بقميص ل»موش مسامح» اثناء
تسلمه لجائزة الرواية!
«كامل الزغباين» اىت من مكان معبأ بذكريات املتمردين
املنهزمني ف»حامة قابس» تستدعي عىل الفور ذكرى
«الدغباجي «و «محمد عيل الحامي» وآخرين معارصين
كأملرحوم»نوفل ناجح»(عشري آخر للزغباين)وهي مبعنى ما
مأساوية ورمانسية تحررية حتى حدها األقىص!
أثناء املرحلة ماقبل ثورية كان تأسيس «الكتاب االحرار
«والذي كان «الزغباين»احد املبادرين من أجل الخروج من
إحتكار» إيليت ثقايف»سلطوي لتقديم وتقييم املعنى االديب
والجاميل وللخروج من متاهة املبايعة والتأييد والتى أضحت
فعل مسئ للمثقف كذات مفكرة وعىل الرغم من النشاط
املحدود واملراقب كان لهذه املبادرة رشف إنقاذ بعض الفعل
يف تحريره وتقدميه للنصوص املجمعة لصديقه «سنان
العزايب» بعنوان «فن العرشة»يتأىت العنرص الجوهرى يف فكر
«الزغباين»والذي عرب عنه يف أحاديث اخرى مسجلة بتعبري
«العوملة التى تحول كل منا ألرقام» فالبحث عن «العرشة»
هو نقيض لعالقات نفعية وهو عودة رمزية للحامة بعالقاتها
الحميمة ويأيت بعد ذلك العمل الفعيل لتحويل خرابة مهجورة
بأملروج لحديقة غناء «زغبانيا» ل»حرية نفد صربها» ومل
تعطها الثورة أي من وعودها الوفرية ومل ينتح عنها سوى
إعادة أنتاج النظام القديم!وعىل الرغم من الخسارة مل يتنكر
«كامل» للفعل الثوري الذي اعطانا كام رصح « عىل األقل
حرية التعبري» لنقول مانقول ونحقق أحالمآ طوباوية صغرية
عىل األرض!
12
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
محور خاص بالفقيد ...
كمال الزغباني /أحمد بن صالح /فقيدا السياسة واألدب
جلّول ع ّزونة
كمال الزغباني :رحيل مفاجيء بال سابق
إعالم
تقديم:
املتحصلة عىل
كنت أعترب رواية كامل الزغباين يف إنتظار الحياة
ّ
الكومار الذهبي سنة « 2002ق ّمة اإلبداع الروايئ يف تونس
ويف الوطن العريب ،لبنائها املحكم ،ورسدها املش ّوق – ونحن
دامئا حفدة شهرزاد يف حاجة إىل الحكايات التّي ال تنتهي وتحملنا يف
أجواء غرائبيّة وعجائبيّة تسمو بنا – ولو يف الخيال إىل عوامل يف قطيعة مع
روتني الحياة اليوم ّية وإكراهاتها الرباقامت ّية – لحاجة روح ّية مغروسة فينا
تدفعنا دامئا إىل التحليق يف عامل ما فوق االحتياجات املاديّة الغريزيّة –
ألصل فينا مركّب من الروحان ّيات – وعمق النظر يف رواية كامل الزغباين
لرتكيبة الشخوص وتعقيد أبعادها ومع كلّ ذلك انسانيّتها الهشّ ة ،مع لذّة
الرسد والحيك».
كان ذلك رأيي – وما يزال – يف هذه الرواية – ق ّدمته – بحضور املؤلّف
يف مداخلة يل يف بيت الرواية يف جانفي – 2019تحت عنوان محطّات يف
مسرية الرواية التونسيّة خالل نصف قرن...
رحيل مفاجئ وبال سابق إعالم:
الجابل بعد دفن كامل:
سألت صديقي مح ّمد ّ
هل أعلمك كامل عىل عزمه الرحيل؟
نظر إ ّيل بعمق وحرية ...وبعد صمت قصري قال:
ال والله ...ال !
عيب كبري أن يرتكنا هكذا ! مبا مق ّدمات وال تفسريات كيفام تكون ! وهو
أصغرنا ! يذهب هكذا يف س ّن العطاء والخيال ،يف عمر ال 55سنة !
أليس يف ذلك إهدارا للطاقات والقدرات؟ هل نضب خياله الدفّاق؟ أم أ ّن
مخزون ضحكاته املد ّوية الساخرة من البهمولوجيا *وأصحابها وهم كثّ
اليوم قد نضب؟
ال أظ ّن وال أخالني إلّ وأنا أستمع إىل تلك الضحكات املاكرات مد ّوية
يف فضاء مقربة الجلّ ز الكبري ...نعم ،ما هي مسموعة ! أال تسمعها؟ أال
تسمعونها اآلن؟ ها هي نازلة من مكان قربه ،من أعايل الجلّ ز ،تسابقنا
إىل باب املقربة !
أرهفوا األسامع...
إ ّن البهمولوجيا تُه ّدد البالد باإلبتالع..
يقول كامل الزغباين عن زمن كتابة جزء من نصوصه زمن بن عيل:
« إ ّن الحصار كان مرضوبا عىل املنابر القليلة التّي كانت تنرش نصوصه
بسبب التجويق التبهيمي الذّي كان نظام بن عيل ميارسه عىل عقول
التونسيّني بالتواطؤ مع جهاز إعالمي منغلق وقمعي ومع وسط ثقايف
كانت تسيطر عليه عصابات من املنتفعني واملتزلّفني»*
وقد حاول كامل الزغباين التعريف الدقيق للبهامة ( )bêtiseوالحامقة
( )sottiseوالغباوة ( )stupiditéوالبالهة ( )idiotieوالسذاجة ()naïf
والكانديد ( )le candideوالصواب ( )le bon sensوالحس املشرتك (le
، )sens sommunكلّ تلك املعاين هي معاين ملطّفة للبهامة.
إ ّن كامل الزغباين أبدع يف هذا التدقيق اللغوي ليقنعنا حقّا أ ّن القاسم
املشرتك ألغلب ّية البرش هو محدوديّة الذكاء وعدم الشعور اللّ واعي
بطغيان البهامة وهو درس فلسفي كبري لنتذكّر دامئا حدودنا وقصورنا
وبالتايل تفاهتنا .ولنتواضع حقّا أمام جالل الطبيعة وجامل الورود والزهور
وزقزقة العصافري وأنّنا يف اآلخر مخلوقات «تطلق الريح» وتتغ ّوط مثل كلّ
الحيوانات – فام أبلغ هذا الدرس وما أنفذ قهقهة كاتبنا.
كاتب ممتاز:
لقد ب ّينت من قبل عبقريّة كامل الزغباين الكاتب بأمثلة عديدة ،وأريد
الرسامني اإلنطباعيّني
هنا فقط التذكري بلمساته تلك اإليجابيّة – عىل غرار ّ
تحس
تكاد
ال
فرشاة
( )Les peintres impressionnistesبرضبات
ّ
لرسوم ارتعاشة املاء وتر ّدد الضوء وهو يشء صعب يتطلّب من القارئ
استعدادا لتذ ّوق األحاسيس النافرة وتذبذب الحياة يف رعشة الهواء...
وكيف أنّه يف رواية يف إنتظار الحياة -مثل ما فعل Gustave Flaubert
حب يف رائعته Mme Bovaryفوصف لقاءا لحبيبني
حني وصف ليلة ّ
داخل عربة يج ّرها جوادان ،وكيف أنّه اكتفى بتصوير عرق الحصانني وهنا
نحن نرى كامل الزغباين يصف لقاء حبيبني مكتفيا بوصف ذوبان شمعتني
حتّى النهاية وبوصف انزالق قطرتني من خمر
ماغون Magonعىل فم الزجاجة...
القص لدى كاتبنا ،فيها عمق وإيحاء
تلك فن ّيات ّ
يعطيان الثقة لثقافة القارئ حتّى يتمتّع وينعم
بهذا األدب الرفيع.
خامتة:
فهل أعطى كامل الزغباين كلّ ما عنده عندما ق ّرر
أن يغادرنا هكذا؟
يبقى عزاؤنا أن نقرأ مبح ّبة و ٍحرف ّية وموضوع ّية
ما ترك لنا من روايات وقصص وخصوصا ما تركه
مخطوطا عىس أن يطبع حتّى نتغذّى به فن ّيا.
***
أحمد بن صالح :شعلة من نشاط
تقديم:
كان يس أحمد ،شعلة من ذكاء وشعلة من نشاط ،وكنت وأنا تلميذ يف
الصادق ّية يف ستّينات القرن العرشين ،أم ّر كلّ يوم من القصبة ،أمام مق ّر
وزارة املال ّية حال ّيا ،مع الساعة السابعة والنصف صباحا ألرى س ّيارة يس
أحمد – املرسيديس البيضاء – رابضة هناك ،فك ّنا نعلم أ ّن صاحبها –
الوزير القو ّي عندئذ وهو يتح ّمل مسؤول ّية وزارة املال ّية ووزارة التخطيط
ووزارة اإلقتصاد (الصناعة والتجارة )...يعمل منذ الفجر الباكر يدرس
امللفّات ويتّخذ القرارات قبل حلول املوظّفني ،ألنّه سيكون عليه التو ّجه
صباحا نحو شامل الجمهوريّة التونس ّية،ليرشف عىل تدشني تعاضديّة مثال
– وعند الزوال ،ال ب ّد له من تر ّؤس اجتامع شعبي عام بوسط البالد ،وبعد
الظهر عليه حضور مزمتر إحدى الشعب بالجنوب التونيس ....كان ذلك
ديدنه كلّ يوم وهو يتنقّل عرب كامل الواليات ويضع حجر األساس ملعهد
أو معمل أو جرس أو مق ّر شعبة دستوريّة*
بعض الذكريات معه:
ال يفسد الخالف للو ّد قض ّية:
كان آخر لقاء معه -رحمه الله – منذ أكرث من سنة – رأيته جالسا يف أحد
قلت له:
اإلجتامعات العا ّمة فتو ّجهت إليه – وبعد تقبيله والسالم عليه ُ
والتمسك باملبادئ والدفاع
« يس أحمد ،أنت زعيمنا ،تعلّمنا منك النضال
ّ
عنها واإلستامتة يف ذلك كيفام تكون التضحيات والتفاؤل دامئا واإلرصار
عىل تحقيق األهداف رغم العراقيل واألقوال والنقد ...ومع ذلك فقد جاء
زمن اختالفنا فيه وافرتقنا»...
قاطعني يس أحمد:
«إ ّن االختالف ال يفسد للو ّد قص ّية.
فعاودت تقبيله قائال:
« لقد علمنا تحت إمرتك يف الرسيّة والعلن ّية ومل نر منك إلّ الصرب عىل
الفرتات الصعبة ،وهي كثرية يف حياتك – ونظافة اليد املطلقة – ومل نر
الخاصة ،إنّ ا حلمك األكرب هو مصلحة تونس ال
فيك أ ّي ميل للمصالح ّ
غري وذلك منذ تولّيك األمانة العا ّمة لإلتحاد العام التونيس للشغل ،وأخذ
املشعل مبارشة إثر مقتل فرحات حشّ اد (بعد فرتة انتقال ّية قصرية ملحمود
املسعدي) وإصداعك بربنامج اإلتحاد االجتامعي واالقتصادي لتونس
املستقلّة ومحاولتك تطبيقه بعد ذلك رغم املعارضني.
مشموم بن صالح:
وكنت رأيتك أ ّول م ّرة يف جويلية 1964يف سوسة وأنت تُرشف عىل اجتامع
اصطف عدد من الطلبة
ض ّم الناجحني الجدد يف شهادة الباكالوريا وقد
ّ
وكنت أحدهم وتو ّجهت إليك بالسؤال التايل:
الجدد إللقاء أسئلة عليك – ُ
كيف لك أن تقوم بربنامج التخطيط الثاليث األ ّول – وهو استرشاف زمني
مم
لوقت مل يأت بعد – وهل ميكن تاليف املفاجآت والعراقيل املمكنة؟ ّ
يجعل نسبة نجاح هذه السياسة ضئيلة؟**
وأظهرتَ غضبا واضحا ودافعت عن فكرة التخطيط بق ّوة وبالحجج
العقل ّية الكثرية ،ضاربا املثل لعديد تجارب الدول االشرتاكية يف العامل
وخصوصا الدول االسكندينافية وقد أبقيتني واقفا أمامك ألستمع لجوابك،
وعند االنتهاء طلبت م ّني االقرتاب وأهديتني مشموم الفلّ الكبري الذّي
كان معك ! ،وكانت تلك الهديّة مجال ‹غرية» كثري من األصدقاء !
يف باريس:
وكنت – مع جمع من الطلبة – التقيناك يف سفارة تونس بباريس ربيع
وساهمت يف النقاش وذلك
1968بحضور سيادة السفري مح ّمد املصمودي
ُ
كنت شاهدته
بأن أرشت إىل املفارقة بني خطابك حول نجاح التعاضد وما ُ
قبل أشهر قليلة وأنا أزور تعاضديّة أ ّم العظام بوالية القريوان من الفرق
عب
الواضح بني الدعاية الرسميّة (خطاب السيّد الوايل) وواقع الحال الذّي ّ
لنا عنه املتعاضدون مبارشة حني قالوا لنا:
« ال تص ّدقوا الرسميّني ،نحن يف التعاضديّة ال ننال من التعاضديّة إلّ مائة
وخمسني ملّيام وكيلو ونصف سميد وأحيانا نبقى أكرث من نصف شهر
ننتظر ذلك -فنحن إىل املجاعة أقرب !!
وغضب م ّني يس أحمد م ّرة أخرى وطفق يقول ،هناك صعوبات ال
وسيتغي وجه تونس نحو األفضل.
محالة ...ولك ّننا ننظر للمستقبل
ّ
بن صالح يف السويد:
وصحبته مل ّدة أسبوع يف ستوكهومل لحضور مؤمتر منظّمة اإلشرتاكيّة الدوليّة
مع ابراهيم حيدر ربيع 1989وهناك عرفت يس أحمد مبارشة وحضور
بديهته وإشعاع ذكائه ونكته التّي ال تنتهي وج ّو األلفة واملحبّة الخالصني
ودفئ قربه وحكاياته التّي ال تنتهي عن أصدقائه يف العامل :في ّيل براندت،
مستشار أملانيا وبرونو كرايسيك ،مستشار النمسا وكرنسيك ،الوزير األ ّول
السويدي وكذلك ذكرياته مع بورقيبة وصالح بن يوسف والباهي األدغم
واملنجي سليم وفرحات حشّ اد والباي املنصف وكيف أنّه مات يف حضنه
يف مدينة بو ( Pauجنوب فرنسا)...
وبكلمة موجزة ،كان اللقاء معه،سواء يف بيته أو عند مصاحبته يف السويد،
كان ح ّيا دامئا ومرحا ج ّدا ومفيدا إىل أعىل الدرجات فكنت أشعر وأنا معه
باملحبّة والفخر واإلعتزاز***.
بن صالح يف بيتي:
زارين أحمد بن صالح يف بيتي عند خروجي من سجن بن عيل يوم 7
نوفمرب ( 1989كنت السجني األ ّول للدكتاتوريّة) ونظّم أصدقايئ :منري
الهممي حفل استقبال لطيف بتلك املناسبة حرضه كلّ من
كشّ وخ وح ّمة ّ
صالح الحمزاوي وعزيز املاطري ومح ّمد الطاهر الشايب والبشري الصيد
والتيجاين حرشة واملرحوم عبد الرحامن عبيد...
خامتة:
ورغم اعرتايض عىل بن صالح اختياراته – كتحالفه مع النهضة مثال،
ومحاولة – وهو عىل رأس حركة الوحدة الشعب ّية أن يفرض اختياراته
الشخصيّة – رغم مناقشتها جامعيّا ونقدها – [ انظر مقايل بجريدة
الوحدة :حركة الوحدة الشعب ّية والبنصالحيون فإنّنا نعت ّز بأنّنا عملنا معه
واستفدنا من تجربته وتن ّعمنا بصحبته وثقافته املتن ّوعة والعميقة.
*أزيلت كلّ تلك الرخامات عند عزله سنة .1969
**يف الحقيقة سمعت هذا النقد من طرف أيب وأخي محمود (الفالحان
أخي دخل يف علم
بدون أرض) رحمهام الله – وهام ير ّددان مقولهّ :
ّرب؟!! «
قص يل بن صالح ،عالقته الحميمة ب Erlanderالوزير األ ّول
*** ّ
السويدي مل ّدة ثالثني سنة وتواضعه وسكناه يف دار الشعب وكيف كان
يأيت يوميّا للوزارة األوىل عن طريق املرتو...
**** يف الحقيقة سمعت هذا النقد من طرف أيب وأخي محمود (الفالحان
أخي دخل يف علم
بدون أرض) رحمهام الله – وهام ير ّددان مقولهّ :
ّرب؟!! «
قص يل بن صالح ،عالقته الحميمة ب Erlanderالوزير األ ّول السويدي
ّ
مل ّدة ثالثني سنة وتواضعه وسكناه يف دار الشعب وكيف كان يأيت يوم ّيا
للوزارة األوىل عن طريق املرتو...
13
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
عيو ٌن يراد لها ّأل تبصر
ّ
المعطين عن العمل
إهداء إلى الدّكاترة وحاملي الماجستير واألستاذيّة واإلجازة
قصة :أحمد مال*
الصغرية بلهفة،ووضعها
جمع تلك الوريقات ّ
الصغري
بعناية يف محفظة صارت جزءا من عامله ّ
.ترافقه أيّام الح ّر والق ّر وتشهد عىل أفراحه
الصغرية حكاية
القليلة وخيباته الكثرية،ولألوراق ّ
يف منتهى األه ّمية فقد كان يطلب من تالميذه أن
حصة من كلّ عام درايس ،وسيان أن يكون
يكتبوا ما ع ّن لهم يف آخر ّ
هو أم هم أو مادرسوه طيلة عام درايس موضوعا لها فأصغر التّالميذ
وأدناهم مستوى قد ينبّهك إىل هنات يف درسك أو يف تعاملك أفضل
من أمهر متفقّد قد يزورك ثالث أو أربع م ّرات طيلة مسارك املهني.
السنة ال ّدراسية ...2000/2001يغادر القاعة
تنتهي آخر ّ
حصة من ّ
سعيدا ومحزونا يف ذات الوقت ،وكان مصدر سعادته لتوفّقه يف
إنهاء الربنامج وبناء تواصل إنساين مبتعلّمني سيجتازون العام القادم
امتحان الباكلوريا،وكان موجوعا أل ّن نسبة منهم قد ال يتس ّنى له رؤيتها
مجدّدا،وكان ملهوفا عىل قراءة ما خطّت أناملهم .
كانت شمس أواخر ماي تلهب املنازل واألرض والبرش بش ّواظها ،وكانت
بعض شجريات عىل جانبي الطّريق من تلك الّتي نجت من العطش
وهجامت العنز تبدو واجمة كأجساد مح ّنطة ع ّن لخرباء علم األحياء
إيقافها،وكان الطّريق شبه خال فال سيارات وال د ّراجات ،وعندما اقرتب
من مخبزة الشّ ارع ال ّرئييس رأى بعض صبية يخرجون منها مح ّملني خبزا
ساخنا أو يلجونها وجلّهم ممسك قطعا نقدية مؤكّد أنّها تع ّرقت بفعل
الحرارة واالحتكاك...
األكف املمسكة بخبز ساخن أو بقطع
كانوا شعثا غربا وبالريب أ ّن ّ
نقدية برائحة الفسفاط قد استعملت يف مهام أخرى كالّلعب أو العراك
أو الكتابة .ولفت انتباهه طفل يقتطع جزءا من خبزة ويقدّمه لق ّط
مرقّط صغري.
كان املشهد بتفريعاته منطيا ،ومل يقو عىل إخفات شوقه لقراءة وريقات
خطّها تالميذه.
وحني اقرتب من منزله كانت طيور الدّوري تهاجم مشمشة جارته
الصاع
العجوز كالعادة ،وقد استنتج ذلك من خالل رسب تطاير فجأة .و ّ
بني العجوز السبعينية وطيور الدّوري ليس غريبا عليه ،فحني تبسط
الشّ مس سلطتها عىل املكان وينتبذ السكّان األماكن الظّليلة تفد هذه
السموق فال أحد يستطيع اعتالءها
الطّيور املفسدة وتعتيل الشّ جرة ّ
،وتحريكها هو الحلّ األفضل للظّفر بثامرها صغرية الحجم شديدة
الحالوة.
والطّريف أ ّن جارته العجوز وطيور الدّوري يعيشان يف وئام طيلة أشهر
السنة ،ث ّم تندلع الحرب بينهام موسم املشمش،فعىل مدار العام تراها
ّ
الشسة باملاء وبقايا الطّعام ،وحني يسقط فرخ من
تز ّود هذه الطّيور ّ
عش بلون ال ّرماد ،وقد تدفع مثنا
أعشاشها الكثرية تجتهد يف إعادته إىل ّ
باهضا لذلك كأن تسقط أو تجرح أو يعاود الوجع عمودها الفقري...
فرح لعدم انقطاع املياه ،وسارع باالغتسال واالستحامم فهباءات
الفسفاط ال ّرقيقة تستسلم فقط للامء الفاتر الكثري ،وقراءة رسائل
تالميذه تقتيض صفاء روحيا ب ّوابته أن يندلق املاء عىل الجسد فريسل
األخري رسائله إىل الذّهن وال ّروح والوجدان.والينىس الشّ اب الّذي كان
السيد املسيح يوم شبّه لهم صلبه رسالة تلميذه ذات عام :
يف عمر ّ
«أريد أن أكرب برسعة ألعمل وأحمل جدّيت املريضة بال ّروماتيزم إىل
حا ّمة الجريد أو قرية املحاسن».
كان تلميذه طلعة ومل يعقه جسده الواهن عن املنافسة عىل املراتب
األوىل ،والحظ أ ّن خطّه يصبح عسري القراءة يف الشّ تاء ،وعرف بأ ّن
الصغري كان جسده بؤرة لل ّروماتيزم أيضا.
الطّفل ّ
كانت رسائل تالميذه قد خطّت عىل أوراق صغرية ،ولكن وريقة صغرية
جدّا وبحجم علبة الوقيد كانت محكمة الطّي لفتت انتباهه ،وذكّره
حجمها بتامئم كان يخطّها أحد جريانهم يف ريفهم البعيد،وكان يعيش
بالسمق ،وميكن أن يكون
عىل ما تجود به ال ّنساء مثنا لتامئم يخطّها ّ
الثّمن مالليم قليلة أو دقيقا أو بيضا أو مترا أو س ّكرا أو حطبا،وكان
تيس
االعتقاد راسخا يف أذهان األهايل بأ ّن «حروز» املولدي الكتّاب ّ
ال ّزواج ملن تقدّم به ّن العمر ،وتفتح أبواب ال ّرزق وتكرث ال ّزبدة يف الّلنب
وتج ّنب املوايش هجامت الذّئاب ،وتجعل االمتحان سهال ،ولك ّن سؤاال
أربك صاحبنا منذ غرارة صباه :كيف لتامئم املولدي أن تنفع حقّا وما
يشبه الحرب الّذي ترسم به أسامء الّله الحسنى و حروفها و رموزها
يستحرض من صوف نزخ ملبّد تتخلّله بقايا بعر ركّزها البول والعرق.
عقد مشابهة بني متائم ذلك الشّ يخ الّذي جاب بلدان املغرب العريب
الصغرية محكمة الطّي ودون
وتتلمذ عىل شيوخ وسحرة وبني الوريقة ّ
تردّد التقطها بيمناه وفتحها بصعوبة.
مفصلة عن ذلك العام
تدافعت إىل ذاكريت املخلخلة مشاهد مج ّزأة ّ
بخاصة وأنا ألتقي تلميذي الّذي مل أره منذ
بعا ّمة وذلك اليوم ّ
زهاء العرشين عام تقريبا ،فهو صاحب ال ّرسالة محكمة الطّي الّتي
استوقفتني ذلك اليوم .كتب تلميذي:
أحلم بال ّنجاح يف امتحان الباكلوريا مبعدّل جيّد يخ ّول يل االلتحاق بكلّية
الطّب لعلّني أكون سببا يف استعادة شقيقتي التّوأم القدرة عىل اإلبصار.
نجح تلميذي يف العام املوايل مبالحظة :حسن يف امتحان
الباكالوريا شعبة علوم تجريبية ولك ّنه مل يلتحق بكلّية
وتحصل عىل الدّكتورا منذ
الطّب بل و ّجه لدراسة الكيمياء
ّ
أعوام سبعة ويشتغل منذ حصل عىل اإلجازة نادال مبقهى.
مل أتع ّرف إليه يف البداية ولك ّن ابتسامته يل وسالمه الحا ّر وسؤاله عن
بلدتنا ومعهدنا جعلني أتوقّع أنّه م ّمن جمعتني بهم قاعات الدروس.
السفر فقد قضيت أزيد من عرش ساعات يف قطار
كنت متعبا من وعثاء ّ
متهالك تدحرج مساء من املتلوي بلدة البزز ال ّزرقاء والحرارة الظّاملة
وأقدم البلدات املنجمية ....كان قطارا متداعية عرباته ،وكان سريه يشبه
انسياب ثعابني سباسبنا موسم طرح أثوابها ،ففي كلّ محطّة يصل إليها
قِراءة يف ِرواية «الدجال» لشوقي الصليعي
سمرية بن مصباح
ما مييز رواية «الدجال»
أنها أ ْحيت من الذاكرة
أصواتا رشقية وغربيّة،
أصواتا ُمختَلِف َة املشارب
فصولَ ال ّرواية
أثْ َرتْ
ُ
منها ما كان ظاهرا جليّا
يَ ْنتَ ِس ُب ألَ ْص ٍل تناسل منه قدميا أو حديثا ،ومنها
ما كان خَفيّا يّ َ
هديك إليه بِلط ِْف لَف ٌظ أو تشبي ٌه أو
ترسخ يف الذاكرة وتَ َح ّولَتْ
ِعبار ٌة تستدعي َم ْرجعا َ
يف الخطاب إىل لغة ِب ْك ٍر تُ ْن ِت ُج «ال ّن َص املفرد» لوحة
فُسيفسائية نَ َج َح صاحبُها يف التنسيق بني قطعها
حتى َصارت َح َّملَ ًة لجملة من الرسائل ورغم كثاف ِة
األصوات وتن ُّو ِعها يف رِواية «الدجال» فإنها قادَتْ
وساعدت عىل َربْ ِط «مفاصل امل َ ْعنى»
السد َ
ح َرك َة َّ
بشكل يستجيب يف م َواطن لذائقة القارئ ولِ َم
تَواض َع عليه ال َن ْق ُد من ُحدُو ِد التَّ ِ
ناص وط ُرق إجرائه
يف الرسد ويُخلُّ يف مواطن أخرى بكُلِّ ذلك فرتاو َحتْ
«النص امل ُ ْف َر ِد» بني
ُسلْطة «جمع من النصوص» داخل ّ
االع ِتدال والشط ِّط.
كَشفت األصواتُ عن َولَعِ الكاتبِ بالفلسفة
ناسلُ من هذ ِه
واألُسطور ِة والفنونِ واألَدبِ فَهي تَتَ َ
ِ
األصوات يف
ال َعوالِمِ وأجىل مظاه ِر حضو ِر هذه
ال ّرواي ِة :تَ ْق ِني ُة التَ ْص ِدي ِر وهي أكرث التقنيات يف الرواية
رض فكرة أن «النص املفرد» هو يف الحقيقة «جمع
ت ِف ُ
من النصوص».
صدَّر الكاتب شوقي الصليعي رِواية «الدّجال»
بقو ٍل آلنا أخامتوفا »» Anna akhmatovaوهو
اِسم ُم ْستَ َعا ٌر للشاعرة الروسية آنا ا َندرييفنا Anna
)Andreievna » » (1866-1989ثم تَ َن َوعَتْ الرواف ُد
وتو ّزعَتْ عىل اثنني وأربعني فصال اِستدعي ِخالَلَهاَ
الكاتب مثانية و عرشين صوتاً غربيا ألدباء و ُمنظّرين
ُ
مثل ماركيز -سان جون بريس ...ورسامني كبيكاسو
وفالسفة كنيتشه مقابل أربعة أصوات رشقية وهي
محي الدّين بن عريب-إبراهيم الكو ِين وتواتر صوته
لِ ِ
يف خمسة فصول :الفصل الثالث-الثامن /الثاين عرش/
الرابع عرش والسابع والثالثني .تاله دوقَلة املنبجي –
املتنبي و أبو فراس الحمداين هذه األصواتُ امل ُ ْعلُ َن ُة
تتعالق مع مضمون ِه بشك ٍل من
يف َصدْر كّل فص ٍل
ُ
ِ
ض بيكاسو مثال لإلبالغ عن إبداع ال ّرسامة
األشكا ِل ف َح َ َ
ِ
ً
الكاتب
«شارلوت» لوحة أهدتها ابْ َنت َها َم ْريَم و َح َض
ُ
الساخ ُر يف الفص ِل الثامن واألربعني املعنون «برمية
ّ
ْس أف َُق اِنتظار
القوس» وهو ا َخ ُر ف ُُصو ِل الرواية ليك ِ َ
القارئ الذي أ َخ َذتْه ُاألحداثُ املتنامي ُة ن ْحو ما ت ََّص َو َر ُه
النهاي َة وإذا هو ليس إال يف ُحلمٍ ...
إال أن أصواتا أخرى َمبْثُوثَة ًيف فصول الرواية ترصيحا
األس» يف
عىل ِغ َرا ِر َما َردَّدتْه ُفتاة «يَ ْغل ُُب عليها َ
الصفحة الثالث ِة والسبعني ِمن الفصل الثالث عرش
امل َ َع ْن َونِ ب »:أهل الهوى» أليب الطيب املتنبّي:
وض*** إِ ْن ِمتُّ ش ْوقاً
«ما يف هَوا ِدجكُم ِم ْن ُم ْهجتي َع ُ
ٍ
َوالَ في َها لَهاَ ثَ ُن أو موظَّ َف ًة يف اِستدْالل كاستحضار
أسطورة ميديا التي خاَنَتْ َوطنهاَ من أجل عشيِقها
ما أفىض بها إىل ن ْح ِر صغرييْهاَ »....وجاء َصوتُ جورج
أمادو يف عنوانٍ لروايت ِه الشهرية «ميتتان لرج ٍل واح ٍد»
وهي نُسخ ٌة يَهب َها ال ّنا ِدلُ الشَّ غ ُ
ُوف باألدب لعامرة
الهداجي فأنْهى ق َرا َءتَها يف ِ
ّريف يف
ثالث ساعات .والط ُ
يخال املسافر أ ّن الجسم الحديدي قد ق ّرر االعتصام
وعدم التّقدّم إىل األمام وهكذا يكون حال الثعابني
أيام تطرح تلك األثواب البيضاء الشّ فّافّة إذ تصبح
بطيئة الحركة وتعلق بكلّ ما قد يصادفها من
نباتات وأشواك وحجارة وتبدأ حركاتها املعهودة
الساعات يف جيئة وذهاب.
فتتقدّم وتتأخّر ومتيض ّ
وصل القطار املحطّة الهثا منهكا وال تسل
عن حال مسافرين تعتعتهم الكرايس
الحاقدة،وسالت أرواحهم قبل أن يسيل العرق من
أجسادهم،فمسافة يقطعها قطار ياباين رسيع يف ساعة قطعها قطار
املتلوي تونس العاصمة يف أزيد من عرش ساعات ،وال أنىس تعليق أحد
املسافرين»:متوت ناس وتحيا ناس ومانوصلوش للعاصمة».
عاد القطار ليلتها لنقل املغضوب عليهم من ساكنة الجمهورية
التّونسية بعد أشهر من الغياب لعلل اجتامعية باألساس ،وأثخن
املسافرين إيجاعا يف األرواح واألجساد ،وكان الهزيع األخري من ليل
العاصمة يلملم أشالءه حني نزلت وخدر يغىش قدمني أضناهام ليل
بنكهة طَرقات الحديد .
اقرتح صديقي أن نلوذ مبقهى قريب وهناك حدث ما مل أتوقّعه :دكتور
الكيمياء طويل القامة شديد ال ّنحافة ينطق بكلمة« :سيدي» ويردفها
بجمل أوجعت وأسعدت يف آن.
نطق بعض كلامت كام ينطقها أبناء البلدات املنجميّة ترقيقا وإمالة
وتفخيام،وحني احتضنني اشتممت رائحة طني أصيل مل تفلح روائح
السيارات
السجائر والشّ يشة وعطور ال ّنساء و دخان ّ
القهوة بأنواعها و ّ
املرسعة يف إزاحتها.. .نعم اشتممت رائحة طني أم العرائس وأريافها
وسمعت طقطقات جمر يلهب أواين طينية ح ّولتها أياد نساء ماهرة
من طورها الخام إىل طور االستعامل،وكدت أرى نتف طني امتزجت
فيها سمرة مركّزة وخرضة باهتة تتناثر عىل وجنات وخصالت شعر
ومالبس تقليدية ترشح بعبق ثقافات من عربوا..
السادسة علوم تجريبية حني جمعتني به
بالسنة ّ
كان فاضل تلميذا ّ
قاعات الدّرس،وكان مميّزا يف جميع املواد .توفّ والده الّذي ينحدر
الشكة
من والية من وسط البالد التّونسية يف حادث شغل ،وقبلت ّ
العمالقة والدته األ ّمية كعاملة نظافة ،وحني نجح ابنها يف امتحان
الباكالوريا أحيلت عىل التّقاعد وغادرت األرسة وفرية العدد البلدة
يتبق لها من رابط إلّ قرب والد دهسته ج ّرافة صفراء ذات
املنجمية ،ومل ّ
يوم أربد نابت فيه ال ّرياح ال ّرملية عن الّليل يف حجب ال ّرؤية.
م ّرت سنوات كثرية وخلخلنا ال ّزمن مورفولوجيا ونفسيا ولك ّن شوقي إىل
معرفة هل سمح املارد الجبّار بأيّامه ولياليه وفصوله لتلميذي بإجراء
عملية جراحية دقيقة لشقيقة توأم قد تستعيد بواسطتها القدرة عىل
اإلبصار كان كبريا،فقد كانت يف العارشة من عمرها حني تناهى إىل
األرسة خرب موت والدها يف حادث شغل فبكته ليومني وثالث ليال ث ّم
الفص ِل
األص َوات ُحضُ و ُر ص ْو ِت الكاتبِ شاع ًرا يف ْ
هذه ْ
ِ
السادس والثالثني املعنون «يف ِضيَافَ ِة الشاعرة» وقد
َ
ِ
ِ
تفي بالو َِصال يف أ ْو ِج ال ُحلمِ :
أَنْط ََق
بتاني َم ت ْح ِ
ْ
العاشقي َ َ
ِ
الص ْمتِ
«مراك ُب الغيابِ تتَاميَلُ يف َّ
وكُلّ امل َ َوانِعِ تَ ُحولُ ب َني املاء وب َني ال ُجذُورِ»
وجاء يف ال ّرد عىل ُسؤالَِ :م ْن تَر ِان بِالنسبة إليك؟
«أن ِْت الكَو ُن وأنا يف سام ٍء ِ
منك
تغْشَ اين َد َوائ ُر ُحل ِ
ْمك
فأهت ُّز كَقاربٍ شُ ّد وِثاَقُه إىل ميناء»ٍ.
وكان الَبُ َّد ِإل ْحكامِ هذا التَّ َناغُم بني األصوات من
اِقْ ِتدَار عىل تَطْوِيعِ اللُّ َغ ِة ألدا ِء هذه امل ُ ِه َم ِة ف َجا َءتْ
اب
ص ًة للف ََصا َح ِة َسا ِخ ِر ًة ِم ّم شَ َ
لُ َغ ُة «الدجال» ُم ْنتَ ِ َ
ِ
ٍ
الس ِ
َ
نوات األخرية من عاميّة بَلغَتْ َح ّد
ال ِكتابَ َة يف َّ
َ
إِفْسا ِد َر ْونَقِ امل ْع َنى -كرتجمة شعر الشايب إىل العامية
أو رواية الغريب «أللبري كامو»ُ -م َراو َحة ًْبي الشِّ ْعريَّ ِة
وص ِف فُ ْرشَ اة األكوارال ...والعقالنية يف َمواط َن مبا
يف ْ
مل تَأْلَ ْف ُه الذَّائِق ُة يف مقام ال ِعشْ قِ كاستعامل التعبري
«من باب اإلذالل ال ّروحي والعطف الفوقي» لِ َو ْص ِف
َحالَ ِة ُم ِحبٍ ....
رصدتُه يف الفصل الثالث
و ِم َم يُولّ ُد هذا التَنا ُغ َم َما َ
العنوانِ
والتّصدي ٍر مع
والفصل األ ْربع َني من اِنسجامِ
املعاجمِ امل ُؤدِّي ِة لِ َم اِ ْختَ َزاله من معنى.
عنوان الفصل الثالث الربوليتاري الثائر صدّره الكاتب
بقول للروايئ الليبي املعارص إبراهيمِ الكُو ِين صاحب
راوية «املجوس» التي صدرت سنة 2015انشغلَ فيها
ِصا ِع الَقبَائِ ِل َعىل َز َعا َم ِة قَري ِة «واو» ولهذا االِ ْخ ِتيا ِر
بِ َ
ٌ
ِصلَة وثيقة مبا يُ َعالجه الكاتب شوقي الصليعى يف
الفصل الثالث
أصبحت تلميذة ال ّرابعة ابتدايئ عمياء.
قدّم لنا القهوة «ديراكت» قائال»:ستعجبك قهوة
تلميذك دكتور الكيمياء بال ريب وعىل الوجه
الصقيل ابتسامة مل تفلح يف إخفاء حزن دفني....
ّ
ففي 2002نجح فاضل يف امتحان الباكلوريا
وارتقى برسعة يف الجامعة التّونسية ،ورأى
السياسات العرجاء....مل يجمع
أحالمه تشفطها ّ
عرش مثن إجراء العملية لشقيقته وخرس حبيبة
أوىل مل تتح ّمل ضغط أرستها ،وأضاع ثانية أعجبت
بثقافته وانبهرت بعبقريته ولك ّن طول بطالته جعلها تنسحب فجاءة.
قال :حني صاح عبدالنارص لعويني »:بن عيل هرب» رأيتني وأمثايل
من خ ّريجي الجامعة التّونسية ننتدب للعمل وير ّد لنا االعتبار،وحني
سمعت بهيأة الحقيقة والكرامة خ ّمنت أنّنا سنكون من أولوياتها
كجرحى الثّورة علام بأ ّن عددا كبريا مل يجرح أيّام الثورة ومل يكن ثوريا...
قلت :كان لرسالتك يف آخر يوم من ذلك العام ال ّدرايس وقع عىل نفيس
وتساءلت كثريا عن شقيقتك التّوأم وهل أبرصت مجدّدا.
قال:يف بالدنا تفتح األبواب يف وجه الّلصوص وأعداء الحياة والع ّرافني
وذوي الوالء لقوى خارجية وتغلق باملغاليق واملزاليج يف وجه حملة
الشّ هائد العليا وأردف لو أخفقت يف دراستي وانخرطت يف لعبة
السياسة املوازية لكنت من األعيان ،والستطعت
االقتصاد املوازي أو ّ
مرافقة شقيقتي إىل دولة من دول املتوسط لتجري عملية جراحية
دقيقة كان ميكن أن تعيد ال ّنور إىل عينني انطفأتا حني تر ّجل والدي
دهسا.
وأضاف:إنّها لكبرية من الكبائر أن تواصل دراستك إىل آخر مرحلة يف
بالد يتشدّق حكّامها باالنتصار إىل العلم والقانون واملدنية ويسقطون
يف أ ّول اختبار ،فتتبدّى مخالبهم وأنيابهم وعنرصيتهم.
تصقّعت قهويت «الدّيراكت»ونسيت أمرها لدقائق معدودة ومل أنتبه
إىل نثار سكّر ينهمر خارج فنجان قدّمه يل تلميذي دكتور الكيمياء...
ومل يكن مساغ القهوة شديدة الربودة بأش ّد مرارة من كلامت صدع بها
الصباح...
فاضل يف ذلك ّ
وختم :لقد نسيت قواعد الكيمياء العضوية والّالعضوية والفيزيائيّة
والحيويّة ،وأصبحت خايل الذّهن من تفاعالتها وما ميكن أن ينج ّر عن
أخالطها.
....يراد ألمثال فاضل وشقيقته ألّ يبرصوا...
حاسة اإلبصار ؟
وهل بقي ما ينعش ّ
*
إحساس خاص وأنا أقرأ قصة أحمد مال بن أم العرايس ،تداعت
ذكريات تلك املدينة األجمل بناسها واتقاد الوعي فيها وعدت بذاكريت
اىل عرشيات بعيدة فيها من الحلم اليشء الكثري ،كل الود والتقدير
لتلك الربوع وأهلها ...منارات /م-ج
وما أورده فيه من مصطلحات
يَ ْغل ُُب َعليها ال ُّنزو ُع إىل «قول
الفعل» إذ يقول إِبراهيم الكوين
«الطاقة التي ينبغي أن تنفق
إلنجاز الفعل تستهلك لقول
الفعل»
ف َّغل ََب يف الفصل َمعاج َم و ِعبار ٍات
تُ َر ِّس ُخ هذا املوقف ،جاء يف هذا الفصل
السيايس -األسئلة
السياسية – ال َج َدلُ ّ
ال ِحوارات ِّ
السيايس
السياسية -الربنامج ّ
ّ
تيّا ٌر ثو ِر ّي -التَّيارات امل ُتنا ِحرة -اليمني الديني-
املاركسيّون -القوميون
الدميقراطية -إيديولوجية الحرب -اإلكراهات
التكتيكية -البُنى الفوقية
التعبري ُة األنرتوبولوجية -قصيدة ثورية -أنشطة
نضالية -االنتلجنسيا ال ِحزبية
كام أشار إىل أسامء مرجعية «سقراط» و«صخرة
الخطابة» وسيّد قطب ،تر وتسيك...
زخر هذا الفصل مبُ ْصطَل ٍ
َحات كَشفتْ ثقاف َة الطّلبة
ٍ
ٍ
واِنْدفا َعهم يف تَبَ ِّني إي ْديُولوجيات و ُم ْعتقدات فكانت
أدَا ًة لنقد َوفْ َر ِة الكالمِ واِنعدام الفعال وتَ ْر ِدي ِد
الشِّ َعار ِات دون تفكري
وص ّد َر الكاتب الفصلَ األربعني املعنون بـ مضارب
األسالف ببيت أليب الطيب املتنبي:
لوب بتطْ ِريَة ٍويف البداو ِة ُح ْسن
« ُح ْس ُن ال َحضَ ا َر ِة م ْج ٌ
غ ُري مجلوبٍ »
غَلبت عليه م َعا ِج ُم البداوة الضَّ اربة يف ال ِقدمِ َوتَضْ ِم ُني
ُصو ٍر ُمو ِغلَ ٍة يف ما أَلِفت ُه الذَّائِ َق ُة التقليدية من بَيانٍ
ومن هذه امل َعاجم البدويّة:
مضارب البدو – معمعان
الفيايف –
ُ
الفيايف -ال ّنجيبَةُ -ال َه ْو َد ُج -الرا ِحلَةُ-
القافلة
ومن األفعال املنجزةَ :ه َم َز َم ِطيَّت ُه
نصب الخيام – ي ْدقُ ْق َن األوتاد -
– ْ
َج ْندلُوهام (متحدثا عن الطِّرا ِد)
ومن التضمني قَولُه َو ِاصفًا نزول الصيادين بوادي «غري
ذي زَرعٍ» و أَ ْوبَتَهم «وقد َع ْس َع َس الليل» «تَ ْره َُق
وجوههم غ َ ََبةُ»
الفصل صور َة َوا َح ٍة اِكْت َملَ
أشاعت اللّغ ُة يف هذا ْ
لجم ِل الجنوب التونيس
َج َملُها وق َّد َمتْ صورة َ
وجسدتْه حركاتُ
الذي نَطَقَتْ به ْأصواتُ الطَبيع ِة َّ
الشُ خ ِ
ُوص وفا َحتْ ب ِعطْر ِه أدواتُ ال ّزين ِة التَقليدي ِة
التي َج ّملتْ بها النسا ُء «مريم»
َو َعلَ أَه ّم املشا ِغ ِل التي أعلنتها الرواية من خالل هذه
األصوات امل َع ِّ َب ِة عن ثَ َرا ِء ثقافة الكاتب ومن خالل
لغة قُدَّتْ بِح َر ِفية وتَ َف ُننٍ فَضْ الً َع ْن َم ْو ِهبَ ٍة َ :وضْ ُع
ش ِد
امل ُبد ِع عموما والكاتب خ ُُصوصاً و َمشْ هد «املُتَ َ ِّ
«السعداوي»
اآلبق يف ثيا ِب ِه امل ُ ْزرية» وهو البائع ّ
يرصخ « َحبْكَة للبيع» ويضع الفتة «يرجي الدفع
بالدوالر» ي ْعلِ ُن َع ْن تَ ْه ِم ِ
يش الكَاتِبِ ال َح ِّق ُمقابل
ِ
االِ ْحتفاء «بغازي» و ُمكافأتِ ِه ب َجوائ َز ال يَ ْستحقُّها بَلْ
يَنالُ َها لِام يتَّ ِصف به من تَ َزل ٍُّف و ُو ُصولِيّ ٍة ،قد يَكون
تَرجم ًة ل َواقعِ الكتابة اإلبْدَا ِعيَة يف تُون ِِس و َما ُصو َر ُة
«الرسام الكاريكاتوري الكبري» «ضيف الرشف» الذي
ْرب مل َ ْنزلَ ِة املُبْد ِع
ي ْح ِملُ وطنه يف ريشته سوى بَ ِدي ٍل أق َ
ال َح ِّق ي َنالُ َش َف التبْ ِجيِل.
14
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
ورقات فلسطينية
ما تبقى لكم أو ما تبقى لنا ؟
املثقف املشتبك :بني الخيار والضرورة
عادل سامرة
بدك تصري مثقف،
بدك تصري مثقف مشتبك.
ما بدك تشتبك،
ال منك وال من ثقافتك!
باسل األعرج
ما تبقى لكم هو عنوان الرواية الثانية من مدونة
الفقيد غسان كنفاين ،رمبا ونحن نقف عىل الحافة
الخطرة جاز السؤال ما تبقى لنا بعد عرشيات من
أحالم مغدورة غري ممكنات الصدق والوضوح ومنهام
رضورة املقاومة...نقاوم من وماذا وكيف...ذواتنا أوال
يف صلة بلحظتنا الحرجة ،كيف نخرج من دوائر العدم
واالستالب ،كيف نخرج من سلوك القطيع الخانع
التابع...كيف نخرج من العامية الفكرية مبا هي تكرار ممجوج ...
نحن أوال ثم يأيت الواقع املوضوعي ،العقل النقدي والضمري الجمعي ...
كل الذين خرجوا من القطيع – عرب التاريخ -انترصوا لذواتهم دون عناء السؤال،
طرفة بن العبد بن املقفع أبو حيان التوحيدي أبو العالء املعري ...وغريهم كثري يف
كل األزمنة ...املثقف بني الوجود والعدم بني الفردية وحدودها والجامعية وآفاقها
من التمرد إىل امللحمية و االلتزام ومنهام إىل العضوية واإلشتباك ...
مسرية شائكة ترتك شعاعا وصدى ولعل باسل األعرج يف حراكه الكثري واملثري ويف
كتاباته القليلة قد عاش االشتباك واختط سبل املمكن ...
ويف كتابه املثقف املشتبك ييضء املفكر عادل سامرة املصطلح من خالل مسرية
باسل األعرج ،ليكون االشتباك مصريا ال مناص منه لكل من آمن باإلنسان كقضية
ضمن ممكنات الحرية والعدالة يف كل زمان ومكان ...
نحن يف زمن طمس املعامل ال بد أن نكتسب الجرأة عىل مراجعات نقدية كربى فيها
شجاعة التوصيف وجرأة املواجهة « ...منارات»
يف فاتحة الكتاب يقول د عادل سامرة:
«مل أتوفع أن يأيت أي حدث يدفعني عىل وجه الرسعة لتجميع ما كتبته عن قضايا
حارقة يف حياة ونضال شعبنا العريب الفلسطيني .وليس هناك قط ما يدعوك للكتابة
والشغل أكرث من حدث الشهادة .هكذا حفزتني روح الشهيد باسل األعرج ألجمع
ما كتبت عن املثقف الثوري النقدي الذي وجدته تعريفا ناقصا ما مل يكن املثقف
مشتبكا .وكنت قد صغت هذا املصطلح منذ سنوات ردا عىل مثقفي مدارسنا )
أقصد الجامعات املحلية( الذين وصفني بعضهم ب «املثقف االنتحاري » انغامسا
من جانبهم يف مستنقعات التيار السائد محليا وعربيا وعامليا.
هالني وأدهشني استخدام باسل ل «املثقف املشتبك ،والعمليات الفردية » ،
فوجدت رمبا من املفيد أن اجمع ما كتبته عن املثقف املشتبك ،وعن الدور الهام
للعمليات الفردية يف
حالة التدهور النضايل لشعبنا ،يف األزمة الجارية ،ويف ما يسمى الربيع العريب حيث
هذه العمليات هي رتق الفجوة بني فرتة الصعود النضايل املاضية وفرتة الصعود
النضايل القادمة
مام يعطي هذه العمليات أهمية بالغة .إىل جانب ذلك وضعت هنا بعض ما كتبته
عن االنتفاضة الجارية ايضا وعن اإلرضابات البطولية عن الطعام .لقد أضفت ملحقا
باإلنجليزية من الصحافة الصهيونية ،وذلك ألبيت أنهم مل يغريوا كذبهم بأن نضال
أبطالنا إرهاباُ ،وأكدت أن باسل بادئهم بالنار قبل أن يتمكنوا من املبادئة ،كام
تعرتف بأنه تم إعدام باسل بشكل حاقد ألن ذخرية سالحه كانت قد نفذت .وجدت
كذلك رضورة لوضع بعض ما كتبته باإلنجليزية عن هذه القضايا الهامة والتي
سيحفظها التاريخ ال شك .هذا من جهة ،وليك يقرأ قارىء اإلنجليزية بعض رؤية
شعبنا يف مواجهة ونقد ونقض ألطروحات التيار السائد والتيار الحامل
اي دُعاة دولة واحدة ،دميقراطية ،ثنائية القومية ،علامنية ،دولة مع املستوطنني...
الخ يف حني أن ما يرص عليه العدو هو دولة يهودية خالصة لكل مستوطنيها .هذا
كتاب اللحظة ،وآمل أنني التقطتها»
كل فكرة وليدة الواقع ،والواقع هو الوجود املادي الذي واجهنا بل تحدانا لنبلغ
نحن البرش لحظة الوعي األوىل لينطلق هذا الوعي يف جدلية أبدية مع الواقع
ذاهبني معاً يف ارتقاء ال حدود له يتطور بني تح ٍد ووعي مضاد أو مقاوم وصوالً ملا
هو أعىل وأوعى .وهكذا يظل اإلنسان حاضنة أو رحم الوعي التي تتوسط الوجود
والوعي وبدون هذا اإلنسان الذي يصبح واعياً ال يكتسب الواقع معناه وال يرتقي
الوعي إىل ما نرى ومن ثم نحلم.ليس املثقفون
فريقاً واحدا ً ،هناك تنويع هائل من املثقفني ألن لكل بيئة تحدياتها ولكل عقل
قدرته عىل االستجابة والرد والتأثري يف البيئة.
أما هذه الكلمة ففي حق املثقف املشتبك .هو مشتبك ألن ما يفهمه هو ذخرية
إلطالق نور التفكري مام ينفي عنه صفة ِ
السجِل ،فهو حالة سجال حتى مع من
يتقاطع معهم ،يبحث
عن ما هو أبعد من النص ،مأخوذ بالرؤية فليس مجرد ُمقرئ .يبحث عن النقاش
والجدل ،بل هو وليد الجدل والتناقض .كل فكرة فيها معنى ولكن ال بد أن فيها
ضعفاً ما ،جميل أن نفهم
12
املعنى وجميل أن نرى عدم اكتامل املعنى لنصل إىل ما هو أعىل .وعي
املثقف املشتبك ال يساوم وال يهدأ هو ميتطي حصان الجسد حتى
يكبو.املثقف املشتبك مهموم مشغول بالناس بنقل ما لديه إىل
اآلخرين ألنهم أوالً أعطوه ،هو تراكم املعرفة من أجل الثورة ،لذا
هو الوجه اإلنساين النقيض لرتاكم الرثوة التي هي دعامة الثورة
املضادة .تراكامن يقفان كضدين ال يجمعهام سوى مواصلة البحث:
تراكم املعرفة بحثاً عن تغيري العامل وتراكم الرثوة بحثاً عن استغالل
اإلنسان .هذا قلق يف اتجاه وذاك قلق يف اتجاه نقيض .هذا يقوم عىل
القيمة االستعاملية للوعي مجسدا ً يف فكرة ،وذاك يقوم عىل القيمة
التبادلية للمعرفة مجسدة يف سلعة وصوالً بالربح الالمحدود إىل الرتاكم
الالمحدود .أما القيمة التبادلية هذه فهي التي “سلَّعت -من سلعة”
الكثري من املثقفني فصاروا بضاعة متيش عىل قدمني عارية من األخالق
تعرض نفسها يف السوق وتفاخر ب ُعريها من املعنى األساس ،معنى الوجود اإلنساين.
كان من أقدم هموم اإلنسان البدايئ سرت عريه ،أما عرص ما بعد الحداثة ،ففيه
مفاخرة بالوعي العاري.
يفتح هذا لنا عىل الرضورة االجتامعية االقتصادية الثقافية الطبقية يف التحليل األخري
التي ولَّدت املثقف املشتبك .وهذه الرضوررة هي تجسيد الحق ،هي التحدي يف
الرد والص ِّد للزيف وامتهان وعي الناس وبيعه واستخدامه.
فاملثقف املشتبك مبا هو وليد روح املجتمع ،روح اإلنسان عامة ،يتجاوز كونه تجميع
معارف بل يتجاوز كونه ثورياً ونقدياً ذاهباً حيث االشتباك ،ألن الوعي الالإنساين
هناك يقاتل البرشية.
لذا يبحث املثقف املشتبك عن بؤر الرصاع ويكون فيها .من هنا ليس مجرد سجل،
بل حالة مقاومة مبنية عىل كون الحياة مقاوم ًة او رصاعاً .ولوال عدوانية مثقف
السوق والقيمة
التبادلية واالستغالل واالضطهاد وانتهاؤه باإلنسان إىل االغرتاب بتنوعاته ،ومنها
االغرتاب الجسدي الوجودي عن الوطن ،حالة فلسطني ،لوال هذه لكان املثقف
املشتبك رساماً أو شاعر غزل تحبه كل النساء ألنه يحبهن جميعاً.
يف حالتنا العربية يشتبك املثقف مع مختلف أنظمة الحكم ،ليس فقط ألن لها
جرامئها وانحرافاتها بل حتى ملجرد كونها أنظمة بل طاملا يف مجتمع طبقي فهي
نقيضة وعيه بال مواربة .ويشتبك مع مثقفي السلطان ،ويشتبك بال توقف مع
املثقفني يف خدمة اآلخر ،أي مثقفون يف خدمة عدو األمة.
ويشتبك مع مثقفي االستدعاء الذين استدعوا احتالل العراق الذي ما زال لحم
نسائه وأطفاله شوا ًء يُقدم للغرب الرأساميل وخاصة قادته ورشكاته الكربى ،وتُرسل
أطباق كثرية من هذا
اللحم اإلنساين املشوي إىل تل ابيب ليأكل شيلوخ اللحم شوا ًء .ال يُشوى لحم اإلنسان
بوعي سوى يف عرص رأس املال وريع النفط املفخخ يف الخليج ،يُقدم مغلَّفاً بلفافات
الحرية
والدمقرطة وحقوق اإلنسان .وحني يوضع الطبق عىل طاوالت أوباما وساركوزي
وهوالند وأحفاد بلفور ونتنياهو ،يقهقهون وهم ينزعون لفائف الحرية لتوزع لهم
هيالري ذلك اللحم يف أطباق من ذهب ُصقلت من مصاغ بلقيس ملكة اليمن
السعيد يف املايض .توزع هيالري األطباق بعد أن تنعكف سيقان أبناء سعود وآل ثاين
وهم ٌ
وقوف يحملون األطباق عىل رؤوسهم خدماً للحفل املاسوين ووراءهم سيل من
الحكام العرب بني حامل املاء
أو الصابون أو عود الند والرند لتسويك أنيابهم/ن.
يشتبك املثقف املشتبك مع مثقفي الصدى الذين يلهجون برتديد ما يُكتب يف
الغرب الرأساميل ،يلهجون ويلهثون ألنهم مل يتمثلوا ما يرددون كمن ابتلع الحىص.
املثقف املشتبك ال يقبل الحياد ،فمصري البرشية ال يحتمل مثقفاً محايدا ً يجيد
التلطي خلف املجرد والرمزي والفلسفي الذي يُباعد بينه وبني الواقع امل ّر .هذا
املثقف يأخذ دوره يف الصف وينفق عمره مشتبكاً ،لذا ال يعرف يف عمره الردة وال
التخاذل وال التقاعد .ويف النهاية لهذا املثقف دور دائم يف النقد والتصدي .دوره
دائم ألنه مثقف تاريخي ليس يوميا وال لحظياً ،هو حالة
تأسيس ،حالة تناضل لتصحيح مسار التاريخ الذي اختطفته
امللكية الخاصة والطبقات املست ِغلة ومؤخرا ً رأس املال بتنوعاته :اإلنجلو
اكسوين،والفايش والنازي والصهيوين والريعي النفطي..الخ .وهزمية هؤالء ليست
مسألة وقت قصري ،لذا ،ال
ينتظر املثقف/ة املشتبك/ة أكاليل الغار عىل رأسه/ها ،لكنه يعلم أن النرص آت وأن
أحدا ً يف يوم قد يكون قريباً سوف يُت َّوج بإكليل الغار ،واحد أو واحدة .هذا املثقف
مقاوم ،ومن يقاوم هو يف طريق االنتصار كمرشوع وليس كفرد.
مالحظة:
بيان ال 55كان ضد العمليات االستشهادية ونُرش يف الصحافة املحلية عىل
نفقة االتحاد األورويب:
)انظر كتاب مثقفون يف خدمة االخر :بيان ال 55منوذجا-عادل سامرة(موجود
عىل موقع كنعان اإللكرتوين.
وقائع تظاهرة 12آذار 2017احتجاجا عىل محاكمة
باسل األعرج بعد استشهاده
اتسع اإلشتباك ...بُعث باسل
دم الفرشاة وإكسري ال ّروح
الغنائيّة يف أعمال الرّسام
التونسي «لطفي الغول»
فتحي بن مع ّمر
السياحيّة األشهر،
إذا كنتَ من الذين يعرفون تونس ومناطقها ّ
ال ميكن لك بأ ّي حال من األحوال أالّ تذكر جزيرة جربة الحاملة
الواقعة جنوب رشقي البالد التونسية ،وال أن تنىس من جزيرة
وربا أعرقها عىل اإلطالق ،وهي قرية «قاللة»
جربة أشهر قراها ّ
النامئة يف وداعة تُغري بالحلم وعيش البدايات جنوب غريب تلك
الجزيرة.
هي املوج تستقبلك «قاللة» لتُحمل عىل أجنحة االكتشاف
عىل شاطئ هادئ خفيف الغُمر ّ
األمازيغي األ ّول مبشاهدها العتيقة ،املوغلة يف زمن البدايات ،تلك املشاهد
والحلم إىل ال ّزمن
ّ
التي تسحرك سواء دخلت إليها عرب منبسط أجيم الساحيل بعد رحلة ممتعة يف العبّارة
املسمة لديهم «البطّاح» أو دخلت إليها عرب «القنطرة الرومانية» امل ُقامة يف خ ّط متوا ٍز مع
ّ
ما كان يُ ّسمى قدميا لدى األجداد األمازيغ سكّانها األصليني «أَبْرِي ْذ نِ ِإلَغ َْمنْ» أي «طريق
الجامل» يف إشارة إىل مكان ميكن أن تعربه الجامل إىل الضّ فة األخرى إذا َج َز َر البحر وانحرس
نقطتي بالجزيرة املنبسطة عرب هضبة
املدّ .كام تُبهرك املشاهد وأنت تدخل إليها من أعىل ْ
املسمة حديثا «الكوبري» ومن فوقها يُشاهد أحد أجمل مشاهد غروب
« َم ْر ْصف ْ
ُوض» ّ
الشّ مس يف العامل أو دخلت إليها من طريق مي ّر بهضبة «تْالتْ » أو «زقاغْ» ذات البعد
األسطوري وحكايا التّاريخ الغابرة التي تتجدّد وتحيا وتنبعث وأنت تتج ّول يف القريّة أو
قتي بني لوحات املعرض الدّائم امل ُلحق مبرسم الف ّنان لطفي
تسافر مشدوها بعينني ُمش ّو ْ
شبَها فأب ّرتْه وأحبّها فاحتضنته واعترصته حتّى تقاطر ذوبا وعشقا
الغول ابن القرية الذي أُ ْ ِ
مبداد فرشاته لريسم لنا أروع اللّوحات التي تحاول أن متسك مبا تراه العني للحظة وتخىش
ُحب ونشتهي من أثري هذه القرية وسحرها
عليه من االنفالت ،كام تحاول أن تحتفظ مبا ن ّ
الغابر الذي بدأت تعصف به رياح العوملة كام عصفت به يف أماكن عديدة من العامل يف زمن
االلتباس الحضاري واختالط األجناس والثّقافات.
الرسام األربعيني يبدو من خالل لوحاته عاشقا مهووسا بـ»قاللة» ،يعدو
لطفي الغول الف ّنان ّ
الغض الذي ال يعرف
عىل صهوة فرشاة تالحق تفاصل محيّاها الجميل وتضاريس جسدها ّ
وربا
الهرم إليه طريقا رغم آالف السنني وسطوة ال ّزمن .غري أ ّن لطفي ويف تجربة متف ّردة ّ
األوىل من نوعها يستعمل مادة من املواد املستخرجة من بواطن أرض القرية وهي «الطني»
الذي يستخرجه أهل «قاللة» إىل اليوم من أعامق قد تصل إىل األربعني والخمسني مرتا حيث
تجد نفسك إذا ما نزلت إىل «املعدن» كام يس ّمونه يف بطحاء دامسة الظالم لرتاهم عىل ضوء
شموع خافتة ينتزعون بفؤوس حادّة وسواعد أبيّة طينا به دأب األجداد منذ القديم عىل
رص لطفي الفنان
صناعة أوانيهم الفخاريّة .تلك الطّني التي يستخرجونها بإرصار «سيزيفي» يُ ّ
املبدع عىل هرسها بحنان وطحنها بشوق وخلطها مباء دافق يخرج من بني صلب «قاللة»
وترائبها ليصنع منها ذوبا يستعمله لرسم لوحاته التي يتعلّق موضوعها بـ»قاللة» وهل له
غريها عشقا وهوسا؟
بهذا «الذّوب الطّيني» ( )Barbotine d’argileيرسم لطفي الغول مستعيضا عن الفرشاة
بأصابعه الغضّ ة وكفّه حينا ،وحينا آخر بأدوات عتيقة كان جدّه ال ّخ ّزاف األشهر بالقرية
«مسعود الغول» يستعملها يف صناعة أوانٍ خزفيّة فنيّة كان أ ّول من ابتكرها مثل تحفة
السحري» وغريها من التّحف الفنيّة التي يواصل ابنه «الحبيب الغول» وهو والد
«الجمل ّ
لطفي صناعتها إىل اليوم بنفس ف ّني منقطع ال ّنظري.
يرسم لطفي كام ال يرسم اآلخرون ،ألنّه ال يتمثّل موضوعا لريسمه بل تسكنه املوضوعات
والصخر وال ّرخام والجدران
فتتدافع وتنبجس عىل محامل رسم عديدة كالقامش والخشب ّ
والساحات والجرار الفخّارية ومختلف األواين الخزفيّة ويف تجربة فريدة جذوع
واملسطّحات ّ
السحر من هذا
ال ّنخيل .وهذا ما يعطي لتجربته الفنيّة هذا الثّ اء املتف ّرد ،إذ فيها ينبعث ّ
الطيني» الذي ال تكاد تشعر بالفرق بينه
التّزاوج الفريد بني مختلف هذه املواد «والذّوب
ّ
الرسامون عادة ،فلطفي ميزج برباعة بني مختلف هذه
وبني مختلف املواد التي يستعملها ّ
املواد ويُدمجها مع «الذّوب الطيني» فنحصل عىل تناغم عجيب بني أصالة الطّني خلقا
وضجيج األلوان وفحيح اإلبداع الذي يلسع العني فتلتهب دهشة وهي تتم ّعن تلك اللّوحات
ُسهب فضا ًء وتاريخا وامتدادا وموضوعا ومعنى وداللة بقدر ما
امل ُكتنزة باملشاهد التي ت ُ
تخترص وتوجز ،وقدميا قيل «البالغة يف اإليجاز».
الرسام الف ّنان الصامت إالّ من صخب األلوان ترصخ
بيد أنّه يف هذا اإليجاز عند لطفي ّ
اللّوحاتُ عاليا وتصدح بغنائية تعترص شعريّة مختلف الفنون لتقدّمها لك إكسريا يُبهج
شاخصتي ويسافر بك يف نفس
بعيني
ْ
ال ّنفس حني ميسك بك أسريا أمام اللّوحة ثابتا ال تتح ّرك ْ
الوقت بعيدا عرب التأريخ أو األعامق أو املدارس الفنيّة يف هرولة فكريّة محاوال إدراك املعنى
ّ
وفك الشفرات التي تنطوي عليها تلك املشاهد .فال تكاد تدرك أأنت أمام مشاهد واقعيّة
حيّة محسوسة نابضة صاخبة أم أمام مشاهد مج ّردة يعتو فيها التّجريد ويغايل حتّى يُعيدك
إىل الواقع لتقارن بني امللمح والغمز والصورة الحقيقيّة التي كنتَ ّربا قد رأيتها فاستق ّرت
أحس َن لطفي صياغتها وكأنّ ا هو من رآها أو
يف ذهنك أو تخيّلتها فانبنت وتشكّلت بطريقة َ
تخيّلها وكأنّك أنت من رسمتها؟ وتلك إحدى أبرز نقاط القوة يف تجربة الف ّنان حني يجعلك
املتجسد
الرسام ،بني املج ّرد
ّ
الحي ،بني ذاتك وذات ّ
تسافر أوب ًة وذهابا بني اللّوحة واملشهد ّ
لوح ًة تحاول أن تنقل لك فكرة مج ّردة وبني الفكرة املج ّردة ذاتها ،وتلك شعريّة الغنائية
الساحرة رسام.
ّ
إ ّن تجربة لطفي تتعتّق أكرث فأكرث كلّام غاص يف التّجريد ألنّه يسافر بك بعيدا ليعيدك إىل
الساحر ،إىل بساطة املشهد وروعة التقاليد وعمق ال ّروح البسيطة املتم ّهلة
زمن البدايات ّ
السعة القصوى وتشابه األذواق والطّعوم.
األخّاذة يف زمن ّ
15
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
مراجعات لطفي عيسى لسرديات االنتماء واستعاراتها يف كتاب « أخبار التونسيني»
د .عادل النفايت*
عن دار مسكلياين للنرش والتوزيع بتونس صدر لألستاذ
والباحث يف التاريخ الثقايف لطفي عيىس سنة 2019
كتاب أخبار التونسيني :مراجعات يف رسديات االنتامء
واألصول .للكاتب اصدارات وبحوث ودراسات تاريخية
عديدة باللغتني العربية والفرنسية ،عالوة عىل نشاط
صحفي منتظم حول قضايا ومواضيع متصلة بالواقع
التونيس واإلقليمي .نال امل ُؤلف موضع الدرس يف معرض الكتاب الدويل بتونس يف دورته
الخامسة وثالثني جائزة الطاهر الحدّاد للبحوث يف اإلنسان ّيات ،اعرتافا بتوفّق صاحبه يف دراسة
جوانب من حياة التونسيني يف نهاية القرن التاسع عرش ومطلع القرن املوايل من خالل مقاربة
تاريخية انرتوبولوجية ،باحثا يف مد ّونات مل توضع بالرضورة بغرض التأريخُ ،مستخلصا منها
بعض ما يف الشخص ّية التونس ّية من متثّالت ومعايري يف النظر ووعي بأه ّم مجاالت االنتامء
إىل تونس .يدعونا هذا االستحقاق باإلضافة إىل معرفتنا بنبوغ صاحبه يف كتاباته التاريخية
املتخصصة يف التاريخ الثقايف يف بعديها النظري وامليداين ،واجتهاده يف تضمني بحوثه مبضامني
نظرية جديدة ومبتكرة يف تخصصات انسانية مختلفة ،إىل تسليط الضوء عىل تقاسيم منجزه
ومعانيه.
ونستهل هذا التقديم بالتذكري باإلشكالية العامة التي تناولها الكاتب وتع ّمق فيها ،والتي
حامت حول كيفية نشوء مشاعر متآلفة بني عنارص مجموعة برشية وقبولها بالعيش املشرتك،
عىل رقعة ترابية ُمعلّمة بأمارات تضاريسية وثقافية معلومة ،وجعلتهم يتوافقون حول انتامء
موحد .وغ ّني عن الب ّيان أن هذه االشكالية ليست مستحدثة أو وليدة الساعة ،وإمنا هي
مشغل بحثي يحيل عىل حرية فكرية تقاسمها عدد من املؤرخني والباحثني التونسيني ومن غري
التونسيني منذ سنوات .وهو ما يدفع إىل االعتبار بدور السياقات يف إثارة مثل تلك االشكالية
ومعاودة ظهورها أو بروزها كلام حصل أمر مستجد ،يحري الساكن ويعيد صياغة التوافقات أو
املواضعات .ومهام يكن من أمر فأنه من الثابت أن قامئة الكتّاب التونسيني والباحثني الذين
أثاروا موضوع «التونسة» وحاولوا البت يف مميزات الشخصية التونسية طويلة ،نستحرض من
بينها البشري بن سالمة وسعد غراب وهشام جعيط ،املنصف وناس والهادي التيمومي وغريهم
من الباحثني والباحثات الذي تعرضوا جزئيا أو تفصيليا إىل ذات املسألة.
كام أنه من الثابت لدينا أن لطفي عيىس كان عىل دراية مبحاور تلك الرسديّات ،مام جعله
يتخذ لنفسه يف مقاربته لنفس اإلشكالية مسلكا فريدا ،تجنبا للسقوط يف االجرتار و ُمساءلة
ذات الشأن وفقا لعروض راوحت بني الظرف أحيانا والعمق يف أحيان أخرى ،محاوال مراجعة
محتويات جملة من املصادر مل تكن مثار أهل الباحثني يف الحقل التاريخي من قبل .فقد تابع
املنهج التأوييل يف دراسة عينات من تلك املصادر وإعادة تركيب مضامينها ومعانيها ضمن
اشكالية كربى متصلة مبقومات بناء الهويّة التونسية ،عىل غرار الخرافات الشعبية واألحاجي
واألمثال الواردة يف كتاب سامل ونيس «الحكايات الخرافية والشعبية» ،والتدقيق يف بعض
املؤلفات املغمورة التي مل يجر تداولها كثريا مثل كتاب «مفتاح التاريخ» ملحمد البشري صفر،
و»الرزنامة التونسية» ملحمد بن الخوجة ،و»العادات والتقاليد التونسية» ملحمد بن عثامن
الحشاييش ،وثالثة مقاالت لألب أندري دميريسمني (André Demeerseman )1993 – 1901
نرشت بني سنة 1958و 1961وهي« :تأمالت يف دراسة الشخصية التونسية» ،و»بحث يف
الشخصية األساسية لتونس» و» مساهمة يف دراسة عالقة اللغة العربية والشخصية التونسية».
ومن نافلة القول أن الباحث لطفي عيىس قد اختار بدوره االشتغال عىل قضية «التونسة» دون
إطالق أو تعميم ،بل ركز جهوده عىل فرتة زمنية محددة شكلت مفصلة زمنية دقيقة يف تاريخ
التونسيني وبخاصة مراقبة ذلك املرور املتأين يف مستوى متثالت التونسيني لذواتهم وآلخرهم
القريب أو البعيد .فقد غطت املدة الزمنية املقرتحة العقدين األخريين من القرن التاسع عرش
وامتدت إىل العقدين األولني من القرن املوايل .ففي تلك الفرتة عايش التونسيني انتقال سلس
بني زمنني :زمن االحتالل وما قبله ،وما رافقه من تح ّوالت ملحوظة يف مستوى الحياة الفكرية
والعلمية وانعكاساتها الب ّينة عىل الذهنيات وبخاصة لدى النخب املتعلّمة ،التي أقبلت عىل
التعامل بشغف مع الصحف (مثلام ييش بذلك غالف الكتاب) ،باعتبارها وسيلة اخبارية
محدثة سحرت ألباب املثقفني التونسيني بعد أن ثبتت جدارتها يف اطالع قرائها عىل مجريات
األمور يف الساحتني الوطنية والدولية.
قسمه
طُبع الكتاب يف مجلد واحد متضمنا لثالمثائة وخمسون صفحة من القطاع املتوسطّ .
صاحبه إىل مقدمة عامة عنونها ب «زمن للخرافة ،زمن للرسد» ،وأربعة فصول واتّبعها بخامتة
عامة .وتضمنت الصفحات األخرية قامئة ثرية ومتنوعة من املصادر واملراجع باللغتني العربية
والفرنسية ،التي استند إليها الباحث لبناء مخطوطته ،ومن شأنها أيضا إنارة سبيل الباحثني
املنشغلني بدراسة مواضيع متصلة مبحتويات الكتاب .وملزيد تقريب مضامني املدونة موضع
الدرس إىل الق ّراء ،ارتأينا التوقف ببعض من التفصيل أو باقتباسات لبعض ما ورد يف كل فصل،
يف محاولة منا لإلملام مبضامينه وتحليالت الكاتب.
عمل لطفي عيىس يف مقدمة أثره عىل معالجة مسألة دقيقة وذات أهمية قصوى يف مجال
البحث ،تتعلق برشوط املعرفة التاريخية معرجا عىل العالقة الوطيدة بني ذكر الخرب وبناء
يتعي عليه متّلك أساليب
الرسدية ،مبعنى هل يقترص دور اإلخباري أو املؤرخ عىل ذكر الخرب أم ّ
أدبية وفنية رفيعةـ ،ورصيد ثري من املفردات واملعاين حتى يقدر عىل ش ّد املتابع أو القارئ؟
مال الكاتب إىل تغليب الفرضية الثانية ،مستشهدا بجملة من الشهادات واألمثلة ولعدد
من املؤرخني الذين تم االجامع من حولهم حول أدوارهم الريّادية يف التأريخ ألزمنة أوروبا
والعامل بدأ من شيرشون ( 106ق.م 43 -ق.م) Cicéronوتاسيت (56م – 120م) Tacite
وفرواسار ( Froissart )1410 - 1337وجيل ميشيل( .Jules Michelet )1874 - 1798وخلص
إىل رضورة القطع مع التقليد السائد يف الفصل بني الخرب والرواية ،داعيا إىل إدماج املعطيات
الوثائقية أو املصدرية والتحاليل املتصلة بها يف ثنايا الرواية ،فلم يعد من املنطقي وفق تصور
لطفي عيىس أن يقوم املؤرخ بتفضيل الرواية عىل رسم الوقائع أو االعتبار بعكس ذلك ،فكتابة
التاريخ وفق منظوره هو صناعة ،والصناعة عند املؤرخ تشرتط توفر موارد أساسية كالخرب
وأدوات اإلبالغ والرسد.
قامت االشكالية العامة لكتاب «أخبار التونسيني» حول مسألة مثرية ومربكة يف آن ،تتمثل
يف طرق إدراك التونسيني ملسألة الزمن التاريخي وألساطري تأسيس مجالهم وتك ّون شخصيتهم
القاعدية .ففي محاولة السرتجاع ذاكرة ضائع األزمنة عىل ح ّد تعبري لطفي عيىس ،وضع
فقسمها إىل أربعة
الكاتب تصوره الخاص لألزمنة التونسية وفق نوعية املصادر املتعامل معهاّ ،
أزمنة كربى ،ال تتخذ رضورة نسقا تط ّوريا وفق خط كرونولوجي أفقي كام اعتاد تداوله بني
املؤرخني ،بل هي أزمنة متداخلة تقبل بتزامن زمنني أو أكرث ،استجابة لحاجيات التونسيني يف
خلق وشائج وصالت تضمن تآلفهم واجتامعهم ،وهذه األزمنة هي« :زمن الحكاية» و»زمن
املجال» و»زمن الرزنامة» ثم «زمن الذات أو الوجدان».
سمه ب»ديوان الخرافات الشعبية التونسية» ،إىل
سعى لطفي عيىس يف الفصل األول الذي ّ
مساءلة جانب من رصيد التونسيني من الحكايات واألمثلة الشعبية واألحاجي ،والتعامل معها
كمصادر تاريخية لها حبكتها الخاصة من حيث الخطاب واللغة والبناء والرسد .وهي مرويّات
تكفلت بتغطية مجزية لجوانب مهمة متصلة بالحياة اليومية للتونسيني داخل املسورات
وخارجها ،ووثّقت للذاكرة املشرتكة وكشفت مواطن الشخصية الجامعية .وقد نجحت هذه
الخرافات حسب ما أورده «لطفي عيىس» يف نقل متثل التونسيني العميق لخصوصيات
الوسط الذي عاشوا داخله ،دون أن ننىس عرضها للقيم والطباع التي حكمت حياتاهم .ورغم
أهمية املتون اإلخبارية الواردة يف هذا الصنف من املصادر ،إالّ أنه
تم التعامل معها بكثري من التجاهل نتيجة وثوقية املدارس التاريخية
املفرطة ومتسكها الصارم برشوط صناعة املعارف التاريخية .وهو ما
حدّا بالكاتب إىل الدعوة إىل رضورة مراجعة أبستمولوجيا املعرفة
التاريخية وفلسفتها ،واالعرتاف بالقيمة اإلخبارية ملا حفظته الذاكرة
الجامعية للشعوب من حكايات وأمثال تم تداولها بني الناس ،طاملا أن
مرآتها املحدبة قادرة عىل عكس مراحل مهمة من معيش املجتمعات
قبل التمكن من وضع ضوابط املعرفة التاريخية يف الربع األخري من
القرن التاسع عرش ،وهو ما أحال تلك النوعية من املصادر إىل أسفل
سلم اهتامم الباحثني اعتبارا لعدم توافقها مع رشوط القراءة السياقية
الصارمة والدقيقة.
تتطلب دراسة الحكايات الشعبية واألمثال واألحاجي وفق رؤية لطفي
عيىس جهدا مضنيا وتركيز كبري لبلوغ معانيها ودقيق تحليالتها ،مع
األخذ بعني االعتبار رضورة اإلملام بفرادة كلمها وصياغاتها املخصوصة
واتخاذ جميعها من العجائبي والخارق ركنا رئيسا يف بناء الرسد .األمر
الذي نتكشف بفضله عىل مضامني تحيل عىل الطبيعة البرشية ،وذلك
حال التعويل عىل استعارات لها صالت وثيقة مبدرك سلوك التونسيني
الواقعي ،وأشكال توصلهم إىل تجاوز معيقات التعبري واإلبالغ العادية ،وبلوغ املعاين السامية
دومنا نسيان لحاجات التسلية وتزجية الوقت عىل ح ّد تعبري الكاتب
انشد الفصل الثاين املوسوم ب «رسدية االنتامء يف مفتاح التاريخ» إىل منجز محمد البشري
صفر ( )1917 1865-باعتباره مؤلف قليل التداول بني معرش املؤرخني والباحثني التونسيني،
رغم نظرته الفريدة املجدّدة للرسدية التاريخية التونسية .ف»مفتاح التاريخ» هو يف األصل
جملة من املحارضات يف التاريخ قدمها محمد البشري صفر يف املدرسة الخلدونية عىل مسامع
طلبة الجمعية الخلدونية بني ،1908 – 1897إبّان خضوع البالد ملعاهدة الحامية ،وفقدان
التونسيني الستقالل قرارهم السيايس .فقد عمد الكاتب إىل اعادة صياغة انتامءات التونسيني
وتوثيق صالتهم بجملة من الغرييات راوحت بني توسيع أفاقهم الزمانية ،عرب التذكّري مبختلف
الحضارات الكربى التي وسمت تاريخ التونسيني القديم ،وفتح أعينهم عىل تعدّد انتامءاتهم
املكانية من خالل ربطها بقديم تاريخ املغرب واملسلمني ووسيطه ،وحديثه ومعارصه ،مع
الحرص يف جميع ذلك عىل اطالعهم عىل حقيقة اتصال ماضيهم كام حارضهم بالبحرية
املتوسطية ،والتشديد عىل ذلك التداخل بني تاريخ التونسيني وتاريخ أمم أوروبا مبا فيها
تاريخ «األمة الفرنسية الحامية» والجارة املتوسطية االيطالية واململكة الربيطانية .فقد تبيّنت
للطفي عيىس بعد مراجعة منجز محمد البشري صفر تلك النقلة النوعية التي حدثت يف
فكر صاحبه والتي قامت عىل إعادة تأسيس فكرة االنتامء عىل قاعدة االنفتاح عىل اآلخر
الجغرايف والزمني« ،األليف» منه و»الغريب» ،وذلك بغية الح ّد من االحساس بالدونية
املزدوجة -املرشقية والغربية -والرتكيز املريض عىل محور حضاري واحد ،وإقناع املتلقي
بتوفّر مشرتك تاريخي وثقايف بني التونسيني ،مع حضور عنارص تهجني أفصحت عىل قدرات
تركيبية سمحت باالنفتاح عىل العديد من الغرييات الحضارية والثقافية ،حاملة لبذور القبول
يخصهم وتشكيلهم ألمة ،عاشت عىل
باملثاقفة واالختالط ،تكيّفا مع توفر التونسيني عىل وطن ّ
مجال اعتباري تح ّول بالتقادم إىل حيّز لالنتامء وتش ّوفت ساكنته إىل التعايف من جميع مظاهر
االنطواء التي الزمتها لقرون.
تطرق لطفي عيىس يف الفصل الثالث من مؤلفه ،وهو فصل وسمه بـ»زمن االستطالع
وحب املعرفة الجذىل» ،إىل دراسة مضامني «الرزنامة التونسية» ،التي أرشف عىل تحريرها
الجرنال محمد بن الخوجة ( )1943 - 1869وبلغ عددها 16عددا صدرت بدون انقطاع
من سنة 1901إىل موىف سنة .1917حيث تضمنت تلك الدوريات معارف مستحدثة عملت
عىل توسيع االهتامم باألخبار الفلكية والجغرافية والتاريخية واألدبية واإلدارية والسياسية
والجاملية والفنية وغريها من املواضيع املستطرفة من قبل النخب الجديدة املندرجة ضمن
التقاليد الوليدة للتونيس الجديد ،وعزوف عن دواعي الركون إىل االجرتار والتقليد والجمود،
تبي ملؤلفنا
مع الدفع باتجاه االنخراط يف نبض الكون .وضمن تقييمه ملنجز محمد بن الخوجة ّ
أن ما انجزه ضمن مغامرة «الرزنامة التونسية» قد شكّل اسهاما معرفيا تجميعيا غري غريب
عن مثقف تونيس ُعرف بنشاطه العلمي الغزير ضمن الصحف واملجالت التونسية الثقافية
والعلمية ،والتي أبانت عىل سعة اطالع صاحبها عىل املصادر واملراجع رشق وغربا ،وقدرة
استثنائية عىل ربط مضامينها بالثقافة املحليّة التونسية .كام اعترب لطفي عيىس أن مضامني
الدورية كانت متممة لألغراض التوعوية واإلخبارية التي من أجلها بعثت مجلة «الحارضة»
بش بها عدد من محرريها من بني النابهني من التونسيني.
ولألفكار الحداثية التي ّ
ن ّوه لطفي عيىس مبجهودات ْمحمد بن الخوجة يف عنايته ب»زمن الرزناةمة�Temps calen
« daireوالتقيّد بزمنية جديدة تحقق حول بعد اجامع كبري بني الشعوب املتحرضة من دون
والتخل التدريجي عن جميع التقوميات املوروثة،
ّ
غريه من األزمنة الدينية أو الروحية األخرى،
ترسخ الوعي بوحدة املصري البرشي .وهي
كالدائرية أو الزراعية أو الطقسيةُ ،محيال عىل ّ
فكرة جديدة عمل املؤرخون واإلخباريون بشكل الفت عىل تقريبها من األذهان عرب شدّها
إىل قوائم تحويل ومقابلة ق ّربت بني التقوميني الشميس املسيحي والقمري اليهودي ،فشكّلت
جهودهم لبنة أساسية عىل طريق اكساب الزمن التاريخي طابعا منفصال عن التص ّورات
الدينية التعبّدية.
كام عاين الكاتب نفس املضامني الحداثية تقريبا يف موسوعة « األدب التونيس يف القرن
الرابع عرش» التي تصدى لتحرير محتوياتها زين العابدين السنويس ( ،)1965 - 1898عند
أواخر عرشينات القرن املايض .فقد راهن هذا املؤلف بدوره عىل التجديدات الحاصلة يف
أشكال املعالجة األدبية التونسية شكال ومحتوى ،وذلك بغرض اثبات حقيقة النقلة الفكرية
التي عاشتها نخب األدب والفن من خالل الرتكيز عىل شواغل مـُحدثة أخذ ضمنها اإلحساس
باالنتامء الوطني والرغبة يف التح ّرر واالنعتاق ومقاومة الظواهر االجتامعية والثقافية البالية
املفرطة يف الحسيّة موقع الصدارة .فقد تضمنت تلك الرسدية تراجام ألدباء الثلث األول من
القرن العرشين ،ومختارات من أعاملهم الفنية وذلك يف إطار خطة الكاتب إلعادة استكشاف
مايض التونسيني ونفض الغبار عنه ،وليكتسب مدلوال محدثا يسمح
باالنفتاح عىل دواعي التجديد وحب املعرفة الجذىل .ومن تلك الشخصيات
التي تم االحتفاء بها يف املوسوعة وعدت من قامات األدب التونيس يف
ذلك الحني تعرض هذا الفصل إىل :محمد الشاذيل خزندار وحسني الجزيري
وسعيد أبو بكر وصالح النيفر ومحمد الفائز والهادي املدين وأبو القاسم
الشايب وأحمد خري الدين ومحمد مناشو وسامل األكودي ،وجميعهم أدباء
وشعراء تونسيون كتبوا يف األدب وفق رهانات السياقات الوطنية واستجابة
للذائقة املحلية.
شدّد لطفي عيىس عند النظرة التجديدية التي حملها كتاب السنويس
حول املعرفة التاريخية الجديدة ،إذ استنتج «أن عقلية األمم مل تعد تكتفي
مبعرفة األسباب النفسية لالنقالبات التاريخية ،بل البد للمؤرخ اليوم من
الجداول الواضحة والخرائط ملختلف األعرص ،وال يكون كتابه مستوىف إذا
كان خلوا من الرسوم واملناظر الرصيحة .عىل أن تجدّد التواريخ وسبكها
عىل العقلية العرصية ليس من األعامل الهينة البسيطة ،بل ميكن أن ينسبك
قبل بضع عرشات سنني ميضيها املجدّدون يف املالحظة والنقد والتعبري».
خصص املؤلف الفصل الرابع من كتابه إىل ما نعته ب»مراجعات حول
ّ
شخصية التونسيني» ،مستعرضا عينات أدبية مختارة حاز خطابها من وجهة
نظره عىل كثري من الطرافة ،ألنها اختارت االشتغال عىل مقومات الشخصية التونسية من خالل
بعض البحوث امليدانية ،عاملة عىل التعريف بسكان البالد التونسية :عرقا ولغة وتراثا وسلوكا
وأعامال وأياما .ومن تلك املنتقيات اختار الكاتب التوقف عند مؤلف «الهدية أو الفوائد
العلمية يف العادات والتقاليد التونسية» ملحمد بن عثامن الحشاييش ،الذي ع ّد جردا مفصال
وميداين لتقاليد التونسيني وعاداتهم ،مستعرضا جملة من املعطيات أحالت عىل مضمون
الثقافة املادية ومختلف املعارف والقيم واملعايري التي طبعت ترصفات التونسيني وسلوكاتهم،
محاوال من خالل ذلك توسيع اطالع أعوان اإلدارة الحامية عىل ما شكّل الشخصية القاعدية
للتونسيني .ويف ذات الغرض استجلب لطفي عيىس املقاالت الثالثة لألب أندري دميريسيمن
(متت االشارة إليها سابقا) والتي تعرضت بالدراسة إىل تاريخ التونسيني وماضيهم الالتيني
الروماين دومنا نسيان للجذور العربية اإلسالمية وفق قراءة مشوبة بنفس استرشاقي عىل ح ّد
توصيف لطفي عيىس .حيث تضمنت تلك املقاالت أسس نظرته للشخصية التونسية ،مع ّوال
يف تحديد معاملها الكربى عىل الجهد امليداين الذي بذله بغية التع ّرف عىل طباع ساكنة البالد
ومزيد فهم واقعهم املعيش ،وفق قراءات متواشجة مع عروض الحشاييش .وخلص لطفي
عيىس يف نهاية عروضه إىل تحديد الخطوط العريضة للشخصية التونسية ،تلك التي اختزلها يف
أربعة وهي :وحدتها ،وتنوعها ،وامتدادها وتواصلها ،مع بعض من التفصيل يف كل ركن منها.
ما ميكن استنتاجه بعد االطالع عىل تضاعيف كتاب أخبار التونسيني ،مراجعات يف رسديّات
االنتامء واألصول أنه مؤلف فريد اكتسب فرادته من جانبني أساسيني .فمن وجهة نظر اخبارية
فقد نجح الكاتب ويف جانب كبري من الكتاب يف استحضار زخام معرفيا وفريا حول معاش
التونسيني وحياتهم الثقافية يف شقيها املادي والالمادي ،واملسار التط ّوري للوعي التونيس
وخاصة لدى فئة املتعلمني الذين أقبلوا عىل قيم الحداثة الغربية وعربوا عن رغبتهم يف
االنصهار ضمن املشرتك اإلنساين ،مقتنعني بزوال عهد االنطواء واالنغالق عىل الذات ،يف زمن
أخذ فيه النفوذ االستعامري الفرنيس يف التمدّد داخل هياكل الدولة التونسية ومؤسساتها،
وداخل نسيج سكان البالد الثقايف واالجتامعي .كام اتضحت يف نفس ذلك السياق مؤرشات
بليغة عن بداية تفكري التونسيني بخصوص مالمح شخصيتهم القاعدية املستندة إىل مشرتك
حضاري أثيل يعود إىل عهود ما قبل اإلسالمية ،لـ ّمـا اشعت قرطاج ومن بعدها افريقيا Africa
عىل املتوسط وجانب من الصحراء االفريقية.
كام تنم فرادة ما أنجزه لطفي عيىس يف جانب آخر عىل جرأة يف اقتحام مجاالت مجددة
منهجا وتص ّورا وتركيبا ،حتى وإن مل يسلم ارتياد تلك املغامرة من مخاطر عدة ومنزلقات شتى،
هذا فضال عن متسك جانب غري قليل من الباحثني بأساليب ومناهج يف البحث والتمحيص
يكاد حارض املعارف اإلنسانية واالجتامعية أن يعفو عنها متاما .ولكن سعة اطالع املؤلِف عىل
منجز املدارس التاريخية واإلنسانية غربا ورشقا ،ورصيده املعريف الرثي واملتجدّد ،كام متلّكه
ألدوات الرسد التاريخي وفصاحة بيّانه ،قد أسعفه جميعها يف خوض مثل تلك املراوحة املنتجة
لغزيز الداللة باقتدار وأناة ،بحيث بدا لنا أن مثل هذا األثر البديع يف جنسه ميكن االعتبار
مبحصلته معرفيا وتحويله إىل أمنوذج ميكن االستفادة منه يف مساءلة موضوع االنتامء وطرح
سؤال األصول ،وخاصة بالنسبة للمجتمعات التي ثبت تقاطع مساراتها التاريخية أو تشابهها
مع ما حملته «أخبار التونسيني»./.
باحث يف التاريخ الثقايف املغاريب واملتوسطي
16
الخميس 1أكتوبر - 2020املوافق لـ 14صفر 1441هـ -العدد 90
دارات
إص
مكتبة منارات :بقلم سعدية بن سالم
القصة
نعود يف هذا العدد مع مجموعة جديدة من األعامل التونسية التي متثّل لبنة يف بناء مدونة تونسيّة ثريّة يف شتى أمناط اإلبداع .ونصوصنا لهذا العدد نصوص رسديّة تتوزّع بني ّ
والقصة القصرية ج ّدا .وهي أعامل لألدباء «نورة الورتاين» يف مجموعتها القصص ّية «ليلة انتىش فيها القمر» ،ومحمد بوحوش يف مجموعته القصصية القصرية ج ّدا «عطس ونباح» ث ّم
ّ
مجموعة األديب الهادي الخرضاوي «أيّام الحجر».
نورة الورتاني بين طرافة اليومي ومشهد ّيته
صدرت الطّبعة األوىل من « ليلة انتىش فيها القمر»
عن دار سا ّرة للنرش سنة ،2017وقدّم لها الناقد
البشري الجلجيل ،وتتك ّون املجموعة من إهداء
فتصدير فتقديم ف ِعقد من ثالث حبّات ففهرس.
استعارت «نورة الورتاين» ملجموعتها صورة ال ِعقد
فإذا هي تتكون من ثالث حبات يف كلّ ح ّبة
مجموعة من النصوص .وهي نصوص بلغت يف
الحبّة األوىل خمسة عرش ّنصا ويف الحبّة الثانية
مثانية نصوص ويف الحبّة األخرية واحدا وعرشين
ّنصا.
والعنوان جملة تامة الدّاللة والرتكيب ،تحدّد الزمن
رغم إطالقيته ،فهي ليلة ولكنها ليلة مخصوصة قد
ال تتك ّرر فام يف كلّ ليلة ينتيش القمر .واإلسناد
الوارد بني الفعل (انتىش) والفاعل (القمر) يحيلنا
عىل شعريّة تكرس الحدود بني ،األجناس األدب ّية ،بني
الشّ عر والقص.
يختزل العنوان املجموعة يف ليلة واحدة ،فإىل أ ّي
القاصة بال ّزمن داخل املجموعة.
ح ّد نجد التزاما من ّ
القاصة عملها بعد اإلهداء إىل كلّ
استهلّت ّ
الحق مل
الصادقني يف تونس بتصدير ألفالطون «إ ّن ّ
يصبه ال ّناس من كلّ وجوهه ،بل أصاب منه كلّ
إنسان جهة» لتضعنا منذ البداية يف مجال النسب ّية
وتعدّد الرؤى يف املوضوع الواحد وكأنها دعوة
خفيّة لتوسيع مجال الرؤية وقبول املختلف.
جمعت «نورة الورتاين» يف الحبّة األوىل من عقدها
املرتسخة يف املجتمع وبني السيايس
بني الطرافة ّ
السؤال والغضب
نحو
الدافع
و
املقتحم لليومي
ّ
النص
السخرية .ومن مظاهر الطرافة ما نقرؤه يف ّ
و ّ
القصيص األ ّول «لقد تجاهل أقراطي» ،طرافة يف
الشخصيات :الحاجة آمنة ،والشيخ ،وخديجة،
للسمع ،وتقوم الطرافة عىل التقابل
والك ّنة املسرتقة ّ
بني املتص ّور الذي ينطبع يف ذهن القارئ من
تقديم الشخصيات وتص ّور الشخصيات حول نفسها
النص
وخاصة تص ّور الحاجة آمنة والشيخ .ونقرأ يف ّ
ّ
وصفا للشيخ فتقول ال ّراوية« :فهو شيخ ناهز املائة
شديد البنية مستقيم القامة ،ثابت الخطو ،سليم
الصوت حازم املواقف وكثري الجدال
العقل حا ّد ّ
وخاصة
والعتاب والطّلبات املعقولة وغري املعقولة ّ
بالنسبة إليها وهي يف عقدها الثّامن» ،عجوزان
متقدّمان يف الس ّن يب ِّوئهام التص ّور الجمعي صورة
النص يكرس
منطيّة عن العالقات الزوجيّة ،غري أ ّن ّ
ذلك التص ّور حني تأيت العجوز باحثة عن دواء
للشيخ الذي كرث رشوده ومكوثه أمام البيت بل
إنّه أصبح فجأة ينادي زوجته بلقب «يا حاجة»
ومل ينتبه إىل األقراط الجديدة التي استبدلت بها
«املحي» يزداد التباسا حني
األسورة .هذا الوضع
ّ
الساردة أالّ تُسمع متلقيها فحوى الحديث
رص ّ
ت ّ
رسته آمنة لخديجة« :اقرتبت الحاجة آمنة
الذي أ ّ
من خديجة ووشوشتها جملة اتّسعت لها عيناها
استغرابا ث ّم ندّت عنها ضحكة قهقهت إثرها
رس تلميحا ال ترصيحا
عاليا(».ص ،)28ث ّم ينكشف ال ّ
القص حني يفاجأ القارئ وخديجة عىل
يف خامتة ّ
ح ّد سواء بصوت آمنة ذات العقد الثامن من العمر
تدب يف صحن الدار تحمل فطائر وعسال:
«وهي ّ
«يا خديجة ،تعايل أقبلك يا خديجة لقد عاد الحاج
بعد غياب» (ص.)29
كرست «نورة الورتاين» الصورة النمطيّة للزوج
املتقدّم يف الس ّن والقامئة أساسا عىل نفي الجسد
واختارت أن تؤكّد عىل تشبثهام بالحياة إىل آخر
رمق وهو اختيار نراه يف توافق مع التصدير ،إذ
لكلّ حقيقة يراها ولكلّ تص ّورات تعنيه ليس من
حقّه أن يفرضها عىل تص ّور اآلخر لذاته ورغباته
ورؤيته للحياة.
وع ّجت الحبة األوىل باإلحاالت السياسيّة ،لذلك
نقرأ يف بعض العناوين :رحلة الشيخني ،ونذكر كيف
اكتسب لفظ الشيخني إحالة تاريخ ّية فيها كثري من
الغضب والسخرية يف الوقت نفسه وهو ما ينطبق
أيضا عىل عنوان الدستور مبا يحمله من ثقل إحايل
عند املتلقي .زاده الحوار ترسيخا-« :من حقي أن
أرفض زوجا ال يناسبني...
...فحريّة االختيار كذبة اخرتعناها نحن ال ّرجالوأقنعنا بها إناثا ليخرتن من نختار له ّن...
ما هذه الصورة القامتة ...امرأة منكرسة خانعة يفنؤسس للجمهوريّة
أجمل فرتة يف تاريخنا .ونحن ّ
الثانية ...موضوعك مستهلك ممجوج ال مكان له
بيننا( »..ص.)40
يف الحبّة األوىل يطلّ علينا عنوان املجموعة يف ّنص
منفصل ،لندرك أ ّن العنوان ال يختزل املجموعة وإمنا
هو جزء منها ال غري.
القاصة من املشاهد وبها
تكثف
يف الح ّبة الثانية
ّ
لمحمد بوحوش
مجموعة عطس ونباح ّ
صدرت الطّبعة األوىل من مجموعة عطس
ونباح للشاعر والروايئ والقاص «مح ّمد
بوحوش» يف طبعتها األوىل سنة ،2020
قصة
وتتكون املجموعة من ثالث ومثانني ّ
قصرية جدا وهو ف ّن برع فيه الشاعر «محمد
بوحوش» وأصدر فيه أكرث من عمل.
يتقن مح ّمد بوحوش نهايات قصصه ،ونعلم
لب العمل يف هذا
أن تلك النهاية هي ّ
الصنف من النصوص ،وكأننا ببوحوش يحرص
أن يرتك قارئه يف دهشة ال تنتهي ،يقول يف
«ترسخت يف ذهنه فكرة قتله .أخذ
مراوغةّ :
بندق ّيته ومىش إليه .طلقة ،اثنتان ،ثالث...
ومل يسقط ...ارتجفت يداه ،وتعرث بالوهم...
قهقهت البندق ّية وسقطت ...خ ّزان ال ّرصاص
كان فارغا»(ص.)5
النص
يف
الواردة
املفردات
تيش بعض
ّ
بنهايات محتملة مثل لفظ الوهم ،قهقهت
البندقية (ما يحيل عىل الحلم) ،غري أ ّن
السارد أىب إالّ أن يأيت مبا يفاجئ ويحدث
شهقة االكتشاف واإلعجاب.
وكثريا ما يتجه «مح ّمد بوحوش» ،يف أعامله
السابقة أو يف هذا العمل ،إىل النحت ،نحت
كلامت جديدة من كلامت سابقة لتأدية
معاين حادثة ،يقول يف «ث ّم»:
كتب تدوينة موسومة ب :ال ّرجل املبضحك»
املبضحك :الذي يجمع بني البكاء والضحك
معا (ص.)6
القصص القصرية ج ّدا عند «مح ّمد بوحوش»،
هي مجال للتعبري عن الحرية ،لطرح السؤال
الذي يعرب الخاطر فجأة ث ّم يستق ّر فيه ،وقد
يبدو للوهلة األوىل بسيطا ال داعي له لك ّنه ال
يغادر ،يعيدنا إىل أسئلة الطفولة التي تبحث
عن تفسري ما حولها وخلق عالقات بني
املوجودات حتى تشعر بالتوازن مع الكون،
غري أ ّن أسئلة «مح ّمد بوحوش» هذه تتجاوز
الظاهر من البحث عن االنسجام مع الكون
خفي يلمع برقا خاطفا يف الذّهن ث ّم
إىل نقد ّ
يعلق ال يبارح ومن هذه األسئلة ما نقرؤه
يف ومضة «مج ّرد سؤال« :أسند ظهره إىل
شجرة .وضع «الكالشنيكوف» جانبا ،نظر إىل
الشّ جرة وزيّه العسكري ،وأطرق متسائال عن
العالقة بني اللّون األخرض والحرب» (ص.)8
تأخذ ومضات «مح ّمد بوحوش» مواضيع
متن ّوعة ،من اليومي إىل االجتامعي إىل
السيايس إىل األديب ...لك ّنها يف تن ّوعها تحافظ
عىل نزعتها إىل ال ّنقد وإىل السخريّة ،ثنائ ّية
رافقت معظم ومضات املجموعة ومن
الومضات السياس ّية نقرأ« :كذب ...كذب
....كذب ...فتجمع األنصار حوله .استعذب
فانفض
األمر فكذب ...وكذب ...وكذب...
ّ
الناس من حوله ،وصار إىل
العزلة( ».ص ،)52ونقرأ يف
عالقة اإلعالم بالسياسة:
«ح ّرر مقاله بعناية وذكاء
ووسمه ب :الرئيس الذي
ال يريده الشّ عب؟ أرسله
إىل رئيس التحرير صباحا.
يف املساء قرأ الجريدة،
فوجد مقاله بصفحتها
األوىل موسوما ب :ال ّرئيس الذي يريده
الشّ عب( ».ص.)53
األدب التلمي ُح ،هكذا نجد يف نصوص
ُ
مجموعة «عطس ونباح» التي متت ّد عىل
املتوسط،
ثالث وتسعني صفحة من الحجم ّ
هو تلميح م ّر مؤمل أحيانا ،ساخر أحيانا
أخرى ،هو م ّر يف إحالته عىل معاناة الشعب
يف غابة الذئاب« :رسم بقرة خرضاء اللون
تعنون ّنصها :وهي باعتبار الذِّكر أربعة مشاهد،
قال فيها الناقد «بشري الجلجيل»« :أ ّما القسم الثاين
فجاء عىل شكل ال ّرواية يف فصول متعاقبة أو عىل
شكل املرسح ّية وفق مشاهد وفصول ترابطا بني
األحداث وتواصال بني الشخصيات» (ص.)13
ترصف
يف الحبة الثالثة اختارت «نورة الورتاين» أن ّ
قصصا قصرية جدّا ال تتعدّى أطولها الصفحة
(القفة) وال تقل عىل ثالثة أسطر ،ومن األمثلة نقرأ
أحب كلّ نساء الكون
يف شهريار ال ّنساءّ « :
خانته امرأتنان
فقتل األوىل انتقاما
فوارته الثانية غراما( ».ص)121
تنويعات قصص ّية تؤكّد قدرة الكاتبة «نورة
الورتاين» الرسدية وتحكمها يف نبض املتلقّي.
رس الناظرين .تحتها رسم
ت ّ
ذئابا تنهش قوامئها .حول
الصورة رسم أناسا عراة
ّ
بأفواه فاغرة( »...ص.)39
وهو ساخر يف نقده لواقع
أدب املواقع االجتامع ّية،
يقول »:نرش نصوصه عىل
صفحات الفايسبوك .جاءته
إشارات اإلعجاب وتعليقات
املديح املريح تباعا .انتفخت أوداجه فرحا،
وسال لعابه ،فتو ّهم أنه صار أكرب شاعر .أحد
النقاد الكبار علّق عىل تدويناته قائال« :لقد
زغردوا يف أذنه»( .ص.)40
نصوص قصرية ،مكتنزة باملعنى ،طريفة
يف طرحها ،عذبة يف لغتها كساها «مح ّمد
خاصة به
بوحوش» من شعريّته ما يجعلها ّ
محيلة عليه شاعرا وناقدا وساردا ،ال بغريه.
الصحي
أ ّيام الحجر لهادي الخضراوي أو يوميات تونس ّية من واقع الحجر ّ
يف تسع وعرشين لوحة أخرج الكاتب
والشاعر الهادي الخرضاوي يف طبعة
أوىل (سبتمرب )2020مجموعته «أيّام
الحجر» ،وهي عبارة عىل مجموعة
من اللوحات أو اليوميّات إن شئنا
استهلّها مبقدّمة تن ّزل املجموعة يف
إطارها التاريخي ويف عالقة بفعل
الجراثيم والكائنات الصغرية غري املرئية
يف اإلنسان وحضارته ،يقول« :إ ّن هذه
الصغر التي تزورنا
الكائنات الالمتناهية ّ
اليوم والتي تتكاثر بأعداد خرافية يف
كلّ لحظة ال تصيب البرش حيثام تشاء
عىل كامل كوكب األرض مهام تباعدت
ديارهم بعرشات آالف األميال فحسب
بل إنّها تحبس الطائرات والبواخر
والقطارات وتعطّل املصانع واملدارس
وتغي سطح
وجميع مناهل الحضارة ّ
األرض وسامها( ».ص .)7ث ّم أعقب
الكاتب املقدّمة باستهالل أكّد فيه عىل
الصدقيّة انطالقا
القدرة عىل كسب ّ
نص كتبه ال ّروايئ الطّاهر بن جلّون
من ّ
بطلب من إذاعة فرنس ّية وحاز إعجابا
كبريا بل وأوهم املتابعني بأنّه يتحدّث
من واقع تجربة شخصيّة ،هذا االستهالل
يجعلنا ننتبه إىل أ ّن هادي الخرضاوي،
وإن سيذكر يف مجموعته هذه بعض
الخاصة به فإنّه قبل ذلك
اليوميات
ّ
يكتب األدب ويط ّوع الخيال إىل حكاية
تروى تستم ّد أحداثها من عامل ممكن
التحقّق لتوفر رشوط تحقّقه ،عامل نراه
بأشخاصه وأحداثه ولغته قابال للتشكّل
ومعبا عن حقيقة ال ينفي أننا مل نعشها
ّ
قابليتها ألن تكون.
ترصد مجموعة «الهادي الخرضاوي»
بعض سلوكات الناس أيّام الحجر أو
بتعبري أدقّ وقع الحجر عىل اإلنسان،
ذاكرة وسلوكا وعالقات ،عالقات
تتأسس من جديد بنظرة مختلفة كأ ّن
البقاء ضمن العائلة لفرتات طويلة هو
اكتشاف جديد ألفرادها وإعادة ترتيب
للعالقات بينها وقد يكون االكتشاف
محبطا ومح ّفزا لتغيري الواقع مثلام
حدث مع جارة السارد يف الحكاية
الثالثة «خمرية العيوب» تقول الجارة
يف زوجها« :امله ّم أنّني عرفته اآلن عىل
حقيقته التي اتّضح يل بجالء ّأن كنت
السنني املاضية.
أجهلها متاما طوال ّ
اكتشفت اليوم أنّه ال يُحتمل وق ّررت
بعد تر ّو أن أنفصل عنه يف أقرب
وقت ».وفشلت محاوالت السارد أن
النص:
أتغي رأيها فاكتفي بالعليق آخر ّ
ّ
«من حسن الح ّظ أ ّن املحاكم اآلن
مغلقة وعىس بعد ذلك أن يطيح ال ّزمن
الطّلق مبا خطّط له الزمن املضغوط»
(ص.)20
إ ّن اإلنسان يف الزمن املضغوط غريه يف
الزمن الطّلق إذ تضيق الفكرة وتنضغط
الذاكرة فتختبئ كثري من الحقائق بني
طياتها فتنىس أو تش ّوش ولذلك نيس
السارد أن أخته قد توفيت وظلّ يه ّم
ّ
كلّ مرة مبكاملتها أو زيارتها ،ونيس
موعد عيد زواجه فقدّمته الذاكرة
وأقنعته به .ولك ّن الذاكرة املضطربة
ال تعدم أن تتحايل متى أرادت وأن
تسعف صاحبها بحلول ما كان له
أن يهتدي إليها يف وضع عام يح ّجر
فيه التجوال ،يقول السارد يف اللوحة
الخامسة عرشة «الحق يف امليش» :امليش
رضور ّي لص ّحتي مثل الخبز متاما ولكن
قواعد الحجر الص ّحي يف هذه األيّام
تسمح بالخروج لرشاء الخبز وال تسمح
بالخروج ملج ّرد امليش .وجدت الحلّ :
أصبحت أخرج لرشاء الخبز من املخبز
القريب ث ّم أميش بعد ذلك ومعي
كيس الخبز مسافة ستّة كيلومرتات
ذهابا وإيّابا وهي حيلة أبدت نجاعة
تا ّمة أمام أعني ّشطة مراقبة احرتام
الحجر(».ص.)59
«أيّام الحجر» ،مجموعة طريفة
تندرج ضمن منط من األدب مخصوص،
أدب من واقع األزمات والحجر بأنواعه.